كان مهرجان الشعر الذي عقد في القاهرة في فبراير 2007 كارثة بكل معاني الكلمة. كشف عن خواء السياسات الثقافية في مصر وفسادها المزمن. هنا يقدم الشاعر المرموق عبدالمنعم رمضان تقييمه النقدي له.

الشعراء في المجلس أم الشعراء في التيه

عبدالمنعم رمضان

يعرف الحكماء أن الرفض قيامة الانسان، وأن عبادة الرفض آفة خبيثة وديانة بلا صلوات، وفي الوقت ذاته يعرفون أن الأكثر خبثا هو دوام الأسباب المؤدية إلى الرفض، وذكر أحدهم أنه ليس جميلا ولانافعا أن يكون، الرفض معبدا مقدسا تضاء فيه الشموع، يكفي أنه ساحات بلا جدران. ولكن عندما تستقر وتتكرر الأسباب التي من أجلها يمارس البشر رفض المشاركة في نشاط ما، ليس من العيب أن يستمر هذا الرفض، أن يتواصل كأنه شجرة تقطع أغصانها كل يوم، لتعاود النمو كل يوم.

المؤسسة الثقافية مصرٌة علي خلود آليات عملها، وكأن هذا الخلود يضمن فيما يضمن خلود المتنفذين أنفسهم، وبالتالي فهي مصرٌة علي نفينا خارجها، مادمنا نمتعض من هذه الآليات، منذ شهور سألتني (أخبار الأدب) عن تصوراتي لمؤتمر الشعر الذي سيقام في نوفمبر 2006، نعرف جميعا أنه تأجل إلي فبراير 2007 لسفر أمين عام المجلس إلي باريس بغية العلاج، واذا كان البعض قد رأي أن تأجيل مؤتمر أي مؤتمر بسبب شخص أي شخص مهما علا قدره فعلا معيبا، فإني أعتقد أن التأجيل كان ضروريا بسبب الهيمنة الفعلية للسيد الأمين علي كل أنشطة المجلس مما يستدعي انتظار عودته وتمام سلامته. خاصة أن طبيعة الأحوال في بلادنا لاتتناقض مع ذلك، فالمؤسسة ثقافية كانت أو غير ثقافية تتركز وتختزل في شخص رئيسها، حتي أنها تصبح فاسدة اذا كان فاسدا، وصالحة إذا كان.

* * *

أقول منذ شهور سألتني (أخبار الأدب)، وتمنيت علي المؤتمر ألا يتعامل مع قصيدة النثر وشعرائها باعتبارهم ضيوفا طارئين، تمنيت أن يكونوا شركاء أصيلين وأصليين، وأصحاب حق لاينكره عليهم أحد، اللافت أنهم لم يبلغوا الحد الأدني لهذه الأمنية. غابت قصيدة النثر المصرية تماما، غاب الشعراء المصريون الشباب تماما، حتي أن أحد شعراء قصيدة النثر، وهو شاعر بارز داخل جيله وخارجه، أهين إهانة تلزمنا جميعا وعلي طريقة ألبير كامي بالدفاع عن كرامتنا التي لاتنفصل عن كرامته.

لقد أبلغوه منذ فترة وبالرسائل والمكاتبات أمر مشاركته في الامسيات الشعرية، ثم أبلغوه قبل انعقاد المؤتمر بأيام وعن طريق موظفة بسيطة خجول أمر استبعاده، لأن الشعراء أتوا، لا أعرف لماذا استبعدوه بمفرده عن أمسيات لن يضيرها أن يصبح عدد الشعراء في الأمسية الواحدة خمسة عشر بدلا من أربعة عشر، لا أعرف أيضا هل التصريح باسم الشاعر سيكون مجافيا للذوق أم غير مجاف، المهم أن كرامته كان من الواجب أن تصان في مؤتمر يدعي أنه قائم من أجل الشعر، أي قائم من أجل كرامة الانسان أيضا.

