إلى ابنتي الرائعة غيداء ضوء الغد
إلى ذكرى رولان بارت
1
راحلون إلى الغربة الأولى1...
راحلون إلى الصورة الأولى2...
التقينا في الفكرة الأخيرة3، وعزمنا على الرجوع إلى الجسد الأول4، والوطن الأول5، والخطوة الأولى6، وأردنا أن نعبث7 قليلاً في طريق العبث نحو تشكيل الجنون، أن نعبث بالعبث، ونقلب التشكيل، أن نبدأ بالعبث نحو تحقيق العقل الممكن، أن نقضم التفاحة الأولى8، ونهبط بين الشجر9، أن ننظر إلى الشجر، فنرى كيف تبرز الجذور من أحشاء الأرض، هذه المرأة الشيخة10 التي ولدنا منها.
- هذه أم الشجر11.
- شجر الموت والحياة12.
- هذه ابنة السراب13.
- سراب الصحراء والوهم الكبير14.
- هذه غصن نطق15.
- بلسان الإنسان الأول16.
- هذه الجريمة مطرًا17.
- مطر دم18 كل جرائم الإنسان الذي ينهل منه.
- هذه الإلقاح عقابًا19.
- الخلق المحتوم السرمدي للإنسان المجرم.
- هذه أنا لك منك.
- ابنة السر الخفي20 كما أنا له ابن والأم الولود كما أنت لها ابنة.
وتحولت المرأة الشيخة إلى بحر، فحملنا حجرًا، وبه البحر رمينا، فرشقتنا موجة دم ثم موجة دم21، وكان الدم حلوًا، فشربت منه امرأتي، وقالت لي:
- اشرب من دم أول جريمة لنا22.
فشربتُ حتى ارتويت، ورميت بجسدي في غمرة الدم لأنعم عينا، ورمت امرأتي بجسدها على جسدي، وراحت تقهقه، وأنا أحس بجسدها البض بين يديّ منتفضا، فوددت أن آخذها في الدم الشهوانيّ إلى احتضان التوحش الآدميّ23، لكنها ظلت تقهقه، وهي تضرب في بحر الدم يديها، وترشقني بالدم، وترشق وعلاً 24 بالدم اقترب ليشرب منه، فشرب منه، ونطق:
- أنت حواء التي حكت عنها الوردات الدميمة25؟
فنفت.
- أنت آدم الذي حكت عنه الديدان المرحة26؟
فنفيت.
احتار الوعل، وضرب رأسه بجذعِ سنديانةٍ27 خشنِ الملمس دون أن نأبه به حتى مات28.
قلت لامرأتي:
- لنأكله29.
وأكلناه حتى شبعنا، ثم نظرنا إلى الدنيا من حولنا، وسمينا الليل ضوءًا أسود، والقمر وحشًا، والبحر دم الأخوين، وقلت لامرأتي سأسميك البدن، وقالت امرأتي لي سأسميك الدخول30، وجعلنا من عظام الوعل جنةً وجهنمَ31، وخلال ألف ليلة32، تابعنا رحلة الأفول.
2
امرأتي سيدتي وسيدة القمح والحنطة33، استعبدتني أنا والوعول، فكنا الطاعة، وعبرنا الزمن إلى ثورة الحجر المصقول34. كان التمدن قد رمى بأول حجر في فضاء الخراب، ومن بعد قامت أريحا مدينة الأسوار الأولى35، ثم جاءت الأناضول بازدهار الشفق الأول36. ومع بداية عصر الخزف في اليابان، نما الإسقاء في بلاد ما بين النهرين، واختُرع الدولاب، واخترعت مصر الشراع. مع الدولاب كانت ثورة المعذبين في الأرض، ومع الشراع شُيدت أهرامات الموت37. في معابد أوروك غدوت سيد امرأتي38، ولأغدو سيد نفسي كان عليّ أن أبحث عن سر العدم. كان صديقي الوحشيّ قد خان الوحشية في اللحظة التي غدا فيها صديقي39، كان يحرس الطريق الذاهبة إلى سر الموت، فتركني أمضي إلى تحقيق المهمة التي كانت مهمتي. ذهبت أسعى في ظل الخيانة الوفية إلى مخرج في الظلمات، فهل يوجِدُ العدمُ المبدعُ شكلاً آخر للوجود، في مكان آخر، مكان أخير لم تطأه قدم الإنسان40؟ وكان صديقي الوفي الخائن41 قد اغتسل في الماء المقدس لدجلة42، وعانق إحدى الحور فيه، وغدا إنسانًا كليًا. وفي اللحظة التي كنت أعتقد فيها أنني على وشك اكتشاف سر البقاء، وصلتني أنفاسه الشهوانية، فمن يجد حلاً لمسألة العدم يجد طريق الآلهة الخالدين. طغت تلك الأنفاس عليّ كما لو كنت عدوًا لصديقي، ولم يعد دجلة وسيلةً لربط الإنسان بالإله. لم تكن هناك قرابين لشكره على حسن كرمه تجاه الأرض، لم تكن هناك سوى تلك الزفرات الجنسية التي يصعّدها وحده الإنسان. ذلك الصديق الوحشيّ الذي كان لي، ذلك الإنسان الغيور القاسي، تخلص من غيرته وقسوته، تخلص من الشيء لذاته، في النهر القاسي والغيور، وغدا الشيء في ذاته ككل البشر بشرًا فانيًا. باءت محاولتي في تغيير طبيعة الإنسان بالفشل، ولم يعد يمكنني أن أكون خالدًا، فناديت عِشتار43، إلهة السماء والحب، إلهة الإمراع والخِصب، وأنا أظنها في البداية امرأتي، وبعد أن عرفتها، قلت لها:
- تعالي عِشتار، تعالي إلى نجدتي، مع أني أرفضك مذ كنت عِشتار44.
فجاءت عِشتار خلابة شهية تفاحة45، فقضمتها، وذقت المتعة المحرمة معها. عبثت بجسدي، واعتدت على عرشي، ثم ألقت بي بعد أن سلبتني كياني في أوروك قائدًا ذليلاً، وراحت تطلق قهقهة بريئة46، فسألتها:
- كل هذا الظلم وتقهقهين؟
فأجابتني:
- ليأتي صاحب العين بالعين والسن بالسن ويسن شريعته47.
- ضدك أنت الإلهة؟
- ضدك أنت الملك.
- سأجد سر العدم وأصبح إلهًا، ولن يعاقبني أحد.
- جده أولاً، وبعد ذلك سنرى، ولكن من هنا إلى أن تجده سنُجري عليك من قوانين ما نُجري على كل كائن فان.
- ملك أنا.
- كائن فان أنت أولاً وقبل كل شيء.
فجأة، سمعت صوت امرأتي، فسألت:
- أهذه أنتِ؟
فظهرت امرأتي ناحلة وناشفة كجرادة، وقالت:
- هذه أنا، جرادة التهمت في طريقها كل شيء48. وأنت؟ أهذا أنت؟
- هذا أنا، سر العدم!
- كنت أعتقد أن للعدم وضعًا كالبقاء ولا أسرار هناك.
- سر العدم أم سر البقاء، كل شيء يكمن في الإنسان.
ثم سألتها عن صديقي الوحشيّ، فأشارت إليه، وهو يريد أن يجعل من كل حور دجلة نساءه، وقالت:
- لم يعد وحشيًا.
- أعرف أنه لم يعد وحشيًا. أهذا هو؟
- هذا هو، سر البقاء!
- البقاء... العدم...
- ما هو جوهري الوضع الذي نوجد فيه. وهو صديقك.
فقلت:
- صديقي لم يعد صديقي مثلما عِشتار لم تعد إلهتي.
- لأن كل واحد يلعب دورًا مختلفًا عن دورك.
- لأن ما أريد هو أن ألعب دوري فقط، أنا الملك. هنا في أوروك والآن. فيما يخص الغد سأتركه لك، لنبوءتك.
فهتفت امرأتي بصوت هياب:
- في البدء، ستجف الصحراء، ثم ستنهدم بابل، ثم سيهجر اليهود مصر إلى أول الفاجعة الكبرى49، ثم ستنهدم كريت، وتُشن حرب طروادة في الوقت نفسه الذي تنطلق فيه ثورة أصحاب يهوه50 المغرقة في الدم.
- توقفي عن التنبؤ بالنكبات.
- أنا وليدة أم يهودية كما تدري.
- لهذا السبب.
- ستقف إلى جانبي.
لكني كنت أفكر في صديقي الخائن الذي لم يعد صديقي، كان غياب الصداقة له أكبر النكبات.
- ستقف إلى جانبي؟
- سأقف إلى جانبك.
- ستكون لي وفيًا، ولن تخونني.
فقلت:
- ومع ذلك، لقد خان صديقي الوحشيّ الوحشية ليغدو صديقي!
- إنه لمن الشيء الحسن أن نخون الأسوأ فينا لنبدو أوفياء، ولكن أن نخون شخصًا...
- أن يكون الإنسان الوحشيّ لي وفيًا كما أنا لك وفي! لا يمكنني أن أقبل ذلك!
- أكمل دورك كإنسان، قم بواجبك كإنسان، واجعل منه الشخص الأقرب إليك، هكذا تكون جديرًا بمهنة الملك التي لك.
- كأنك تطلبين مني أن أخون إنسانيتي!
وعزمت على الذهاب عنه بعيدًا في درب غير دربه وطريق غير طريقه عابرًا الحروف الفنيقية51 إلى بطل يشبهني في الأوديسه52.
