تكشف الباحثة الإيرانية في هذه القراءة التفصيلية المتقصية لقصيدة بدر شاكر السياب التي أصبحت علامة فارقة في الخطاب الشعري العربي، مستويات متعددة من الدلالات والرموز، وكيف استطاع السياب أن يحيل الشخصية التراثية إلى شخصية جمالية تتراكب فيها التواريخ والإحالات من تموز إلى يوحنا المعمدان والمسيح.

«المسيح بعد الصلب» لبدر شاكر السيّاب

نقد وتحليل قصيدة

فاطمة فائزي

 

"لم تكن قصيدة «المسيح بعد الصلب» أوّل عمل يلجأ فيه الشاعر العراقي الكبير والمعروف بدر شاكر السيّاب إلى شخصية يسوع المسيح ليستمدّ منها، أو يحملها، معاني ودلالات تتّصل بالتجربة الذاتية التي سعي إلى التعبير عنها في شعره؛ وليتوسّلها مثلها مثل مجموعة من المراجع التاريخية والأسطورية والثقافية، صيغة من صيغ التعبير الرمزي المطروق لما يتوخّى أن يبلغه في العمل الشعري من كثافة دلالية ورُقيّ جمالي"[1] "و منذ عام 1953 حتّى عام 1957 تاريخ ظهور هذه القصيدة ينشر السيّاب مجموعة من القصائد ممهورة بهذا الطابع «المسيحي»، على تفاوت بينها من حيث الدور الرمزي الذي يشغله، والمدى التعبيري الذي يغطّيه في إطار النص لكلّ منها. ولعلها جميعها تشترك، على إختلاف المواقع وتباين الفعاليّة والأثر، في الإحالة على أبعاد جزئية ومحدودة من المرجع الرمزي المعتمد تتراوح هذه الأبعاد بين معاناة العذاب الذي يستدعي الصلب والصليب عادة".[2]

في «المسيح بعد الصلب» يغادر السيّاب وضعية الإحالة الجزئية على الرمز ـ المسيح ليعتمد هذا الأخير رمزاً كليّاً وعاماً تشاد القصيدة بأكملها على أساسه. يشكلّ هذا التحوّل إنعطافاً مهماً في عمل السيّاب الشعري يمكّن اعتباره في المعطيات الخاصة بالمرحلة التي جاء فيها تطويراً للتعبير الرمزي الذي كان يلجأ إليه، وارتقاء به إلى مستوى أشدّ اكتمالاً وأكثر غنى. لم يعد هذا التعبير يقتصر على الإشارة العابرة إلى المرجع المقصود، يكاد دورها يضاهي ما تؤديه الصورة البلاغية المفردة، وإن تميّزت عنها، ليصبح إطاراً شاملا بل هيكلاً بنائياً عامّاً؛ يحدد التكوين الأساسي للقصيدة ،ويحكم نسج أنحائها والتفاصيل. وقد جاء هذا التحول ليلبّي تطلّعات الشاعر إلى مراثيه المتأثرة بالنتاج الشعري الغربي، وقيمه ومعاييره السائدة أيّامه، وبخاصة منها ما يتيحه التعبير الرمزي العام، من وحدة القصيدة، وتماسك بيتها، وإلتئام أجزائها ـ إلى حدّ القول بوحدتها العضوية التي كانت من المقولات التي شغّلت الشعراء والباحثين المحدثين آنذاك ـ وما يبثّه في الرؤية العامّة المنبثقة عنها من زخم دلالي وتوهّم خيالي يمضيان بها إلى التيسير والإثراء في الآن نفسه، من خلال تعددية دلالية تنهض على المعروف والمألوف وعلى الجديد والمبتدع معاً.[3] ويعتقد حول هذه القصيدة الباحث الدكتور احسان عباس؛ «فإنّها شديدة الإضطراب، تتعاقب فيها صور مستمرة من قصة المسيح على غير انتظام، والشاعر يتّخذ المسيح رمزاً للتعبير عن حالته النفسية، ولذلك فهو المصلوب الذي إستطاع أن يقوم من بين الموتى وينعش الحياة في جيكور»[4]. «إنّ الرّؤية التي تحكم التعبير عن تجربة المسيح (ع) في هذه القصيدة، تبدو أقرب إلى الرؤية الإنجيلية منها إلى أي مرجعية دينية أخري، ولكنها مع ذلك ليست إنجيلية تماماً، نظراً إلى ما يقحم فيها من عناصر ووقائع لم تذكر في الأناجيل الأربعة، بل إنّ بعضها يتناقض مع ما ورد صريحاً في هذه الأخيرة. لذلك لا تبدو محاسبة الباحث الشاعر بناءً على معايير مسيحية ملائمة، كما يظهر ذلك في تعليقه على بعض أبيات من القصيدة »[5]. «وهذه القصائد التي ينفي أن يكون ما يذكر فيها، من تجسّد الإله في الطبيعة وإقامة الشاعر في الشمس، والأرض والماء، من طبائع المسيح، معتبراً أنّ السيّاب «تلقّف الرموز المسيحية من الخارج» وفاتته روحانيتها، وإنّه يأخذ المسيحية بمأخذ الوثنية على تناقضهما موحّداً بين المسيح وأدونيس عبر الفداء وتموز عبر الفداء، وإنه أدني إلى الوثنية المادية منه إلى المسيحية الروحيّة»[6]. «وبحقّ أنّ قصيدة «المسيح بعد الصلب» من أجمل القصائد الحديثة التي إستطاع فيها الشاعر أن يردم الهوّة بين الذاتي والموضوعي من جهة، ومن جهة أخرى أن يجعل الأسطورة تتفتّح من الواقع وكيان التجربة الإنسانية، لا من الكتب الدينية والتاريخية».[7]