أعود إلي ما تمنيته في حديث (أخبار الأدب)، تمنيت أيضا أن يحتفل المؤتمر بالشعر اللبناني وهو في ذاته يستحق الحفاوة والاحتفال منذ أمين نخلة والأخطل وإلياس أبي شبكة وسعيد عقل وصلاح لبكي ويوسف غصوب وجبران خليل جبران وإيليا أبي ماضي ونعيمة وخليل حاوي وشوقي أبي شقرا وميشيل طراد، وآخرين قبلهم وآخرين بعدهم، غير أن أحداث الحرب آنذاك والتي مازالت توابعها تحيط بلبنان وتهدده، تصلح أن تكون سببا مضافا للاحتفال، تمنيت أن يكون شعراؤنا الكبار بلا استثناء أعضاء هيئة تحكيم وليسوا مرشحين ومتنافسين علي الجائزة، وأن يشهدوا علي كبار جدد يقفون إلي جوارهم، وأن تمنح الجائزة للأجيال التالية عليهم، وليت الحاصل عليها يكون شاعرا لبنانيا مادمنا نؤازر لبنان المنكوب والصامد، ولأن ثقافتنا تؤمن أن القوة فوق الحق والسياسة فوق الشعر، ومازلت أفكر فيما قاله لي أحد الشعراء الشباب حول السياسة والشعر، كان يتساءل هل القضية الفلسطينية وهي قضية سنظل ملزمين بها إلي أن تحل، هل هذه القضية التي كانت سببا في تأجيل كل شيء سواها طوال أكثر من نصف قرن، هل يجب أن تستمر في تأجيل كل شيء سواها طوال أكثر من نصف قرن، هل يجب أن تستمر في تأجيل كل شيء طوال الأزمنة القادمة، المهم أن ما تمنيته في حديثي إلي (أخبار الأدب) اختلف كثيرا عن البالوعة التي خرجنا منها.

بعد أربعة أيام خرجنا من البالوعة، أتحوٌط مرة ثانية وأمنع نفسي من الوقوع فيما سيسعي ويحرص كثيرون علي الوقوع فيه، وهو تفضيل الرفض بلا خسارة علي الرفض الخاسر، والرفض بلا خسارة يعني تصويب كل المرارة والضيق، تصويب كل أسباب الفشل إلي صدر الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، الذي في الحقيقة لايملك غير شعره وآرائه ومواقفه المسئول عنها والمسئولة عنه، ولانملك معه إلا أن نصالحه ونخاصمه ونلومه اذا أخفقت بعض أنشطته، ومنها هذا المؤتمر. أما الرفض الخاسر، فهو يعني تصويب غالبية المرارة والضيق، غالبية أسباب الفشل، إلي الرأس الكبير، الفاعل سرا وعلانية، والمدبر بقصد ودون قصد، لأنه يملك مفتاح الجنة، يملك أنهار العسل واللبن والنبيذ والماء ويملك الفضة والذهب وأحيانا الماس، وكذلك التين والعنب والزيتون والتفاح والبرقوق وكلوا من طيبات مارزقناكم، ولأنه يرأس المجلس بجوائزه ولجانه وأسفاره ومنحه وبقية مزاياه التي ظلت سببا مباشرا في توسيع مظلة الحماية، مما جعل الواقفين تحتها لايستشعرون الخجل بسبب كثرتهم وبسبب الفقر العام الذي يحيط بالمصريين خاصة الكتاب والأدباء، ولأنه سوف يرأس مركزا جديدا للترجمة يحتكم علي اغراءات واغواءات أشد، ستجعل المهرولين اكثر عددا، فتحويل المكتوب باللغة العربية التعيسة والتعيس عشاقها إلي كتابة افرنجية يقرؤها من الشمال إلي اليمين أصحاب الوجوه الحمراء حلم فوق المنال، لذا سأمنع نفسي من الوقوع في لوم أحمد حجازي فقط والتغاضي عن اللوم الأشد للأمين العام، خاصة أن كل مهرجانات المجلس وفي كل فروع المعرفة تتم بالأساليب ذاتها، وكأنها أساليب غالبة، أملاها علي الأمين العام، رجل يشبه فاروق حسني، ويشبه الوهم، ويشبه الباطل، ويشبه الكرنفال، آمل ألا يشبهنا.

