تبدو المول في تفكيك الناقد المصري لدلالاتها الروائية وكأنها مجموعة من العلامات تشكل خطابها السيميائي المرافق للسرد، ويكشف التحليل النقدي عن مرتكزات النص وتفكيكه للمتاهة التي يجد الفرد نفسه فيها في غابة السوق المغوية، على الوتر المشدود بين الشبق والموت، وتناقضات المكان، وتوتر الوعي وغواية الصور.

من الهيمنة الرمزية إلى أصالة الإبداع

قراءة في «موسيقى المول» لمحمود الورداني

محمد سمير عبدالسلام

في نصه الروائي (موسيقى المول) – الصادر عن دار كتب عربية بالقاهرة سنة 2005 – يكشف محمود الورداني عن مجموعة معقدة من العلاقات الثقافية، والفنية، والتأويلية بين الوعي الإبداعي للشخصية، وتناقضات السوق، وما تحويه من عناصر هيمنة غير عقلانية، وانفلات وحدات الواقع في السرد الروائي باتجاه التوتر المعرفي، أو الثورة المجازية للوقائع الحلمية الوليدة؛ وهي تكمن دائما في بنية الإشارات الواقعية نفسها، وتفكك حضورها في سياق تحويل استعاري دائري لعناصر الهيمنة، وإعادة إنتاجها في التداعيات الإبداعية للوعي الفردي الذي يستمد أصالته من أفكار النهضة الإنسانية، والطليعة عن الجمال، والتجاوز المستمر لسطوة الأبنية الطبيعية، والطبقية، والمعرفية التي تسبق تشكل الأنا، وصيرورته الإبداعية، ومن ثم تزدوج الصور، والأخيلة التي تحتل الوعي، وتفرض عليه عنفا رمزيا يجسد تطرف منطق السوق، بالإنتاجية النصية المتجاوزة لأحادية الحقائق، وقدرتها على تفكيك الإشارات الخيالية الصاخبة للسيطرة من خلال استبدال المكون الاستعاري المغرق في الجبرية، والوظيفية بالتداعيات الجمالية المجردة للعلامة، وهي تبدأ وتنتهي في التعددية، والاحتمال، والتحرر الإبداعي للفرد.

يجد البطل نفسه في مواجهة مع المول، وسطوة إشاراته اللاعقلانية التي تختلط فيها أبنية رأس المال بأخيلة الحب، والموت، والتمثيلات المجازية للسلع التي تحاكي عناصر الحياة، وتعاديها في الوقت نفسه، إذ تتشكل من خلال أضواء، ومواد صناعية، وعروض فنية تجمع بين تأكيد القوة الغريزية للمول، والرغبة المتكررة للفراغ في امتصاص الوجود الفردي للبطل، وتحويله إلى عنصر سالب مطلق في عمليات التبادل، ومنطقها الجمالي الشكلي. يفرض المول وجوده – إذا – من خلال النماذج الغرائزية التي تسبقه، وكأنه مجرد من الفاعلية المستقلة، كما أنه يعيد تمثيل الحياة بعيدا عن أصالتها الكونية، ومن داخل التفاعل بين إنتاجية الوعي، وأخيلة المول تتولد إشارات التمرد، وإعادة اكتشاف الأخيلة التدميرية في سياق جمالي طليعي، ومعرفة احتمالية متجددة تستنزف منطق الشمولية في بنية المكان من خلال اتجاه الصيرورة السردية في النص – دائما – من الظهور الطاغي للصور إلى فراغ ممزوج بالظلمة في تأويلات الوعي، ثم تكثيف التداعيات النصية المتجاوزة للنسق الأيديولوجي المحرك لذلك الفراغ الشكلي، واستبداله بلغة تؤكد الأصالة الإبداعية، وقدرتها على توليد الوهج الجمالي من علامات السلب، أو الفراغ.

وتقوم رواية محمود الورداني على ثلاثة خطوط سردية رئيسية، هي:

الأول: التمثيل المجازي لصور السوق، وأخيلته القائمة على الممارسات الشكلية العنيفة للتشبيهات، ومرجعياتها الغرائزية.

