يكتب القاص الفلسطيني مشهدا حواريا بين الأدون سفسارشك "المستلهم من رواية المتشائل لإميل حبيبي" وتابعيه. من خلال هذا المشهد نتعرف على طرقهم لتدجين أحد الرافضين الانضمام إلى حظيرتهم وكيف يفسدون كل من حوله ويحاولون القضاء على ذاكرته حتى لا يكون هناك ملجأ إلا الاستسلام لهم.

المحو

(مشهد)

رياض بيدس

("فرّ يا صاحبي الى وحدتك، إني أراك فريسة للسع الذباب السامّ. فرّ إلى حيث يهب هواء حادّ قويّ.

فرّ إلى وحدتك ! إنك كنت تقطن قريبا جدا من الصغار والحقيرين. فرّ من انتقامهم الخفيّ ! انهم رغبة في الانتقام ولا شيء غير رغبة انتقام مستعر ضدك.

لا ترفع يدك عليهم منذ الآن ! فعددهم لا يحصى، وليس قدرك ان تكون منشّة لطرد الذباب.

كثيرون لا يحصى لهم عدد هؤلاء الصغار الحقيرين، وان بعض البنايات الشامخة لتكفيها قطرات الندى والاعشاب الطفيلية كي تنهار وتنهدم.

لست حجرا، ومع ذلك ها انت قد تجوّفت من جرّاء القطرات الكثيرة. واني لأخاف عليك ان تتصدّع وتتفتّت بسبب القطر الكثير.

متعبا أراك من جرّاء لسعات الذباب السامّ. مضرّجا بالدماء اراك في مائة موقع، لكن كبرياءك تأبى حتى ان تبدي سخطا. ")

 ("لكن لي كلمة هنا اريد ان اقولها لأعدائي:   ماذا تساوي كل جرائم القتل امام ما فعلتموه بي!

شرّا فعلتم بي اعظم من كل جرائم القتل جميعا، شيئا لا يعوّض سلبتموني:   هكذا أخاطبكم يا أعدائي ! ")

"إنني صديق لكل من هو نقي... وادر ظهري للحاكمين عندما رأيت ما الذي يسمّونه حكما: السمسرة والمساومة على السلطة – مع الرعاع !" )

(نيتشه:   هكذا تكلّم زرادشت

ترجمة علي مصباح)

الأدون سفسارشك  الجديد (ناظرا إلى تابعيه اللذين يناديهما بالرجل أ و ب. لا فرق بين الألف والباء. كان حظ الاول ان يحصل على الرقم أ بعدما ابدى اجتهادا خاصا واخلاصا للأدون. أما الباء، فكان أحيانا يبدي امتعاضا خفيفا جدا من التعذيب الجاري على شخص كانوا يطلقون عليه اسم رقمي لا دلالة له 123. وبالطبع لم يكن شخص 123 يدري شيئا عن الايدي التي تقلب الحقائق وتحوّل الكذب الى حقيقة. والضحية 123 يكاد يفقد كل توازنه وعقله.) أحب أن أعرف النتيجة.

أ:   النتيجة ممتازة. جمعنا معلومات عن الكذب والتلفيق ضد 123 ففوجئنا من الكمية. إنها هائلة وتصرع فيلا.

سفسارشك:   ألا تعتقد ؟أنك تبالغ.

أ:   لا ابالغ بالمرة. كميات الكذب التي استعملت ضده وقلب الحقائق والتعاون مع نشطائنا ستجعل منه خرقة بالية.

سفسارشك:   هل يتابع ما يجري؟

ب:   في البداية قرأ من القرف نسبة عشرة بالمائة الى اقصى حد، ثم اعتزل.

سفسارشك:   هل لاحظتما او عرفتما انه تغيّر.

ب:   ماذا تعني؟

سفسارشك (بعصبية):   يعني تراجع، تغيّر أو صار...

أ (ضاحكا):   تقصد أنه يحبنا؟ كلا. لقد ازداد ابتعادا. اللعبة التي لعبناها معه كانت ولا تزال لئيمة جدا. أنه يحب بلاده جدا، لا بل أكثر من ذي قبل.