* * *

بعد أربعة أيام خرجنا من البالوعة، غيري سيتكلمون عن تلك الأسماء التي لانعرف لماذا ظهرت وطفت فوق سطح المهرجان كأنها أسماك ميتة، كاطو وطمان وبلبولة وحماسة وعبداللطيف، في جملة اعتراضية أقول إنني أحب في عبداللطيف حبه للمازني، وولاءه للعقاد، وهذان الحب والولاء يكفيانه ليكون انسانا مجيدا يعيش في ظليهما، بدلا من أن يحاول العيش في ظل المجلس البلدي. غيري سيتكلمون عن بعض تلك الأسماء العربية والأجنبية التي لانعرف لماذا أتت، سمعت أن طياري الطائرات التي حملتهم ظلوا ممتعضين، ونقلوا عدوي الامتعاض إلي زوجاتهم وصديقاتهم، علي الرغم من أن الجميلة الشاعرة بروين حبيب بين تلك الأسماء، وسمعت أن دور الأمين العام كان أكبر من ظننا جميعا في اختيار هذه الأسماء، وعندما زها وافتخر في خطابه الافتتاحي بأنه أعطي لجنة الشعر الحرية المطلقة في أداء عملها، لم يستطع أحمد حجازي في كلمته أن يؤيد هذا الفخر، وأكد ـ كأنه يتهم الأمين بالكذب ـ أكد أن الأمين تدخل في الاختيارات. كثيرون غيري سيتكلمون عن أمسيات حاشدة يصل عدد الشعراء في بعضها ستة عشر شاعرا، الكل يعلم أن الأمسيات الأربعة بينهما اثنتان هما أمسيتان سوبرستار، الأولي والأخيرة، وأن التصنيف يراعي ذلك، سيقول البعض ان هذه الأمسيات الحاشدة مؤامرة ضد الشعر نصبها مهندسو ومرمٌمو وعمال وعتالو زمن الرواية. سيقول البعض الآخر إنها إهانة، إهانة فقط، سيهلل البعض الثالث ويهتف: 'كان الجمهور كثيفا، ها هو زمن الشعر'، وحضور الجمهور وغيابه لغز مثل لغز الحياة والموت. يخضع لاعتبارات غير محسوبة وغير مفهومة، فنحن ذات مرة في عصر الجماهير الغفيرة، ونحن ذات مرة في مجتمع الفرجة، ونحن أحيانا في المولد، ونحن أحيانا أخري نبحث عن نزهة مجانية في وقت أصبحت فيه النزهات غالية الثمن، ومع ذلك لايمكن أن أخفي ابتهاجي بأن فشل المؤتمر اتفق مع مواقف صنع الله ابراهيم وجمال الغيطاني وصبري حافظ ومحمد البساطي وعبدالمنعم رمضان، ولايمكن أن أخفي ابتهاجي لتألق الشاعر محمد سليمان في أثناء قراءته، حتي إنه كما روي الرواة، غلب الجميع، والفعل غلب يناسب مثل هذه الأمسيات الحاشدة، غلبهم وجعلهم، حتي الكبار منهم، يأتون بعده في ترتيب الإجادة، لذا قلت لنفسي، لماذا لم يكن محمد سليمان وحلمي سالم وحسن طلب وعباس بيضون وسركون بولص وسليم بركات وقاسم حداد ومحمد علي شمس الدين ووديع سعادة ومحمد بنيس وأمجد ناصر وآخرون غيرهم هم المرشحون لجائزة كانت ستصبح حقيقية أكثر لو منحت لأحدهم، لايمكن أن أغفل مأثرة من مآثر المهرجان، أعتذر، وأعيد القول، لايمكن أن أغفل مأثرة المهرجان وهي أنه وعلي مضض أتي بالشاعر الجميل سعدي يوسف بعد غياب يزيد علي عشر سنوات، فرأيناه واحتضناه وقبلناه، ومشينا معه في الطرقات، وآكلناه، وشاربناه، ظل سعدي كعادته يبحث عن الشعراء، وعن الشباب الفاتنين، ظل يبحث عن المقاهي والشوارع والأحياء الشعبية والذكريات، ظل كعادته لا يألف المسئولين ولا يألفه المسئولون، يغمغم فتضيع بعض الحروف من كلماته، ويحنو فتضيع الكآبة من قلوب أصدقائه وندمائه، وسامته في إهماله للوسامة، وكبرياؤه في تواضعه، يتربص بنفسه دون قصد، ويتركها دون قصد، وفي كل حالاته لاينصرف عن الشعر، ولاينصرف عنه الشعر، كأنهما متلازمان.