3
ومع ذلك لم أجد أقل درب مفتوح ولا أقل طريق ممكنة، كانت كل الدروب مغلقة، كل الطرق. أعطاني ذلك إحساسًا غريبًا بالتجوال دون حراك، توافدت آلاف الأحاسيس في رأسي، وأنا أتجول بينها دون أن أتوقف عن الكلام إلى امرأتي التي لم تكن معي53: انظري من أي شيء صنعت التراجيديا الإنسانية54! من شخصياتها المتصارعة ذاك السائر في دم فاحش يسقي آثارنا، وذاك السائر في وحل دناءة وفساد يرشق وجوهنا، وذاك السائر في الموت الذي من حولنا من أمامنا من ورائنا... وانظري من أي شيء صنع التفسخ الإنساني! من مصنوعيه المهذبين ذاك الحامل جثته ويسير، وذاك الحامل جثة غيره ويسير، وذاك الحامل غيرُهُ جثته ويسير... ذاك الحامل جثة أخيه ويسير، وذاك الحامل جثة أخته ويسير، وذاك الحامل جثة أمه وجثة أبيه55 ويسير... ذاك السائر في نعيم الجحيم56، وذاك السائر في الشوك57 وفي الخوف وفي اليأس الكبير: نعم، اتركوا كل أمل، أيها الداخلون58! وذاك الجامد في دافع الخوف وفي الورد القاصر وفي اليأس البالغ59، وذاك الراكض في جثة الوعل60 المحرض للورد الكاسر دون أن يكون المنقذ وقد تأخر الوقت، وذاك المنافس لسابقه في جمال الدمار وفي مخمل الضباب وفي حرير العقاب61، وذاك السائر في التدمير الفاضل62 وفي العنب الأسود63 وفي التفاح الخائن64... وانظري من أي شيء صنع التحجر الإنساني65! من أركان عصره الحديث تلك الجثث التي تحمل بعضها بعضًا ولا تسير، وتلك الجثث التي لا تحمل بعضها بعضًا ولا تسير، وتلك الجثث التي يسعى العالم من حولها، وهي تنظر في حركته إليه بغير دهشة، وهي تنظر إلى حركة العالم، وفي عيونها قد توقفت كل حركة. أتنفخُ أثينا إلهة الفكر والفنون في عيونها فكرة الحياة لتنهض فلا تحمل بعضها بعضًا وتسير أم تتركها ساكنة في مكان ساكن66 وزمان لا يسكن67 أبدًا لا يسكن؟ زمان يملكه الحيوان ومكان لا يملكه الإنسان وكلاهما لا يملكه غصن متوتر؟
قال المكان للزمان68:
- تعال أحمل جثتك قبل موتك69.
وقال الزمان للمكان70:
- تعال أحمل جثتك بعد موتك71.
وقالت امرأتي لي في منامي72:
- تعال أحمل جثتك قبل موتك.
وقلت لامرأتي في منامي:
- تعالي أحمل جثتك بعد موتك73.
واختلطنا نحن الأربعة في جثة واحدة على عتبة المقبرة التي صارها العالم74، وكانت في المقبرة ذئاب رضيعة ظريفة جائعة75، فقدمت لها امرأتي ثدييها، فغَضِبْتُ غضبًا شديدًا، ورحت أبحث عن أمها حتى وجدت جثتها، وأخذت بفمي ثديها الميت البارد الذي أذهلني طعمه، وذكرني بامرأة رجل هام كنت أعرفها في القرن العشرين76، فقضمت حلمة الثدي بأسناني.
4
تعالي، يا امرأة77، نذهب إلى احتفال يتكرر منذ أن صعدت النجمة الأولى78 في المساء، وجعلت نفسها عاريةً على حين غرة في ضوء التوحش79. تعالي ننظر إلى المحتفلين80 الأنيقين منذ أن نبح الكلب الأول لآخر مرة في الصيف قبل أن يمزق ويلقى على رمل التمدن. هذا الشاب الأنيق هو كلب لا علاقة له بالأوفياء من الكلاب أمهُ إلهة الجمال لدى الإغريق81، وتلك الشابة الأنيقة هي كلبة من طينة الشاب الأنيق جدها المؤسس الأول لقرطاج82، قرطاج القوة الضائعة التي من نسلها الكلاب. هذا الكلب الأنيق هو شاب أمه إلهة الجمال لدى الحيوانات المتوحشة83، وتلك الكلبة الأنيقة هي شابة أبوها أجرأ مقاتل لذئاب الرومان84، فالكلب ليس ذئبًا ولا إنسانًا، ومن سوء الحظ أنّ مَنْ يريد أن يعمل الذئب يعمل الإنسان. هذا الطفل الجوهرة سيكون كلبًا حيًا يساوي أكثر بكثير من أبيه الليث الميت85، وهذه الطفلة اللؤلؤة ستكون كلبة وفية تساوي أكثر بكثير من أمها اللبؤة الخائنة86. هذا الليث الماكر87 كان طفلاً أبوه كلب وضيع، وهذه اللبؤة الماكرة88 كانت طفلة أمها كلبة وغدة. هذا الرجل الجميل الأنيق الرفيع الأصل أصله دبور خرع89 أو ملاك محتال90، وهذه المرأة السمراء الذهبية في معطف الفرو الثعلبي الدبي القطبي الذي بثمنه نطعم مدينة بلا أصل91 أصلها نحلة لصة أو بائعة92 لجسدها في سوق السلاح. هذا الرجل وتلك المرأة هما زوجان عاشقان في ثياب السهرة يحتفلان بحقد العذراوات الإحدى عشرة ألف93، ويقولان كلامًا فيه نغمة وحلاوة وطراوة وغنج وآهة، ويفكران بسعادة، في السعادة، ثم يعودان ويقولان كلامًا فيه نغمة وحلاوة وطراوة وغنج وآهة، ويفيض عنهما عطر فاحش، فتنبح الكلاب، وتهجم الكلاب، تهاجم الاحتفال، فيضربها المحتفلون بالبنادق والسياط، يضربها المحتفلون بمخالبهم وأنيابهم94، يضربونها بالمودة القاتلة والكره الودود95، ويفجرون دمها الذي سيتذوقونه بتلك الملذة العميقة التي يمدها النبيذ96 حتى الثمالة، ويمزقون لحمها الذي سيلتهمونه لأجل الوصول إلى مذبحة الحمل الصوفيّ97، الحمل الطريّ، الضحية دون دنس ولا عَجَل. لنعجل ولننعم بالوقت الزائل98! فيعجلون، وينعمون، ثم يخرجون في عراء الليل، وينظرون إلى الصيف الجميل الميت في الرمل، ويقهقهون، فتطل أثينا من مركب يمضي99، وتسألني:
- ما هي هذه الحيوانات اللطيفة الشراسة؟
فأجيب أثينا:
- هذه هي ثمار الإنسان، يا أثينا العظيمة100.
ومن جديد، تسألني الإلهة:
- أتحب دم الكلاب إلى هذه الدرجة؟
ومن جديد، أجيب أثينا101:
- لأنه دم حلو ونادر، يا أثينا العظيمة.
- أتحب لحم الكلاب إلى هذه الدرجة؟
- لأنه لحم غريض ولذيذ، يا أثينا العظيمة102.
- ولماذا لا تشاركها الوليمة وأنت معها؟
- بل أشاركها، يا أثينا العظيمة... هذا دمي! هذا لحمي!
- وهل تطيق أنيابها؟
- لا أطيق... ولكني أكره لحمي! أبغض دمي103!
عدت أرى لحظة الخراب الإنساني دون أن أكون راضيًا عن مدى رسالتي الأولية، لأن أحدًا لم يستمع إليّ.
- بالعكس سيقال هذا الكلام.
- ولكن على العكس من كلامي، سيستمع الناس إليه.
- أيعذبك هذا إلى هذا الحد؟
- إلى حد الضياع.
- تعال معي، إذن، أنقذك من حقدك على لحمك ودمك.
وتذهب أثينا بي بعيدًا، ثم تفلت مني ذائبة مثل رُجم، وتتركني وحيدًا قرب قبرٍ ملكيّ وكيسٍ ذهبيّ104.
