على الرغم من أن راوي القاص العراقي مدعو إلى مؤتمر علمي فإنه عايش عجائب وغرائب خلال الأيام التي قضاها في تلك المدينة العراقية. ما بدا أنه عادي ومألوف تكشف عن عالم أقرب إلى الحلم أو الرؤيا. وعمقت التفاصيل الدالة من ترابط اليومي بالغرائبي.

نزهة في قارب

عائد خصباك

في استقبال الفندق عرّفت بنفسي وأضفت للموظفة ‏:‏ اسمي عندك‏، الجمعية العلمية التابعة للجامعة هنا في الموصل حجزت لي غرفة.وعندما قالت (أن للمشاركين في مؤتمر الجمعية العلمية مكانة خاصة عندنا) شعرت أن الأيام التي سأمضيها هنا هي أفضل من توقعاتي. قالت موظفة الاستقبال مبتسمة:‏ حجزنا لك أفضل غرفنا في الدور الرابع، بعض من حجزنا لهم في نفس الدور من مدعويّ الجمعية العلمية لا يرون استدارة نهر دجلة من النافذة كما ستراه أنت ولا يستمتعون بمشهد المدينة مثلما أنت ‏. كان هناك رجل واقف بجانبي في الخمسين من عمره‏، بشعر رأس خفيف وسترة أكبر من حجمه الضئيل بقليل،‏ يحمل مجدافين صغيرين في يد‏ وفي الأخرى شيئا ما من البلاستيك الملون مطويا بعناية، عندما كانت الموظفة تتكلم معي ‏ أسمعها الرجل أكثر من مرة رقم غرفته   لكنها لم تعطه مفتاحها إلا بعد أن فرغت من مهمتها معي، وما إن أصبح في يده  قال لي‏:‏ من يقيم في الدور الرابع يكون آمنا لو فارت المياه وارتفعت  فلا تصل إليه‏.‏ لم يتح لي فرصة الاستفسار منه عن ما سمعت فسرعان ما غادر المكان متجها الى المصعد. قالت  موظفة الاستقبال وهي تسلمني مفتاح غرفتي‏ ‏:‏ إنه يقيم معك في الدور نفسه ‏. ثم أشارت الى أحدهم طلبت منه أن يوصل الحقيبة معي. في المصعد  قال لي:‏ الدور الرابع مناسب جدا لمن  ينشدون الراحة‏ هنا،خذ مثلا، قبل يومين وصل الرجل الذي معه  المجدافين وقاربه البلاستيكي الذي يشبه قوارب النجاة بعدما ينفخونها  بالهواء، حجز استقبال الفندق له غرفة في الدور الثاني لكنه رفضها وأصر أن تكون في الدور الرابع بالذات. وعندما توقف معي عند باب الغرفة لأفتحها ذكر لي أن ذلك الرجل يقيم في الغرفة المجاورة التي على يمين باب غرفتي‏.

في الحقيقة‏، ‏ قبل أن أفتح باب الغرفة فكرت في أن أرفع سماعة التليفون وأطلب من موظفة الاستقبال تغييرها لي لو تمكنت فأنا لا أميل كثيرا للإقامة في الأدوار العليا‏، لكن ما أن دخلت الغرفة ورأيت استدارة النهر أمامي‏ خلف النافذة، ورأيت‏ المآذن المنتشرة  والقباب والبيوت والتلال البعيدة غيرت رأيي،‏ كل شيء يبعث على الإطمئنان والراحة، جلست علي طرف السرير‏،‏ كان التليفون قريبا مني ففكرت الاتصال ببعض من أعرفهم‏،  أولهم رئيس الجمعية العلمية الذي اختارني دون غيري من أساتذة قسم البايولوجي للإسهام في مؤتمر الجمعية‏ هذا، لكن لم أفعل.

بينما كنت مستعدا لحلاقة ذقني انتبهت لنافذة الحمام التي ربما كانت أصغر من المعتاد، وبحكم نزعتي في اكتشاف الأماكن التي أقيم فيها لأول مرة وجدتها تطل علي ممر هوائي ضيق‏، لا شك أنه يبدأ من الدور الأرضي منتهيا بسطح الفندق‏، لأني لمحت بعضا من نور النهار قد ترشح من فوق وضعف تدريجيا كلما نزل الى أسفل‏.‏ خيّل لي أثناء الحلاقة أني سمعت صوتا ما وصلني من وراء تلك النافذة ولم أدقق كثيرا بما سمعت.