بعد أربعة أيام خرجنا من البالوعة، نعلم أن لجنة الشعر بأعضائها البواسل فتوح وحماسة وعبداللطيف وطمان ومن يشبهونهم كانت القوة التي تعمل طوال الوقت ضد الشعر، لأنهم أغلبية داخل اللجنة، وبهذه الأغلبية المحافظة لابد أن تصبح اللجنة لجنة علي الشعر وليست له، لابد أن تصبح لجنة ضد حجازي وليست معه، لن ننسي أن حجازي شاعر حقيقي وقصائده العالية عالية وشعره قد يفوقه. لابد أن تصبح لجنة مع جابر عصفور وليست ضده، أعرف بالتاريخ أن جابر يحرص علي ركوب أحدث قطارات المجد السريعة أكثر من حرصه علي الدفاع عن ذائقته، وذائقته في الأخير محافظة، ويحرص علي ترويض أصدقائه أكثر من مصادقتهم، واذا قاوموا أشاع أنهم رجال بريون برابرة، هكذا تتحدد المواقع صراحة، وهكذا يصبح قلب جابر مع مجده وضد مجد الشعر، الشاعر أحمد حجازي ملوم بقدر كبير، ملوم لبعض اختياراته المستغربة وبعض استبعاداته المستغربة، ملوم برئاسته لجنة طه حسين سيعاديها. ملوم بعدم تفرغه للشعر لا للجنة الشعر. وملوم بعمله مع رئيس يملك كل هذا القدر من الثقافة، كل هذه الأحمال التي تتيح له أن يصبح ماهرا في صناعة الأقنعة، قال لي صاحبي الشاعر المغترب الآن في الامارات، قال لي ذات يوم: ما أهمية الثقافة اذا لم أستطع أن أخدع بها زوجتي، حصافة جابر عصفور، وذرابة لسانه، بين هلالين، لمزيد من العلم هو يفخر كثيرا بهذه الذرابة، سمعته أكثر من مرة يقول بعد أن يفرد ظهره وينفخ صدره، باعتباري ناقدا مناكفا ذرب اللسان لاتعجبه الا الروائع، بين هلالين آخرين، راجع الروائع التي أعجبته، ستجد بينها رواية فضيلة الفاروق، وشعر أحمد مشاري العدواني، الخ الخ، أقول حصافة جابر لن تسمح له أن يعترف كما اعترف صاحبي الشاعر.