5
اللعنة عليك، يا أثينا المُلامة105، أثينا المتفسخة106، أثينا الجريمة المرادة107! غضب البحار عليك108 ولعنة الجبال109 وحِرم الشجر الشرس في الغابة المستباحة110! اللعنة عليك، يا أثينا القهر، أثينا القاهرة111! لماذا رميتني قرب قبري ولم تميتيني112؟ لماذا تركتني قرب كيس الذهب لا قرب كيس العواصف113؟ لماذا أنقذتني من حقدي الذي يحميني من لحمي ودمي114 وحرمتني من حمى الأنياب الشرسة الملتذة بتقطيعي؟ لكنك لن تنقذيني من حقدي عليك115 ولا من كره الملوك الذي أغذيه ضدك. سيطاردك حقدي كسيف البرق116 وسيقع عليك كرهي كعاصفة الآلهة الوثنية الصاعقة117. كنت هناك في الفعل الدامي118، في الوليمة الجهنمية119، كنت هناك أصب كرهي كي أملأ البحار، كنت هناك أعبث بالنظر إلى النجوم120، وكنت هناك بطلاً دون أن يعرفني أحد، كنت القدر المجهول، الكلمة الفقيدة، الطعم المر اللذيذ حين يموّه السكر طعم الدم، الملح الذائب في النهد، الباعث على الرذيلة121، المحفز على الجريمة، الشاهد على الجريمة، القالب لموازين الرفض122، الثالب لقوى التوازن123، الموازن للغرام والانتحار. كنت قمر124 الذئاب العاصية في لحظة فرح125، وكنت الفرح للقمر الذئبيّ المبيت لي ولامرأتي أقسى عقاب. أنت أثينا هذا القمر! أنت أثينا هذه الذئاب! أنت أثينا التي أرادت أن تحب بعد أن نسيت أي قلب شرس لها. لماذا أنقذتني لأجل أن ترميني قرب ذهبك وقبري126؟ أهي مكافأتك الأولى أم جزاؤك الأخير لإنسان كان حيوانًا وغدا إنسانًا يكره الإنسان فيه127؟ ليدقك حقدي، أثينا، حقد البشر الكاره للبشر! ليدقك حقدي، حقد طروادة الكارهة لطروادة128! انكسري في الذل، وإلا فازرعي الموت... انتحري، اشربي كأس الهوان، وإلا فدمري الحياة! انتصري بالذل، وإلا فاحرقي الذهب129! اقتلي في النفس كبرياءها السافلة، ولا بأس أن تنشري الخراب في الأرض الخربة130، دمري ذل النفس العظيم131 والحجر المتمنع، هكذا أصلك بجسدي ولا أمنع عني نابك أو ظلفك أو مخلبك، هكذا نصل إلى اللامتناهي132.
أتتني أثينا ماردة قاهرة جبارة غادرة غُرابة فاسقة133 وقالت لي العرابة134:
- سأعيدك من حيث جئت بك.
فوافقت، ولكن عندما أعادتني من حيث جاءت بي لم أجد أولئك المحتفلين الأنيقين، كانت الطرقات مغطاة بجثث الكلاب المنهوشة من طرف كلاب أخرى أو المشنع بها135.
6
من لم يخطئ بينكم أبدًا فليرمه بأول حجر136!
حاولت أن أقرأ على وجوه الجثث موضوع خطئها... كل هذه الكلاب القتيلة ما ذنبها137؟ كل هذه الشفاه المجدوعة، كل هذه الوجنات المطعونة، كل هذه الأسنان المقلوعة، كل هذه القوائم المحطمة، كل هذه الأفخاذ الملتهمة، كل هذه الأثداء المقطعة، كل هذه البطون المبقورة، كل هذه الأقدام المبتورة، كل هذه الأصابع المشطورة، ما ذنبها؟ ما الفكرة القادرة على تدميرها؟ الشهوة العاجزة عن حمايتها؟ ما ذنب عجزها؟ ما جريمتها في انتظار منقذها138؟ ما ذنب أثينا؟ طروادة؟ الحصان؟ ما نوع الجرم الذي نقاتل به؟ نتهم به؟ نبرئ به139؟ ما جرم السكين؟ السيف؟ الرمح؟ ليس الرمح الذي يقتل بل اليد التي تحمله! ما جرم الطالع السيء140؟ ما حظنا عندما نضيع قدرنا؟ ما قدرنا عندما نضيع حظنا؟ ما حظنا عندما لا نستحق أي قدر؟ ما قدرنا دون قدر المقاتل؟ دون قدر المجرم؟ دون قدر القاتل141؟ سنرفض قدر القتيل. لا قدر للميت، وهذه الكلاب كلها ميتة. لماذا أنت ميتة؟ هكذا جعلتني أصرخ من الرعب الفكرة الباحثة عن سر الموت الجماعي142.
راحت الجثث تتحرك، شيئًا فشيئًا، وقد دبت فيها إرادة الموت143، وراحت تنهض كالتماثيل الرافعة على أكتافها عبء عصور الظلام. ارتعشت شفة كلب منتزعة، ونطقت:
- قتلوني لأني كنت النزاهة الفقيدة!
ونطقت شفة كلب أخرى ممزقة:
- قتلوني لأني كنت الشرف الطعين!
ونطقت شفة كلب ثالثة على صورة سابقتها ممزقة:
- قتلوني لأني كنت الشجاعة الباحثة عن ميدانها العلني!
زحف كلب على قوائمه المحطمة، ورفع رأسه المفتوحة إليّ، ونطق:
- قتلني كلب مثلي ومثلك ضحية الظلم لأني أنا ضحية الظلم144 أيضًا!
تمتمت كلبة، وهي تبصق أسنانها:
- قتلوني لأني كنت أُمًا مثالية145!
جاءت كلبة ثانية ببطن مبقورة، وتمتمت: عضتني كلبة مثل امرأتك ومثلي عضة الموت تسعى لتأخذ تحت الشمس مكاني!
جاءت كلبة ثالثة بفخذ يمنى ممزقة146، وصاحت:
- قتلوني لأني كنت عاهرة147!
قلت:
- هناك خطأ، لا بد أن هناك خطأ148.
- أخطأوا بقتلي، فهم أفحشوا بي ثم قتلوني!
جاءت كلبة رابعة بفخذ يسرى مندهكة مثل موزة عفنة ملقاة في وسط149 الطريق، وصاحت هي الأخرى:
- قتلوني لأني أنا أيضًا كنت عاهرة!
- هناك خطأ، لا بد أن هناك خطأ.
- لم يكن هناك خطأ، كنت عاهرة، وكنت ضدهم، كنت عاهرة شريفة150 في معبد أثينا، لهذا أفحشوا بي ثم قتلوني!
قلت لشعب الكلاب:
- قاتلكم أقوى منكم جميعًا151!
- قاتلنا أضعف الذئاب152، وأحقد الحاقدين على الذات، وأعشق العاشقين لكرسي أثينا153.
ضحكت، وأكدت لشعب الكلاب، قبل أن أمضي باحثًا عن امرأتي:
- ستقتل قاتلكم ذئاب أقوى154 أو كلاب أشجع155 أو مواطنون أخلص لأثينا من عاهرة شريفة156.
7
وأنا على عتبة بيتي157 هاجمني كلبي158، أكثر الكلاب أمانة لي ووفاء، فهويت بقبضتي على فكه، وفصلته، ثم تقدمت في دمه إلى الاحتفال، فعرفني بعضهم، ولم يعرفني بعضهم، وعرفتهم كلهم. أخذت تصل إلى مسامعي أنغام موسيقى وأصوات غناء تتخللها قهقهات امرأة ثملة159، وعندما أطللت من بين الأعمدة، رأيت امرأتي، وهي تصعد على عرشي شبه عارية، في يدها قوس وعشرات السهام، ومن حولها عشرات الأقزام ذوي العين الواحدة160. قطعت امرأتي قهقهاتها فجأة، وضربت سهمًا اخترق عين قزم، فخر القزم صريعًا، وعادت زوجتي تقهقه. نزلت عن عرشي إلى مائدة ضخمة عليها شتى صنوف الطعام والشراب، وراحت تعب النبيذ، وتفسخ اللحم، وتأكل بجوع دهور، ثم وثبت على عرشي ثانية مثل جرادة مرعبة، فسقط الأقزام على قدميها باكين من عينهم الواحدة متوسلين بينا هي تهدد:
- سأتزوج الحي الأخير من بينكم161!
رمت الأقزام بثلاثة سهام أو أربعة، والأقزام يهربون أو يخرون صرعى. انحنت هذه المرة، وسحبت من أصابعهم خواتم مرصعة بأحجار كريمة، ومن جيوبهم أوراق نقدية، فقلت لنفسي لقد تقدم البشر كثيرًا أثناء غيابي! نظرت إلى أثينا دون أن يراها أحد غيري، فإذا بها تخلع ثيابها، وتلقي بجسدها البض في دم الأقزام لتجدد جمالها162. بفعلها هذا أعادت الأقزام القتلى إلى الحياة لتواصل امرأتي قتلهم حتى نهاية الأزمان دون أن تقدر على الزواج من آخر حي بينهم، وهكذا تبقى تحت مسؤوليتي163. كانت زوجتي قد أسقطت عددًا آخر منهم، وأثينا تُسْقِط جسدها في دمهم، وتزداد أكثر فأكثر جمالاً، فقررت أن أضع حدًا لتراجيديا الجميل164، لعبادة الجميل القائمة على الممارسات الدموية والقواعد الجمالية الساكنة.
- هذا أنا زوجك، وصلتك بدمي165 بعد أن وصلتني بدم غيري، يا امرأة قاتلة!
لم تصدق امرأتي أن تجدني، وأن تجدني أدافع عن أدعياء يريد آخرهم أن يحتل فراشي، ولم أصدق أن يتحول الأقزام ضدي166، إذ تسلقني منهم ألف، وقيدوني، ثم ذهبوا إلى القوس الجبار167، ووجهوه صوبي يريدون قتلي، وامرأتي تنظر إليّ بعشق مفاجئ فجرته الغربة في اللحظة التي انتهت فيها، والشوق في اللحظة التي بدأ فيها، ولكي تحميني من غريزة القتل قتلت من الأقزام عشرة ثم عشرة وجعلتهم يفرون كلهم نحو الغابة المسحورة168. ثم تقدمت مني مسعورة بالفساد وبالانحلال وبالدم كلها ملوثة، وسألتني:
- لماذا عدت الآن؟
- لأنقذك من "الآن"169.
- ولماذا الآن؟
- لأجل الغريزة170؟
- لم أعد أحبك ذاك الحب الماضي171 وأحبك هذا الحب الحاضر.
- سأذهب إذن إلى حيث تجد أثينا حبنا القديم، سأذهب إلى قرطاجة172.