انتزع ماء الدش البارد كل متاعب سفري إلى الموصل، فست ساعات بالقطارللوصول اليها ليست بالأمر الهيّن، كانت الجمعية في مؤتمراتها تحجز لمدعويها تذاكر سفر تقلهم بالطائرة الى الموصل، فيكسب المرء حينها وقتا وراحة،  لكن منطقة حظر الطيران التي ضمت مناطق واسعة من جنوب العراق الى شماله بعد حرب الخليج حرمت المرء من السفر بالطائرة. غادرت الغرفة وقت العصر‏، وفي استقبال الفندق سلمتني الموظفة ظرفا باسمي فيه مجموعة من الأوراق‏، اخترت مكانا في البهو لألقي نظرة عليها، عندما جلست وقبل أن أقرأ رأيت الرجل الذي يقيم بجواري في الدور الرابع يخرج من المصعد،‏ كان  يحمل المجدافين، ويحمل أيضا‏  البلاستيك وقد طواه‏، لا يشي مظهره رغم  الحاجات التي  يحملها بأنه ذاهب لممارسة رياضة التجديف في النهر‏ ولا أي رياضة أخرى، كما أن وقت قبل الغروب برأيي لا يسمح بالنزول إلى الماء، عندما التقت نظراتنا حياني بهزة من رأسه. رجعت لأوراقي أتفحصها،‏ واحدة منها دعـوة للعشـاء من رئيس الجمـعية العلمية للمشاركين في مطعم‏ (‏ الزنبقة‏)‏ مساء يوم غد‏، أما الأوراق الأخرى  فهي لبرنامج عمل المؤتمر وأسماء المشاركين في الندوات وتحديد ساعة البدء والانتهاء سواء في الجلسات الصباحية أو المسائية. وقبل أن أغادر الفندق كانت بي رغبة في التعرف على أرقام غرف من دعتهم الجمعية مثلي فأعطتني موظفة الاستقبال الأرقام جميعها‏.‏

تجولت في شوارع وسط المدينة‏، أوقفني أحدهم وسألني إن كنت استطيع أن أوصله الى مقر منظمة ( أصدقاء بلا حدود ) أو ( المحبة أولا ) قلت: أيهما تريد هذه أو تلك؟ قال: الاثنين معا. قلت:  لا أعرفهما. قال: هما مشهورتان وكل من في الموصل يعرفهما. قلت: أنا مثلك لست من هنا. قال: لك العذر في ذلك إذن.  وعندما شعرت بالجوع تناولت العشاء هناك‏، قبل أن أدخل المطعم سألني أحدهم إن كنت من المشاركين في ندوة ( بيئة خضراء للأبد ) فقلت له لا لست منهم  ولم أقل له أني لم أسمع بندوة مثل هذه، فسألني إن كنت أعرف أحدهم فقلت: معذرة لا أعرف. وبعد أن خرجت من المطعم استوقفني آخر قائلا: هل أنت سعيد؟ قلت: أنا سعيد عندما تقتضي الظروف مني أن أكون سعيدا. قال: ما فهمت سؤالي، أنا أقصد هل اسمك سعيد؟ قلت: أنا لست ذاك الذي تقصده. شكرني ومضى. سار كل شئ معي علي مايرام‏، وعندما عزمت العودة الي الفندق أخذت سيارة أجرة.‏ في الواقع لم تكن بي رغبة للقاء أي من المدعوين الآخرين بسبب حاجتي لترتيب أوراقي‏، طلبت مفتاح غرفتي في الاستقبال وصعدت إليها فورا.