* * *

بعد أربعة أيام خرجنا من البالوعة، وهأنذا أحاول أن أتفادي حديث الجائزة وحفل الجائزة ولجنة التحكيم التي تم اختيارها لتكون مثالا ناصعا وأمارة علي الطاعة، وعلي تنفيذ أصغر أوامر أولي الأمر، وهأنذا لا أستطيع أن أتفادي ما رغبت طول الوقت في تفاديه، فان تكن الجائزة مدبرة منذ زمن، أو كما يقولون قبل الهنا بسنة، هذا ما لايجوز أن نستسيغه. كلنا نعرف أن محمود درويش شاعر كبير بامتياز، كلنا نعرف أنه يستحق كل جوائز الدنيا، وأنه محبوب كل الجماهير، وهذا حظه السعيد الذي يثير غيرتنا جميعا، الأكثر إثارة للدهشة أنه أيضا وهو الشاعر المناضل ذات زمان، محبوب كل السلطات العربية باختلاف ألوانها وهوياتها، وهذا حظه الذي قد يثير أولا يثير غيرتنا. ومحمود درويش شاعر قادر ومقتدر يفسد، علينا بعض شئوننا الخاصة، لأن محبوباتنا اللطيفات اللعينات مولعات به أكثر من كونهن مولعات بنا، ولأن النساء الأخريات، نساء الآخرين، وقعن في هواه ولم يلتفتن إلينا. بعض النساء كتبن اسمه علي رأس قائمة بأسماء الرجال المرغوب فيهم، هكذا كان نزار قباني وجمال عبدالناصر وعبدالحليم حافظ وصدام حسين ورشدي أباظة وأحمد رمزي وصالح سليم وحسن نصر الله، نحن اذن نخاف من محمود درويش لأنه لامع وناصع ونظيف، ولايغتاب أحدا، ولايحرض أحدا علي أحد، ولاينطق عن الهوي. ومع ذلك فإن الجائزة ذهبت إلي المكان الخطأ، إلي الشخص الخطأ، كنت أتصور أن محمود درويش ومعه أدونيس وأحمد حجازي وسعدي يوسف، يجب أن يكونوا خارج الترشيح والمنافسة، انهزم تصوري وانتصرت نظرية الأواني المستطرقة، مادامت كل الأشياء لابد أن تظل إلي الأبد أمير الشعراء إلي الأبد، رئيس القبيلة إلي الأبد، شيخ الحرفة إلي الأبد، والحمار الوحشي إلي الأبد، والسفرجي إلي الأبد، والميكانيكي إلي الأبد، لماذا لايكون حاصدو الجوائز هم هم إلي الأبد. تمنيت لو أن الجائزة أخطأت قدرها المرسوم وذهبت إلي السيدة التي فتنتنا في صبانا، والتي غنينا معها: أيها الشيخ ربيع، ذو الثياب الخضر والوجه البديع، والتي علمتنا القوافي، وعلمتنا كيف نكسر القوافي، وفردت جناحيها لتصبح أم الشعر الحديث وأم الشعراء، وعندما نامت كانت تتيح لنا فرصة أن نتحرر منها ونصير أنفسنا، المرأة الأكثر استحقاقا، لكنني بالخبرة وعلم الدراية اكتشفت أن محبة المرأة في تنويرنا الحديث قناع آخر صنعه مثقفون حاذقون يشبهون أمين المجلس. إنها محبة معلنة في صغائر الأمور، منبوذة في كبائرها، والجائزة احدي الكبائر، قالت لي حبيبتي: نازك الملائكة، قلت لحبيبتي: نعم نازك الملائكة. تمنيت لو أن الجائزة أخطأت قدرها المرسوم وذهبت إلي سييء الحظ محمد عفيفي مطر، أو أنها اصطفت الشاعر حتي النخاع، الشاعر دون مظاهرة أنسي الحاج. تمنيت من أجل تفادي المنافسة لو أنها ذهبت إلي الأب الجدير بانحنائنا لتقبيل يديه سعيد عقل. قد نخالفه سياسيا ورؤيويا، ولكنه أب فاتن من آباء الشعر والنثر والبديهة لو أنها ذهبت إلي المتنبي أو أبي نواس. تمنيت أكثر إلغاء فكرة الجائزة لشدة بذاءتها، علي الأقل تمنيت أن يصعد الصاعدون إلي منصة حفل الختام، أن يسندوا عيونهم علي رؤوسنا، دون أن يلوثوا ألسنتهم العذبة، دون أن يلوثوا آذاننا بالكلام البروتوكولي، معالي الوزير الفنان.