الثاني: الاتساع التدريجي للصوت الفردي للبطل من خلال تفكيك مسلمات السوق، ودمج علاماتها في الصيرورة الإبداعية للسرد داخل الوعي، وخارجه.

الثالث: الاختلاط بين الإشارات المباشرة لهيمنة أصحاب المصالح، والتجار، وممارساتهم للقهر عبر وسيط (السجن) غير المرئي الذي يقع على هامش المول، وما يفجره واقع السجن من رؤى فكرية متباينة، وأسئلة حول مدلول تلك الهيمنة الخفية، وكذلك استعادة للأخيلة، والاستعارات المتحررة التي تثور على سطوة الفضاء الرمزي، وتستعيد مرجعيتها الإنسانية المشوهة، أو المفقودة.

وأرى أن النص في مجمله يجسد فكرة التقاطع بين مجالي النزعات الكلية التي ترد الصوت البشري إلى تناقضات القوى اللامعقولة، ونطاق الوعي الفردي في اتصاله السري بأصالة النزعة الإبداعية في الكون، والواقع، والمستوى العميق من أخيلة الشر التي تولدها الثوابت الشمولية نفسها.

ويمكننا رصد أربع تيمات رئيسية في النص، هي:

أولا: بين الوجود الفردي، وسطوة الغرائز.

ثانيا: تناقضات المكان.

ثالثا: توتر الحقيقة.

رابعا: الوظائف السردية باتجاه الوعي، وإغواء الصور.

أولا: بين الوجود الفردي، وسطوة الغرائز:

يرصد محمود الورداني الحالة الثقافية المولدة عن تطور السوق المعاصرة باتجاه فرض منطق التبادل المالي، وهيمنته الرمزية الطاردة لمن يجد نفسه في موقع الهامش، وبخاصة الباحثين عن استعادة الروح الإبداعية في الأخيلة الذاتية، وحركية عناصر الكون، والاستقلال داخل السياق الاجتماعي. ويكشف السارد عن التباين الجمالي الشديد في بنية المول بين خلفية الفراغ المظلم الخفية، والإبهار التصويري، والإغواء المستمر للعناصر الإنسانية بالتحول إلى مادة تبادلية مجردة من الفاعلية، مثل السلع، والقطيع اللذين يخضعان لقهر الحالات الانفاعلية المفروضة عليهما من قبل الإضاءة، وكذلك المانيكانات التي تقع ضمن استلاب كامل، وأحادي في حب شكلي يعلن بصورة ضمنية عن فراغه الخاص، وخلاعته المجردة من الإرادة الإنسانية، فهو يسقط في دائرة مادية تحاكي الحياة، دون أن تملكها، أو تعيد إنتاجها خارج الوعي المبدع للمتلقي/ البطل.

إن جماليات المول تحتاج دائما إلى الحياة في الآخر/ المختلف، رغم ممارساتها العنيفة ضده، فهي دائما ما تحيل القارئ إلى خارجها، كي تكتسب حضورها الناقص، فتارة تحاكي تطرف غريزتي الإيروس، والموت، كي تفرض منطق السيطرة قبل – الذاتية على الفرد، وأخرى تعلن عن ظلمتها التي تبدأ، وتنتهي في شيئية مصمتة، ومعلقة، تنتظر وعيا مبدعا يعيد إنتاجها في أخيلة لها طبيعة تعبيرية ذاتية، وهو ما يتناقض مع مبدأ الهيمنة الذي تفرضه تلك الجماليات منذ البداية. في سياق بحثه عن مقر عمله الجديد يصادف البطل ذلك المول، وما يحويه من أضواء، وصور مغوية، ثم يتورط في نموذج التلقي السلبي الذي يفرضه المكان عبر انتشار الصور، والعروض ذات الطابع العدائي للوعي، فهي تشير دائما إلى فرض التبادلية ضمن بنيتها التصويرية الشكلية، وفي هذا السياق الثقافي تختلط النماذج الغريزية للمول بفاعلية الوعي، ومن ثم تظل فكرة السطوة المطلقة معلقة بين الاتجاهين. يعاين السارد عرضا مسرحيا داخل المول تضرب فيه امرأة رجلا سلبيا بالسوط، بعد إغوائها للمشاهدين، ثم يعيد البطل إنتاجها في مساحة من السرد يختلط فيها الحلم بالواقع.

