تقدم لنا المترجمة والكاتبة الجزائرية كتابا صدر ضمن مشروع "كلمة" للمؤلفين سابينو أكوافيفا و إنزو باتشي، وهو كتاب تعليمي بالأساس، ينأى عن السجال الإيديولوجي المتوتّر في إصدار المواقف بشأن الدين، ويتطلّع إلى ترسيخ المعالجة العلمية الهادئة للظواهر المتصلة به. ويسعى أساسا للإمساك بخلاصة المقاربات السوسيولوجية، ووضعها على محك المواجهة مع الظواهر الدينية.

«علم الاجتماع الديني»: كتاب إيطالي ترجِم إلى العربية

سهيلة طيبي

تسود في مجال دراسة الدين، في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة، غفلة هائلة عن الأدوات المعرفية العلمية المتّصلة بتتبّع الظواهر الدينية. وتكاد الأعمال المؤلَّفة أو المترجَمة في علم الاجتماع الديني لا تتجاوز عدد أصابع اليد، ناهيك عما في مجالات أخرى قريبة، مثل الإناسة الدينية، التي يبدو الانشغال بها منعدما معرفيّاً وأكاديميّاً. وعيا بهذا النقص أصدر "مشروع كلمة" التابع إلى هيئة أبوظبي للثقافة والتراث كتاباً بعنوان: "علم الاجتماع الديني"، للمؤلّفين سابينو أكوافيفا و إنزو باتشي، قام بنقله إلى العربية الأستاذ التونسي عزالدين عناية. يأتي هذا الكتاب في وقت تشهد فيه الثقافة العربية حاجة ماسة إلى هذه النوعية من المؤلفات العلمية. ويهدف الكتاب إلى تقديم ملخّص إجمالي للمحاور الكبرى لعلم الاجتماع الديني، كما حضرت في طيّات الأعمال الكلاسيكية الكبرى للفكر الاجتماعي.

فرغم انتشار أقسام علم الاجتماع، خلال العشريات الأخيرة، في جلّ جامعات البلدان العربية، فإنها ما زالت تشكو بعض النقائص اللافتة. تتلخّص أساسا في عدم قدرة علم الاجتماع المستورَد على الإحاطة بإشكاليات الاجتماع العربي، والدين إحداها، إذ ثمة اغتراب للمعرفة عن واقعها. وهو عجز ناتج عن مناهج تدريس تعوّل على استعراض النظريات والمناهج السوسيولوجية الغربية، تعريفيا وأحيانا بافتتان، يفتقد إلى تعريبها الوظيفي، ونقصد به جعل تلك الأدوات المعرفية في خدمة الواقع الديني العربي لفهم مضامينه وتحولاته وتحدياته. ولذلك فغالبا ما أتت نقولات "الكونْتية" و"الدوركهايمية" و"الفيبيرية"، والمدرسة الجدلية، ومدرسة جورج لوبرا ومثيلاتها، عروضا تاريخية باهتة لا أدوات معرفية مرشِدة ورشيدة. خصوصا وقد طالت تلك المدارس مراجعات عميقة وتسربّت الشكوك في مدى إلمامها بحقبة عودة المقدّس وما تطفح به من مفارقات عجيبة.

ونشهد في التاريخ الراهن تطور نظريات مستجدّة في علم الاجتماع الديني، خصوصا في الفضاء الأمريكي، في مجالات ما يعرف بـ"السوق الدينية"، وبتفرّعاته المتنوّعة، من "نظريات العرض والطلب" إلى نظريات "الاحتكار الديني". والتي تطوّرت بالخصوص مع دارن أ. شركات وكريستوفر.ج. إلّيسيون، وشكّكت في عديد القناعات التي طالما سادت في التعامل مع الظواهر الدينية والأحكام الصادرة بشأنها، مثال ذلك أن العصور الوسطى كانت أكثر تديّنا من العصور الحديثة، وأنّ الإنسان يسير نحو اللاتديّن، وأنّ الحرية الدينية متوفّرة في أوروبا.

