القاص الجزائري يكتب المفارقة الناتجة من روعة ما تعد به علاقة حب تتفتح وأعباء الضرورات اليومية التي تعوقه متابعة تلك الوعود. قاب قوسين أو أدنى تحقق الحلم لكنه يظل مجرد رغبة لا تتحقق.

لا رصاص طائش

محمود عيشونة

قالت:

إنها ستفعل المستحيل لأجله، وأومأت لشفتيه أن يمنحاها الكلام؟

قالت:

إنها المرآة السحرية لباقي المسير، وأن زمن المعاناة والقهر وما تشابه عليه من البؤس هي أضغاث أحلام؟.

ستنسيه أيام الذل وليالي الصقيع، فوق هذا ستجعله الملجأ والمنفى لكل ما خبرته من نسيان.

وعكسها كان يريد أن يختبر بها جوعه للحياة ويقيس على زوايا عينيها كم سيمكث صبره، على مواجهة طلقة أنفاسها تعبر فراغات حواسه،وهو الذي لا يدري كيف اهتدى إلى امرأة، تحبه بقياسات رياضية.

عند أول لقاء أخبرته أنها تعي جيدا، معنى أن يُعيل رجلا في مثل ظروفه، عائلة من ثمانية أفواه.

تبادلا الكلمات والنظرات ذات الإيحاءات الغامضة، وشربا معا كأسين من عصير( الباباي) دفع ثمنهما من مصروف العائلة !.

هو لم يقل لها هذا بالطبع..؟

تبسمت:

ولم تُمانع في أن يجوع صومه لأيام أُخر.

بعد أولى ساعتين من اللقاء الأول، انصرف كل إلى قدره.

على مشجب النحس وضع علاقته الجديدة، عندما بدأت حرائق الماضي تهب رياحا غربية، فاستعان على أحزانه بإشعال لذة القراءة، وبدأ للتو يقرأ عيد متنقل ( لهيمنجواي)

هو لا يدري لماذا يُحب أن يبتدأ دائما بسرد وقائع هذا الرجل الذي ختم حياته بالنار...؟ وقد خبرها لسنين دون أن تحرقه؟. ألأنه وجد ضالته.. فاختار أن يرحل دون أن يكشف لنا، عن خبايا تلك الطرق السرية في الوصول بأمان، إلى خلف خطوط النار، ومتاريس الحياة الملغمة بالجوع. والفرح. والخيابات؟.

بالنصر والهزائم الكثيرة..؟ !

أم هكذا نكاية في امرأة ربما أفردها صدقه فلم تبادله الشعور بالذنب؟؟ !

 

سنلتقي على بعد شهقتين من الشوق !

قالت له بالهاتف وأقفلت الخط.

لم يفكر حتى في كيفية مواجهة طارئ لقائها ولكنه مضى يلف أتعابه، ويحاول ترتيب كراساته المبعثرة، بكثير من الدهشة وضآلة من الفرح؟.

 

أسر نفسه داخل مضض اللحظة، وفكر جديا في لقائها أمنية طالما حلُم بها وأنهكت طفولته الغضة.

 

أضاف كل ما أمكن من شاعرية، فابتاع من ارشفه الثري وردة وشمعتين للذكرى !!

وأصر أنهما للذكرى لا للقاء..؟ !

سيكمل ما بدأ بكتابته في الغد، لا داعي لأن يقلق بهذا الشأن..؟

وللتو عاد الشيخ :هيمنجواي: وذكره بهاذ القول ( لا تقلق بشأن الكتابة أبدا، لقد كتبت في الماضي وسوف تكتب دائما.. أكتب أصدق جملة تعرفها..؟

لم يقل شيئا بعدما قال :هيمنجواي:

ولكنه أحس بفرح الكتابة يدغدغ شعوره بالانتشاء، كونه كاتبا له ما ينسيه هموم البطن ولو إلى حين..؟

 

على أول جملة ترحيبية بالقادم المرهف الرهيب، سقطت كل أجوبته التي حضرها كي يرد عنه غارات أنوثتها التي لا تقاوم.

أنا.. أقصد..

يعني..

آه..

بخير..

قبل أن يستطع تركيب جملة تليق بفخامة أنوثتها. وأنت:

كيف.. أقصد أحوالك؟ !.

 

أدركت ما يعانيه ارتباكه لأنوثتها، فخشيت أن يتطور الوجع إلى حنين فمدت له يدها تُصافحه.

 

مر صمت التململ الأول وتخلص من دهشة البروتوكولات التي ما كان يجب أن تحدث في الحب أبدا.

