يتقصى الناقد الأدبي المغربي عالم الكتابة عند الكاتب الأردني مفلح العدوان من منطق الاحتمال والممكن، حيث الهدف هو خلخلة اليقين بالمسلمات والتشكيك في المكتسبات، كتابة تعتبر إضافة جديدة في مدونة السرد القصصي العربي المعاصر، كتابة لا تهادن ولا تسلم بال"حقائق" المكرسة والمتداولة، إنها كتابة تبعث على تجديد المعرفة.

مفلح العدوان و كتابة الاحتمال

محمد معتصم

الكتابة موقف من العالم ورؤية ذاتية ومساهمة في بناء فكرة وبناء تصور جمالي مبتكر يحمل بصمة الكاتب المبدع التي تختلف عادة عن بصمات كتاب آخرين، ولا يتحقق ذلك إلا بوعي من الكاتب المبدع ذاته بشروط الكتابة وبمحيطه وبالغايات التي من أجلها يكتب. مفلح العدوان الكاتب الأردني المتعدد الاهتمامات والمتنوع الخطابات الإبداعية والموزع بين كتابة القصة القصيرة والمسرحية يمكن أن نعتبره كاتبا مبدعا لأن له بصمة خاصة به، وموضوعا للكتابة يحفر في بنياته ليكشف عن خباياه وجوهره الجمالي المتخفي وراء النظرة العادية والسطحية عامة، إنه موضوعة "الموت" هذا العالم الغريب المنفتح على الاحتمالات اللامنتهية، المقترن بالخوف والطقوس السرية والذي كتبت حوله النصوص الشعرية والسردية والملاحم بعضها يمجده وبعضها الآخر يغرقه في الرؤية الغرائبية كما رسمته الأساطير وشخصته في صور متنوعة لكنها لا تخرج عن صورة الوحش المفترس وحاصد الروح بمنجله المعقوفة.

مفلح العدوان يشتغل إذا على موضوعة موحدة هي "الموت" وحضورها بارز في مجموعتيه "موت عزرائيل" و"موت لا أعرف شعائره"، وإذا كان العنوان عتبة أساس في ولوج العالم السردي لقصص مفلح العنوان فإن له وظيفة التأكيد على توجيه وعي القارئ نحو الموضوعة ذاتها، موضوعة "الموت" ومصاحباتها كالتناسخ والتقمص ونقيضها كالذاكرة والحياة، وهي موضوعات صغرى تقوم بالكشف عن بعض الجوانب الغامضة في الثقافة العربية، لكنها ليست غريبة عنها.

موضوعة الموت وحدها شبكة مركبة من الغرائبي والدهشة، لكن عالم الكتابة عند مفلح العدوان في مجموعته "موت لا أعرف شعائره" يبلور منطقا رياضيا هو "منطق الاحتمال" حيث يقوم الكاتب برص العديد من الفرضيات الممكنة في لعبة سردية لا تروم الإقناع طبعا، بل تسعى نحو خلق أثر جمالي عند القارئ وتفتح في ذهنه إمكانية التخمين وإعادة التفكير في الموجودات والمسلمات والبديهيات وموروث الذاكرة. سؤال الموت عند مفلح العدوان ليس سؤالا أنطولوجيا أو باطولوجيا لأنه لا يعيد السؤال حول الولادة والموت كنهاية بل يطرح الموت بتصورات مختلفة؛ الموت كمرآة تعكس صورة الشخص الظاهرة، والموت كعين كاشفة لخفايا حقيقة الشخص الباطنية، وتطرح الموت كفارز للتعدد الكامن في الشخص عبر مفهومي التقمص والتناسخ، أي حينما يكون الشخص ذاته وآخر في آن.

كتابة الاحتمال أو كتابة الشيء المحتمل تقوم على اقتراح فرضية أو أكثر كمنبع لتوالد المحكي أو المحكيات، والسرد في قصص العدوان يتنامى بالمقارنة بين الموروث الثقافي (العادات والتقاليد المكتسبة) من جهة وحقائق الواقع المعيش سلفا (قبل الموت)، ويقترح العدوان في كل تجربة  (نص قصصي) نتائج لبلورة الفرضية المقترحة (الحياة بعد الموت، بعد التحول). من ثمة، يكون البناء العام للقصة عند مفلح العدوان (بنيويا) على الصورة الآتية:

1/ اقتراح فرضية، مثلا الموت بعد الكأس ما قبل الأخيرة من القنينة الرابعة: "أمر الرحيل تنزَّلَ، عبر بريدي الإلكتروني، رسالة تخبرني بأجلي في الساعة التي أكمل فيها كأسي قبل الأخير من زجاجتي الرابعة !!" ص (9).

