تقرير من المغرب

الرواية أعلى قيمة من التفكير الفلسفي والاقتصادي

من إنجاز: أسماء نافع ومستحية القاسمي

 

حول موضوع:"الإبداع الأدبي عند عبد الله العروي"،غصت قاعة المحاضرات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء، يوم الخميس 2 يونيو 2011، ابتداء من الساعة التاسعة والنصف صباحا، بجمهور متنوع من الطلبة والباحثين والأساتذة وعدد من فعاليات المجتمع. في لقاء ثقافي استثنائي، وصفه شعيب حليفي، رئيس الجلسة، بأنه يأتي للبحث في تفاعل العلاقات الداخلية لبنيات النص الإبداعي، باعتباره بناء جماليا ورمزيا معقدا وجدليا لمرايا متحولة وخطابات ذات قدرة على التخفي والتلون والتكيف بإمكانات متجددة تمنح التأويل فرصا متعددة للتجلي. مُعتبرا أن الرواية عند عبد الله العروي في هذا السياق العنيف والمُعَبر، مِرآة صوفية للمعرفة الإنسانية والإضاءة والتفكيك والمتعة، عبر إمكاناتها التخييلية واللغوية من جهة، وقدرتها من جهة أخرى، في الانفتاح على سجلات وعلامات وحقول من أجل تشكيل الرومانيسك، من الذات والمجتمع والتاريخ بتوظيف بنيات وأساليب ولغات من خطابات وأشكال أخرى. إنها - بعبارة أخرى- نص لغوي تخييلي مركب بمرجعيات وتيارات، لا يمكن أن تحيا وتتطور وتستمر دون مد جسورها عموديا وأفقيا، في علاقات مفتوحة مع كل شيء لغوي ورمزي،مُؤسسة لأفق تخييلي يلتقط حركات الروح ويُشخص اهتزازات الوعي وتقلباته..كما ينزع إلى خلخلة المكرس والمعطى والمألوف....

الورقات المشاركة في هذا اللقاء، افتتحها عبد المجيد القدوري (مؤرخ وعميد الكلية) بالحديث عن «التحديث في الإبداع الأدبي عند عبد الله العروي، خواطر الصباح نموذجا»، متسائلا في البداية عن الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه خواطر الصباح، هل هي سيرة ذاتية، أم كراسة سجل فيها العروي أفكاره. وقد لاحظ أن العروي قد استعمل إلى جانب عنوان خواطر الصباح عنوانا فرعيا سماه يوميات، ملتزما في بداية مؤلفه بالتسلسل الزمني خلال شهر يونيو 1967، مما يدل على أنه كان مشدودا إلى ما أسماه النكسة، وفي ما عدا ذلك لم يلتزم التسلسل البتة، فقد كان يسجل خواطره في يوم ويغيب عنها شهرا أو ما يزيد وهو على وعي تام بذلك، غير أن خواطر الصباح وإن كانت يوميات إلا أنها تتضمن عناصر أخرى تجعل منها سيرة ذاتية وأكثر - حسب عبد المجيد قدوري- فالعروي يحضر فيها كفاعل ومتكلم، تنطلق منه كل القضايا المطروحة لتعود إليه، كما عمل من خلالها على استمالة القارئ وإشراكه في سيرته عمدا لدفعه إلى تكوين فكرة أو رأي عما عاشه المؤلف، وهي أكثر من السيرة الذاتية لأنها تتضمن مواضيع كثيرة تهم العالم، والعالم العربي، ثم المغرب، وبذلك كانت تبتعد عن سيرة العروي الذاتية لتناقش مواضيع هامة كموضوع التعريب، ومواضيع أخرى اجتماعية اقتصادية سياسية من بينها تعديل الدستور سنة 1992، وتجربة التناوب. وفي النهاية خلص المتدخل إلى أن خواطر الصباح جنس أدبي مُجدد يجمع بين اليوميات والسيرة الذاتية ويمكن تصنيفه بالكناش، وقد اعتمد الكاتب في مؤلفه على الأسلوب الذي يخاطب العقل والسلوك واعتبر أن أهم ما يخرج به القارئ من خواطر الصباح هو عبد الله العروي الإنسان.