وعبر بها أغواره البعيدة، نحو أول فسحة مكنتهما من الجلوس وجهان متقابلان، باختزالات متشابكة ورغبات مختلفة.

أوف... أخيرا..

ومع تنهيدة معتبرة قالت..

كيف وجدت دعوتي للقاء...

 

كما يحدثُ لي في كل مرة أقابل فيها صدفة من صُدف الحياة أجابها بتحبب.

 

وأشعل سيجارته الأولى في حضرتها، فاتحا حاسته الأخرى عساه يستنشق ما في حديثها من حياة،هزه العطر فراح يُركز نظراته على مفاتنها ماذا بك..؟ !

قاطعت طقوس تلهفه بتغنج مثير.

لاشيء.. فقط وددت لو أحنينا جانبا للصمت ربما يفصح أكثر عما سواه من الكلام المتسكع فوق الشفاه، دون كلل أو ملل؟؟

 

أنت رجل غامض.. أقصد مثل كل البقية..

 

ولكن لغموضي كل اللغة التي لا يفهمها سوى هدوء الليل، على شاطئ ما. أو حقيقة ما.

كالتي نعشها الآن، وقد أنهكت عروبتنا أقوال الأحلام ونزيف الكلام؟؟.

 

أتعني أنك تدعوني للخروج وإياك، وصمتت برهة..

لتفاجئه بسؤال لم يكن ينتظره إطلاقا..

 

أمتأكد أنك تقول هذا..؟؟

أين المشكلة في كون اللغة لا تطاوعك.. وأنت بكل هذه الحواجز التي تذهب وقتك سدىً؟ !

ولم تسأله.. بل لم تجاوبه، على ما كان يختزله من احتمالات، لأجوبة ممكنة.. لم تقل له إنك آخر وطن يمنح اللجوء..؟ بل قالت له إنك مثل البقية، يعني لا فرق؟؟

في حين كان ينتظر أن يكون الفارق والمساحة الأوفر للحب والحياة، و هو الرجل الذي أصر أن يكون مطيعا لمشاعره.. وأن لا يلوثها بالزيف أبدا.. أبدا؟

 فسجله العاطفي مبعث فخر لنفسيته المرحة، ولكنها أخرجته من صمته الذي تقول أنه يضعفها، قائلة:

على أية حال، دعنا لا نهرب عن كنه اللحظة، ولنعشها بطقوسها، لا أن نهرب منها فأنتَ الآن عاطفتي وسجلي وزهوي ورغبتي، محاولة أن تستجمعهُ من شرود، جنح به في عوالم خشيت أن تجهلها، فتضيع الأشرعة وسط محيط عاصف بالمفاجآت، فينتهيا ضائعين وسط أضواء الأقدار السالبة؟ !

من تُحب قادرة على التخلي عن أي شيء لأجل حبها..؟ أردفت واتكأت على أدق وتر يعذبه !

هذا كلام جميل و أكاد أُجزم أنني أسمعه لأول مرة، من امرأة تُفتنُ الحياة؟

ــ قال ــ   وخلع وردة من إناء رخامي أمامهما وأريجها لا يزال يُطربُ جو الطاولة المنتقاة، بعناية وخبرة، ولامس بأوراقها الندية حلمة أذنها ــ أُقسم أن الورد أكثرُ امتلاء بالأحاسيس من المشاعر نفسهاــ نظرت بشفتيها إلى شفتيه، مستجدية رعشة شوق لازمتها، دون أن تُحرك ساكنا، عدا ما انبرى من صفاء روحها..ثم قالت..

سأبكي إن أطلت النظر إلي هكذا، أو أقبلك ووسط كل هذا الغموض !! صدقني سأفعل..؟ !

فأنا الآن أُحس أنني أزحف عارية على خلاء من الشوك..؟

ونظر إليها يغمرها صفاء عميق، حنوٌ كبير وانفتاح صادق على الحياة، وأحس أن في أعماقها صدق ما تقول، فانزاح كليا عن استدراج عواطفها، لأنه طالما افتخر أنه الرجل العفيف.. وأن الرغبة في الحب إنما تصنعها الصدف المحايدة، لا الإصرار المتعجل..؟ !

 

وعاد الصمت من جديد.. وشعر بصدره رحبا ومتسعا.. وطالت لحظة الصمت، قبل أن يستجمع شتات انتباه مفاجئ وبديهي.. قال:

شيء لا يصدق..

يا إلهي..