يقول: «خلعت سترتها وقذفت بها نحونا. عادت لضرب الرجل على ظهره بسوطها، والرجل يئن بصوت مكتوم، وخلعت بلوزتها فبدا جسمها مثل نار بيضاء اشتعلت فجأة ... اتجهت نحو الرجل المضرج في دمائه، وراحت تفرقع بسوطها حوله ... هل أتبعها؟ وهل هي التي لمحتها منذ ثوان قليلة؟" ص 14، و15.

ينقل المول منطقه المباشر في فرض الاتجاه الواحد من السوق العارية المجردة إلى فضاء رمزي آخر، وهو المسرح، كما يستبدل قوته الجبرية بالتمثيل الجمالي للغرائز، دون أن يتوحد ببنيها التي تبزغ فيها الحياة، وتختفي بشكل حقيقي أصيل، وإبداعي. إنه يستخدم قوة ما قبل الضمير، ليثبت بنية السيطرة على المتلقي، ولكن البطل يحول دوال المول إلى عناصر مناهضة للبعد الواحد في أصغر وحداتها، وكأن المول يسقط في إغواء الاختلاف، والتعددية كبديل سردي عن خطابه الأول.

ويمكننا رصد ثلاث مجموعات من الوحدات السردية المشكلة للمستويات العميقة من تيمة الصراع بين الوعي، والنموذج التمثيلي للغرائز.

أولا: مجموعة الإيروس (المرأة تخلع الملابس، وتقذف بها نحو الجمهور/ جسد المرأة يشبه نارا بيضاء/ جسد المرأة يهتز).

ثانيا: مجموعة الموت (تضرب الرجل بسوطها/ رعب الرجل، وجنونه، وسلبيته/ تطرف النار المشتعلة).

ثالثا: مجموعة تشكيل الوعي للمشهد (الوعي يدرك القسوة الخفية في جماليات جسد المرأة – البطل يفكك شخصية المرأة، ويخلط بين صورتها، وامرأة أخرى، وأخيلته عن زوجته عزة، وخبر حياة ابنته هند – التي توفت – في مكان مغاير).

يبدأ السرد إذا بتكثيف الإشارات إلى لامعقولية التمثيلات الرمزية للمول، وتعزيزها الشكلي للأنماط الغريزية، ثم يتوسع في تفتيت الوعي لصور المول، وأخيلته من خلال دمجها في نسيج نصي يتجاوز منطق الأحادية، ويكشف عن الاختلاف المناهض لتلك المحاكاة المتعالية التي ترغب في تجريد الفرد من هويته الجمالية. إن دمج النص بين شمولية المول، ونطاق الغرائز يولد دلالات رئيسية تتعلق بطبيعة كل من الإبداع، والسياق الاجتماعي العالمي الراهن في علاقته التداخلية بإيحاءات الأدب. إن مسار الوحدات السردية في النص يعزز من الدمج بين الإيروس، والموت، ويضيف إليه أحادية الضغط الجبري في مستوى ثقافي آخر، وهو التبادلية الشكلية للسلع، وكأن ذلك الاندماج في صورته الفرويدية يفكك أي تبعية ممكنة للبنى الاجتماعية المتعلقة بتلك الحالة من توجهات السوق، فالدمج يؤسس لأصالة التعددية، والتناقض الذاتي الإبداعي، لا للنزعات الكلية الخفية التي تستند إليه.