فهذا الكتاب المترجَم، هو بالأساس كتاب تعليمي، ينأى عن السجال الإيديولوجي المتوتّر في إصدار المواقف بشأن الدين، ويتطلّع إلى ترسيخ المعالجة العلمية الهادئة للظواهر المتصلة به. وليس غرضه الاكتفاء باستعراض النظريات الكلاسيكية، أو التعريف بالرواد في مجال علم الاجتماع الديني، بل يسعى أساسا للإمساك بخلاصة المقاربات السوسيولوجية، ووضعها على محك المواجهة مع الظواهر الدينية، واختبار مدى قدراتها على الإحاطة بها من عدمه. فهذا الكتاب ليس انتصارا أو دحضا لعديد الإشكاليات المطروحة، كالعلمنة، والدين وممارسات العنف المقدس، والدين وإثارة الصراعات، والدين والتغيير الاجتماعي، وغيرها من المسائل، بل يأخذ بيد الباحث والدارس ليدلّه على مسالك الإحاطة بتلك الوقائع.

وهو ما يحتاجه الباحث الاجتماعي العربي اليوم. إذ ثمة تدين شعبي واسع في الواقع، مؤثر وفاعل وحاسم، في عديد الخيارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لكنه خارج المتابعة والفهم والإحصاء. فما معنى أن تبقى ظاهرة مثل ظاهرة "الإسلام السياسي" خارج تناول علم الاجتماع العربي؟ وما معنى أن تبقى المسيحية العربية إشكالية طائفية داخلية ولا يرصدها علم الاجتماع في الجامعات العربية؟ وما معنى أن تغيب الدراسات العربية عن الوجه الديني الخفي للغرب، والعربي يلهج بذكره وحضوره وتأثيره، صباحاً مساءً؟ ثمة تدابر بين مجالين في الوسط الأكاديمي العربي، رغم اشتراك وتداخل عديد الحقول بينهما. فغالبا ما انفصلت الدراسة في "كلّية الشريعة" عن الدراسة في قسم علم الاجتماع، ولا نقول تميزت، فذلك عائد لطبيعة اختلاف منهجي المقاربتين. الأمر الذي أفرز بالنهاية خرّيج دراسات إسلامية نائيا عن المتابعة الخارجية للظاهرة الدينية، ويفتقر إلى أبسط الأدوات العلمية في الشأن. وبالمقابل أفرز باحثين اجتماعيين يفتقرون إلى خبرة التعامل مع المادة الخام، المادة الأولى، في مجال الدين، وربما طغت دراساتهم الخارجية على الداخلية منها، التي تفتقد إلى الحميمية مع التجربة الدينية.

ويبدو تطوّر علم الاجتماع الديني في الثقافة العربية رهين هذا التقارب، وربما يستدعي السياق التذكير بأن ابن خلدون قد احتضنته الزيتونة. الكتاب من تأليف باحثيْن اجتماعيين إيطاليين: سابينو أكْوافيفا، الذي يُعدّ من الرّعيل المؤسّس لمدرسة علم الاجتماع في إيطاليا، أشهر أعماله كتاب: "أفول المقدّس في المجتمعات الصناعية" 1961. أما إنزو باتشي، فهو أستاذ علم الاجتماع بجامعة بادوفا، نشر العديد من الأعمال منها: "النِّحَل"، 1997 و"الإسلام في أوروبا: أنماط الاندماج" 2004، الذي سبق وأن نُقل إلى العربية.

 المترجم عزالدين عناية، أستاذ من تونس متخصص في علم الأديان يدرّس في جامعة لاسابيينسا في روما. ترجم العديد من الأعمال من الفرنسية والإيطالية منها "علم الأديان" لميشال مسلان، 2009 و"الإسلام الإيطالي" لستيفانو أليافي 2010، كما نشر العديد من الأبحاث منها: "نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم" دار توبقال المغرب 2010 و"العقل الإسلامي: عوائق التحرّر وتحديات الانبعاث" دار الطليعة بيروت 2011.

 

الكتاب: علم الاجتماع الديني

تأليف: سابينو أكْوافيفا و إنزو باتْشي

ترجمة: د. عزالدين عناية

الناشر: "مشروع كلمة" هيئة أبوظبي للثقافة والتراث -2011.

 

صحفية جزائرية مقيمة في روما

algy572@yahoo.it