ما توقعت أبدا أن ألتقي بفتاة في مكان مثل هذا. هادئ وممتلئ، و على مرمى حجر من البحر، بكل وفرته وغموضه.. وكوننا نحن الثلاثة نشترك في حلم واحد.. وهدف واحد..؟ !

 

قالت معلقة بشهية رهيبة وذكاء حاد..

كونك فنانا تقول هذا.. بينما ظننتك تود الكلام في موضوع آخر.. وضحكت بفطرة أنثوية وخبث متغاب قبل أن يعود الرجاء نفسه إلى شفتيها المكتنزتين، مستجديا شفتيه دون أن تتمكن هذه المرة من السيطرة على عواطفها، فاقتربت من أذنه تلهبها بأنفاس شاردة:

 

((أمر مؤلم أن يموت هذا الشوق، قبل أن يجرفنا معا إلى فاكهة الأحضان،كنا سنبدو أجمل وأنقى)) قالت كلماتها همسا في أذنه..

 

وتراجعت إلى الخلف و بارتباك واضح بدت عليها علامات الإحراج.. وهي تُحاول أن تعتدل في جلستها أكثر.. راجية أن تستعين بلفتة منه، على قهر ارتباكها.. ولكنه ظل يؤجل خروجها من ورطة الشوق بإصرار متلطف، راجيا نظراتها آن ترحمه.. !

وللتو انفلقت مشاعر أخرى، أكثر عذوبة وتعذيبا لأحاسيسهما.. وأخذت في الانتشار والإطراب.. كانت تلك عذابات وأشجان)  الفنانة أنغام( عبر أغنيتها "شنطة سفر" وامتدا للحظات متلاصقي الرغبة، في أجواء الشرق الساحرة.. كانت كلمات الأغنية تعنيهما معا، وامتدادا لكل الخسارات التي منيا بها، طيلة ذلك الماضي العابر، بلا رأفة أو رجعة..؟ !

((ثمة أفكار جميلة وثرية،تموت قبل لحظة ولادتها، تماما مثل اللحظات التي نُحاول كسبها بطيبة قلب، فتسرقها منا الغوغاء، فتذبل الرغبة في قلوبنا ونموت، بجوع أبدي للحياة..؟ !))

قال بعد صمت متأمل وشرود واضح مع كلمات الأغنية.. فطرقت كلماته العميقة حُزنها المغلف بدموع الكتمان.. والله أنت على حق.. قالت: وتحسست ساعة يديها، يبدو أن اللحظة ممتعة والوقت متأخر وعلينا أن نختار..؟!

ثمة فراق لابد منه.. أردفت ومدت يدها مصافحة لهفته.. ولكن..؟ أنفترق بكل هذا الحزن.. ولم نوضح وجهتنا بعد.. همس وضغط رؤوس الأصابع التي امتدت توادعه.. هو فراق لابد منه... أردفت في تردد.. وقامت حانية الرغبة في البقاء دفئا، لبرد الوحدة التي جمعتهما.. وشاءت أن تفرقهما من جديد.. لا لشيء فقط لسنة ألفاها مثل الحياة.. لا يمكنها أن تمنحهما أكثر من الواجبات..؟ !

افترقا وهو لا يدري ما يفعل بوقته وما سيوفره له من الوحدة..لا يدري ماذا سيفعل، وكيف ستكون ردة فعله أمام طلبات الأسرة المنتظرة عودته برجاء موفور، لغط الحي الشعبي الذي لا ينتهي إلا في ساعة متأخرة من الليل، كيف سيوفق بين كل هذا الكم من الألم؟؟

 الأسرة !

الحب !

الحي الشعبي وحبه اللامتناهي لممارسة فنه؟؟

أما حيرته الكبرى، فهذا البكاء وهذا القنص الوافر لأرواح الأطفال الرضع لقوم همج استباحوا الديار هناك في فلسطين ولبنان والعراق، نعم يألف المرء صوت من يحب، ولكن القدرة على فعل الحب تموت حين يصير بديل الحب رصاصا وقنصا وموتا جماعيا مذهلا، وفي غزة كما يشاهد كل العالم لا رصاص طائش، بل حقد وإصرار وترصد وكل عربي ظاهرا أو متخفيا هو مشروع جثة، مدنيا كان أم عسكريا، مسنا أم صبيا.. إنها الغابة وقانون الغاب، إنه الإحساس بالرعب والخوف، وأنت في كل حين تسمع صوت سقوط جدار ما، فلعنة الهدم والقتل والجبروت باتت سيدة الكون ومن ثم فلا بريء في عالم مجرم؟!