فالشّاعر في هذه القصيدة يبرز أهم دلالاته ويحدد أبرز أوجه جمالياته والإيماء إلى أقوى إيماءاته والذاتيّة ما يبرّره.[8] والسيّاب في قصيدة «المسيح بعد الصلب» يستغلّ شخصية المسيح (ع) في التعبير عن تجربة خاصة به، و«تجربة القصيدة في مضمونها العارم تصوّر تضحية الشاعر في سبيل أمّته، وإستشهاده في سبيل بعثها، مستغلاً في ذلك فكرة صلب المسيح وفدائه للعالم، أو حياةً العالم من خلال موته. وفكرة البعث من خلال الموت افتتن بها السيّاب، وأصبحت تمثّل عنصراً هاماً من عناصر الرؤية الشعرية»[9]. والسيّاب في هذه القصيدة يستعير ثلاثة من ملامح المسيح في الموروث المسيحي، هي الصلب والفداء والحياة من خلال الموت، ليصوّر من خلالها مدى معاناته والعذاب الذي تحمله في سبيل بعث أمّته، وكيف أثمرت هذه التضحية فانبعثت أمته مناضلة تسلك الطريق الذي سلكه، طريق النضال والتضحيات والفداء، وقد اتّحدت شخصية الشاعر بشخصية المسيح اتحاداً تاماً. ففي الوقت الذي يستعير لنفسه بعض الملامح تجربة المسيح، يضفي أيضاً على المسيح بعض ملامح تجربته الخاصة، حيث توحّدت الشخصيتان في شخصية واحدة، وتتكون ملامح هذه الشخصيّة الموحّدة من ملامح الشخصيتين مجتمعةً[10]. والقصيدة تبدأ بعد الصلب ، وبعد أن أنزلوا المسيح عن صليبه، ولكنّه مازال يعي ويحسُّ، وهو يعي بشكلّ خاص حزن مدينته وبكاءها عليه، ويمنحه هذا الحزن إحساساً بالعزاء، فإحساس أمّته به وبتضحيته بداية بعثها الذي ضحّي من أجله. وإذن فهو لم يمت. فهو يرى نفسه مسيحاً صلب وسمّر ولكنّه لم يمت: بعد ما أنزلوني،
سمعت الرّياح
في نواح طويل تسفّ النخيل
 والخطى وهي تنأى.
إذن فالجراح والصليب الذي سمّروني عليه
طوال الأصيل لم تُمتني،
وأنصتُّ: كان العويل
يعبر السهل بيني وبين المدينة
مثل حبل يشدّ السفينة
وهي تهوي إلى القاع.
كأنّ النواح مثل خيط من النور بين الصباح والدُجى،
في سماء الشّتاء الحزينة.
ثُمّ تغفو على ما تحسُّ المدينة[11]

«إن السيّاب الذي يرى في نفسه مسيحاً لأمته، يحسُّ أنّه إستطاع أن يُحيي جيكور بموته. وجيكور قرية واقعة بالقرب من أبي الخصيب في جنوب العراق، حيث وُلد السيّاب فيها، لأنّها إمتداد منه، كما أنّه إمتداد لجيله. فقد صور السيّاب في هذه القصيدة أنّه بعد أن صلب استطاع أن يقوم من بين الموتى ويعيش الحياة من جيكور. وهكذا قد جعل جيكور «يوتوبيا السيّابية» عندما يلمس الدفء قلبه يجري دمه في ثراها، لأن قلبه هو الشمس التي تنبض بالنور، وهي الأرض التي تنبض بالقمح والخير والماء النمير، وهو في ذات الوقت، نفس الخبز والشراب الذي سوف يحلّ السيّاب في كلّ من يأكل ويشرب منه».[12] في المقطع الأول من القصيدة تتبدى قصيدة «المسيح بعد الصلب» تعبيراً عن المعاناة القديمة التي تعرفها الطبيعة البشرية في مجابهتها قوى الموت والدمار الغاشمة، وتأكيدها للوجود الإنساني الحي والمتجدّد، إنها نوع من الإدانة الصارخة للموت، في أقصى ما يمثّله من إيذاء وبطش وإمحال. تزرى به وتتخطاه، بقدر ما هي نوع من الاحتفاء العميق بالحياة، في أشد ظواهرها تأجّجا وتفجّراً وفعالية. في ترسمها لمسيرة المسيح (ع) بعد الصلب، في بذله وعطائه، كما في الأمة وعذاباتها. منذ إنزاله عن الصليب في المقطع الأول من القصيدة، حتّى تسميره عليه في المقطع الثامن.[13]

«فأبعاد قصيدة «المسيح بعد الصلب» تتجاوز الفردية وكذلك تتضمن العناصر الحسية ونسبية «تسمير المسيح على الصليب طوال الأصيل، ثم إنزاله عنه وسماع النواح والعويل» وحزن السماء وغفوة المدينة، وآلام الحزينة .. لقاء المسيح بيهوذا. والعلاقة الخاصة بينهما.» نحو أبعاد عامّة وإنسانية تدخل في دائرة التجريد والإطلاق الفداء الألوهيّة والبعث والقيامة .. كمقومات لدين المسيحية العالمي»[14] أما هذا المقطع الذي يقول فيه السيّاب:
حينما يزهر التوت والبرتقال
حين تمتد جيكور حتّى حدود الخيال
حين تخضر عشبا يغنّي شذاها.
والشموس التي أرضعتها سناها
حين يخفر حتّى دجاها
يلمس الدفء قلبي،
فيجري دمي في ثراها[15]