المداخلة الثانية كانت بعنوان: «خواطر الصباح ..بين الهم الأدبي والغواية السياسية»، للعثماني الميلود (ناقد أدبي) قُرئت بالنيابة عنه، وقد اعتبر فيها يوميات العروي دعوة لمواجهة النفس ومصارحة العالم، كي يتعلم قيم المراجعة، ويتربى على الحرية، حرية الثورة على ما اعتبره العروي دوما أصالة، على عكس كتاب اليوميات المألوفين من أمثال تولتسوي، وجان جونيه، وفانز كافكا وغيرهم، الذين جعلوا من حيواتهم الخاصة ملاحم يبحثون لها عن خلود، فإننا مع صاحب "الخواطر" نجد أنفسنا قريبين من الجحيم، بعيدين عن جنة العواطف والمشاعر الجياشة، يكتب العروي عن ضعفه، وعن ضعفنا نحن المغاربة، ونحن العرب، في فترة خاصة من تاريخنا القومي والمغربي، فاليوميات حسب عثماني الميلود تجد أنسابها في المدونة الأدبية التي تتشكل من الروايات والسير الذهنية، فتتحول هذه اليوميات إلى مدونة زاخرة بالصور والكلمات التي اقتبسها المؤلف ليبهر قارئه ويحرضه على القراءة المبدعة، فهي مدونة لمواد أرشيفية عالية القيمة وكنز ثمين، وبئر تصطرع فيها مياه شتى، إنها تلقي نظرة فاحصة على الحدث الشخصي على خلفية الحدث التاريخي العام.

واختار جمال بندحمان (ناقد أدبي) موضوع «حكي الهوية وهوية الحكي» عنوانا لورقته التي بدأها بالحديث عن حكي الهوية كاصطلاح ملتبس بالمعنى الذي يجعله متعدد الدلالات، فهو الكيفية التي تقارب بها محكيات العروي قضايا الهوية، وهو اختيار منهجي ممكن ومغري لأن طبيعة صاحبها تيسر النتائج. كما يتساءل عن كيف نقرأ محكيات العروي دون أن تكون هذه المحكيات ضحية المفكر؟ بمعنى كيف يتم تحييد المفكر وتبئير المبدع، ويلاحظ الباحث حضور خصيصة أخرى تتعلق بالأحكام التي تنتهي إلى الإخفاق؛ ولعل موضوعة الإخفاق والتمزق والمعاناة هي الأكثر حضورا في رباعية العروي، وفي غيلة أيضا، وينبه الباحث إلى دلالة العناوين التي اختارها العروي: الغربة، اليتيم، أوراق، غيلة، الآفة، إنها في معظمها حاملة للدلالة المقترنة بعالم مأساوي ومحبط، ويمكن حسب الباحث المغامرة بافتراض يرى أن هناك خيطا ناظما في رباعية العروي، لأن تقاطبا شبه حاد يحضر فيها من خلال صوتي إدريس وشعيب باعتبارهما تمثلا حكائيا لذهنين، لثقافتين، وهذا يحيلنا إلى ميزة الكتابة الروائية عند العروي وهي التحاكي قرين التفاعل. وقد خلص الباحث في النهاية إلى أن القارئ يصعب عليه تصنيف نصوص العروي ضمن جنس حكائي معين، لذلك يسميها محكيات العروي، التي يغلب فيها الإخفاق والتأجيل والتجاور، وأخيرا فهذه المحكيات تطرح إشكال (المادة الروائية)، الغزيرة والمتعددة والمتنوعة ولكنها تطرح بعمق أكبر إشكال القالب الإبداعي ومعه لغة الحكي المتموجة.

ورقة عبد الواحد خيري (باحث في اللسانيات ومدير مركز الدكتوراه) جاءت بعنوان:«العقل في النحو واللغة عند عبد الله العروي»، مميزا فيها بين عقلين: عقل مطلق يهتم بالكائنات المجردة وهو عقل الحدود والأسماء"عقل النطق والكون"، وعقل الواقعات أي أفعال البشر المتجددة أو الحادثة بمعنى النحاة، وتمثل هذه الثنائية حسب العروي قطيعة بين العقل القديم والعقل الحديث، بين التقليد والإبداع التجدد بين الحداثة ونقيضها، بين البداوة والمدنية، ويعضد العروي هذا التقابل بتمييز النحاة بين الفعل والاسم، ويرى الباحث أن مشكل التعريب عنده مشكل وسم وتأسيم للعودة إلى السكون والمطلق، وقد ختم مداخلته بالحديث عن التخلف واعتبر أنه يأتي من كوننا نرى شيئا صالحا مفيدا في حياتنا اليومية ولكن نتبع مسلكا يبعدنا عنه ظنا منا أننا نتوسط ولا نغلو لنوافق بين المنقول والمعقول.