- قرطاجة؟ بلد التشاؤم والتوحش!
- هناك الرجال ليسوا أقزامًا وليسوا رجالاً173.
- ستقتل بعلهم174 صورته175.
كانت أثينا قد أبحرت بي، وامرأتي تصرخ من ورائي:
- ستقتلك صورتي إن لم تبق معي176!
8
لا أحد في شوارع قرطاجة إلا النساء، آلاف النساء ولا رجل واحد سواي. أين رجالك، يا مدينة الفنيقيين؟ أين ذهبت فحولتك؟ ولماذا شمسك دامية؟ سألت عن شارع الزيزفون177، شارع كل حب مضى، فدلتني عليه امرأة لا تشبه غيرها، كانت تشبه رجلاً يرتدي بدن امرأة. ابتسمَتْ أو أنه ابتسم:
- هكذا نحتال كيلا نذهب إلى القتال.
- أي قتال؟
- هنيبعل178 على أبواب روما وأنت لا تعرف هنيبعل! غريب179 أنت؟
- الغريب180 أنا.
- لا غرباء بيننا.
- بلى. أنا.
- غريب أن تكون غريبًا!
- ليس تمامًا.
- لماذا أنت هنا، في قرطاجة، أيها الغريب؟
- لأجد حبًا قديمًا.
- أنا!
- لا، امرأتي.
- غريبة مثلك؟ أخطأتَ الطريق، يا غريب!
- الحب هو ما أبحث عنه.
- ليس الحب بل السياسة.
- في بلد يخوض الحرب الأمر سيان.
- السياسة والحب ليسا سيان أبدًا، إلا إذا... أنت تبحث عن شارع الزيزفون؟
- نعم. الزيزفون ذو الخشب الأبيض.
- وماذا ستقول للزيزفون، أيها السياسي العاشق؟
- سأقول له إني أعرف بالكلمات181 كيف أفتح أبواب روما.
- كلمات الحب؟
- إن أردت.
- حذار، أيها الغريب! أتبحث عن قتلك؟
- بل عن مجد الزيزفون182.
- لا يخدعك الخشب الأبيض لهذه الشجرة! فروع قاتلة183، تداعب لك الخيال أحلامًا بينما هي أكثر خطرًا من أميلكار، والد هنيبعل.
- تكسرت الفروع القاتلة في الحرب الماضية184.
- يا لك من ساذج، أيها الغريب! إذهب لذلّك، إذن، وليعملوا منك بين فضائحهم الكثيرة أكبر فضيحة؟
وجدت نفسي وحيدًا بين فروع الزيزفون، فأردت العودة من حيث جئت أو الذهاب إلى عصر آخر يكون فيه الزيزفون أرحم. بحثت عن أثينا في مدينة النساء دون أن أجدها، ووجدت نفسي وجهًا لوجه مع الشيخ بعل185، وفي قبضته سيف مدمى هددني به:
- هذا سيف التنفيذ186!
فصحت:
- لكني برئ.
- ليس بريئًا من لا يشارك في الحرب إلى جانب ولدي هنيبعل.
- سأشارك فيها، ولكن على طريقتي.
- على طريقتك! ولدي يقاتل روما منذ سبعة عشر عامًا، وتقول على طريقتك!
- سأنصره بالكلمات وبالصور187، سأنصره بلغة روما، لغة الحقيقة، وسأجعل من الثلج ألا يكون سببًا في هزيمته.
- وما الفائدة التي ستعود عليّ من صورك وكلماتك188؟
دهشت لكلامه:
- أنت أبوه وهو ابنك ونصره هو نصرك!
فغضب:
- أنا أبوه وهو ابني ونصري هو نصري!
وأراد أن يهوي بسيفه على رأسي، فهربت، واختبأت في مركب، وبقيت مختبئًا، وأنا أشاهد مصرع الابن189 وهزيمة الأب ودمار قرطاجة، ثم هبت ريح الزمن البربري، وحملتني إلى نبيٍّ أمه لم تكن العذراء، وأبوه لم يكن يوسف190.
9
في اللحظة التي وضع فيها قدمه على ضفة البحر، قال النبي لي:
- لم تأخرت عن الرحيل؟
- لا أريد الموت، حتى ولو القليل191.
أعاد النبي وقد نفد صبره:
- لم تأخرت عن الرحيل؟
دهشت من كلامه:
\- وصلت الآن وتريدني أن أرحل الآن!
فأوضح:
- الوصول على أرضي رحيل192.
ثم توجه إلى البشر المحيطين به:
- لولا المراكب لما كان البحر193، ولولا البحر لما كانت النفوس. البحر قدره الرحيل، المغامرة القادمة، والسلام المنفيّ. البحر عبودية النهر والجدول وسقوط المطر من فحم السماء. لماذا تكرهون البحر وهو يحبكم أكثر من السمك194؟
قلت:
- نحن نكرهه لأنه يحبنا195.
فهتف:
- أحبوه، إذن، وأثيروا كرهه عليكم196!
فسألته امرأة:
- أتبشر بالكره الآن197؟
فذرف النبي دمعة، وقال:
- أبشر بحب لم تتبعوه، ولم تطمئنوا إليه، ولم تصدقوه بعد أن ماتت أحلام القلوب، وصار الواحد فيكم يقاوم نهوض الأماني، وصار الواحد فيكم يخشى الموت لأجل الحب ولا يخشى الموت لأجل الذل، وصار الواحد فيكم لا يريد الألم إذا كان مبعثه حبًا، ويريده إذا كان مبعثه قطعة فضة أو ضربة سوط من يد لا ترحم198.
الحب اليوم هو فصل القحط199، وبحر الجراد، وهو البحث الدائب عن دمعة لن تسيل من عين حاقدة... هو انتحار الله في القلوب، وهو البوصلة المفقودة.
الحب اليوم هو صلاة الغياب، ونشيد المآتم، وحذاء طفلة أسود، هو اليوم دون جراح، دود الجراح، وقيح المودة.
الحب اليوم دون أجنحة... انتحرت طيور الحب أو قتلتها بندقية صائد تحبه قلوبكم أكثر ما تحبه في الفصل الخامس200 حيث العنادل تضرب عن ترتيل آخر أغنية من طقوس اقتلاع الشجر، لأنكم ستعودون إلى بيوتكم في المساء تعبين منكَرين منكِرين وشفاهكم التي تنزف عاجزة عن الحمد والثناء. الحب اليوم ليس حبًا بعد أن قطعت امرأة شعرها الأسود علامة احتجاج ضدكم، أنتم الذين قطفتم توت العُلَّيْق من شفتيها. الحب اليوم هو سعيكم اللانهائي لقطع حلمتي ثدييها.
تدخلت، وقلت:
- هذا كلام لا يقوله غير عاشق من الماضي ذاق الأُوار من شفتي حبيبته.
لكنه أجابني:
- لا معنى للعشق في مدن العواطف المنجزة201.
وجذبني من يدي، وهو يقول:
- تعال لترى بأم عينك ما كنت ستفعله في أطفالك202.
10
رأيت رجلاً يحمل طفلين ذكرًا وأنثى، وهو يشدهما إلى قلبه بقوة، ومن عينيه الحزينتين تسيل دموع حارقة203، ورأيته يضع رأسيهما على جذع دالية، ثم يحمل فأسًا، وبقوة البرق، يدق بها الرأسين204، فتنطلق الزغاريد، وتحمله الأذرع إلى عروسه205 المنتظرة إياه على مركب ذي شراع، ويمخر المركب.
- ولماذا قتل طفليه؟!
- كان شرط زواجه الثاني206.
- ولماذا وافق؟!
- لأنه يريد الزواج، ويريد البكاء. سيبكي، وسيسعد بكاؤه الوادي207.
- فليبك، إذن، فليبك! فليبك إلى أن يصبح أعمى!
ابتسم النبي محزنًا، وقطف لي عنبًا من الدالية التي سقاها الدم البريء، وراح يقول208:
- كُلْ أحلى العنب منذ عهد آدم209.
فأكلت، وكان أحلى عنب أكلته منذ عهد آدم كما قال. جمع في حضنه موجة، وأعطاني إياها:
- خذ أقسى الموج منذ عهد آدم210.
فأخذت، ولكن الموجة نفذت من بين أصابعي. قطب النبي، وهو يحتفظ بوجه بشوش211، وتابع:
- لقد جعلوا من الحب قيدهم، وهذا الموج حبهم212.
فصحت:
- لقد قتل حبهم213 الطفولة، ثمرة الحب!
ومن جديد، ابتسم النبي محزنًا، وقال:
- لهذا لن يشربوا من نفس الكأس214، ولن يأكلوا من نفس الرغيف، ولن يغنوا، ولن يرقصوا، ولن يفرحوا تحت القمر البربريّ215 فرح الآدميّ بعد أن تمزقت أوتار القيثارة، وصارت النفوس حقولاً مفتوحة للشجر الشرس. انظر إليهم متفرقين أو متساقطين كالأعمدة بعد أن جعلوا من أولادهم ليسوا أولادهم، وظنوا أنهم الواسطة216. لن يعطوهم المحبة ولا الفكرة ولا الروح، لأن من روحهم سيأتي انتقامهم.