ففي هذا المقطع الثاني يصور الشاعر عمق رضا المسيح وسعادته بأن يحيا شعبه من خلال موته وتضحيته، وفي التعبير عن هذا البعد من أبعاد التجربة يستخدم السيّاب ملامح من تجربته هو المعاصرة، ومفردات من معجمه الشعري الخاص، حيث يتحدث عن قريته جيكور، وبعثها وازدهارها من خلال موته، سعادته وإحساسه بالدفء لهذا البعث الجديد، الذي رواه بدماء قلبه. ويظل الشاعر يلحّ على هذه الفكرة ـ فكرة الحياة من خلال الموت ـ ويبرزها في أكثر من معرض وبأكثر من صورة مستغلاً عبارات المسيح الشهيدة التي قالها لتلاميذه في العشاء الأخير، حيث أخذ يسوع الخبز وبارك، وكسر، وأعطى تلاميذه وقال: «خذوا كلّوا، هذا هو جسدي، وأخذ الكأس وشكر واعطاهم قائلا. اشربوا منها كلّكم، لأنّ هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل كثير لمغفرة الخطايا».[16]

يعتبر الشاعر ان تضحيته وعذابه قد طهرته فلم تبق منه إلا على كلّ ما هو إلهي ومقدس، وانه سيحيي حيوانات متعددة من خلال الأجيال التي تستفيد من تضحية فلهذا يرى حتّى كلّ قلب منهم قطرة من دمه.[17] ولأن ميزات قصيدة «المسيح بعد الصلب »؛ «هي أن الشاعر يذهب في هذه القصيدة إلى موت ـ قيام ـ رمزي بالتضحية .. الإنسان هنا حيٌّ في الموت أكثر منه في الحياة ـ فليس الموت هو ما تحوّل دون الحياة بل الحياة نفسها هي التي تحول دون الحياة والخ».[18] فالمكافح يعرف أن الموت في الحياة يفضي إلى العدم، أما اذا كان استشهادا في سبيل الآخرين، فإنه يصبح انتصارا للحياة بمجموعها، انتصارا له وللجنس البشري، ومن ثم فإنه يفضي إلى الخلود، سبباً في انتصاره على الموت. وعالم الطفولة والإنسان البدائي. فكانت فكرة الحياة في الموت هي المنتصرة أخيراً. لأنّ عالم الإنسان المكافح عالم آخر، عالم الثورة على الطبيعة والواقع المُرّ، يرفض فيه الإنسان كلّ صور العبودية والذلّ والقهر، حيث يشدّ قبضه ليصفع القدر، ويفرض عليه إرادته. وفكرة الخصب لدى السيّاب هذه عاشت في دم الشاعر شعراً، وكتب فيها كلّ قصائده التموزية، واستطاع من خلالها أن يخترق أعماق الحياة الإنسانية حين اتسع بمعناها الرمزي، بحيث اصبح الموت دليلا على الحياة. إنه موت الفادي المختار من أجل بعث جديد فاضل. وهذا ما جعل موضوع «الحياة في الموت» هو المنتصر على سلبيات «الموت في الحياة» لأنه كان فداء وتضحية من أجل التغيير، وليس فداء سلبيا لا يراد به غير التكفير، وتحمل العبء والألم، كما كان عند إليوت. لأن الضحية المسيحية ليست إلا ضحية سيزيفية، بينما تضحية تموز كانت تضحية بطولية، وهي إيجابية التحمل والعطاء، لا قدرية مفروضة. وفي قول بيكيت يتجسّد الفكر المسيحي حول الضحية، فالمسيح أعطى دمه من أجل الناس جميعاً، ومنهم بيكيت نفسه، فلا غرو أن أعطى بيكيت دمه فداءً وتضحيةً لدم المسيح، فهو فداء بفداء.

وفكرة التضحية هذه نجدها عند السيّاب حين يوّحد بينه وبين المسيح وتموز، فيرى أنّ دمه قد صار في كلّ قلب حتّى استشهاده.[19] «وكذلك الشاعر أراد أن يختتم قصيدته وقد اتت تضحيته ثمارها، وابتدأ مخاض البعث الأليم، وابتدأت صحوته تدبّ في أوصال أمته، فحملت صلبانها وسارت في درب التضحية الدامي. إنّها الصحوة والازدهار والفداء التي ضحّى لأجلها، تلمحها عيناه ملّ المدى، ويهتف المسيح في دهشته قريرة، وفي ختام القصيدة يستخدم فيها الشاعر المعجم المسيحي، فبدلاً من أن يعبر عن اندهاشه بالبعث الجديد، وشكر الله عليه بعبارة مألوفة، من نحو «سبحان الله» أو «تعالى الله» فإنه يستخدم عبارة من المعجم العيسوي «قدس الرب»[20]:
بعد أن سمّروني وألقيت عيني نحو المدينة
كدت لا أعرف السّهل والسور والمقبرة:
كان شيء مدى ما ترى العين،
كالغابة المزهرة،
كان في كلّ مرمي،
صليب وأمٌّ حزينة.
قدس الرب! هذا مخاض المدينة[21]

ففي هذه القصائد يتصوّر السيّاب نفسه ميتاً يبعث رامزاً إلى بعث الأمة العربية. «وجاء الصلب خاتمة للأوجاع، وإيذاناً ببدء عهد جديد، ولكنّه سبقه اضطهاد، وتعذيب، وجوع»[22] :... وأنصت:
كأنّ العويل.
يعبر السهل بيني وبين المدينة
مثل حبل يشدّ السفينة
وهي تهوي إلى القاع،
كأنّ النواح مثل خيط من النور بين الدجى والصباح،
في سماء الشتاء الحزينة[23]

