من الفرات للنيل حبل سري عقدته أرواح البشر ودهور التاريخ. في مقالته يشرق دمع الروائي المصري على بلده سوريا. يضع مراياه التي تعكس صور الشهيد في الدارين، ويرتل سلام ابن البهية المصرية أحمد شوقي على أهل سوريا وهم يقاومون الطغمة الحاكمة، ثم يعلق على خطاب الأسد الأخير، ويتأمل دلالاته.

دموع لدمشق .. والخطاب الساكت

بهاء طاهر

طفل جميل‏،‏ ملائكي الوجه وملائكي السلوك أيضا ثارت مدينتة درعا على الطغيان وكان بعض أهلها محاصرين من جنود السلطة‏. حاول حمزة الخطيب‏، ابن الثلاثة عشر ربيعاً، أن يخترق الحصار ليهرّب إلى أهله المحاصرين بعض الغذاء والمؤن، لكنه وقع في أيدي زبانية النظام.

بعد أسابيع استرده أهله من أجهزة الأمن ولكنهم تسلموه جثة مشوهة.. تعرض الطفل في أقبية تلك الأجهزة الوحشية الي تعذيب أحال جسده الصغير الطاهر إلى ثقوب غائرة من طلقات الرصاص وكدمات زرقاء متورمة من آثار الضرب، وانتفخ الوجه والجسد على نحو بشع تسيل دموع أقسى القلوب وأكثرها تحجراً لرؤية ما ألم بهذا الطفل الشجاع البريء.

لكن حمزة الخطيب الذي شوهت أجهزة الأمن السورية جسده، ظل أكثر جمالاً بعد موتة الفاجع، أصبح نوراً خالصاً يضيء لبني وطنه ويوجههم الي طريق الحرية والثورة وشعارهم الآن كلنا حمزة الخطيب.

ولكي يكتمل الشبه مع مأساة شهيدنا خالد سعيد الذي أحيينا ذكرى وفاته الأولى قبل أيام، فقد ظهر طبيب شرعي سوري ينفي تعرض حمزة للتعذيب!

قبل عشرات السنين أهدى شاعرنا العظيم أحمد شوقي قصيدة لشهداء دمشق حينها، ومما قال فيها:

ولا يبني الممالك كالضحايا(...) بلاد مات فتيتها لتحيا/ وزالوا دون قومهم ليبقوا.

صدقت يا أمير الشعراء ولكن شعرك يوجهنا الآن أكثر فأنت كنت تتحدث عن ضحايا سقطوا شهداء لبطش جنود الاحتلال الفرنسي لسوريا في ذلك الوقت دقوا بأيديهم المضرجة بالدماء باب الحرية كما نصحتهم, فانفتح الباب على مصراعية ليخرج منه المحتل وليستقبل الاستقلال والكرامة لسوريا العربية الحبيبة إلى قلب شوقي وكل العرب كان الفداء مطلوباً ومفهوماً ثمناً لجلاء المستعمر أما الآن فلأي غاية يقتل الجندي السوري أخاه المطالب بالحرية لهما معا؟

غير أن دماء غزيرة سالت في سوريا أيضاً في عهد الاستقلال ففي مطلع الثمانينيات سقط مئات أو آلاف الشهداء في مدينة حماة عقاباً لتمرد المدينة على حكم البعث والرئيس حافظ الاسد وحكى لي صديق سوري كان شاهد عيان أن نظام البعث قرر معاقبة المدينة كلها وليس المتمردين وحدهم، فكان الجنود يأمرون سكان البنايات في الاحياء التي تمردت بالنزول إلى الشارع ثم يحصدونهم بالرصاص حتى ولو كان من بينهم بعض أنصار الاسد من أعضاء حزب البعث. كان المطلوب أن تصبح حماة عبرة لسوريا كلها وترك الدرس أثره لفترة من الوقت غير أن الطغاة لا يتعلمون أبداً أن حبل الإرهاب مهما طال ينتهي بأن يخنقهم أنفسهم عندما يطفح كيل الشعب.

ويريد نظام البعث الآن أن يكرر درس حماة بسحق مدن سوريا كلها بدلاً من مدينة واحدة، لم يكتف بدرعا وبانياس وحمص بل راح يعيث فساداً وقتلاً في كل مدن القلب والأطراف، لا يريد أن يفهم أنه كلما أمعنت يد البطش في جرائمها ازداد أوار الثورة اشتعالاً.

لن تنفع الأكاذيب التي تطلقها ماكينة الدعاية السورية لن يصدق أحد أن كل المظاهرات الثائرة تنظمها عصابات إرهابية منتشرة. كيف تكونت في كل أنحاء سوريا هذه العصابات المزعومة في بلد تحكمه منذ عشرات السنين أجهزة أمنية تحصي على الناس خطواتهم وأنفاسهم؟ ولن يصدق أحد أن هذه العصابات هي التي قتلت المئات حتى الآن، وإنها من القوة بحيث تغالب دبابات الجيش والميليشيات المدربة، وما قاله شوقي عن المستعمر في قصيدته الدمشقية قبل عقود يصدق على الطغيان المحلي اليوم: إذا ما جاءه طلاب حق.. يقول عصابة خرجوا وشقوا!