نظرت إلى عينيه، فرأيت في إحداهما حورية بيضاء، وفي إحداهما حورية زرقاء، ثم طغى الأزرق على الأبيض، وطغى الموج على جسده217، فذاب، وأنا أنظر من حولي حائرًا... وصلني من بطن البحر رقيق غناء218، فبحثت عن أثينا دون أن أجدها، كان الليل قد هبط بثلاثين ألف نجمة ونجمتين من المرتبة الأولى219 جعلتني أسهر حتى مطلع النجمة الكبرى220، ثم ذهبت في نوم صخري سحقني بلطافة221.
11
أخذتني من يدي سمكة222 إلى النبيّ في بيته المبنيّ من حراشف الألوان والأضواء، كان يجلس في أعماق البحر، وهو يتأمل، والحيتان223 من حوله كثيرة صامتة دون حركة منتظرة أن ينطق بلؤلؤ الكلام. عندما رآني قادمًا على جناحها، نهض لاستقبالي. قدم لي كرسيًا من المرجان، وقال:
- خذ قليل البحر وعظيم الإنسان224!
لمست المرجان بيدي، وقلت:
- ما أسخاك في قليله وما أضناك في كثيره225!
- ما أسخاني في البحر، وما أضناني خارجه. على الرمل لن أقدم لك إلا كرسيًا من حطب، ولن أسقيك إلا ماء من أجاج، وإذا ما طلبت فراشًا أو وسادة فلن أعطيك مما أملك لأني إذا ملكت فهو ملكي وإذا أخذت فهو ملكي.
قبلت قدميه، وابتهلت إليه:
- اجعلني فقط إلى جانبك، في البحر أم في البر، هذا يكفيني، أنا، الجوال226.
- هذا يكفيك ويكفي الحيتان معك في بحر العطاء الطبيعي، أما فوق، على الرمل، وتحت الشجر، فلا وجود لمن يعطي عني الشجر لك والرمل، وقد وزع البشر الأوائل لكلٍّ حصةً فيما بينهم، حتى ليلكة الليل قد اقتسموا عطرها، ومنعوه عن النسيم، أنت لن تسألهم، وهم لن يعطوك، مع أنهم يعرفون أنهم لن يأخذوا معهم ريشة طائر في السفر الأخير227.
- لن أسألهم، وسآخذ.
- ستأخذ بالعنف228، وهذا حق229، ثم ستعطي عن طيب خاطر مثلما تعطي الأشجار. ستأخذ بالعنف، وهذا حق، لأن الحيتان تطلب عونك في اللحظة التي تتركها فيها للكواسر230. ستأخذ بالعنف، وهذا حق، وستعطيهم أنت ما يستحقون أن يستقوا من محيط الموت لتملأ كأسك من الساقية الصغيرة. أنت الجرأة والكرم والثقة! ستعطيهم أنت درسًا في الكرامة، فترفعك صغار الحيتان على أكتافها أعلى من قمة جبل شامخ، وسيكون هذا هو دينها نحوك.
- سأرد الدين بواجب الرضوخ.
- لن يرضخ جبل مهما كان صغيرًا.
ضرب سمكة، فإذا بها تغدو رغيفًا231 اقتسمناه نحن والحضور، ثم شربنا قليلاً من إكسير البحر، وصعدنا نذبح لناس الرمل عجلاً232 سمينًا233.
12
رأتنا أثينا نذبح العجل، فبكت، وسألت: لماذا تذبحون حيوانًا عاملاً خدومًا لحمه المطبوخ بين أسنان البشر لذيذ الطعم234؟ قلنا لها هذه حضارة أخرى، والحيوان العامل مثله مثل البشر العامل لن يفرح بالعمل مثل فرح235 الناي في الماضي، وعمله يصير لعنة له، وإن صنع على الأرض فردوسًا صغيرًا. كانت أثينا قد جاءت مكبلة بقيد روماني كسرناه، ملتفة بثوب نبي كاذب236 مزقناه، أعدنا لها حرية الضوء وصدق العراء، وقلنا لها هذا هو عملنا من أجل أن تبقي حلمًا أبديًا، فحللت237 لنا ذبح العجل، وقالت لنا:
- افعلوا وافعلوا238.
\وتركتنا نعوم في دمه حتى النطاق، فبالدم نبذل، وبالدم ننجز، ولكنه عِجلنا نحن، ولكنه دمنا نحن، لصاحب دمنا ذبحناه، ولأجله نفحنا آخر قطرة عرق239 من جباهنا، وكل ذلك دون أن نتعب أو نملّ، وكل ذلك بكل اندفاعنا، ولكن بلا محبة، إذ كيف نحب صاحب دمنا الذي يَشرب، وآكل عجلنا الذي يَطعم240، هذا عمل غير مقرون بالمحبة، وسيبقى بغير محبة رغم حبنا لك، أثينا الحرية241، أثينا الجمال242!
سأَلَنا النبي:
- لماذا أنتم لا تنتقمون لعجلكم243؟
- لأننا لا نملك المعرفة244.
- لماذا أنتم لا تملكون المعرفة؟
- لأننا لا نملك العمل245.
- لماذا أنتم لا تملكون العمل؟
- لأننا لا نملك لا العشب246 ولا السنديانة247 ولا الريح248.
فصاح النبي:
- ليبق فعلكم لعنة لكم، وليكن بغض الإبداع ومرارة الرغيف وسُمّ الخمر ونشاز الأناشيد!
ثم مشى إلى البحر، و جعل حوتًا أعمى249 يرى، ولما رأى، أتى لأعمى فينا، ومزقه بأسنانه أشد تمزيقًا، وبعد ذلك ذهب إلى النبي متبخترًا متباهيًا مغترًا بحنكة القاتل الذي أصبحه، فلطمه النبي، وأحاله إلى قاطف عنب، ثم جعله على المعصرة من عمر البشر ألف سنة. لم يكن ذلك من العدل شيئَا! أمام عدم التكافؤ بين جريمته وعقابه، عزمت على أن أفعل ما أفعل من أجله، فأثرت غضب الملائكة الطيبين، ولكن لم يكن غضبٌ في أورشليم، كان الهدوء المختلط بتراتيل الكهنة البائعين لقيصر دم الحمامة250.
13
جعلته يهرب من حكم جدير بالتنفيذ251 في رأي النبي لا لسبب إلا التضامن252، فإذا به يعود إلى أصله حوتًا وحشيًا253 يريد مكافأتي على ما صنعت لأجله بافتراسي. قلت ينقص عمله العقل، وتنقص عملي المعرفة. حملني على ذيله، ورماني في فم للموج أعمق من فمه ثم ملأ جوفه بي واعتصرني بلسانه، فأحسست بعضلات لسانه، وهي تنقبض، وهي ترتخي، وكدت أفقد الوعي بعد أن فقدت كل أمل، لكنه قذفني في بطنه254، فسقطت على صندوق مليء بالأسماك الذهبية فيه صندوق، وفي الصندوق صندوق، وفي الصندوق صناديق تبلغ الألف، وألفها أفقدني الصواب255، لكني تماسكت، وطرقت صدر الحوت طالبًا الخروج، فمانع، فهددت، فازداد ممانعة، فقلت له:
- أهذا هو معروف حوت عمله في حوت256؟
فقال لي:
- أي معروف؟
- أهذا هو تضامن عامل مع عامل؟
- أي تضامن؟
- أهذا هو دين متدين مع متدين؟
- أي دين؟
- ابتداء من اليوم، سأكون أنا الزنديق، يا حوت البشر257؟
أطلق نارًا من فمه قبل أن يطلقني، وقال:
- سأبعث لك من يقودك على طريق الهدى258.
قذفني في جزيرة نائية، وجاءني حورية أولاً ثم امرأة سالبة للبّ259 راحت تنزع عن محاسنها قِطَعَها قطعة قطعة، وأنا أرى عنقًا مصبوبًا شهدًا، ونهدًا مجنونًا جنةً، وخصرًا أملس من رمل صحراء ينهار، وفخذًا أطرى من عجين الورد وسكر البحار، وراحت تناديني، فلم أذهب، ودب بي حزن عظيم لأني لم أذهب، كانت لحظة تردد وتوجس استبدلتها بلحظة عبث وتلذذ حين ملأت حضني بلذائذ محاسن لن يعادلها أعظم شيء في الوجود، أعظم شيء بدأ بأعظم فرح، وانتهى بأعظم حزن، إذ وجدتني أضم إبريقًا محطمًا، لا أجد نفسي، ولا نفسي تجدني، والحوت يقهقه، ويقول:
- هذا هو حزنك وذاك هو فرحي260.
وهو يشير تارة إلى الإبريق المحطم وتارة إلى المرأة السالبة للب، ثم حملني، وصلبني، فجاء النبي، وقال لجماعته، وهو يشير برأسه إلى الصليب:
- هذا المكان لي، أنزلوه عنه ريثما تحين اللحظة المناسبة.
أنزلوني عنه، وتركوني إليه. قال لي:
- لن تحزن عليّ أكثر من حزنك عليها.
قلت:
- هذا لأني يتيم النفس.
ووجدتني أبكي بكاء طفل وُلِدَ كبيرًا وغدا شقيًا261.
14
قال لي النبي:
- في الوقت الذي يسقط فيه هزيع الليل الأخير262 سيأتي سيف يقتلك مثلما يقتلني وأنت لا تفعل شيئًا.
قلت للنبي:
- أنت حقيقة كل الطوائف263 تقتلك الطوائف؟
- أنا حقيقتي264!
بدا لي أجمل تمثال نحته فنان265 في الشمس، أصدق نبي بعد نبي266. تناولت تفاحة، وقضمتها، ورحت أتلذذ بالتهامها، فقال لي النبي:
- لن تقاتل معهم من أجلنا مرات ولن تقاتل معي من أجلي مرة.