سفسارشك:   وماذا يقول؟

ب:   يقول إن السلطة هي التي تدير كل الامور ضده مع رجالاتها المقرفين.

سفسارشك (مفكرا):   يعني نحن.

ب:   أيوه.

أ:   تغيّر بالمعنى السلبي. ازداد انعزالا وغموضا وخوفا من البشر ومن الشر.

سفسارشك:   مش معقول، لقد رسمنا الامر بدقة وجعلنا رجالاتنا في وسطهم يعملون عملهم ضده، وكل هذا ولم يمل إلينا.

أ:   بالمرة. لكني يجب أن اعترف واقول إنه حسب سلوكياته، فإنه يقرف منا.

سفسارشك:   يقرف منا؟! هل تعرف عدد الاشخاص الذين يعملون معنا (يطلق ضحكة) وعدد الذين فقط يريدون العمل معنا؟

أ:   أعرف. لكنه لا طموح عنده. عدمي بالفطرة. ويحتقر كل الذين يعملون معنا. كل ما هو سلطوي يثير اشمئزازه إلى حد القيء.

سفسارشك (غاضبا):   حد القيء؟!

أ:   تماما !

ب (باستغراب):   لماذا حططنا حطاطه؟

سفسارشك:   لغاية في نفس يعقوب.

ب:   لا جدوى منه.

(صمت )

ب:   إنه يقرأ الأمور جيدا، لكنه عنيد جدا.

سفسارشك:   ألا يريد مستقبلا باهرا؟

أ و ب (معا):   بالمرة !

سفسارشك (ينهض عن المقعد بتثاقل):   لقد دمرناه. أحطناه من كل الجهات ولا يتقدم نحونا...

ب:   لا بل انه يحذّر منا ومن ألاعيبنا.

أ:   إنه إنسان بري.

سفسارشك:   وأحواله الشخصية؟

ب:   إنه يتعالج نفسيا. نجحنا في تدمير بعض الاجزاء منه.

أ:   مثلا زادت كآبته على انه يحاول التكتم على الأمر، كما انه يتلقى العلاج النفسي على يد طبيب روسي.

سفسارشك:   هل ملف الطبيب الروسي موجود؟

أ:   حصلنا على التقارير، فمرضه الاكتئاب وهو يتناول يوميا أربعة أنواع من الأدوية النفسية الثقيلة.

سفسارشك:   أذن تغيّر؟

أ:   تغيّر مرضيا، لكنه ازداد تمسكا بما كان يؤمن به.

ب:   ما الذي نريده منه؟

سفسارشك:   تغيير ذاكرته وتدميرها.

ب:   هذا قتل معنوي من الطراز الأول.

أ:   أساسا معنويا قتل. هذا هو الفن: لا يسجن أو يعذّب بالضرب، لكن تدمير ذاكرته أهم بكثير. بقلب الحقائق وتحويل الكذب إلى حقيقة تجري إعادة تكوينه من جديد.

ب:   على طريقتنا.

سفسارشك:   ألا يريد الرحيل؟

ب:   منذ أن بدأت الحملة ضده تعلّق في البلاد اكثر من ذي قبل.

سفسارشك (زامّا شفتيه):   يا عيني !

أ:   ازداد حبّا لها. يعشق هذه البلاد.

سفسارشك:   ومجتمعه؟

أ:   ايضا يحبه.

سفسارشك:   كانت سياستنا معه ان نمحو ما في ذاكرته وان نستغل المحو والذين قاموا عليه من نشطائنا لجره الى عملية محو اختيارية.

ب:   من البداية قرأ تطور الأمور جيدا.

سفسارشك:   صحيح.

ب:   ولم يدل بدلوه بالمرة.

سفسارشك:   هذا الذي يجنّن. على الحياد دائما، كأنه كان يقرأ كل خطواتنا وتطور الكذب والتلفيق والتدمير سلفا.

أ:   لكنه يخضع لعلاج نفسي. لقد تضرّر.

ب:   بالطبع تضرّر. كان يقول إنهم (أي نحن) نريد ذاكرته واننا نريد تدميرها. وأننا نريد استغلاله.