ولن تصمد أيضاً حجة أن الثورة مؤامرة على سوريا لأنها بلد الممانعة ودعم المقاومة ضد العدو الاسرائيلي، لقد وقفنا مع كل العرب نؤيد سوريا في دعمها للمقاومة ولكن تمسحها بذلك الآن في ظل المجازر يسيء إلى المقاومة وإلى رموزها. مقاومة اسرائيل الغاصبة لا تغفر ذبح الشعوب الثائرة.

ستسقط كل الأكاذيب وسيحاسب الشعب كل من شاركوا في اختلاقها والسكوت عليها. وسيكون المثقفون في طليعة من يحاسبون باعتبارهم ضمير أمتهم وهم ليسوا سواء، فمنهم الشرفاء الذين وقفوا إلى جانب شعبهم منذ اللحظة الأولى للانتفاضة، بل ومهدوا العقول والضمائر لنبذ الطغيان من قبل تلك اللحظة، ومنهم من خانوا أمانتهم. لي أصدقاء ومعارف هناك كانوا يعانون كمعارضين أو حتى كمستقلين من جبروت أجهزة الامن السورية التي لم يكن ينجو من بطشها مثقف ولا جاهل. وكانوا يسهبون في أحاديثهم معي في وصف الإرهاب البشع لنظام البعث، لكني رأيت للأسف عبر السنين كيف نجح النظام الذي يعرفون سوءاته أكثر من غيرهم في شرائهم ليصبحوا من المدافعين عنه وينضموا إلى جهاز دعايته الشرير.

لو عاد هؤلاء تائبين معلنين ولو متأخرا رفضهم وإدانتهم لحكم الطاغوت فقد يغفر لهم الشعب، ولكن توبتهم لن تكون مقبولة بعد أن يلفظ النظام أنفاسه، وليكن فيما حدث لأمثالهم في مصر من الخزي والعار عبرة.

وأخيراً فإني أكرر مع أحمد شوقي:
سلام من صبا بردى أرق * * * ودمع لا يكفكف يا دمشق
وهي دموع إلى حين، سيجففها النصر إن شاء الله.