- على العكس، سأقاتل من أجلك كل مرة تكون فيها في خطر، وسأُقْتَل.
- هذه التفاحة ستمنعك267.
ألقيت التفاحة أرضًا، وسحقتها بقدمي، فقال:
- هذه التفاحة المسحوقة بقدمك ستفعل كل شيء من أجل الاحتفاظ بها، وستقبل كل شيء من أجلها.
- سأرفض كل شيء من أجلك، سأرفض جسدي وبيتي مثلما رفضت امرأتي268.
- ستبني من تخيلاتك جسدك وبيتك وامرأتك في لحظة ضعف، وستنسى أنني مت من أجل بيوت
المدن، ستضيع في الشوارع، ولن تغلق عليك بيتًا من حجر269.
- سأصعد إلى الجبل المقدس270.
- سيخر الجبل المقدس أسفل جثتي.
- سأقطع البحر الكبير271.
- ستُغرق الحيتانُ المؤمنة272 كل صارية فيه.
- سأدمر شهوة الصحارى.
- ستطاردك هذه الشهوة مطاردة الثمر في تخيلاتك273.
وحالما سقط الهزيع الأخير من الليل، سمعنا وقع أقدام وضربات سيوف وصرخات الذين كانوا في الخارج معنا تدوي على دفعات دون أن يفعلوا شيئًا قبل أن يسقطوا موتى، ونبينا لا يكل عن الصراخ فينا:
- اقتلوهم قبل أن يقتلونا!
لكنا لا نفعل شيئًا، ونهرب خوفًا من أن نُقتل274.
وتوجه نبيي بالكلام إليّ:
- اقتلهم قبل أن يقتلوني!
لكني لا أفعل شيئًا، وأهرب خوفًا من أن أُقتل.
أردت استرجاع تفاحتي على الرغم من كل شيء، وفي الوقت نفسه كشفت عن صدري كي يخترقه سيف، وعرضت ظهري كي يكون هدفًا سهلاً لخنجر275، وغدت تفاحتي بيني وبين نبيي قنطرة محطمة.
صاح نبيي بي:
- إذا ضربك أخوك على خدك الأيمن أو خدك الأيسر فاقطع له الخدين276!
فلم أفعل، تركت دمي يتفجر تحت ضربات سيوف أعدائي، ودمي يغدو طوفانًا277 يصل أجنحة الطير. وقبل أن تفيض أنفاس النبي الأخيرة على صليب السيوف، سمعته يهمهم:
- لا قبلة ليهوذا بعد اليوم بل سيف جبان278!
جال بعينيه على جثثنا قبل أن يغلقهما إلى الأبد، ووصمنا بهذه الكلمات إلى ما لا نهاية:
- احملوا ظلم غيركم واسقطوا أسفل عذاباتكم!
15
- يا أثينا الودود، يا ابنة زوس279، امسخيني ذئبًا كي ألتهم كل هؤلاء البشر!
كان عليّ أن أثأر لنبيي الشهيد، وكان عليّ أن أقتل منهم على دفعات، وأجعل من دمهم موجًا، وكان عليّ أن أقاتل بكل ما هو وحشيّ لديّ كل ما هو مدنيّ لديهم، فأعيد الحق، وأنشر العدل، وأقيم السعادة280. أي تمدن هو ذاك الثوب الذي لا يخفي الدمامة؟ وأي تحضر هو ذاك السيف الذي لا ينهي الشناعة؟ سأخرج عليهم خروج البحر على الرمل في ليلة مقمرة، عاريًا مثل حوت، عازمًا مثل ذئب، آملاً مثل قبرة، فأغسل قذارة النفوس ودم السيوف والفاحش في العيون.
راح دمهم يروي الأرض المبتهجة بمخلبي، ويريح الريح المحبورة بشعر جلدي الشوكي، ولكني لم أصمد من أمام كل تلك الجثث التي قتلت، وصوت نبيي الباقي في البرية يهتف بي: لم تنه بعد انتقامك لي! لم تنه بعد انتقامك لي! لم تنه بعد انتقامك لي! كانوا قد طوقوني، ورموني في الشِّباك.
في السجن، تعرفت على لص281 اللصوص282 الذي عرف المذنب283 بعد أن تحرر284. كان رؤوفًا بي وعطوفًا عليّ، فطلبت منه أن يعلمني، فقال:
- عندما ستخرج سأعلمك.
قلت:
- لا علم في الخارج، وفي الخارج الجهل علم، وكل شيء بعد موت النبي قد مات معه أو تبدلت حاله وحال البشر إلى أسوأ الأحوال، فلم يعد البحر يسخو ولا الحقل.
- لأن ناس البحر يكرهون ناس الحقل ولا روح يجمعهم285.
- البحر يكرههم والحقل يكرههم.
- لا قلب ولا عمل ولا روح، وأنا لهذا سأعلمك غير ما يعلمون.
اقتربت منه، وأنا أقاوم عبثًا الأصفاد، وسألته:
- ماذا ستعلمني؟
- كيف ستمارس حريتك.
- أن أصبح لصًا؟
- اللص الذي يسرق لصًا أكبر منه ليس لصًا286.
- في شريعة اللصوص هو لص وهم القضاة.
- هذا لأنها شريعتهم.
- وهذا لأنها جريمتنا.
- هم الجريمة ونحن العقاب287 لكننا إرادة الجريمة، هم الطريق ونحن السالكون فيها إلى اللصوصية بعد أن قتلوا نبيك، هكذا أفهم المعنى الرفيع لعملي والمعنى الوضيع لعملهم، فلا أنت مسؤول ولا أنا مسؤول.
أعطينا الحارس قطعة فضة سرقناها منه، فعزم على أن يقيم على طريقته العدالة، وهرَّبَنا.
16
ذهبنا أنا ولص اللصوص إلى مخيم288 فيه الكثير من المرضى والجوعى، أردنا أن نختبئ بين ضلعيه ريثما ينسانا الحرس، فنذهب إلى الحرير لنسرقه289. قال لنا ناس المخيم أن لا ذهب عندهم ولا قمح، كان الذهب والقمح لروما290، وكانت السلاسل والصخور لهم. قدموا لنا خبزًا عفنًا وجرذًا آنِضًا، وشربنا بولاً عطنًا. راح لص اللصوص يشرب من البول على جرعات كبيرة كمن يشرب أعذب شراب، وراح يأكل الجرذ بشهية السعلاء كمن يأكل أطيب اللحوم. أمتعني أنا أيضًا عطن البول، وطعم حيوان المجاري291. وبعد أن شبعنا، أردنا النوم، فكان غطاؤنا أدعية حقد تدفئ البدن حفظناها عن النبي القتيل قبل أن يغادرنا.
وأنا في عز نومي الصخري، أيقظتني لمسة من أصابع أثينا لينة لين اللبن والعسل على اللسان. هتفت للمفاجأة باسمها، فوضعت على فمي أصابعها، وقالت لي:
- عليك أن تهربني من غضب روما292.
سررت لأول خدمة أقدمها للإلهة.
- وصديقي؟
- أتركه! هو لص يعرف وقت الحاجة كيف يسرق روحه، أما أنت، فعليك أن تسرق لي روحي.
حملتُ أثينا، ورحت أركض بها بين الآهة والشخير، ثم، وهي تلاحظ ضعفي أمام ثقلها، ركَضَت أثينا في قدميّ، وما لبثت أن اخترقت قصر الحاكم الروماني293. اندهشت، وتعجبت:
- أهرّبك من غضب روما، فتأتين بي إلى قصرها؟!
قهقهت أثينا ساخرة، وقالت:
- في القصر امرأتك، ابنة إيزيس، التي سيتزوجها الحاكم294.
واختفت.
جلست أنظر من حولي، وأبكي... وبعد قليل، جاءت امرأتي295 بصحبة زوجها القادم، وقالت له عابسة، وهي تومئ برأسها نحوي:
- انظر إلى رجلي يبكي في ليلة زفافي، اقتله لأنه عاجز عن الفرح!
قال الحاكم.
- لا قانون يسمح بقتل التعيس.
- أنت من أرادته روما طاغية مدى الحياة، اقتله، وليكن فرحي قانونك296!
- سأقتله، إذن، سأقتله! سأقتله لغناء العنادل ولأوتار القيثار ولندى الصباح على الخمائل! سأقتله بفرح ليسود فرحك!
وابتسم الحاكم، وهو يبدو كمن تجرد من كل شيء يحيط به.
والحاكم غائب تمامًا، وعلى شفتيه ابتسامته الثملة، سحبت خنجره، وطعنته في قلبه المثلج، ثم حملت امرأتي عنوة، واختفيت معها في غابة الوحوش297.
استطعت لمدة الاحتماء بجسدها298 من السيوف، كنت أنام في النهار، وأنهض في الليل بعد أن جعلت من أبناء الوطاويط إخوة أوفياء وأخوات299 إلى أن فاجأتني امرأتي والحرس برفقتها وحيوان الخلد في فصل الشتاء300، انتزعوني من قلب الوفاء، ورموني في قلب المِراء، وقالوا لي:
- لن نحاكمك، فلا قانون ينطبق على حالتك الجديدة، ستبقى في السجن حتى آخر أيامك، وسنترك لك حرية الموت البطيء.
17
جاء صديقي، لص اللصوص، وحررني، فقلت له:
- عرفت البريء بعد أن حررني301... الحرية معرفتي!