سفسارشك:   ليس تدميرها بل تحويلها...

ب:   إلى صالحنا.

أ:   يرفض! (ضاحكا) كتب الى صديق له في الخارج انه يحاول بكل ما فيه من بقايا قوة للابقاء على ذاكرته نقية. وأكد له انه حزين جدا بسبب ظلم وكذب ذوي القربى. يعني أنهم تعاونوا معنا على تدميره وتدمير ذاكرته. كان يردد احيانا انه شديد الخوف من ان يحوّل اعداؤه ذاكرته عن مجراها الطبيعي وان تؤثر القذارات على ما في رأسه وتصل اعماق المياه الجوفية اي اللاوعي عنده، وان يضعه اعداؤه الكثر في المنطقة التي يرسمونها له. يخاف من دورة الشعب كما يقول.

سفسارشك:   ذكي وتيس.

أ:   والعمل؟

سفسارشك:   محو الذاكرة وضربه بالقذارات الى ان تلين قناته.

أ:   تدجينه يعني؟

سفسارشك (بضيق):   تدجينه والاستفادة منه. هو يعرف تماما ما الذي نريده منه. إنه عنيد. علينا ان نكثف الهجمات ضده الى ان يسقط تماما. أن يكون مخصيا.

ب:   وهذه الحرب إلى متى تستمر ضده؟

سفسارشك (بلؤم):   إلى أن يخصى تماما ويخرج إما راكعا آو زاحفا وهو يحمل العلم الأبيض.

أ:   إنها حرب فعلية.

سفسارشك:   تماما !

أ:   لكن النتائج تأتي عكسية منه.

سفسارشك:   الوصول إلى دماغه – هذه هي مهمتنا. من هناك يبدأ التراجع الخطير. الكسر المعنوي يقوده الى الجنون والهلاك. انه ما زال يتشبث بذاكرته. لكن من أين له أن يظل متماسكا في غمرة الحملة عليه؟!

ب:   إنه يحب ناسه وأهله.

سفسارشك:   كان راديكاليا متمردا. ما الذي جرى له؟!

أ:   ازدادت راديكاليته صلابة وقوة على نحو هادئ جدا.

سفسارشك:   سينكسر !

أ:   حتى إذا ما انكسر، فإن ذلك يأتي على نحو هادئ راديكالي.

سفسارشك:   والسبب؟

أ:   لأنه لا مصلحة له ولا يريد شيئا.

سفسارشك:   عدمي.

ب:   ليس تماما. انه يحب شعبه ويسكت على الضيم.

سفسارشك:   وأصدقاؤه الذين نزلوا عليه وطبخوا الطبخة ضده من دون سبب ودبّوه في جهنمنا، ألا يريد شيئا منهم؟

ب:   ابتعد عنهم.

سفسارشك:   هذا كل شيء؟!

أ:   لا يذكرهم حتى. سقطوا من عالمه.

سفسارشك:   إذن جرت عملية محو.

أ:   لقد أرادوا محو ذاكرته اكثر منا.

سفسارشك (ضاحكا بشماتة):   يا للأصدقاء الأوفياء ! لو كنت مكانه لانقلبت رأسا على عقب.

أ:   في كوابيسه لم يجر له ما جرى له في واقعه (ضاحكا) وكل ذلك بسبب سوء فهم.

سفسارشك:   ما لا أفهمه أنه عندما انعزل وابتعد هو او ابتعد أصدقاؤه عنه أن عملية فراغ كبيرة حدثت له. من يملأ هذا الفراغ؟

أ:   لا أحد. لا يريد أحدا !

سفسارشك:   ألا يريدنا أن نكون أصدقاء له؟

أ:   إنه يكرهنا ويحتقرنا ويحتقر كل من يلجأ إلينا. يعرف خفايا الأمور. لكنه بعيد وبري.

سفسارشك:   ألا يكتب؟

ب:   توقف عن الكتابة كنوع من الاحتجاج ولا بد أن يعود.