وضعت ملابسي في الدولاب‏ ثم نظمت أوراقي وقرأت برنامج العمل على مدى الأيام الثلاثة المقبلة،‏ قرأت عناوين الأبحاث وأسماء أصحابها للمرة الثانية مدققا فيها ‏.‏ كنت مرهقا فاستلقيت علي السرير وسرعان ما غفوت‏. اقتربت الساعة من السابعة والنصف عندما استيقظت صباحا، لم أكن نشطا كما لو أني لم آخذ كفايتي من النوم،‏ في وقت ما من الليل كما خيل لي وصلتني أصوات قطّعت نومي الى أوصال ‏.‏ طلبت الفطور داخل الغرفة وغيرت ملابسي،‏ وما كان أمامي بعد ذلك غير انتظار ساعة الذهاب‏، وقبل موعد بدء الجلسات جاء من يقودنا الى مكان انعقاد المؤتمر‏،  وما بين القاء بعض الأبحاث وسماع المعقبين عليها‏، مضى النهار الأول ‏.

أثناء العشاء في مطعم‏ (‏ الزنبقة‏)‏ أكمل بعض المدعوين نقاشه متناولا بعض النقاط التي أثارتها بعض الأبحاث.‏ بعد العشاء أوصلتني سيارة برفقة اثنين من المدعوين‏، وفي صالة الفندق بعد أن تسلم كل منا مفتاح غرفته‏، اقترح أحدهما أن نجلس بعض الوقت في الكافتيريا‏، أخذت هناك شرابا باردا،‏ وأخذت آخر عندما طالت جلستنا،‏ قبل منتصف الليل قلت بصوت واهن ‏:‏ سأصعد الى غرفتي‏.‏ فقالا: نحن أيضا. توجهنا جميعا الى غرفنا‏، هم لا يقيمون في الدور الرابع مثلي، على كل حال، في الحمام نظرت في شرود الى النافذة الصغيرة‏ على مقربة مني وفرشاة الأسنان في يدي، خيل لي أني لمحت شيئا ما، نظرت من خلف زجاجها، فلم أر شيئا  ولا سمعت صوتا‏.‏
                                                    ***‏
 بعد ساعتين أو ثلاث أيقظني شعور بعدم الراحة‏، كما لو أن هناك شيئا ما يحدث هذه اللحظة‏ أو صوتا يقطع لحظات السكون، حاولت النوم مجددا، ‏ لكن الشعور بعدم الراحة جعلني يقظا،‏ أنرت المصباح فوجدت أنها الثانية،‏ وبعد أن أطفأته،‏ سمعت الصوت مجددا ولم أكن واهما، غادرت الفراش الى الحمام،‏ وعند النافذة الصغيرة قلت هذا جاري يعبئ  قاربه بالهواء، ‏ انتظرت فما توصلت الى نتيجة، قررت بعدها أن لا أصغي الا الى صوت النوم، عدت إلى السرير وقد شغلتني  فكرة أن القارب سيأخذ مكانا واسعا في غرفة‏ جاري، قد يمتد ليغطي سريره وعندما يعبر منضدة الكتابة الى النافذة سيحرمه من رؤية استدارة النهر نهارا  ‏.‏
                                             ***‏

‏بينما كنت أدخن، أمامي كوب الشاي يتصاعد منه البخار دخل الرجل الذي يقيم بجواري الى مطعم الفندق وجلس في مكان لا يبعد عني، وضع المجدافين فوق الكرسي المجاور له،‏ ووضع  القارب وقد أفرغه من الهواء على الكرسي المواجه له وعندما رآني ألقى بتحية الصباح،‏  كنت على خطأ عندما فكرت أن الزورق سيحرمه من رؤية استدارة النهر، فلا شك أنه قد رآها بعدما طوى البلاستيك بهذه العناية التي لا يتمكن منها غير شخص له خبرة جيدة في هذا المجال.  لم يعطني الرجل انطباعا أنه ذاهب إلى ناد للقوارب بعدما ينتهي من فطوره‏، فلو كان ينوي التجديف في النهر لارتدى ما يناسب ذلك‏، غير هذه البدلة التي عليه‏،‏ معها ربطة العنق والحذاء الأسود اللامع.