«يرجع السيّاب إلى الوراء بحثاً عن زعيم فداء يزرع الأمل في قلوب المظلومين والفقراء، لعلّ بطلاً ينهض من بينهم، يحمل صليبه على طريق الجلجلة، ويأتي بالخلاص، اذ يبذل نفسه فداء عن أحبائه» ولكنّ صوته ضاع في بريّة الناس سدّىً ـ إذ تربّد سماؤه بغيوم اليأس، يغضب ويثور على الوضع المتردّي ويصرخ صرخة مدوّية ـ ملؤها الوجع والغيظ»[24]. فيرى السيّاب فكرة التضحية والإستشهاد السبيل الوحيد في توعية الناس. يعتقد بأنّ هذا الموت نعمة كبيرة وهدية ثمينة له، وهي تعيد للشاعر فكرة البعث:
قلبي الماء،
قلبي هو السنبلة
موته البعث يحيا بمن يأكله
مت بالنار، أحرقت صحراء طيني،
فظل الإله
مت كي يؤكل الخبز بإسمي،
لكي يزرعوني مع الموسم
كم حياة سأحيى،
ففي كلّ حفرة
صرت مستقبلاً، صرت بذره
صرت جيلاً من الناس،
في كلّ قلب دمي[25]

«وهكذا فإن الشاعر/ المسيح قد بعث من جديد بعد صلبه، بعث في موته، وإن لم يغادر قبره في كلّ مظاهر التجديد والحياة والخصب والإزدهار في بلده. ولكن تلك القوى الخائنة التي وشت به وأسلمته للأعداء ـ ممثلة في يهوذا الذي أسلم المسيح لأعدائه ولعل الشاعر يرمز به إلى القوى التي استعدّت سلطات البغي عليه ـ ما كانت لتتركه يبعث، لأنّ في بعثه تعرية لها، وكشفاً لجريمتها وسقوطها، ومن ثم فإنها تغري به قوى البغي ثانية لتصلبه في قبره من جديد»[26]. وإضافة إلى ذلك يرى السيّاب في هذا الموت أسوة للآخرين، ويرى بعث المدينة التي تعجّ بالشياطين من أمثال يهوذا وخلاصها متوقف على تضحية سكانها وفدائهم. إنّ تضحية الشاعر وموته بمثابة البذرة التي أنبتت الثورة في الجميعـ وقد اختار المناضلون كلّهم طريق الفداء، لتتمّ ثورة ومخاض جديد. ينظر الشاعر إلى المدينة وقد سمّر على الصليب ويرى غابة من الصلبان. وفي الحقيقة قد تفتحت على أرض المدينة كلّها زهرة الصلب، واختار السكان جميعاً طريق الفداء، فليس بسواه يتمُّ مخاض المدينة وولادتها.

«أما بالنسبة إلى اللون التعبيري للقصيدة؛ فلا يعود يصحّ اعتباراً القصيدة نوعا من التعبير التمثيلي (الأيغوري) ذي الطابع التعليمي أو الإصلاحي محددة بمغزى لا يخفي على القارئ اللبيب، بل يرجح اعتبارها نمطاً من التعبير الرمزي ـ الإيحائي المفتوح بكثافة دلاليّة على أبعاد شخصية فردية وإنسانية عامّة، وعلى تصورات اجتماعية وحضارية خاصة. وإذ يستدعي هذا التعبير الأخير التأويل بقدر ما يجعل عليه من تعدّد فضاءات، وما يرشح به من احتمالية تراكيب، فإنه يبقى النص في النهاية مطلقاً من إسار المغزى الواحد، وإرغام الرؤية الثابتة. ضمن هذا المنظور لا يضيء الرمز الموضوع الراهن الذي يستدعيه بزخم دلالاته النشطة وحسب، بل إنّ هذه الدلالات تتعرّض في علاقتها الطارئة بهذا الموضوع للتأثر وتخضع للتحوّل»[27]:
فاجأ الجند
كلّ ما ليس حتّى جراحي
ودقات قلبي
فاجئوا كلّ ما ليس موتاً
وإن كان في مقبره
فاجأوني كما فاجأ النخلة المثمرة
سرب جوعى من الطير في قرية مقفّرة
أعين البندقيات يأكلّن دربي،
شُرّع ٌتحلم النار فيها بصلبي،
إن تكن من حديد ونار،
فأحداق شعبي من ضياء السماوات،
من ذكريات وحُبّ
تحملُ العبءُ عنى فيندي صليبي،
فما أصغره ذلك الموت،
موتي،
وما أكبره[28]

«ومن ثمّ فهو وفي هذا المقطع، فإن الشاعر/ المسيح لا يعبأ بهؤلاء المهاجمين ولا ببنادقهم، ففي بعث شعبه وصحوته ووعيه حصن منيع بحميه من كلّ ظلم ومن كلّ عذر، وبنادق الأعداء هذه».[29] فمهما يكن ظلم الطغاة عاتياً، وقوّتهم مدمرة، وبأسهم ماحقاً، ومهما يبلغ دعاة الخير من ضعف وعزل، ونيلهم من إضطهاد وقمع، فإن هؤلاء، وعلى الرغم مما يعترضهم من تخليّات وخيانات، يتمكنون بمبادئهم وإصرارهم على قضاياهم، وثباتهم على مواقفهم، من بلوغ غاياتهم النبيلة، وتحقيق اهدافهم السامية. إنّ ما يلحق بهم من أذى، وما يعرفونه من عذاب، هو الضريبة المفترضة في المسيرة النضاليّة التي ينخرطون فيها، بمواجهة قوى الشرّ والاستبداد. هذا ما توضّحه التجربة التاريخية للمسيح ـ النبي صاحب الدعوة الدينية العقيدة وحامل لواء ـ صليب الإنسانية المعذبة والذي يمثّل عن تجربة الرهافة لإنسان اليوم والأمة وأحزان الذي يدعو إلى الإصلاح، ويحمل لواء ـ صليب الإنسانية المعذبة.[30]