يعزز فرويد من عملية الاتحاد المحتمل بين مجموعتي الإيروس، والموت، فالأول يوحد الذرات المفتتة للمادة الحية، والآخر يعيدها للاعضوي، ومن ثم يكون ظهور الحياة سببا في استمرارها، والسعي نحو الموت معا، ويمثل لذلك بموت بعض الحيوانات الدنيا بعد الاتصال الجنسي (راجع: فرويد/ الأنا والهو/ ترجمة د محمد عثمان نجاتي/ دار الشروق بالقاهرة/ ط 4 / سنة 1982 ص 67 وص 77).

تؤكد لغة فرويد التأويلية – إذا – تعددية البزوغ، والتحلل بطريقة تناهض السطحية الأحادية للضغط الموجه على الفرد، وأرى أن النص يتماس في مستوياته الثقافية العميقة مع نقد ماركيوز للسيطرة التكنولوجية المعاصرة، وكذلك لغة بودريار التأويلية حول حركية التشبيهات في الثقافة المعاصرة، وتوترها بين التبعية، والأصالة الإبداعية، فضلا عن الممارسات الواضحة التي تتقاطع مع تصور فرويد، وتعزز من الاختلاف داخل بنية المول في العمل الروائي. ويكشف السارد عن توتر نماذج المحاكاة في المول بين البحث عن الأصالة، ومطاردتها بقوة، والتمثيل المتكرر للفراغ من داخل الدائرية المجردة للأثر الجمالي، والمعزولة عن حركية عناصر الحياة. يعاين البطل عرضا من النماذج التمثيلية لمجموعة من الصيادين، يوجهون بنادقهم نحو الجمهور، وعليها بطاقة صغيرة تحمل الثمن، ثم يحاكون عملية الصيد بدقة، وتعلو أصوات حيوانات غير مرئية، مثل الأسود، والنمور، والدببة، والقرود. ويجسد المقطع السابق التطرف، أو الزيادة في البحث عن أصالة الحياة من خلال التشبيه، والتمثيل الرمزي للموت الكامن في جوهر عملية الصيد، واختلاطها بحتمية قوانين المول، وأحاديتها في مواجهة المتلقي.

ويعزز التداعي النصي من وسيطين خياليين يقعان بين تشبيهات المول، وأحلام اليقظة لدى البطل، هما:

الأول: البطاقة التي تدعم وجود وسيط قهري غير مباشر دائما، ولكنه يحاول اختراق وعي، ولا وعي المتلقي، ويعيد تكوين هويته انطلاقا من جبرية الغرائز.

الثاني: الصوت المصنوع للحيوانات، ويدل على الحياة المعلقة في العالم الافتراضي، وسخريتها المتكررة من الحياة التي تبحث عنها في تلك التجسدات الناقصة.

وقد تمارس الأشياء، والعلامات المجازية إغواء للوعي، ليتوحد بآلياتها التصويرية الشكلية، ولكنه يناهضها بالكشف الخفي عن دلالاتها التعبيرية التي تنبع من أصالة الخيال، لا من الصور المجردة المبهرة. يعاين البطل في أحد محلات بيع الملابس الداخلية سوتيانات معلقة على أغصان الأشجار، أو تقبض عليها ثعالب، أو ذئاب بأنيابها، ثم يرصد الإغواء الكامن في بعض مانيكانات العرض، وحركتهن الصناعية. إن منطق الإثارة يظل محتجبا في النص رغم تبجحه في العرض، إذ يختلط بالفراغ، وتمثيلات العدوان، والموت الكامنة في أنياب الحيوانات، كما يسقط إغواء المانيكان في القيود التي فرضها السياق الثقافي للمول على علاماته، فهو مغاير في تكوينه لمانيكان روب جرييه مثلا، إذ يتمتع الأخير بإمكانيات تعبيرية خارجة عن البنى القبلية المطلقة.