2/ تحقق الفرضية وتحولها إلى واقع داخل الحكاية (مادة للحكي)، أي موت الشخصية القصصية وانتقالها من عالم معروف إلى عالم مجهول:" طهارة غامضة، أخذت تذيب ما تبقى بي من شوائب الحياة الأولى.. استسلمت لها، وأحسست جسدي ينزاح مع التيارات المتدفقة نحوي ! طقس آخر، لعالم يجهله البدوي.." ص (11-12).

3/ بلورة حكاية جديدة تكون امتدادا ونتيجة للفرضية عبر مجرى التخييل الغريب والمدهش، لكن كحقيقة جديدة تطمس المنطلق الافتراضي، أي كحقيقة محتملة أو كاحتمال حقيقي:" المكان ضيق عليَّ. طرقت بكلتا يدي.. فلم يستجب أحد ! كررت الطرق على جدار القرص الذي دفنت فيه، بعنف أكثر، معبرا عن حيرتي، وتوجسي من موتي !" ص (14).

4/ تنامي المتواليات السردية نحو اختيارات متنوعة أو الذهاب بالاختيار الوحيد نحو نهايته.

5/ نسف الفرضية والنتيجة (الحكاية الامتداد: الموت والدفن داخل قرص مدمج)، وإغلاق مجاري الاحتمالات المتواترة السياقية، ليفتح باب احتمال جديد لمجرى سردي جديد، لحكاية جديدة مختلفة؛ هل كل ذلك كان وهما أملاه الصداع وتأثير الخمرة الرديئة:" أضغط بعنف على جبهتي.. أحاول عصر الصدغين كي يتوقف هذا النبض في الرأس.. جمجمتي ما عادت تستطيع الصمود، والصداع يفتح أقفال الرؤى، والأحلام، والأفكار، والأسئلة.. كل شيء تشوش في الذاكرة.. هل هي وهم أيضا؟ ! أية ذاكرة تتلبسنا بعد أربع زجاجات إلا كأس !" ص (23).

هكذا يبدو بناء محتوى قصة (مادة الحكي) "موت لا أعرف شعائره" التي اختارها الكاتب مفلح العدوان عنوانا لمجموعته موضوع التحليل، لكن على مستوى بناء الخطاب فقد اعتمد الكاتب التناوب بين محكي الشخصية القصصية (المتحولة/ الميتة) ومحكي (المبرمج) وهو شخصية متخيلة تتحكم في الأموات بعد تحويلهم إلى أجزاء ضئيلة مضغوطة داخل قبر(قرص مدمج) من نوع خاص. إذن، هناك مساران سرديان يتناميان ويتناوبان على إعطاء الحكاية الإطار شكلها الفني والجمالي المتكامل. محكي الشخصية القصصية يتنامى عبر خلق مقارنة بين الماضي الذي تخزنه الذاكرة وهو مجموع مكتسبات الكائن وسنده الذي يمنحه القيمة ويسمح له بالوجود ضمن مجموعة مماثلة لها المعتقد ذاته (الهوية/ الكينونة/ الذاتية)، وبين الواقع الجديد حيث صار الكائن مجرد نقطة ضائعة في عالم مختلف بلا حدود أو صفات مميزة، عالم له ثقافة وعادات وتقاليد مختلفة تماما، هذه المقارنة خلقت في النص أسئلة فكرية عميقة لكن بصورة مبسطة وموحية من قبيل التشكيك في حقيقة ما يؤمن به الإنسان كمركز وجود وكحقيقة ثابتة، يتساءل السارد:" هل كل وعيي الذي رضعت، مذ طفولة حرفي، حتى كهولة نطقي، وحي من نسج الخداع؟ !

"أين ما قيل لي عن وصف هذا المكان؟ !

"هل الماضي أكذوبة؟ والجسد سراب، والروح ضباب، والعواطف والأفكار، والثواب، والعقاب، كلها كلمات غائبة إلا على ألسنتنا، وفي نسيج عناكب أفكارنا.

"ما الحقيقة؟ ! أينها؟ ! أم أن كل تلك الأشياء ما هي إلا برمجيات لا وجود لها إلا على الرقائق المضغوطة، وفي أحلام النائمين؟!