«وقد وفّق الشاعر توفيقاً كبيرا في توظيف شخصية المسيح في التعبير عن هذه التجربة الغنية، ونجح في التوحّد مع شخصية المسيح بعد أن وجد في كلّ ملمح من ملمحها. مقابلاً لبعد من أبعاد تجربته فتمّ الامتزاج الكامل بين الشخصيتين، وأصبحت شخصية المسيح شخصية تراثية معاصرة في ذات الوقت، حيث نجح الشاعر في أن يجعل منها إطاراً لتجربته المعاصرة برمتها، يستوعب كلّ خلجاتها ونبضاتها، ويستقطب كلّ ابعادها، دون أن نحس بأن الشخصية مقحمة على تجربة الشاعر، أو مفروضة عليها، بل نجدها وقد انتظمت كلّ تفصيلاتها النفسية، وشاعت روحها من خلالها، حتّى التعبير المعادي من الإندهاش"[31]:
تحمل العبء عني
فيندي صليبي،
فما أصغره
ذلك الموت،
موتي، وما أكبره![32]

«والشاعر يحسّ بسوء حظّه لأنّه يعيش في زمن الخيانات والظلم واللئام الذين يسفكون دماء الضحايا ودماء الشعب والشاعر يوظّف شخصية يهوذا توظيفاً بارعاً في تصوير هذا الجانب من التجربة، حيث يصوّر مدى مفاجأته ورعبه من بعث المسيح، وعدم تصديقه لهذا البعث»[33]:
هكذا عدت،
فإصفر لما رآني يهوذا،
فقد كنت سرّه
كان ظلاً قد إسودّ مني،
تمثال فكرة جُمّدت فيه،
واستلّت الروح منها
خاف أن تفضح الموت في ماء عينيه...
 (عيناه صخرة، هكذا راح فيها يواري عن الناس قبره)
خاف من دفئها
من محال عليه..... فخبر عنها[34]

فمثلاً في هذا المقطع من القصيدة أيضاً نرى بأن"«يهوذا يعزى قوى البغي من جديد، فتأتي صلبه في قبره، ويتساءل المسيح مندهشاً»[35]: أو ما صلبوني أمس؟ فها أنا في قبري فليأتوا، إني في قبري[36] وهذا النموذج ـ الذي يعبّر الشاعر فيه بكلّ ملمح من ملامح الشخصية التراثية عن بعد من أبعاد تجربته المعاصرة ـ ليس هو النموذج الوحيد من نماذج استخدام الشخصية التراثية إطاراً لتجربته كاملة، وإن كان هو أكثر هذه النماذج شيوعاً، ولكن يوجد إلى جانبه نموذج آخر لا يتّحد فيه الشاعر بالشخصية التراثية ولا يسقط الأبعاد المعاصرة من تجربته على ملامحها التراثية، وإنما يدع الشخصية تحتفظ بملامحها التراثية، ويقابل بين هذه الملامح وبين الملامح المعاصرة التي يريد أن يستخدم الشخصية في التعبير عنها، وغالباً ما يكون هناك نوع من التناقض بين هذه الملامح المعاصرة وبين ملامح الشخصية.[37] ومن المعروف أنّ لا لقاء بين المسيح بعد الصلب ويهوذا، والتراث الديني الذي ينقل سيرة يسوع المسيح يشير إلى إنتحار يهوذا قبل صلبه.[38]

أنّ شخصية يهوذا حسب هذا التراث شخصية درامية بامتياز فهو أحد تلامذة المسيح وهو الذي وشي به، ودلّ الجنود، خدمة الفريسيين، الذين كانوا يطلبونه على مكانه. وكان المسيح يعلم أنه سيسلّمه، وأعلن ذلك في أكثر من مناسبة ـ وعندما رأى أنّه بعد فعلته قضي على المسيح، وأنّه هلك لا محالة، ندم على ما بدر منه ، شنق نفسه. بيد أنّ السيّاب لا يستثمر هذه الأبعاد الصراعية المتعددة والفنية لشخصية يهوذا وللعلاقة المتلبسة التي تقوم بينه وبين المسيح، بل يركّز في بعد الوشاية أو التخلّي والخيانة بالنسبة إلى القضية الإنسانية ـ الدينية ـ التي كان المسيح داعية لها، والتي ترتبط بمسألة الحياة والموت.[39] ذلك أنّ هاجس القول عند السيّاب هنا هو التركيز على القيامة والبعث وازدراء الموت الجسدي الذي تناول المسيح بعد الصلب، وإبراز الموت الروحي الذي يتمثّل في شخصية يهوذا؛ هكذا ينهض المقطع بأكمله على التناقض بين هاتين الشخصيتين، في تجمع الحيّ والروحي، والأبيض والنوراني والحقيقي في جهة، (المسيح) ويتضامُّ الميت والمادّيّ والأسود والصخريّ والمزوّر في جهة ثانية ـ (يهوذا). ويتقدم يهوذا صورة سلبية للمسيح سوداء مفعمة بالموات لما تحتويه من جدب وقحط مطلقتين، مجسّداً الموت في الحياة. إنّه النقيض الشيطاني لألوهية المسيح. والمسيح هو الذي يروي لقاءه بيهوذا، ويصف ردة فعله ظاهرة وفكراً باطناً، فليس هناك من حوار أو من صراع بين وجهتي نظر مختلفتين، وإنّما رؤية واحدة تستعرض وجهين متناقضين لحقيقة واحدة، يتولى التعبير عنها صوت غنائيّ واحد.