وفي الأخير ترى خديجة صبار(باحثة) في مداخلتها «المرأة وتجليات الحداثة في رواية الغربة» أن رواية الغربة لعبد الله العروي تستدعي إنصاتا لجميع أصوات شخوصها، وتطرح جدلية الذات والغير بفكره وحضارته، أي موضوع المثاقفة المرتبطة بالتساؤل عن وضع المثقف المغربي ووطنه، ووقوعه في طوق الايديولوجيا الغربية ومعاناته من الغربة والتغريب الذي يعني بالتأكيد اغترابا، بمعنى أن المرء يصير غيره، يزدوج ويفقد وحدته النفسية، كما تطرح طبيعة العلاقة التواصلية بين الرجل والمرأة بطريقة نقدية تحليلية تنبثق من موقف صدق يرفض التمويه، هادفا إلى كشف الواقع على حقيقته، وتصور معاناة المغرب من سياسة الاستغلال، وأثر ذلك على المثقف الذي عاش قسوة الاحتلال، والشعور بالإخفاق والفشل، والتأخر التاريخي، وزيف الشعارات السياسية.

وفي ختام اللقاء تناول الكلمة عبد الله العروي مجيبا على مجموعة من الأسئلة، باسطا لرؤيته للرواية والكتابة عموما في علاقاتها المتشابكة والمُعقدة ؛ فتحدث عن دوافع الكتابة لديه حيث ربطها بالمصادفة، معتبرا نفسه ضحية الاستقلال، فلو تأخر استقلال المغرب سنة واحدة فقط لولج الإدارة العامة وأصبح موظفا ساميا، ولما كتب ما كتب من الكتب الفكرية، واكتفى بالإبداع ولكانت النتيجة مختلفة بالنسبة لما كان يكتبه ذهنيا من مفاهيم، وأحيانا يحدث نفسه بأنه لو صارت الأمور في هذه المسيرة لكانت النتيجة ألذ. تحدث كذلك عن إبداعه مبتدئا برواية غيلة التي اعتبر أن منطلق القصة فيها جاء من مجموعة من التداعيات، حيث بدأت بأحداث غير متسلسلة تسلسلا منطقيا، وإنما أتت عرضة اتفاقات ومصادفات، وهذا ما يحكم القصة البوليسية.

اعتبر أن الرواية هي ذلك الزمن بين الحياة والموت، وأن الرواية من الناحية الوجدانية هي أعلى قيمة من التفكير الفلسفي والاقتصادي، وصرح بأنه يرتبط بتحليلات الأعمال الأدبية أكثر من تحليلات الأعمال الفكرية. وأن عمل "رجل الذكرى" اشتغلت على الذكرى باعتبارها وسيلة لاستبعاد الزمن، فهي الدواء من انقضاض الزمن علينا. اعتبر عبد الله العروي، في سياق حديثه، بأن النشوة التي يحصل عليها المؤلف تكمن في تغلبه على الزمن خاصة إذا شعر بها القارئ حيث يكون العمل إذ ذاك ناجحا، كما اعتبر أن الروائي لا يمكن أن يكون حقيقيا إلا إذا عثر على فكرة عارضة سانحة وإن لم يجد فالرواية إذ ذاك تعتبر لغوا، وانطلق من سؤال يوجه إليه وهو ما معنى الحداثة؟ ويجيب بأن الحداثة في الرواية هو أن تتصور حكاية وتفكر في شكلها ومضمونها ولغتها، بحيث القصة ونقد القصة الأمران مضمنان في القصة القصيرة الحديثة. وأن إحدى مظاهر غلبة القصة القصيرة على الرواية في نظر العروي هو الوهن والعجز على المباشرة، لأننا أصبح لدينا عقل نقدي ننقد به الواقع فنصبح عاجزين على تصوره دون تدخل النفس. ويرى أيضا أن العربية لا تسعف أبدا في الكتابة لأنها مقوعدة، بالمقارنة مع اللغة الأنجلوساكسونية التي اعتبرها حية لأنها ليس لها نحو معقد.

ولا يرى العروي للرواية الطويلة الشاملة مستقبلا بالمغرب، إلا إذا امتزجت الفصحى بالدارجة، وقد أشار إلى التاريخانية واعتبرها مفروضة على المجتمعات وليس على الأفراد، وأن الذكرى هي أن تنسلخ عن الحاضر وتعيش في الماضي، فالفرد له الحق في الانعزال عن المجتمع لكن الاختيارات الفردية تؤدي بالمجتمع إلى الانقراض، وقد دعا إلى ضرورة إدخال الفكر الاقتصادي في التفكير الاجتماعي، وأكد على ضرورة دمجه في البيداغوجية التعليمية.

في ختام هذا اللقاء الذي استمر حوالي أربع ساعات، أعلن رئيس الجلسة عن تسمية مدرج باسم عبد الله العروي وإصدار كتابين في الموسم المقبل ضمن منشورات الكلية، ترجمة لإحدى مؤلفاته وبيبلوغرافيا .