فسخر مني:
- أمجنون أنت؟
- مجنون أنا بالحرية302!
- الحرية وهم اسمه الحرية.
- هذا الوهم كان امرأتي، هذا الوهم كان أثينا، هذا الوهم كان طائرًا مرّ بقضبان السجن، فألقى عليّ تحية المساء، وحلق في الفضاء. ومع ذلك...
سكتُّ قبل أن أضيف:
- الحرية في رأسي.
- وماذا تنتظر من أجل تحقيق هدف بروميثيوس، هدفك؟
- لم أزل أخشى موت أثينا.
- أثينا لن تموت، فأين إذن سلطة الحرية من خارج عقلك؟
انطلقت أبواق آتية من القصر، قالوا لنا إن الحاكم لم يمت، ووزعوا على ناس المخيم لحم عنز وبعض الخل، وقامت حلقات الرقص، وامتدت، وراح الليل يخبّ بقدميه المقيدتين مثل عملاق أعمى يملأ الفضاء في محاولة أخيرة منه للحيلولة دون ذوبانه في البرتقال الحر. قلت لنفسي: لا سلام في النفوس، في النفوس النفور الموحد، ولا وئام بينها، بينها الخصام السيد، من هنا كل هذا "الانسجام"، وقد همد العقل، وكمد الهوى، ومخر الجميع في عباب دم القتيل!
قلت لصديقي لص اللصوص:
- سأقوم بأول فعل حر ضد أثينا.
نظر في عينيّ، وانتظر.
بدأت بهز الفكر، ثم أخذت بالنفخ على المتحرك303، وبضرب ريح أثينا حتى جعلتها تقعي تحت أقدام المنهزمين. انفكت حلقات الرقص، وفر البشر بأجسادهم. نسوا صغارهم يحبون جنبًا إلى جنب مع علق موسى والدود الرضيع.
قال لي صديقي لص اللصوص:
- استعملت عقلك فأهلكت أهلك!
- استعملت عقلي على هواي لأن وعيي لن يكون الشرعية304، وهذا مصير العنقاء التي لن تنهض من نهاية بدايتها تبدأ في زمننا.
راح الحرس يجرون في أعقابي، وأنا في أعقاب ملاك الموت، في مخيم كالجثة ميت. أردت أن أدخل أورشليم دخول الفاتحين، لكنهم أغلقوا في وجهي أبواب أسوارها المفتوحة للجميع. ولما سمعت بالطفولة والشعر في مدينة ذات الأبواب الأربعة205، عزمت على الذهاب هناك في الحال.
18
تنهدم الأسوار في لحظة تمضي، وفي اللحظة الماضية مضيت مع أرسطو306 في الفُلْكِ، كان الموج في دجلة يضفي إلى المعرفة تقدم الموج في نهر أعجمي307، وكان الطير أخًا للناس، كان أسود، وكان لا يطير مع الطيور الفرادى، وعاصفة الأجنحة كانت شعرًا. نظرت في الأرجاء، فلم أر كلبًا، ولم أر جرذًا، ولم أر ذئبًا. سبرت جرحًا، فلم أجد إلا بريقًا، وجلوت البريق، فلم أجد إلا كلامًا، وفحصت الكلام، فلم أجد إلا ذهبًا308. كان ذهب الكلام فكرة تدفعني إلى النظر من حولي خوفًا من الوقوع على سيف، فوقعت على صبية تشبه أثينا309، وعندما سألتها:
- هل أنت أثينا؟
قالت:
- كنت أثينا.
قلت:
- أثينا كانت الفن، وكانت الجمال.
قالت:
- أنا الفن، وأنا الجمال.
قلت:
- أثينا صارت الجريمة، وصارت الدمار310.
قالت:
- لا أعرف عن هذه شيئًا.
أخذتني من يدي، وصعدت بي إلى بيت على ظهر نخلة311، وتعرت، ومن بعد عرتني، ولمست ثديي، ثم أخذتني بين ساقيها، وجعلتني أفتح باب الجنة، أول الأبواب. كان العقل واللذة هما المحراب، والبشر يعرفون بعضهم أكثر مما يعرفون أنفسهم، وكأن الماضي لحظة صلاة، والحاضر لمسة، وكأن الخيانة حجر لم ينحت، والسلطة جزيرة، وكأن الموت من شأن الآخرين، وإن أتى فهو احتفال، وكأن الكره حكاية قديمة، والحقد أقدم، وكأن الحسد والغيرة والاستغابة عوالم مدفونة، والصداقة خبز الصباح، وكأن الكل صورة للقلب، والقلب كل الصورة، فأين أنا من لحظة ماضية؟ وأين أنا في صيرورة لحظة حاضرة؟
أحببت الصبية من كل قلبي، فأخذتني إلى امرأة اسمها شهرزاد، وقالت لي:
- أقدم لك أمي.
وأنا عندما نظرت، رأيتها في مثل شباب ابنتها، فحيرتني، لكنها ابتسمت، وأوضحت:
- أنا لحظة لا تمضي312.
قلت:
- هذا ما لم يعرفه أرسطو، ما لن يعرفه.
ابتسمت، مرة أخرى، وقالت:
- لقد مات شهريار قتيلا.
قلت:
- أعرف أن لشهريار حكاية لم ترويها.
ابتسمت، مرة أخرى وأخرى، وقالت:
- حكايته سأرويها لك بكلمات ثلاث: قتلت شهرزاد شهريار313!
ثم حددت ساعة الجريمة:
- في الليلة الأولى، ساعة قبل أن يقطع الليل سيف الانتصاف314!
19
غيّر الاعتراف الحال، كسر المطلق، وجمع البشر حول سلطة السيف لا سلطة الكلمات. وبصحبة أرسطو من باب السلطان315 دخلت، فوجدت سوقًا اسمها من اسمه، وناسها بين سيد وعبد، سيوفها تطيح بالرقاب لتباع، ونخيلها نساء تُشرى.
قال لي أرسطو وهو يعود إلى الفلك:
- لن أذهب أبعد مما ذهبت، فهذا العالم ليس عالمي.
- لا وليس عالمي.
قلت لأرسطو وأنا أعود إلى الفلك بدوري.
كان الدم يتفجر، وفي الدم316 فلك أرسطو يغرق بعد أن تركني على رمل نهد ظل متحدًا بقوة الجمال. كان اليأس لم يدخل قلبي، ولما يزل في قلبي الحب الغريب. أكان ذلك حلمًا؟ ولم يكن ذلك حلمًا. كنا في الحلم أو كان الحلم فينا. أكان ذلك مطلقًا؟ ولم يكن ذلك مطلقًا. كنا في المطلق أو كان المطلق فينا. أكان ذلك طفولة؟ ولم يكن ذلك طفولة. كنا في الطفولة أو كانت الطفولة فينا. ما ذنبنا نحن إذا ما ارتكبت شهرزاد الجريمة؟ ما ذنبنا؟
خرجت أثينا من جذع نخلة منكسرة، فقلت لها:
- أثينا أنت هذه المدينة317! أثينا أنت نحن!
فنفت:
- شهرزاد أنتم وأنتم شهريار318.
حملت سيفًا، وأردت قتل أثينا مرتين319، فمنعني البرق320 من التنفيذ السعيد. قالت لي أثينا:
- لسوف أحميك من قتلك لي مرةً ومرةً لظلي.
اختفت في الانكسار، وتحولت النخلة إلى صورة321، والصورة إلى انتصار. راح البشر يهتفون للصورة، وفي قلوبهم صورة أخرى رحت أبحث فيها عن مستقبل بعيد، فرأيت إنجليزي الهوية يخرج منها، ويحطم الباب المعظم. فزعْتُ على الصبية، وذهبتُ أبحث عنها في الفضاء المريع، ولما وجدتها لم تتعرف عليّ، كانت قد خرجت من الحلم الذي حسبته حلمًا. سألتها أين أمها، فقدمت لي بغلة هرمة، صعدت على ظهرها، وراحت تسوط ظهرها، وراحت في الرمل تعدو بها، وراحت تغدو نجمة انطفأت.
وأنا أقطع من زقاق إلى زقاق، قطَعَتْ طريقي رماح، فرأيت الموت على صورة امرأة جذبتني إلى جمال الأنصال وسحر شفراتها ومتعة جراحها وروعة إيغالها في الجسد قبل أن يسلم الروح.
قالت لي امرأة:
- أنا المرأة الأخرى.
- أية امرأة أخرى؟
- المرأة الأخرى التي ليس مثلها امرأة، ولكني باب الظفر.
- باب الظفر؟
- ب-ا-ب-الظ-ظ-ف-ر!
ودفعتني برمح نحو باب الظفرية قبل أن تعهد إليّ:
- ستعبر منه إلى انتصار الرماح.
حلمت بالمعارك، خلت الرماح تغوص في خاصرة322، وغدا شوقي إلى اللحظة التي قتلت شهرزاد فيها سلطانها عظيمًا. أحسست بنفسي إنسان نفسي، أحسست في نفسي بإنسانيتي، فمن قوة الرمح تأتي، ومن قطرة دم توهجت على فلك غارق تأتي. حملت الرمح، وصوبته نحو قلبي، فخرج من قلبي عملاق323 بألف عين حطم الأحصنة الخشبية في الحلبة، ونادى بالبشر ألا حيّ على القتال، فقاتلوا ببأس تنين يحرق الطريق بنار العرب على العرب وعلى الأعداء، وطلع القمر على الجبهة الشرقية324 صورة للدم السخين، وكان ليل الغد السعيد أكحل من شعر امرأة بيضاء وأسخى325، وكان ليل الدم وليل الأمل326.