ثانيا: تناقضات المكان:

يعاين السارد مجموعة من التناقضات منذ لقائه الأول بالمول، وإشاراته اللامعقولة، وتكمن تلك التناقضات في قوة السياق العلاماتي للمول، وقدرته على فرض منطقه، رغم أنه يحيل البطل دائما إلى الظلمة، أو الفراغ، ومن ثم التأويلات المختلفة، والمتناقضة لهذا التكوين غير المرئي، والمؤثر في الوقت نفسه. ومن أهم الإشارات الحاملة لدلالة التناقض في النص ذلك السجن الذي يقحم نفسه على البطل، ومجموعة متنوعة من الشخصيات التي تمثل اتجاهات متباينة في المجتمع، مثل كريم، والشيخ مصطفى، وزوجته، واللواء رياض المنعزل، والخواجة نيلز، ولا يعلم أي منهم سبب وجوده في السجن الذي يبدو أنه يقع على هامش المول.

يجمع السجن – إذا – في تكوينه بين البعد الرمزي الافتراضي، والسطوة المادية، مثلما اختلطت الغرائز في بنية المول بتطور جمالي بعينه في حالة السوق المعاصرة. يقول السارد:

«أي سجن هذا؟ وهل هذا هو نظام السجون؟ إنني لم أر شرطيا واحدا منذ حللت. إذن هل من الممكن أن يكون سبب دخولي السجن هو عدم دفعي للحساب؟ غير أن الرجل ذا اليونيفورم سألني في الليلة الماضية: أين تغيبت، ومع من هربت؟» ص 98.

لقد نبع السجن من السؤال، رغم حضوره الطاغي، ومن ثم فإن اختفاءه يخلف هوامش تأويلية عديدة تسهم في إنتاجها النماذج الشخصية التي اختارها السارد، وجدل الوعي المبدع مع حالة الأسر الافتراضي.

ثالثا: توتر الحقيقة:

تتحول دوال الذاكرة، والتاريخ الشخصي للبطل إلى وظائف لها فاعلية إبداعية جديدة في تداعيات النص، فزوجته عزة تختلط بامرأة المول، وصور الحلم، وتتعدد مستويات ابنته/ هند الدلالية من الوجود إلى الاختفاء، ثم النشوء الآخر، أو الولادة المجازية الجديدة، والدائرية للذات المتحررة، ومن ثم يختلط الواقع بالصيرورة السردية، وأصالة الوعي المبدع، وأخيلته في مواجهة خطاب المول الذي تتوتر فيه الحقائق من داخل شموليته، دون أن تكون التعددية أصيلة في بنيته.

* هند

تشكك عزة في موت هند، وتتهم البطل بتسليمها للخاطفين، فهي لم تشاهد دفنها، بينما يستشرف البطل عودتها، ويعزز النص من انشطار صورتها بين الفقدان، والحياة المجازية المتجددة، دون حسم واضح، وكأنه يحيلنا دائما إلى الوفرة، والاختلاف المناهض لأبنية السيطرة.

* جثة رجل مجهول

في سياق انجذاب البطل لإغواء المول، والمرأة الملتبسة، يواجه جثة رجل مقتول في حوض الاستحمام، ويظل الرجل معلقا بين الحلم، والواقع من جهة، والتمثيل المستمر للامعقول، وتهديد الهوية من جهة أخرى، فهو جزء من بنية المول الغريزية، ويحتمل التعددية المفتوحة للدلالة كإمكانية كامنة، ومناهضة لبنية القتل.

رابعا: الوظائف السردية باتجاه الوعي، وإغواء الصور:

ينتقل السرد في نص محمود الورداني من لحظة الحضور التي تهيمن عليها علامات المول، ومكوناته، والوظيفة التي يجب أن يتسلمها البطل، ثم السجن، إلى الطبقات العميقة من الوعي، وإغواء دواله الملتبسة، والمؤولة للشروط الوجودية، والثقافية للشخصية في سياق من المراحل الحضارية المختلطة، والمتجددة في تداعيات النص. تلح على السارد صورة امرأة بسيطة تغويه باتباعها حاملا قفصا، وأثناء سيره خلفها يصادف ظلمة، وبابا ضيقا، فينحشر القفص، وتختفي المرأة، ويعجز البطل عن الصراخ.