قبل أن أغادر توقفت عند منضدته سألته عن نشاط رابطة التجديف وكم عدد أعضائها إن كان يعرف فقال أن لا رابطة له بها ولا علاقة له بأحد منتسبيها.  سألته: ولست عضوا في مهرجان العنقاء الذهبي؟ قال إنه لم يسمع بمثل هذا المهرجان. قلت: ولست أيضا  من مؤسسة بريق؟ قال: لا. قلت: ولا من شبكة أبابيل.؟ قال: شبكة أبابيل لا تعنيني. قلت: ولا من مجموعة كل شئ أو لا شئ التي ذاع صيتها في الفترة الأخيرة؟ قال: لا. تركته يكمل فطوره ومضيت.

عندما عدت ظهرا الى الفندق برفقه بعض المدعوين توجهنا مباشرة الى المطعم،‏ رأيته من خلف الزجاج يدخل الصالة بنفس المظهر الذي رأيته فيه صباحا،‏ يحمل المجدافين والقارب الفارغ من الهواء‏، أخذ مفتاح غرفته من الاستقبال واتجه الى المصعد‏.‏
اتصل بي أحد المشاركين في اجتماعات الجمعية عصرا مقترحا عليّ السهر معا هذه الليلة،‏ فاعتذرت بالذهاب الي وسط المدينة لإنجاز مهمة‏، بالفعل عندما انتهت الاجتماعات المسائية‏،‏ ذهبت الي وسط المدينة، حصلت هناك هذه المرة سبعة أشياء ما حصلت معي من قبل، الأولى: كنت أسير في شارع عجائب الدنيا وفي أحد فروعه الضيقة رأيت ناسا متجمعين، يلبس جميعهم البيجاما، بعضهم يضرب بالطبول وبعضهم بالصناجات والدفوف وآخرون يتبادلون الأحاديث في ألفة ما بعدها ألفة، سألت أحدهم عن ذلك فقال نحن نحتفل بعيد البيجاما مرة كل عام. كنت منشرح الصدر فظن ذلك الشخص بي الظنون، سألني: ما جئت ببيجامتك؟ أجبته: بيجامتي ليست معي. قال: بدونها لا تأت في العام القادم.

والثانية: رأيت شابا في الثلاثين يصف للواقفين الجمال الملائكي لإمرأة عرفها،  أخبرني أحدهم  هي زوجته التي ضاعت منه ليلة زفافهما، فقد دخل معها الى الفندق الذي سيمضيان فيه أيام العسل وبحث مع موظفة الاستقبال حجزه المسبق، لكن الموظفة أكدت أن لا حجز مسبق له عندهم،وعندما لم يقنعها وتقنعه طلب منها أن تحجز له غرفة لتلك الليلة، فحجزت له غرفة تحمل الرقم 609، صحب زوجته التي ساءت حالها من طول الانتظار الى الغرفة، وأول ما دخلت شعرت بآلام في بطنها، رفع سماعة التلفون على الاستقبال طالبا منهم المساعدته فبعثوا  طبيبا، كتب لها دواء يخفف آلامها حال تناوله وطلب منه أن يحضره لها من أقرب صيدلية، اشترى ما في الوصفة تلك، لكن قبل أن يصعد الى الغرفة سأل من في الإستقبال عن الطبيب الذي كان عنده في الغرفة  609 ليتأكد من طريقة استخدام الدواء  فقالوا: أولا ما عندنا طبيب نبعثه الى من يمرض في هذا الفندق وثانيا: ما عندنا غرفة تحمل هذا الرقم. بالفعل، أكدت السجلات التي اطلع عليها مع تقرير الشرطة أن ليس هناك غرفة تحمل الرقم 609، ومنذ ذلك اليوم الى هذه الساعة وهو يبحث عن من يدله على تلك الغرفة. أول ما رآني أمسك بي قائلا: أنت لا غيرك من انتظرته طويلا فلا تخيب أملي ولا تبخل علي بقدراتك التي سمع بها القاصي والداني، ألست من يلعب الثلاث ورقات فلا يجاريه أحد. ألست من يخرج الأفاعي من جحورها والثعالب من أوكارها،ألست من يعرف سر الكيمياء التي تحول التراب الحقير الى ذهب غال وتعرف الكنوز المخبأة لسليمان الملك، جد لي فتاتي التي ضاعت واطلب مني ما تريد. قلت له: لا يغرنّك حالي، أني مجرد عابر سبيل يوم هنا ويوم هناك. فما اقتنع وما صدّق، ولم أخلص نفسي منه الا بأعجوبة.