حسب هذا الاستعراض يعود المسيح ممتلئاً خضرةً روحانية نامية، ويحضر يهوذا بصفرة حسية ذاوية. هذه الصفرة قرينة الذهول والخوف في آن معاً. ليست المفاجأة الناتجة عن رؤية الميت يعود إلى عالم الأحياء هي التي تثير وحدها صفرة يهوذا، وإنّما أيضاً رعبه مما تمثّله هذه العودة من كشف لسرّه الذي هو المسيح نفسه، كما يعلن ذلك منذ البيت الأول (البيت 31) وتأتي الأبيات اللاحقة لتفسّر وتوضح هذين الوجهين. يحكي المسيح في الأبيات الخمسة الأولى منها (من البيت 32 إلى البيت 36) عن علاقة يهوذا به، وبالقضية التي كان داعيتها. فيقدّمه كوجه حسّيّ، من أكثر أوجه حضوره هشاشة وماديّة (ظلّه الأسود) حتّى أنه يكاد ينفصل عنه ويقيم خارج كيانه الوجودي لخيال مادي جامد خال من الحيوية أو الروحانية، وعاجز بالتالي عن اكتناه الدعوة الإنسانية ـ الإلهية، وخائف مما تمثله من خطر عليه، إذ تكشف لا روحانية، لا إنسانية، وتفضح الموت الذي يعيشه والذي يواريه بالادعاءات الكاذبة. ذاك العجز وهذا الخوف هما اللذان يدفعانه إلى الارتداد والخيانة، إلى التخبير الذي استهدف الدعوة وأدي إلى صلب نبيّها. لذلك تشكلّ عودة المسيح بعد الصلب ومواجهته يهوذا تذكيراً بحقارة الدور الذي قام به هذا الأخير، وعبثيته في آن. ويضحّي مفهوماّ أن تثير هذه العودة ذعره. إنّما ليس هذا وحده دافع يهوذا إلى الذهول والخوف، وإنّما أيضاً ما تشكلّه عودة المسيح من خلخلة وقلب للمعتقدات التقليديّة التي كان يهوذا مطمئناً إليها، في سفر حضور المسيح بعد الصلب عن بهتانها وزورها. قوام هذه المعتقدات مادّيّ لأيّ أخذ بفكرة الروح الإنسانية والبعث، ويرى إلى موت الجسد باعتباره موتاً نهائياً. يأتي المسيح بعد الصلب ليدحضه مؤكداً في الواقع حقيقة ما يدعو إليه، وما يمارسه، وزيف الأفكار القديمة المتوارثة المناقضة له. إنّه بذلك نقيض يهوذا الذي يرى فيه نقيضه النوراني الذي يتمثّل، كما في رؤية المسيح ليهوذا، في وجه حضوره الأدنى، ماديّة والأبعد صلة بوجوده الفعلي، وبخاصة في صورة مناقضة للمعهود مفارقةً للواقع (ظلّ منير).

هي في ذلك تستعيد تعبير المسيح نفسه، وإنّما بشكلّ معكوس، ولا عجب في ذلك مادام المسيح نفسه هو الذي يتولى ترجمة أفكار يهوذا والتعبير عنها ـ فرأي يهوذا هو ما تقوله نظراته للمسيح دون أن يصرّح به لسانه. كأن الروح التي استلّت من يهوذا تركته جماداً محضاً ـ نقيض ما بلغه المسيح في فدائه حتّى بلوغه الروح المحض، الألوهية. وعاجزاً بالتالي عن التعبير، وعاجزاً أيضاً عن التغيير ـ مقابل القدرة المطلقة للمسيح في الاستحواذ عن الكلمة والكلام، وفي التحوّل من الموت إلى الحياةـ أنّ كيانه الفكري الجامد لا يعود إليه بل إلى آبائه، وتأكيداً لانتمائه إلى الماضي والموت ـ مقابل ما عرفه المسيح من انتماء إلى المستقبل والتجدّد ـ ليتحوّل عبر ذلك كلّه إلى رمز مضادّ للمسيح متجاوزاً ملابساته الظرفيّة إلى مستوى الإطلاق والتجريد.[40] في هذا الوضع الذي انتهى إليه كلّ من يهوذا أو المسيح تعرّف تجربة هذا الأخير بعد الصلب نهاية مرحلتها الأولى ، وهي إن بدأت بحزن ثاكليه وإحباطهم (المقطع الأول)، فإنها تنتهي إلى ذعر صالبيه وأعوانهم (المقطع الثالث) من خلال البعث الذي يحقّقه المسيح بموته (المقطع الثاني). بذلك يشكّل المقطع الثالث تلاحماً وتماسكاً للمعاني المرتبطة بين المقطع الأول والمقطع الثاني. وفي القسم الآخر من القصيدة؛ «يتذكّر المسيح كيف في القبر إستطاع أن يحيا، يوم منح ذاته للآخرين ويوم مات ليعيشوا، وكيف إستحال إلى قوة خالدة غير قابلة للفناء، لأنها قوة إلهية، يوم تفجّرت ذاته كنوزاً يمتاح منها الناس»[41]:
كنت كالظل بين الدُجي والنهار
ثم فجّرت نفسي كنوراً،
فغريتها كالثّمار
حين فصّلت جيبي قماطاً،
وكمي دثار
حين دفّأت يوماً بلحمي عظام الصغار
حين عريت جرحي،
وغطيت جرحاً سواه
حُطّم السور بيني وبين الإله[42]

«فإن المسيح هذا الرمز الكلّي المعتمد هنا لا يتقدم كشخصية ينكر الشاعر بها، أوضاع يخفي به وجهه الحقيقي لأداء فكرة يخاف من التصريح بها، أو للإعلان موقف يخشى من تحمّل تبعاته. إنه المعنى الدّال الذي يتيح للتعبير أن ينطلق نحو أملاء متعددة تثيرها خلفياته التاريخية والأسطورية والمعتقديّة»[43]. ونستخلص من هذا أنّ قصيدة «المسيح بعد الصلب» وخصوصاً في المقطع الأول من القصيدة صيرورة الشعب المتلازمة معها، في تحوّلاته من القهر والملك (في المقطع الأول) إلى الثورة والفداء في (المقطع الثامن) من نفي الطليعة ـ الفرد (المسيح) للموت (في المقطع الأول) إلى مخاض الشعب ـ الجماعة/ المدينة والولادة الجديدة (في المقطع الثامن) ومن الانطواء والانحلال في العلاقة بين الطرفين في المرحلة الأولى (المقطع الأول) إلى ااإنفتاح والتواشج عبر التماثل والتكامل اللذين يؤديهما انتشار الصليب والأم الحزينة في المرحلة الثانية (المقطع الثامن) يمثّل انتصار الإنسان على أعداء الحياة[44].