إن الوعي يضخم صورة القفص في الحلم، ليحتوي صورة الأنا، ويمتص حضورها في سجن مجازي مضاد لإيحاءات الإيروس، وكأن دوال الحلم تعيد تشكيل التعارض بين جبرية الغرائز، ومنطقها المستحدث في الثقافة المعاصرة، والصوت المتمرد الخفي الكامن في الصرخة الاستعارية المحتملة، كما يجسد تجاور المراحل الحضارية المتباينة في دمج صور الرغبة البدائية، والمؤتمر الثقافي، والقفص، وسجون المول الرمزية، وغيرها. وتلح على السارد مجموعة من الصور الحلمية الأخرى التي تتناص مع ألف ليلة وليلة، وتشير إلى توتر الذات بين الصيرورة الإبداعية، والحتميات القهرية في السياق الاجتماعي. يعاين البطل مجموعة من العبيد يستوطنون جزيرة، ثم فرسا أسطوريا طائرا، ثم يقابل عشرة شباب عور يطردونه من مجلسهم، فيخرج حزينا، ويصل إلى بغداد ثم يصير صعلوكا.

يحيلنا السارد – إذا – إلى صيرورة إبداعية أصلية، وبعيدة عن المركز في مواجهة الحزن الخفي الغريب عن التداعيات الحرة للسرد، إذ يأتي كوظيفة منقطعة عن منطق التحولات الحرة للصورة في المشهد.

رؤية العالم في (موسيقى المول):

تختلط الإشارات الحلمية، والنصية – بشكل واضح في موسيقى المول – بالإحالات الطبقية التي تجسد وضعية البطل في المجتمع، وتأثيرها على الوعي المبدع، ومن ثم قدرته على تعديل تلك الإشارات التي يندمج فيها السرد بالبنى الاجتماعية، والثقافية. إن وظيفة البطل في إحدى الإدارات التعليمية، ووعيه الثقافي، وقراءاته المتكررة لكتب التراث، والفكر، وتحليلاته للصحف تشير إلى تمثيله الفائق للإنتلجنتسيا، أو مجموعة المثقفين ذوي الوعي النقدي في توترهم بين البحث عن الهوية الإبداعية، وخضوعهم الجبري للموقع الأدنى من الطبقة الوسطى، ومواجهتهم الفكرية، والتأويلية/ النصية لعلامات الشمولية التي تطورت إليها السوق المعاصرة. في سياق بحثه عن معنى للسجن الوهمي الذي وضع فيه قسرا، يشير البطل إلى استفحال نفوذ بعض رجال الأعمال، وتهربهم من الضرائب، وكذلك نشاط بعض رجال العصابات المتخصصين في نهب الآثار، ويسقط بعض الإحالات التاريخية على الحاضر من خلال تتبعه لشخصية الخواجة نيلز.

يهيمن خطاب تفضيل المصالح المالية – تحديدا- على تفسير البطل للسياق الاجتماعي، ولغته النقدية المناهضة لهذا الفراغ التدميري الذي يشبه السجن الرمزي في النص. ويتماس تفسير البطل مع رصد فريدريك جيمسون للمنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة، إذ يرى أنها تستعيض عن إقفال اللحظة الإنتاجية بالفوائد المتاحة في الصفقات المالية نفسها، وحرية طفو المال على السطح (راجع: فريدريك جيمسون/ التحول الثقافي/ ترجمة محمد الجندي/ إصدارات أكاديمية الفنون بالقاهرة سنة 2000 ص 129). وأرى أن النص يعيد تمثيل هذه العلاقات الثقافية الجديدة من خلال لغة تعديلية مناهضة للسطحية الكلية من جهة، والتأثر بتلك العلاقات من خلال مجموعة من العلامات المنفصلة التي تفرض نفسها على الوعي، مثل المول، والسجن، والملاهي، وجثة الرجل، والمرأة الملتبسة، وغيرها من جهة أخرى. ويتفوق الجانب النصي العديلي للواقع في الذروة التي تجمع بين الحلم، والواقع، وفيها نعاين عودة هند في صخب، واشتعال، وحلم بولادة متجددة للهوية الفردية، أو الإبداع خارج منطق السجن الوهمي.

 

مصر