لا يختزل القاص المصري مداهمة أحد الغزاة للفتاة «كيم» في دلالات محددة، بل يظل هذا المشهد يعتمل في داخلها بكل ما يضمره من مشاعر وأحاسيس. وأتاح لها سفرها التعمق في المشهد، ومعايشة أوجهه المختلفة، بينما مثلت عودتها مرة أخرى اختبارا جديدا لوجودها.

صيحةٌ يُعَـوَّلُ عليها

عاطف سليمان

حين يحلُّ الوقتُ، و يتنكَّسُ الانتظامُ و الانتشار، و يرتحلُ الغزاةُ عن البلدة، مصطحبين غنائمَهم وقتلاهم وجرحاهم، سيبقى جنديٌ منهم؛ هو الذي ليس بمقدوره اصطحاب غنيمة، وهو الذي لا يرتحل.

*    *    *

في ضحى يومٍ، والغزاةُ منتظمون و منتشرون، عزمَ ذلك الجنديُّ على مداهمة فتاةٍ في سنتِها السابعة عشرة، تنبئ سماحةُ طلعتِها، على نحوٍ ما، عن خطأٍ أو صوابٍ، بكونها عزلاءَ. بالأحرى فإنه، و قد رآها فحسب تخطرُ داخلةً منزلَ عائلتها، انوخزَ بسماحتِها وخزاً، وتعلَّقَ. و لئن كان قد انفطرَ بفتنتِها مثلما اغترَّ بسُلطته و عُتاده، فإن الذرائعَ واتتْهُ و رتَّبَ الترتيبات.

بوغتت إذاً وهي تخرج منحنيةً من خنِّ الطيور؛ بعدما أطعمت الدجاجَ والإوزات، و غيَّرت لها الماء. لقد أفلحَ وباغتَها، وإنه أمامها مستحوذٌ و مترصِّد، و إنه لَكذلك متخوِّف. وإنها تتحاشاه، و إنها تتحاشاه بلطفها الذي لا مناص منه، و بجفولٍ و مكرٍ، آملةً و يائسةً، و تتمنى لو أن الأمرَ ليس جديَّاً إلى هذا الحد. لكنه يُزِرُّ عينيه مستنكراً إطباقةَ جفنيْها حياله، و يطالبُها بأن تخضعَ، على أن تكون، في خضوعها، عاشقةً له، فلا تُشْعِرُهُ بأنها مُكْرَهَةٌ؛ تعرفين حالَ العاشقات، كُوني! لوقتٍ لن يطول؛ للنصف ساعة هذه لا أكثر. أمَرَها أن تحبَّه، بل يتعيَّن عليها أن تقنعه بأنها راغبتُهُ، و هو سيحكُمُ، بحسب ما يتأتى منها.

وكان يسوِّي مطرحاً لمرقدهما و يزيح فضلات الطيور لمَّا قال لها إنه يريدها لمرةٍ واحدة كيما يَسْهُلُ نسيانُكِ، و إنه أحبها و انشغفَ لحظةَ رآها، و إنه بطبيعة الحال لا يحبُّ الحُبَّ - بما له و بما عليه. و كانت تفتح جفونَها فتراه يسوِّي مطرحاً بحذائه العسكري، و تراه يُتِمُّ الترتيبات التي رُتِّبتْ سلفاً، و تراه يَهُمُّ، لكأنها رأت ذلك كلَّه قبلاً، وكأنها بنتٌ غير التي بُوغتت للتو لأجل أن تُبدي له فنونَها بسماحةٍ و باحترازٍ فلا يبدرُ اصطناعٌ منها أو إذعان.

طَرَبَ هو في قلبِه حين اشتكت هي من وخز الحصى، ينخُسُ ظهري، حتى إنَّ دمعتَها أسْكرتْهُ فتبسَّم من بين عبوس نشوته مُعتبِراً أن شكايتها المخصوصة من خشونة الحصى؛ الحصى فقط و لا غير، تعني له ما يرضيه. في واقع الأمر فإنَّ رائحتَه السحيقة، التي هي صميم ذاتها، ساهمت في إخضاعها مثلما شاء؛ و لقد جفلت الراقدةُ من رائحةٍ لا قِبل لها بها ثم استنامت لها و اختلجت، و أدَّتْ ما صار واجبَها، و إنْ كانت غشَّتْهُ فبفطنةِ أنثى صغيرة باتت على محكٍّ متفاقم.