وأخيراً نضيف بأنّ جميع قصائد بدر شاكر السيّاب ذات طابع مسيحي تشترك في أكثر أبعادها وعناصرها وصورها. فقصيدة «المسيح بعد الصلب»، لا تختلف عن تجربتي المسيح جوهرياً بل إنّها تأتي امتداداً وتنامياً للتجربة التاريخية السابقة. فكما التحم المسيح تاريخياً بالتراث الأسطوريّ، يلتحم المسيح راهناً بتاريخه (الدينيّ والأسطوريّ ) ليمضي لتحقيق انتصاره الخاص: مخاض ولادة مجتمعه الجديد. مقابل غلبة ـ الطابع الفردي على التجربة الأولى، يبرز هنا الطابع الجماعي في النضال والمآل معاً. إن ذو الجماعة في قصيدة «المسيح بعد الصلب» هو في الواقع مشاركة الشعب والمدينة الفاعلة والمؤثرة، ونرى هذه الميزة في هذه القصيدة بشكلّ أوسع من قصائد السيّاب ذات طابع مسيحي. ولعلّ السيّاب في هذا البُعد الجماعي بالذات في هذه القصيدة يمثّل وجه الإضافة والاستكمال الذي تتميّز به تجربة المسيح الحديث عن سابقها.[45]

«وفي قصيدة «المسيح بعد الصلب» يتوحّد صوت الشاعر بصوت المسيح، في حسّ المتلقي عظم الفجيعة التي يكوّنها صوت الرياح النائحة فتحيل المشهد إلى دينامية سريعة الوقوع عظيمة المأساة. ففي المقطع الأول منها نتبيّن من خلال مونولوج المسيح ـ السيّاب ، إن الفادي مازال حيّاً، وإنّ الجراح وصليب الموت لم يستطيعا أن يحمدا جذوة العطاء ـ إنّ التضحية في سبيل حياة الآخرين، حياة هي الأخرى ، في عالم المادة والروح وإذا كان المونولوج هنا معتمداً على اللمحة الذكية دون الإطناب فإن ذلك هو الذي جعل الصورة موحيةً بدلالاتها الجمالية حين فتقت في القارئ متعة الإستمتاع بالجوّ الموحي بالفجيعة »[46]. والناقد الدكتور إحسان عباس يبدأ حديثه عن قصيدة المسيح بعد الصلب بهذا السؤال، ولا نجد حرجاً في الإجابة عن سؤال يخطر للقارئ في هذا الموقف وهو: كيف يستطيع شاعر مسلم أن يتّخذ من «الفداء» وهو أحد المعالم المبارزة التي تفصل فصلاً تاماً بين الإسلام والمسيحية رمزاً في شعره؟ والجواب على هذا السؤال لا ينفكّ عن أحد الفروض الآتية: «إمّا أن ذلك الشاعر لم يفهم فكرة «الفداء» في المسيحية، وإمّا أنّه فهمها وهو لا يعبأ بالموقف الديني الذي نشأ عليه منها، وإمّا أنّه ـ في سياق الشعر ـ بعد «الفداء» أسطورة من الأساطير، فهو لا يراها حقيقة تاريخية، وفي هذا الموقف الأخير يضيع الحدّ بين الظاهر والحقيقة، أمام عيني قرّائه، لأنّ الحقيقة حينئذ ذاتيّة تتصل بضميره الفردي»[47].

أمّا بالنسبة للسيّاب فقد كانت هناك حوافز معيّنة دفعته إلى التعلق بذلك الرمز: وفي مقدمة تلك الحوافز ذلك الضياع الذي أحسّ به في حومة الشعور الديني، فبعد انفصاله عن الحزب الشيوعي كان يحسّ أنّه بحاجة إلى تبنّي مشاعر جديدة، تعوّض اهتزاز المقاييس المادية في نفسه، فتعلّق بالصفحة الإسلامية من القومية العربية، ولكن ماديته القديمة كانت تجعله جريئاً في التعبير عن بعض «المقدسات» بحيث توحي عباراته بشيء من الاستخفاف، ويبدو أنّه لم يجد راحته فيما لايزال يوحي بوطأة التفكير المادي، فأحسّ بالحاجة إلى الإمعان في الهرب، ووقع في تلك الأثناء بشدّة تحت تأثير إديث سيتول وتكريرها الملل للصور المسيحية، ولكنه بدلا ًمن أن يشعر بالملل من ذلك التكرار، شعر بيسر الاستعارة لتلك الصور وبسهولة جريانها على سن قلّمه، فاحتذاها دون تفكير عميق فيما تعنيه من الزاوية الدينية.[48] ثم تمّ في سياق تلك الحالة النفسية، كان لدى السيّاب بوادر الإحساس بأسطورة تموز، هذه سهلت عليه الانتقال إلى رمز المسيح، إذ كان ذلك نقله من فكرة فداء إلى فكرة فداء، فتموز أيضا يموت لينعش الأرض ببعث جديد، ولكن الفرق بين الفكرتين: إن انبعاث تموز يتجدد مع حركة الفصول، فهو أقدر على تصوير التفاؤل القريب، حين يكون الحديث متصلاً بظلامات الشعوب وضرورة يقظتها، وليس كذلك رمز المسيح. ثم أنّ رمز تموز لا يتصل بخطيئة أصلية، وإنّما يمثّل قوة خصب مستوحاة من التصوير البدائي، وليس له أية علاقة بإطار أخلاقي. وكذلك فإنّ النغمة الدينية تغطّي قصيدة «المسيح بعد الصلب».