والثالثة: وقفت عند بائع أردية مختلفة، عرض بضاعته على الرصيف، هي ليست أردية بالمعنى الدقيق انما أزياء شعبية متنوعة يرتديها مواطنو هذه الدولة أو تلك، بذل البائع جهدا في اقناع الواقفين هناك أن من يرتدي الزي الفيتنامي ويتمشى في شارع عجائب الدنيا سيرى نفسه في احدى شوارع هانوي عاصمة الفيتنام، ومن يرتدي الزي الصيني، سيمتع نفسه بالنظر الى واجهات محلات بكين أو شنكهاي، ومن يرتدي رداء مغربيا يرى أن الناس في شوارع الرباط أو طنجة يرتدون مثله، ولكي يثبت للمتفرجين صدق نواياه اختارني لألبس الرداء الصيني وأتمشى، لبست الرداء وتمشيت ذهابا وإيابا فسألني ألست في بكين الآن ولست في شارع  عجائب الدنيا في الموصل؟ قلت له: أنا في البصرة أعبر جسر العشار الى الناحية الأخرى. فقال البائع: تعال ارتد غير الذي معك وسترى سؤول في كوريا الجنوبية.ارتديته فسألني أمام الجميع: أليست في سؤول؟ قلت هي نيو دلهي في الهند أو ربما حيدر آباد ولست في سؤول.وأعدت له الرداء، قال البائع: اللعنة عليك، تريد أن تقطع رزقي ورزق عيالي، أراد أن ينوشني بقضيب حديدي احتفظ به لمثل هذه الطوارئ فخلصني الناس  من بطشه.

الرابعة: كدت أقع أرضا عندما خرج رجل راكضا من محل لبيع الحلي الذهبية وصاحب المحل مناديا خلفه امسكوا الحرامي، أمسك بالحرامي شرطي كان بالجوار فقال له الحرامي: أتعرف عقوبتك عندما تقبض عليّ متلبسا؟ قال الشرطي: أعرف، لكني أرجوك، اعتبرها غلطة واعط ما معك لصاحب المحل وأعف عنه وعني.

الخامسة: عند بوابة مسرح المدينة عجبت لإمرأة كانت تشهق عاليا من شدة البكاء والناس من حولها يخففون عنها، سألت عما تشكو منه  فقال أحدهم:هي ممثلة كانت تؤدي دورها على المسرح في هذا اليوم الذي هو يوم الافتتاح وحدث لها ما حدث، فقد استمعت صاغية لصوت الكورس وهم يعلّون بأصواتهم الرخيمة من شأن الشخصية التي تمثلها، يمدحون فيها قدرتها على الصبر أمام ما مر بها من أهوال تخر لها الجبال، فقد رجع ابنها الضابط الشاب في الجيش برتبة ملازم ثاني الى البيت بعد احدى المواجهات مع العدو أيام  الحرب مع ايران التي دامت ثمان سنوات حاملا   في ساقه اليمنى عشرين شظية قبل بترها، لبس بعدها ساقا اصطناعية تفوح منها رائحة البلاستيك وكان يتقزز منها عندما  يخلعها قبل النوم. أما  ابنها الآخر فقد خنقه الغاز وخنق زوجته وطفليه في ملجأ القادسية بعد استهدافه بقنبلة امريكية أثناء حرب الخليج. ومات زوجها وهو يعبر جسر الجمهورية بسيارته ساعة قصفه بصاروخ أطلقته طائرة مغيرة في حرب لعينة أخرى، وقبل أن يكمل الكورس انشاد بقية ما نالت من مصائب تهاوت الممثلة  على الأرض وهي تقول: كل هذه المآسي التي شهدتها هذه المرأة  التي أمثل دورها وتريدون مني أن أقف كالبلهاء استمع لإنشاد الكورس ولا افعل شيئا. وأخذت تبكي، طلب المخرج منها أن تتابع دورها فما  سكتت، تدخل بعض المشاهدين وبعض أفراد الكورس فما توصلوا معها الى نتيجة، اضطر المخرج أن يكلف ممثلة أخرى لإكمال الدور بعدما راحت هي تجر أذيالها الى خارج   المسرح لعل الهواء العليل يخفف عن بعض ما في نفسها من مشاعر الألم.