على الرغم من فضولها، لم تُخْرِج صوتَها لتسأله عن اسمه، فعساها حدست أن نبراتها قد ذُلَّتْ و أن سؤالَها، إنْ سألت، سيستبقيها في تلفٍ لا منجاةَ لها منه كما سيستبقي لها، أبداً، ما قدرتْ عليه من غشٍّ فائقٍ لدرجة أنه ما تبدى غشَّا. و لم يقل هو لها، قبل رواحِهِ، إلا إنه يَستحسنُ سحبَ التزامه، و إلا إنه آتٍ عن قريب ليلتقيها مرةً ثانية. ولأن وجهَها كان مُنكَّساً فما تحصَّل على جواب.

أمُّ الفتاة، و كانت صاعدةً للمعاونة، رأتْ الوقائعَ الختامية فيما يبدو، و سمعت حشرجات و أنَّات، فلبثت هنالك، في زاوية السلم، ساكنةً ترقُبُ. و من مكمنها اعتراها غضبٌ و ذعر، و واتتها أيضاً، على الرغم منها، مُتعٌ ضئيلةٌ مُشتَّتة لا يُجاهَر بها، و زعزعَ الامتقاعُ صفوَ تلصُّصِها، و لعلها عضتْ شفتَها من جراء المجون الحامي للابنة الوديعة، لكنها نزلت و انزوت كيما تُتيح للذَّكَرِ العابسِ، الذي ارتدى في النهاية سترةَ الغازين، انصرافَه دون مزيدٍ من تسلُّطِه. و ما أظهرت نفسَها إلا لمَّا فاجأها انتحابُ الفتاة، و قد بقيت تشهقُ و تنتفضُ حتى بعد ما جثت أمُّها تسندُ ظهرَها و تعضِّدُّ على كتفيها بهدوء و استغراق شملا كلَّ ما حولهما، حتى بدا أن الدجاجات التي  تحلَّقت حولهما، سكنت لتصيخَ إليهما، و تنظر، و تطيل النظر.

ثَـبُـتَتْ الفتاةُ، و استطاعت في الليلة التالية الروغانَ من البلدة و من حصار الغازين، ثم وصلت إلى واحدةٍ من بلدات الشمال الأوروبي، بعد سنة من تشردٍ و تطوافٍ و هروب، حيث التحقت بسيرك كخادمة تقدِّم وجبات الطعام للفيل و تعتني بنظافته و ما إلى ذلك. وعلى مدى شهور قليلة من مزاولة عملها و اقترابها من الفيل، كانت على وجه التقريب قد شُفيت من مصيبتها، و غدت ودوداً، و نُوديت بذلك الاسم ذي الرنين الفخم؛ كيم.

و ليس يُعرَفُ منْ الذي اقترحَ إضافةَ فقرةٍ إلى برنامج السيرك، تلعبها كيم، و قد غدتْ مدرِّبةً للفيل، لا يزيد زمنُها على سبع دقائق، صار يعقبها تصفيقاتٌ وهمهمات تثير الحسدَ.

*    *    *

إلاَّ أن كيم نائيةٌ لا تكاد تُوجَد، لكأنما أطبقتْ جفنيْها على جسمها وكيانها قاطبةً، لكأنما نفَذتْ إلى منتهى الكُمون، بموجبٍ من الحياة، أو بلا مُوجبٍ حتى. هي كيم، صاحبة العينيْن اللوزيتيْن و الغُرَّة، التي ترتدي فستاناً أحمر قصيراً مُكافِئاً لبدنها المدملج الخمريِّ، و تتواجد فحسب برفقة الفيل على قرص المسرح وقت انتصاف الليالي.