سفسارشك:   لا بد أن يعود، وسنرى ما سيكتب. (يتحرك سفسارشك في الغرفة شبه المظلمة) إذا وصلت الضربات مياهه الجوفية فلا بد ان تغييرا كبيرا سيجري او فعلا قد جرى له.

أ:   لا يبدي رغبة في الكتابة.

سفسارشك:   لا بد أن تجري له عملية محو. فظلم ذوي القربي اشد مضاضة من حد الحسام المهند. أنا أعرف ثقافتهم خير المعرفة.

أ:   ضربات الأصدقاء صعبة. إنه لا يثق بأحد.

سفسارشك:   هذا محو وتغيير.

ب:   لكنه ما زال في مكانه.

سفسارشك:   والنتيجة؟ المرض النفسي. المياه الجوفية التي تلوثت. هذا من أصعب الأمور. سيعيش في عالم مهزوز.

ب:   هذا ما يحدث له.

سفسارشك:   كما أن حريته صارت مشروطة أكثر. إنه لا يحب الاضواء ويؤثر الوحدة، وما فعله الأصدقاء له هي إصابته في صميم نفسه ومياهه، لذا سيتعذب كثيرا.

ب:   لكنه لا يقول.

سفسارشك:   سيقول.

أ:   كيف؟!

سفسارشك:   لقد ضيّقنا عليه بطرقنا الى درجة الموت في الحياة. أطبقنا عليه. ولا بد أن ينفجر.

أ:   حتما ضدنا، لأنه يكرهنا.

سفسارشك:   ليس بالضرورة ضدنا فقط. (مبتسما) ما هي آخر قراءاته؟

أ:   نيتشه.

سفسارشك (ضاحكا):   عظيم ! اقترب وقت الانفجار.

ب (محتارا):   لماذا نعذبه نحن؟

سفسارشك (تقاطيع وجهه جامدة تشي بالقسوة واللؤم):   ستفهم فيما بعد. كل ما علينا فعله الآن هو المزيد من قلب الحقائق وتحويل الكذب الى حقائق. هذا سينهكه إن عاجلا أم آجلا.

أ:   كما أنه يعيد قراءة جورج أورويل.

سفسارشك (مطلقا ضحكة لئيمة):   إنه يرى ظلالنا ويدرك اللعبة. لكن المياه الجوفية انضربت عنده. اقسم لكما بذلك من معرفة أكيدة. لا يعقل ان يبقى كما كان. ربما كان يكابر. المكابرة صعبة جدا. صدقاني انه يعاني معاناة رهيبة. لقد وقع في الفخ. كلما احكمنا الفخ ضده كلما انضربت مياهه الجوفية أكثر. انه يقاوم بصمت ولوحده. سيتعب.

أ:   لقد تعب. ألا ينادي الحقوني؟

سفسارشك:   سيفعل.

أ:   تبدو شديد التفاؤل.

سفسارشك:   التجربة اكبر معلّم.

ب (يريد التكلّم لكنه يمسك عن الكلام.)

أ (الى ب):   هل تريد قول اي شيء؟

ب:   كلا.

سفسارشك:   إذن انتهت جلستنا السرية (الى أ وب) الى عملكما.

أ (مستدركا):   ماذا عن رقم 140؟

سفسارشك (مفكرا او متذكرا لثوان):   لا يسوى التعب. دعاه وشأنه.

(أ ينظر الى ب. ب ينظر الى سفسارشك باستغراب، الأخير ينظر إليهما كأنه لا يفهم. ينظرون الى بعض. يبدو الخوف واضحا على أمارات وجوههم.)  

سفسارشك (كاسرا حدة الجو، وبصوت أجوف):   إلى العمل !

أ:   حسنا !

ب:   حسنا !

يختفي أ و ب. يبقى سفسارشك في مكانه مضطربا. يبدو لسبب ما منزعجا جدا. يمسح عينيه ويخرج من الغرفة وهو يكتم توتره. الغرفة خالية وشبه مظلمة تحوم فيها أطياف سفسارشك الأدون الجديد آخر موديل.

(الأدون سفسارشك:   شخصية من شخصيات رواية المتشائل لاميل حبيبي.)

(الجليل، 27 حزيران 2011)