السادسة: رأيت ذلك الذي كان قد حاز على الميدالية الذهبية بوزن الريشة في رفع الأثقال قبل عامين، عندما مر في الشارع همس الناس لبعضهم ( انظروا هذا هو حمزة ) كان قد أصبح اسطورة في مدينتة البصرة، ففضلا عن كونه بطلا في رفع الأثقال، امتلك قدرة حسنة في حفظ النكتة وروايتها وتأليفها أحيانا، وبسبب قدرته هذه منعوه من ممارسة ألعابه كما صدرت بحقه تعليمات تقضي بشطب اسمه من كافة المطبوعات والنشرات الخاصة بالنشاط  الرياضي ليمحوا اسمه من ذاكرة الناس وأخيرا قرروا إبعاده إلى الموصل لعل الإجراء هذا يوقفه من تأليف النكات السياسية وروايتها وخاصة تلك النكتة التي روى فيها لقاء جمع بين صيني واندونوسي وعراقي فقال الصيني أن صينيا وصل الى قمة جبال الهملايا ثلاث مرات وهو برجل واحدة فقال الأندونيسي: هذا لا يعد شيئا مقارنة بمواطنه الذي تجول بين ثلاث جزر اندونيسية سباحة رغم أنه مقطوع اليدين. فرد عليهما العراقي: إني أشفق لحالكما فهناك بلد عربي رئيسه يحكم البلاد منذ ثمانية وعشرين عاما رغم أنه بلا رأس. طبعا كان ذكيا لأنه لم يذكر اسم البلد لأنه لو ذكره لأعادوه الى بلده بلا رأس.

والسابعة: جلست في مقهى اتصفح مجلة كانت على الطاولة، أثناء ذلك جلس رجل ضخم بجانبي، قال دون أن يلتفت ناحيتي:  تعال معي الى سيارتي الواقفة هناك لآخذ ما عندك وتأخذ ما عندي. سألته: في سيارتك التي هناك ماذا ستأخذ مني؟ قال: ما حملته لي في حقيبتك من نقود حسب الاتفاق. قلت: وماذا سآخذ منك؟ قال: حسب الاتفاق صولجان الملك آشور يا صاحبي، أثر أصيل لا نظير له، كن واثقا لولا اسمك الذي يلمع في السوق ما بعناك اياه  بنصف الثمن.

قلت: أنا آسف، لست ذاك الشخص الذي تطلبه  يا صاحبي فلا اسم لي يلمع في السوق.

- لكننا اتفقنا أن تجلس هنا في المقهى وتقرأ في مجلة وتحمل حقيبة كهذه التي معك فيها النقود.

-  ليس في حقيبتي غير مجموعة الأوراق هذه.

فتحت الحقيبة  ورأى ما فيها.

قال: دعني أقول أنك أخطأت، لو كنت مكانك ما جلست  هنا ولا حملت مثل هذه الحقيبة،  قد يقودك هذا الخطأ الى ما لا تحمد عقباه، ولكن خذ حقيبتك وابتعد  قبل أن أغير رأيي.

تقدم ثلاثة رجال يتطاير الشرر من عيونهم وأحاطوا بي، قال أحدهم للجالس بجانبي:

- ربما لم يفهم بعد أنك لو اردت منا أن نأخذه الآن ونستفرد به  خلف المقهى ونشطره  هناك الى شطرين لفعلنا ذلك؟

قال:هو يفهم ذلك، لكن اذهبوا جميعكم واتركوني معه.

 وعلى عكس ما تصورت،  طمأنني الى أنه  سيتولى حل المسألة بعد أن أبرح مكاني، وطمأنني الى أن الرجل الذي ينتظره سيأتي الى المقهى عاجلا ام آجلا حاملا الحقيبة التي فيها النقود  ويتصفح مثلي المجلة.

 أوقفت خارج المقهى أول تاكسي مر بي وطلبت من السائق أن يوصلني إلى الفندق.