يطوف الفيلُ متوانياً و يتلقى مداعباتِ كيم ولمساتِها و يردُّ بمداعباته و لمساته؛ رقةً برقةٍ و غزلاً بغزل. تحتضنه فيميل و يغطيها بأذنيْه و يتراءف. تدورُ حوله فيتحرَّش بها مترفقاً و هو يُسالِمُها و يُشعِرُها بجسده و يوصِّله إليها بلباقة. تتحكَّك به، و يتمسَّح بها. تنظر إليه في عينيه و تربت على ساقه فيثنيها لتتسلق و تصعد إلى ظهره ثم تمتطيه منفرجةَ الساقيْن، و الفستانُ الأحمرُ الصغيرُ صغيرٌ، يحملُ تَعلةً ما، كأنه كمالٌ في ذاته. إن الفيلَ، مهما يكن، يشعر باحترار وركيْها على ظهره. و إذْ تمرُّ لحظاتُ العرض تُلمَح حباتُ العرق على نحرها، و يتضاءل الاحتشامُ في مغازلاتها و عزمها و كذلك في لفتاته و ارتباكاته. بالوصول إلى هذه المرحلة؛ تتعدَّل أضواءُ المسرح، و تثِبُ المدرِّبةُ من فوق ظهر رفيقها، و تتمطى، و تبتعد إلى بقعةٍ قُرب الحافة، حيث عيون الجمهور، و تتطوَّح لتستلقي، على ظهرها، فوق حشيةٍ تكسو تلك البقعة قُرب الحافة؛ مخدعٍ مكشوف مُنمَّق بأزاهير، فيتقدم الفيلُ إليها؛ عاشقاً كما العُشَّاق، و يركع عليها ببطءٍ و فخامة و انسجام، ويُلامس ببطنِه بطنَها باحتراسٍ و احتواءٍ، و يستمران، و يعلمُ اللهُ الأفكارَ التي تنبَّثُّ في سكون الحشد المتوحِّد، و ما إن يبدأ الحاضرون بالتصفيق و التصايُّح، يهدِّل الفيلُ أذنيْه، ويرمق امرأتَه بتعاسة، و يقف متحيِّراً، و تنهض المرأةُ بوقارٍ يُشعْشِعُ أنوثتَها، و قد سوَّت فستانَها وضمَّت ساقيْها لتردَّ تحية المحيين، ولتضعَ قُبلاتها على العاج المقوَّس لذلك الرفيق الهائل الواقف في لحظته وقفةَ أسير. يخرج الفيلُ و كأنه يهرب فتلحق به رفيقتُه ويغادران سوياً، مثل شقيقيْن. و بما إنها تدري ما يقاسيه فلا يفوتها أن تمكث دقيقتيْن، في الظُلمة خلف الستارة، تُلْقِمَهُ حبةَ فستق؛ حبةً صغيرة، تذكِّرُ بصِغَرِ فستانٍ أحمر، حبة صغيرة، توشكُ أن تكون لا شيء، فلعل كيم باتت تعتقد أن رفيقَها حاذقٌ للغاية بالصغائر التي توشك أن تكون لا شيء، ثم إنها، بعدُ، تلاطفه، و تمسِّد على أذنيْه حتى يستشفي.

*    *    *

بعد إدراك الجندي هروب فتاتِه، سعى حانقاً للتنكيل بعائلتها، و ما غَفَلَ حتى عن دحْرِ الدجاجات و الإوزات واختلاسِ قطع ثياب من خزانة الفتاة و سحْقِ الحصى إياه بجزمته العسكرية، شاعراً بالخديعة و بهوان رجولته وسلطته، ثم مُدرِكاً أنها سخرت من كفاءته على التمييز حين أوهمته بالحُبِّ فتوهَّمَه.

و كان لا يني يباغتُ تلك العائلة لأجل التخريبِ و ترصُّدِ أخبار الهاربة، إلى أن كاد الجيشُ يُنهي مهماته في البلدة، فتمكَّن الجنديُّ من تسوية أوضاعه، و سُرِّحَ، و من ثمَّ بقى حيث هو.

لم يستفق بعد انسحاب جيشه، و قد غدا وحيداً غريباً، بلا سند و لا سُلطة، و إنْ ظلَّ يرتدي سترةً رسميةً بلا مسوِّغ، لا يُعرَفُ مبتغاه، و لا يدركُ هو نفسُه كنهَ نواياه. أسفرَت الأيامُ الأولى عن بقائه شريداً، يختلسُ و يتسوَّلُ، بعد ما دسَّ مقتنياته و مُختلَساته في بناية مهدومة. و كان، طبعاً، بمقدور شباب العائلة الانتقام منه و تمزيقه، لولا ما انتابهم من إشفاق، و لولا – ربما – إفراطهم في التحوُّط من انتقامٍ قد يحرزه ضدهم الغزاةُ آجلا.

في أحد أيام التشرُّدِ تلك، و مدفوعاً بجنونٍ أو بلاهةٍ، قصدَ منزلَ أهل الفتاة و طرقَ البابَ و وقف بعيدا. و كان أنْ فُتِحَ له و أُدخِلَ و أُجلِسَ و قُدِّم له طعامٌ و شرابٌ، وبدا في أعين معظم منْ رأوه، وقتها، مذهولاً قانطا. و بينما كان والدُ الفتاة يصطحبه إلى الباب في ختام الزيارة، لاحتْ في ذهنه فكرةٌ تتساوى، في إبهامها، مع قرار الجندي بترْكِ الجيش، و البقاء.