الخطاب الساكت
«الشعب يحبنى وأنا أحبه»..
هكذا قال الرئيس فى بداية خطابه. والدليل أنه فى نفس لحظة الخطاب كانت الدبابات تقيم ستارا حديديا على حدود بلده مع تركيا لمنع مزيد من الآلاف من المحبين من الفرار من وطنهم إلى تركيا.
أما السبب ــ كما اطلعنا فى درس طبى بليغ ــ فهو الجراثيم. فقد أفهم من لا يفهم، أن القضاء على الجراثيم (ويحق لك أن تقرأها هنا الشعب المتمرد) مستحيل، والعلاج الوحيد الممكن هو وقف انتشار هذه الجراثيم.
ومن هنا يصبح قصف المدن والقرى السورية بالدبابات والمدفعية والطائرات مجرد عملية تطهير للجراثيم لا أكثر.
نحن إذن أمام خطاب يسخر من الشعب ومن الحقيقة بالأقوال والأفعال، ولولا أن ثمن هذه السخرية هو دماء وأرواح السوريين الشجعان لكانت نوعا من الكوميديا السوداء التى تستدعى الدموع لا الضحكات.
وبغض النظر عن هذه الفتوح البلاغية المقيتة، لم يأت الخطاب بأى جديد يشفى غليل الشعب المتعطش إلى حل أو إلى رحيل. فقد كرر إلى حد الملل الأكاذيب التى ظل الجهاز الإعلامى الدعائى يضخها على مدار شهور. فهى الأسطوانة نفسها: عناصر متسللة ومندسة وعصابات مسلحة تهاجم رجال الأمن الأبرياء وتفتك بالشعب تنفيذا لمؤامرة غربية.
قد نفهم حكاية الهجوم على رجال الأمن وإن لم نصدقها، ولكن لماذا تفتك هذه العصابات بالشعب فى درعا وبانياس وجسر الشغور وغيرها؟ أليس من المفروض أن هذه «العصابات» تريد أن تكسب الشعب لصفها ضد السلطة؟ أى أنها تمارس الشر لمجرد الشر، ولماذا اتهم أهالى درعا بالصوت العالى الجيش والأمن السوريين بمهاجمة المنازل والمساجد وقتل الناس دون أن يأتوا على ذكر (مجازر) هذه العصابات التى لم يسمع بها أحد إلا فى الإعلام السورى الرسمى؟ ولماذا ظلت السلطات ترفض حتى الآن دخول الإعلام الدولي إلى مناطق النزاع فى درعا وغيرها لتصوير الواقع أو حتى كتابة تقارير مستقلة عما يدور فى المدن والقرى المنكوبة؟ ما الذى تخشاه هذه السلطات من كشف الحقيقة؟
يخرج مواطنون سوريون فى مظاهرات ليلية على أمل أن يسترهم الظلام. ويصور بعض المتطوعين الهواة المندسين زملاءهم المتظاهرين ليصل صوتهم إلى العالم. شاهدت واحدة من هذه المظاهرات الليلية، وأوجع قلبى هتاف المتظاهرين المرير المدوى «كاذب.. كاذب.. إعلام سورى كاذب».
وكيف لا يكون كاذبا وأنت ترى فى عز القتل والسحل والضرب أشرطة لمظاهرات بهيجة ملونة يقودها البعثيون المطمئنون فى كنف الأمن هاتفين «الله وسوريا وبشار وبس» وهو هتاف مستعار من نظام شقيق لهم غربا يمارس بدوره تطهير الوطن من الشعب الجراثيمى. وقد تسأل نفسك: من أين يتوافر لهؤلاء المتظاهرين المؤيدين آلاف من الصور الموحدة الشكل والحجم أيضا للزعيم القائد يرفعونها أثناء هتافاتهم المتشنجة؟ إن لم تكن أجهزة (القائد) هى التى وزعتها عليهم، فإن اتفاقهم التلقائى على رفع الصور نفسها هو معجرة حقيقية. غير أن تنظيم هذه المظاهرات الرسمية الحاشدة لا يعنى شيئا على الإطلاق لحسن الحظ.
فكل إنسان على سطح الأرض شاهد أو عايش مظاهرات مماثلة تحشدها الأنظمة المستبدة بالترغيب والترهيب لمن لا حيلة لهم من الموظفين والعمال وغيرهم. وأذكر أن أضخم مظاهرة رأيتها من هذا النوع كانت لتأييد شاوشيسكو طاغية رومانيا، وسبقت سقوطه بأربع وعشرين ساعة بالضبط!
غير أن الخطاب يقترح حلولا أيضا.
فهناك لجنة كبيرة ستشكل للحوار وستنبثق منها توصيات ترفعها إلى (القائد)، فتتحقق كل الحريات، وتجاب كل المطالب فى أقرب فرصة بإذن الله.
لكن الشعب السورى خرج فى مظاهرة فورية عقب الخطاب فى مدن وأقاليم مختلفة يعلن رفضه للجان الموعودة وعدم ثقته بالوعود المؤجلة. كان ما يطلبه بسيطا ويسهل تحقيقه مباشرة دون أى تأجيل: سحب قوات الجيش وقوى الأمن العلنى والسرى من المدن والقرى، وحرية التظاهر السلمى، وإقامة ديمقراطية حقيقية وتعددية حزبية بعيدة عن هيمنة حزب البعث وربما بعيدة عن وجوده أصلا.
خطوات ملموسة، وتطبيق فعلى لا مجرد وعود وقرارات شكلية. فقد صدر مثلا قرار بإلغاء حالة الطوارئ فى سوريا قبل أيام، لكنه ظل مجرد قرار، أما القمع المرتبط بالطوارئ من اعتداءات واعتقالات فقد ظل راسخا بعد هذا الإلغاء مثلما كان قبله.
بقيت فى الخطاب حكاية المؤامرة الأمريكية الإسرائيلية على سوريا باعتبارها دولة الممانعة ودعم المقاومة. وليس عندى شك فى أن أمريكا وإسرائيل تتآمران بالفعل على سوريا وعلى بلدان عربية أخرى. ولكن ربط هذا التآمر بالانتفاضة الشعبية من أجل الحرية زعم شرير لا يستند إلى أى دليل، بل هى مجرد محاولة مفضوحة لتلويث ثوب هذه الانتفاضة السلمية النقى.
تكشف الشعوب الحقائق من الأكاذيب. فعندما بلغ التآمر الإسرائيلى الغربى ضد سوريا ذروته إبان الغزو الصهيونى للبنان وقف العرب جميعا إلى جانب سوريا، وكتبت مقالا فى حينها كان عنوانه «كلنا سوريا» وكان دالا على مضمونه. غير أننى لم أنس أن أختمه بالتذكير بأن إطلاق الحريات فى سوريا هو أفضل تحصين لها يضمن إفشال كل المؤامرات . ومازال هذا صحيحا اليوم مثلما كان بالأمس.
ولو أن السلطة فى سوريا تبادر إلى كف يد البطش والتنكيل وإلى تنفيذ مطالب الشعب المشروعة فقد يغفر لها إساءاتها وجرائمها فى حقه.
وأقول قد!