حتي الشاعر انزلق لسانه وقدماه وغطسوا تحت الماء الراكد في بركة البروتوكول، كأنه بالعدوي أصبح الوزير الشاعر، كان خطابه خطابا لبقا، ودموعه كانت لبقة، هذا التعبير مستعار من شاعر صديق سمع وشاهد وهمس برأيه في أذن شاعر صديق آخر، معالي الوزير الفنان. الخطاب اللبق قال فيه الشاعر ما يجب أن يقال، قال ما يمكن أن يقوله كل فائز بليغ، قاله ليلتقط المصورون صورته باعتباره وكلامه التجسيد الكامل للشاعر العام. خلف الشاعر وقفت اللجنة التي هي مثال الطاعة، أحدهم كان يتوسل بابتسامة واسعة أن ينتبه إليه معالي الوزير الفنان، لعل وعسي. خاصة أننا في زمن تبديل المواقع، كلهم كانوا علي مقاس المشهد، علي مقاس كلمة النهاية التي ستريح الجمهور عند ظهورها في الومضة الأخيرة لفيلم رديء. ومثلما جاء خطاب أحمد عبدالمعطي حجازي مشحونا بمصرية مثيرة يصعب احتمالها، وان كان يمكن تبريرها بما يتداوله العرب ويعتقدونه حول أن مصر ليست منتجة للشعر، حول أنها فقط سوق واسعة له، فإن خطاب جابر عصفور في حفل الختام جاء مشحونا بعروبة ساذجة يصعب احتمالها أيضا. الغريب هو ما حدث في حفل التتويج، فأمين المجلس، ورئيس لجنة الطاعة، أقصد لجنة التحكيم، ومعالي الوزير الفنان، لم ينتبهوا إلي أن الشخص الذي سيتفقون علي تحميله آثام المؤتمر بإعلان أنه المنظم المسئول، هذا الشخص لم يدعه أحد إلي الوقوف علي المنصة. خافوا أن يشنقوه علانية، تركوه في القاعة يستعيد قصائد مدينة بلا قلب وكائنات مملكة الليل والتي ستبقي فيما تتبدد آثار هؤلاء وأسماؤهم. ألم نقل أن شعر حجازي قد يفوقه، مشهد المنصة مثير في كل مرة يجبروننا علي الجلوس أدني منها، لذا يحسن بنا أن نفكر كيف يمكن أن نبتكر طرقا أخري للتواصل بين الشاعر وقرائه، طرقا لايكون بينها أن يقف الشاعر في مكان أعلي، لايكون بينها أن يتسلط علي الآخرين، أو أن يصفق له الآخرون، غير أنني سأجمع أحلامي واقتراحاتي وأنتبه فجأة إلي أنه مادام النجم نجما إلي الأبد، لابد أن تظل الندوات هكذا إلي الأبد، والمنصة هي ذاتها إلي الأبد، والجماهير أيضا هي ذاتها إلي الأبد، لابد أن يملك الجميع سلطة تثبيت الكادر إلي الأبد، وأعتقد أنه يمكن أن تنشر مقالتي هذه عقب كل مؤتمر قادم، لأن مقالتي مكتوب عليها أن تظل إلي الأبد.

لكن الشاعر بمعني آخر ليس سرمدا وليس أبدا، هو بمعني آخر ليس سلطة، الشاعر ليس نجما، الشاعر شاعر فقط، بتواضع، وانحناء، ومحبة، الشاعر شاعر فقط، ربما دون جوائز، ربما دون جماهير غفيرة، ربما دون ضجة، ربما أو علي الأرجح، تتبدد السحب البيضاء التي امتلأت بها نفسي، تتبدد عصاي، فأعرف أنها ليست ربما، أنها بالتأكيد علي الأرجح، وأعاود القول، الشاعر شاعر فقط، علي الأرجح دون جوائز، علي الأرجح دون جماهير غفيرة، علي الأرجح دون ضجة، هكذا تكون متاهة الشاعر، وهكذا يكون الشاعر في متاهته، الشاعر الذي تلقائيا يلعب علي الحصان الخاسر، الشاعر الذي ينهزم دائما في الختام، التحيات الطيبات إلي أمي وإلي أبي، وإلي محمود درويش صاحب الحصان الوحيد، الحصان المنتصر، التحيات الطيبات، إلي صباح الخير ومساء الخير، إلي صباح اليوم ومساء الغد، إلي النوستالجيا والشيزوفرينيا، إلي الهواء والماء، إلي قنينة النبيذ، إلي عناقيد الرضا وعناقيد الغضب، التحيات الطيبات إلي الحب، وإلي النجاح، وإلي الفشل، وإلي نفسي، وإلي القاهرة قبل أن ينحسر ثوبها ويري الشاعر الفائز ساقيها القذرتين، وإلي بيروت التي تلبس جونلتها وبلوزتها لتظل حلما غامضا يشبه نور الشعر وبريق الشعراء، وإلي المدن الوقحة الأخري التي تشبه مؤتمرات الشعر ومؤامراته وحراسه القوميين، التحيات أخيرا إلي العدم، إلي لاشيء، إلي لاشيء، انصرفوا أيها السادة، اذهب إلي بيتك أيها الشاعر، إننا منذ الليلة متعبون.