"أكانت غيبوبة، حياتي الماضية، وأنا كنت أسكن فيها، مكانا يشبه قبري الذي أنا مدفون فيه الآن؟ !

"ابتسمت، مخالفا شريعة الموت، كاسرا شعائر طقوسه.. قلت لبقايا أثيري: (كل شيء وهم، وهباء) ! ..." ص (16-17).

محكي (المبرْمِجِ) يأتي لتشكيل رؤية من خارج الحكاية الامتداد الجديدة التي بلورتها الشخصية القصصية في عالمها المضغوط الجديد والمختلف والغريب، عالم الكائنات داخل الأقراص المدمجة، عالم متأثر ومندهش من الحياة الجديدة التي فرضتها الأدوات/ التقنيات الجديدة (الحاسوب، الأقراص المضغوطة والمدمجة...)، لذلك رسمت شخصية المبرمج كسارد عالم بكل شيء (كلي المعرفة) بل هو شخصية ذات سلطة كبيرة وتتحكم في المصائر بضغطة على الأزرار أمامها (أزرار الملمس)، ما يدل على معرفته الشاملة الآتي:" قال وهو يركز بعينه الرقمية على الميت: (ماذا لو عرف هذا الكائن أن لا دنيا عاش، ولا آخرة تنتظره.. هل سيصدق؟ ! أم أنه سيكابر، بعد أن أدمن الوهم؟ !). يضيف: (سأريه ما ينتظره !!). ص (16).

هذا عن قصة "موت لا أعرف شعائره" أما باقي القصص في المجموعة فتتوسل بطرائق مشابهة وبأدوات متنوعة لرسم عوالم عجائبية وتسرد أحداثا وأفعالا مثيرة للتفكر والسؤال وخلخلة اليقين والمسلمات، ومنها: التأمل المبدع في الأشياء، وتحويل الجماد إلى أشياء حية، وخلق انسجام وتفاعل إيجابي بين اللغة والخيال والأشياء، بعث الأموات ودفعهم إلى التفكير في وضعيتهم وفي يقينياتهم من أجل الخروج عن صمتهم وسكونهم...

يوظف مفلح العدوان في قصصه عامة ثلاثة مستويات من الساردين:

1/ السارد الرئيسي، يتكفل بتتبع المحكي الإطار. مثلا: (كان أجدى أن يصمتوا)، المتكلم هنا السارد الرئيسي، ومحتوى القول غير خاص بل عام وغير محدد.

2/ السارد الشارح والمعلق، وهو سارد يروي ما يوضع للتمييز بين قوسين، وهو سارد خارجي. مثلا: (السكون، يعني فقدان القدرة على منح الدفء، والعجز الكامل أمام الصقيع الذي يعلن احتلال الجسد: (عيون باردة، آذان صماء، وجه غائب الملامح، قلب أجوف، وبدن بلا روح)، المتكلم هنا يشرح القول السابق (الصمت).

3/ السارد الشخصية، وهو سارد ضمني يستعمل ضمير المتكلم غالبا ليصف أو يسرد ما يتعلق بالشخصية القصصية. مثلا: (الخطوة الأولى: دفعت النقود)، المتكلم هنا الشخصية القصصية بضمير المتكلم الذي يجعل السرد ذاتيا. [الاستشهاد من قصة "عري".]

يكتب مفلح العدوان من منطق الاحتمال والممكن، لكن الهدف هو خلخلة اليقين بالمسلمات والتشكيك في المكتسبات، أي وضع المعرفة السابقة والقبلية تحت المجهر ومباشرة في وجه السؤال القلق والوجودي؛ هل كل ما تعلمناه سابقا وهم وخرافة؟ وهو الشك الذي يولد سؤال مقابلا له ما هي المعرفة الجديدة التي سياتي بها العصر الجديد والتقنيات الجديدة؟ إضافة غلى السؤال: ما الحقيقة المعرفية؟ وهل هي حقيقة ثابتة؟

كتابة من هذا النوع تعتبر إضافة جديدة في مدونة السرد القصصي العربي المعاصر، كتابة لا تهادن ولا تسلم بال"حقائق" المكرسة والمتداولة، إنها كتابة تبعث على تجديد المعرفة كلما دعت الضرورة إلى ذلك، ولا حقيقة إلا العمل المحفز على الشك من أجل اليقين وممكناته.

 

ناقد أدبي من المغرب

 

العدوان، مفلح: موت لا أعرف شعائره. منشورات دار أزمنة. ط1. 2004م

سلا- المغرب 11 يونيو 2011م