ويعتقد الناقد الدكتور إحسان عباس بأنّ تلك النغمة الدينية لم تكن عامةً حين أخذ السيّاب يتحدث عن تصوّره للشاعر من خلال «رؤيا القديس يوحنّا» الذي لم يصرّح السيّاب بهذه الشخصية في قصيدة «المسيح بعد الصلب» ولكن الناقد يرى بأنّ السيّاب قد أتى برمز هذه الشخصية التي تدلّ على الفداء والتضحية أيضاً، وهذه القصيدة التي نشرت في مجلة (شعر) بعنوان «المسيح بعد الصلب» فيها مزيج من الشخصيات المتشابهة «يوحنّا المعمدان، المسيح، تموز» وكلّها رمز. الحياة في الموت والإنسان المكافح الذي يرى الخلاص في الفداء والتضحية. فمن عادة السيّاب أن يمزج الأساطير وشخصياتها دون أن يصرح بها، مثل يوحنّا المعمدان وتموز في قصيدة «المسيح بعد الصلب» المسيح، التموز أو إلى يوحنّا المعمدان. وهم بعض ملامح طقوس روحية وألوهية يتقمّصها الشاعر ليتحدث عن الموت أملاً في أن يحيي في الموت ويبعث من جديد. [49]

 

هوامش ومصادر:
[1] السيّاب ، بدر شاكر؛ «المسيح بعد الصلب »، مجلة شعر بيروت، العدد الثالث، ص 21-24، بتصرف.
[2] سويدان، سامي؛ بدر شاكر السيّاب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 193، 194.
[3] أنظر: م.س، ص 195، 196.
[4] عباس، احسان، بدر شاكر السيّاب دراسة في حياته وشعره، ص 312.
[5] سويدان، سامي؛ بدر شاكر السيّاب ريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 25.
[6] حاوي، إيليا؛ بدر شاكر السيّاب ، شاعر الأناشيد والمراثي، الجزء الثاني، ص 209.
[7] العظمة، نذير؛ بدر شاكر السيّاب والمسيح، العدد 26، ص 169 ـ 171.
[8] أنظر: سويدان، سامي، بدر شاكر السياب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 208.
[9] عشري زايد، علي؛ موسيقي الشعر الحر، ص 299.
[10] أنظر: عشري زايد، علي؛ إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ص 233، 234.
[11] السيّاب ، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 222.
[12] علي، عبد الرضا، الأسطورة في شعر السيّاب ، ص 128.
[13] أنظر: سامي، سويدان؛ بدر شاكر السياّب وزيادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 213.
[14] م.ن ، ص 210.
[15] السيّاب ، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 222، 223.
[16] إنجيل متي: الإصحاح السادس والعشرون.
[17] أنظر: عشري زايد، علي ؛ إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ص 234، 235.
[18] أدونيس، قصائد بدر شاكر السيّاب ، ص 13-14.
[19] أنظر: علي، عبد الرضا؛ الأسطورة في شعر السيّاب ، ص 178-174.
[20] عشري زايد، علي؛ إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي الحديث، ص 237، بتصرف.
[21] السيّاب ، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 226.
[22] بطرس، أنطوينوس؛ بدر شاكر السيّاب ، شاعر الوجع، ص 69.
[23] السيّاب ، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 222.
[24] بطرس، انطونيوس ؛ بدر شاكر السيّاب ، شاعر الوجع ، ص 70.
[25] السيّاب ، بدر شاكر، المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 223.
[26] عشري زايد، علي إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ص 235، بتصرف.
[27] سويدان، سامي؛ بدر شاكر السيّاب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 209 ، بتصرف.
[28] السيّاب ، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 225، 226.
[29] عشري زايد، علي؛ إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ص 236 ، بتصرف.
[30] أنظر : سويدان، سامي؛ بدر شاكر السيّاب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 219.
[31] عشري زايد، علي؛ إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر ، ص 237، بتصرف.
[32] السيّاب ، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 226.
[33] عشري زايد، علي ؛ إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر/ ص 235 ، بتصرف.
[34] السيّاب ، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1 ، ص 223، 224.
[35] عشري زايد، علي؛ إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ص 236، بتصرف.
[36] السيّاب ،بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 224.
[37] أنظر: عشري الزايد، علي؛ إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ص 237.
[38] أنظر : موضوع يهوذا في؛ «إنجيل يوحنا» ، الفصل السادس، ص 69-72، وكذلك الفصل 13، من 21، وفصل 18، ص 1-6.
[39] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السيّاب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 230،231.
[40] أنظر: م.س، ص 231، 232.
[41] عشري زايد، علي؛ إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ص 236.
[42] السيّاب ، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 225.
[43] سويدان، سامي؛ بدر شاكر السيّاب وريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 209، بتصرف.
[44] أنظر: م.س ، ص 212.
[45] أنظر: م، ن، ص 217.
[46] علي، عبد الرضا؛ الأسطورة في شعر السيّاب ، ص 100 ، بتصرف.
[47] عباس، احسان؛ بدر شاكر السيّاب دراسة في حياته وشعره، ص 225، 226، بتصرف.
[48] أنظر: م.ن ، ص 226.
[49] أنظر: م. س، ص 227.

باحثة في اللغتين العربية والفارسية ـ جامعة العلامة طباطبائي طهران

Fatima.Faezi@yahoo.com