كنت بين اليقظة والنوم عندما وصلني  صوت النفخ من جهة باب الحمام‏،وما انقطع   إلا بعد فترة طويلة ‏، لا أدري ربما كنت أحلم فقد رأيت ذلك الذي يقيم بجوار غرفتي متعبا يريح ظهره علي كرسي‏ بعدما أنجز ما عليه، ربما كنت أحلم أيضا عندما سمعت فجأة  صوت الماء‏، بدأ رقراقا  ثم تحول الى هدير‏، استوى الزورق فوق طلائع الماء الأولى، فترك الرجل مكانه صاعدا الى الزورق ‏.‏
 نمت بعد ذلك  اكثر من ثلاث ساعات بعدها استيقظت على أصوات أشياء مختلفة ترتطم ببعضها فذهبت الى الحمام، لا شك أن الرجل  بعد أن طفا القارب فوق الماء الهادر،‏ أشار الى أناس محاصرين بالطلوع  معه والا جرفتهم المياه وعندما طلعوا خفت صوته تدريجيا‏ وسكنت الغرفة مثل محارة انغلقت على نفسها.‏

في الصــباح قلت لموظــفة الاستقــبال‏:‏ هل أنت مقتنـعة بأن الدور الذي أقيــم فيه اكثر هدوءا مـن غيره؟ تطلـعت إلي وقالت‏:‏ نحن لا نكذب على زبائننا.
كان واضحا انها غير مستعدة لمناقشة المـوضـوع معي ثانية‏، تركتها لأتصل بزمــلاء لي في الفندق أعلمهم أني سأسبقهم فـي الذهاب إلي الجلسة الختامية‏.‏
هذه ليلتي الرابعة والأخيرة التي أمضيها في هذا الفندق‏، ختمت الجمعية العلمية اجتماعاتها بعد ظهر اليوم،‏ وما بقي إلا التهيؤ للعودة،‏  اتفقنا على الساعة التاسعة يوم غد موعدا للمغادرة‏.‏ ذهبت الى غرفتي متأخرا، حاولت النوم فلم يأتني‏، جربت أن أقرأ لكني لم أفقه معنى لأي شيء، انتظرت أن يبدأ صوت النفخ فما بدأ،‏ مر الوقت بطيئا،  ربما كنت أحلم، رأيت  جاري وسط الأمواج،‏  يحرك المجدافين ليسيطرعلى توازن القارب،‏ يدفعهما ويجذبهما،‏ في قوة من يريد السيطرة على الأمر،‏ ومن هول ما جرى ارتفعت من القارب أصوات عالية تعرفت على بعضها، أحدها صوت شبيه بصوتي،‏ لا‏، بل هو صوتي فعلا،‏ فضلا عن صوتين أو ثلاثة هي للممثلة التي كانت تبكي وصوت ذلك الذي معه صولجان الملك آشور، وصوت ذلك الذي يبحث عن الغرفة الضائعة،‏ تأكدت من أنه حملنا معه  لأني سمعته  ينادي بأسمـائنا فردا فردا وكان يطلب منا أن لا نفزع هكذا وأن نثق بقدرته‏، لكننا نصـرخ ونتضرع إليه كي يوصلنا الى مرسى  ‏.‏ رأيت تباشير الفجر الأولى ولم أر استدارة النهر.                                                                                                    

        *  *  *

قبل مـوعد السفر الى بغداد بوقت قصيرارتديت ما يناسب رحــلة طويلة كهذه،‏ أردت أن اكتــب تقريرا بمجــريات الاجتماعات الى رئيس القسـم الذي أعمــل فيه في كلية العلوم‏، لكني فضـلت أن أجهز حقيبة سفري‏ أولا، وفي صالة الاستقبال انضممت الى بعض من أنزلوا حقائبهم وبحثنا معا أمر السفر. فيما بعد أخبرتني الموظفة وأنا أسلم لها مفتاح الغرفة وأصفي معها ما علي من حساب أن جاري الذي على يمين غرفتي غادر الفندق عند الفجر تاركا رسالة لي، أعطاني فيها الحق أن آخذ القارب والمجدافين لي فقد تركهما باسمي في الاستقبال.