-ما رأيكَ في ابنتي الكبرى؟ التي صبَّتْ لك الماءَ – ما رأيك؟

و تزوجها.

كانت تَكبرُهُ بسبع سنين، أو أكثر.

واستقر مخدع الزوجين في غرفةٍ في البيت بعد ما أُلغيَّ موضعُ كيم منها.

*    *    *

بعد سنتيْن من دوام ممارستها فقرة "حب" التي كانت أسبوعية و ذائعة، فتحتْ كيم عينيها، و انتوتْ زيارة أهلها، وتهيَّأت، لولا أن الفيلَ، كما لو كان في حكايةٍ، وُجد ميتاً في أول صباحٍ تالٍ لانتوائها السفر.

حين أُبلغت بذلك وجمتْ فحسب وجوماً أُوصِلت على إثره إلى حيث رقدت في مصحة. بموت الفيل ارتجفت كيم. وفي الرجفات؛ هنالك، انتابتها ذكرى الترتيبات، تلك التي رُتِّبتْ، و ذكرى الافتضاض، ذاك الذي أُنْفِذَ تحت قبة السماوات، و هنالك وافاها شعورُها بأن في تجويفها جنيناً من حصى. كانت تلهثُ لخواطرٍ تتكاثر في تشعُّباتٍ تصل بها، ربما، إلى ذلك الغشِّ الذي أتته هي ذات ضُحى. و كانت كيم ترتجف.

ثم كان أنْ عادت كيم.

ارتمت في حضن الأم وكان حانياً إلا قليلاً فشعرت بجفوة هينة، ولكنها ارتمت أيضاً في حضن الأب ثم الأخت وكل منْ كان بالبيت، حتى الجندي السابق حضنها و حضنته و كأن ما كان لم يكن، و كأن ما كان قد تسرَّب خارجاً ليتيح عناقاً مُستوْجَبا. اصطخبوا لأجل عودتها، و أحسَّت أنهم كانوا واجمين هوناً؛ و كانوا فجأةً يسكتون. غالبتْ شعورَها بالكمد، و استعانت بتذكُّر الفيل لنثْرِ ملامح بشاشة على وجهها. بدا الجو دافئاً فنامت كيم ليلتَها الأولى على السطح، و هناك نامت ليلتها الثانية، وهلمجرا.

وإذْ استمر مَبيتُ كيم، التي نوديت طبعاً باسمها القديم، على السطح، صعدَ إليها الجندي السابق، خفيةً، ذات ليلة، وأيقظها – من بعيد – بإلقاء حصى صغير قُربها. و حين انتبهتْ اقتربَ وهو يُطمْئنها بإشارات يُمكن تصديقها.

-رأيتُكِ مع الفيل، في تلفزيون المقهى، و عرفتُكِ!

لاحَ ساذجاً، و أطرقتْ هي في غمٍ، و ما نطقتْ.

-لكن لا أحد غيري يعرف.

اصطبرتْ، في صمتها، تنظر عبر الرجل إلى ما لا يُرى، و لم تكن قد نظرت إليه قط، في عينيْه، حتى في لحظات العناق تلك، فور وصولها. و ما كانت، لِوقتِها، تنظر إليه و هو يُفْرِطُ في وصف سحرها ذاك الذي دامَ يُسْكِره ويُبْهِت كلَّ الناظرين إلى فقرتها، إلاَّ إنه استطاع مراودةَ وجدانها بقوله إن الفيل في الحلقة الأخيرة معها، و للمرة الأولى، كاد يُبكي المتفرجين بحزنه و بعاطفته، و إنه كان بهياً، و إنه كان أبهى منها.

-تمنيتُ و تمنيتُ، ليلتها، الموتَ له؛ لصاحبِك الفيل!

إزاءه، و في سكونها الغالب ذلك، في سكونها النقيِّ، نظرت كيم إليه، في عينيه، و تنصَّلت في سريرتها من وجوده، كلياً، و تهادأتْ، و خَلَتْ، و لم ترتكب سوى أنها زفرت تجاهه، صوب وجهه، زفرات وخيمة قد لا يُشَكُّ بأنها قاتِلَتُهُ.

 

12 مارس 2010  - القاهرة ، عابدين