20
من باب الظفرية دخلت إلى المجد القديم، إلى جانبي شهريار سينتصر327، وفي الهودج شهرزاد ستنتظر328. كان الموت عدالة الرماح في ازدهار المعارك329، وقوة الحكمة القديمة، وضريبة المجد أو الانهيار، لا يسمح إلا بالظفر، وبحكاية أخرى سيجاز لها وحدها في القول المباح330.
وفي الضباب، كانت تنشأ قصور أو تندثر331، وتقوم سيوف وتقعد. وفي انعدام الرؤية، كانت تتضح الهزيمة أو تغمض، فلا انتصار ممكن ولا هزيمة ممكنة لأثينا البربرية332.
أقمنا في مكان سيصبح ضريحًا في الأزمنة القادمة333، لأن موتنا لم يكن لنا في ذلك المكان، وفي الضباب هناك بذرنا الموت، وجعلنا نعبث معه، وجعلناه يعبث مع غيرنا ممن كانوا معنا، بينما شهرزاد في هودجها متشحة بالسواد.
عندما كان انتصار السيوف، سألتها عن سبب حزنها، فأجابت:
- هو حزن آخر من نسق آخر.
ولم تفصح أكثر، كان كلامها كله ألغازًا. ظننت أني أعرف أي خطر تتحاشى الكشف عنه، فتظاهرت بالمرض كيلا أشارك في المعركة القادمة. انعزلت، وكتبت قصيدة334، وانعزلت، واستحضرت جسدًا335، وانعزلت، وعزلت النفس في قفص، وأحكمت الإغلاق. رحت أسمع بوضوح صليل السيوف وصهيل الخيول وصرخات ما قبل الموت، واقتربت أكثر من جحيم القتال، وسر الرجم، وغضب الآلهة. اقتربت أكثر من الرؤية336، ومن الطعم337، ومن الجسد338، وصرخت من القفص:
- أنا لا أتخيل أنا أرى!
أنا لا أتذوق أنا أُطعم!
أنا لا أشتهي أنا في الجسد!
ووجدتني من بعد على صهوة فرس بيضاء أقتل من الأعداء ألفًا، وفي الهودج تنبني كل الفاجعة، إذ بينا أنا أنتقل من نصر إلى نصر، كانت أثينا تقتل شهرزاد339.
سألتها في الدم المباح340:
- ماذا فعلت، أثينا؟ ماذا فعلت بنفسك الجديدة341؟
تناولت أثينا خنجرًا كان مرميًا، وضربته في كبد ألف ليلة وليلة، واقتطعت من الكبد ليلة، وراحت تلوكها ملتذة حتى قر لها القرار لعقود342.
هدمني التعب، وحط الظلام من حولي، فنمت نومًا عميقًا، وفي الصباح، فتحت عينيّ على الدنيا، وهي حطام. عندما سألت عن سبب الهزيمة، استغرب البشر سؤالي، وسألوني عن أية هزيمة أسأل، فاستغربت سؤالهم. بدأ البشر برفع أقواس النصر فوق الحطام، وعلى الجثث، وفي الدخان343، فأردت أن أترك المدينة إلى مدينة، وكان عليّ أن أدخل من باب الحلبة، وأن أمضي بميدان السباق، وأن أفك الطلسم.
21
ولن ينفك الطلسم إلا إذا انفك التنين عن التنين، وسقطت الصورة344. رأيت فوق الباب كيف انعقد التنينان من حول الخليفة345، فهل منعا بني عثمان من إفناء سلطة كانت ضعيفة346؟ وما كان يشدني في اللحظة القادمة ذاك الحتميّ المجهول347، فالتنين كان يجهل، وصاحبه348 كان يجهل، وصاحب صاحبه349 كان يجهل ما انفك طلسمه بعد مئات السنين.
توقعت أن أرى في ميدان السباق خيولاً تجري وأناسًا يراهنون، لكني رأيت من يلعب بصولجان مع صولجان إلى أن يتحطم الصولجان، واللاعبون بالعشرات، والبشر بالعشرات، يراهنون على الغالب من الغالب، وأصواتهم تعلو، تدق أبواب السماء. كانت أخبار حصار المغول350 لا تهم البشر بقدر ما تهمهم أخبار هذا الغالب أو ذاك، وكان الغالبون قليلين، وأصحاب الأحلام كثيرين بعدما اتفق الخليفة مع المغول -دون أن يتفق- على أن يراهن البشر إلى ما لا نهاية، فبالحصار والصولجان كان الخليفة يحتمي إلى ما لا نهاية.
في الليل الدامس، جاءني صوت، كنت نائمًا، فأيقظتني يد، وعندما نظرت، رأيت تلك الصبية التي غدت نجمة انطفأت، يائسة يأس أرملة. أخذتني إلى فجوة في السور، وخرجت بي إلى ظهور المغول.
قالت لي:
- من هنا اذهب إلى الرجل العادل.
قلت:
- الظلام دامس، لكنه لن يمنع المغول من تعقب آثاري؟
قالت:
- اذهب أو لا تذهب.
وأرادت الذهاب، فأمسكت بها، ورجوتها:
- أعطني يأسك زادًا.
تفاجأت:
- كل هذا المصاب ولم تيأس اليأس الكافي!
التقطت غزالاً، ونحرته، وأنا أرجوها ألا تفعل، فحط في صدري يأس عظيم. قالت:
- هاءَنَذا أعطيك يأسي، فاذهب الآن، ولا تعد إلا بالعدل.
تربعت صورة الحرب في خيالي، فسألت:
- العدل أم السلم؟
أكدت:
- العدل.
تربعت صورة الصولجان في خيالي، فسألت:
- العدل أم الحرية؟
أعادت:
- العدل.
تربعت صورتها الأولى في خيالي، فسألت
- العدل أم الرفاهية؟
- العدل، العدل...
تربعت صورتها الأولى351 في خيالي من جديد، فحملت نفسي، وسرت في الطريق الدامسة نحو الهدف المستحيل. كنت على أشد يأسي، وعينا الغزال المُرَوَّعَتان تطاردانني، وتدفعانني إلى مطلب لا أبتغيه، أنجزه هناك، قرب شخص الرجل العادل352، في مدينة ذات الأبواب العشرة353.
22
وأنا أقترب من ساحة جامع الفناء، راحت تصلني قرعات طبول ودفوف وأهازيج بعيدة قريبة متجزئة سوية متهادية متموجة تعلو وتهبط تنتظم وتختلط كلما تقدمت من الخط الفاصل بين جهنم وجهنم354، ثم اكتسحتني الأصوات والصور، وجرفتني في صخب عدم التماثل المماثل للبشر فيما بينهم عبر التماثل الأول355.
رأيت صِبية قصارًا على رؤوسهم طرابيش يُدَوّرون خصورهم على إيقاع الطبول والدفوف356، ويدورون بأجانب البشر من أجل درهم أو بعض درهم. داروا بي، بعضهم من الحماس راح يتشقلب بين قدميّ، وبعضهم راح يتعلق بذراعيّ، فأعطيت ما أعطيت ليتركوني إلى آخرين.
ورأيت دراويش يرقّصون ثعابين وعقارب وسحالي على أنغام مزمار حزين، وثلاثة منهم حمر الخدود والقدود يرقصون رقص الحيوان الأليف، فلا جموح في حركاتهم، ولا توحش في وثباتهم، فلم يسعدني المنظر. انتزع أحدهم فجأة بواءً من الخمود، وجاء به يتموج على ذراعي357. زلق الصِلّ الهنديّ على كتفي، ومن كتفي دار بعنقي، فرماني في فوضى اللامتوقع وحمى الدهشة، والبواء يطلق لسانه ذا الألف شعبة، وهو يمس بشرتي، فأحس بنفَسِه الساخن، وتمتزج رائحة سكر سُمّه بنفَسِي. هدرت الطبول أعلى ما يكون الهدير، وخدرني الذعر والنفور، ولأضع حدًا لمشهد كنت ممثلاً فيه على الرغم مني، ناولت الرجل درهمًا بأصابع آلية، وفي الحال، حررني من الوحش.
لم أدرك ما لم أدرك إلا وأنا وسط أناس يلتفون بأحد الملتحين. قلت لنفسي هذا هو الرجل العادل، ولم يكنه، لأن الملتحي خلع ثيابه، وبدأ يضرب المسامير الواحد تلو الواحد في جسده، ورؤوس المسامير تنكسر الرأس تلو الرأس تحت مطرقته. كانت بشرته أصلب من الحجر358، فقال بعضهم هذا من قوة الإيمان، وقال بعضهم هذا من فعل الأفيون، وهناك من قال الرجل ليس برجل بل جني على شكل رجل!
سألت البشر عن الرجل العادل، فأشاروا إلى جهة دون مبالاة. دفعت نفسي بين أجساد نافذة الرائحة والثياب، وأطللت مع المطلين لأرى أثينا في ثوب فلاحة مغربية فقيرة. كانت تقرأ طالع النجوم في منتصف النهار، وتفسر الأحلام، وتقول في القادمات من الآلام359، فصحت بالبشر:
- أيها الناس حذار! ما هذه سوى أثينا تخفت في ثوب ليس ثوبها لتقول لكم غير ما لكم، فتملك منكم أمرًا تعجزون عن إدراكه!
ما أن رأتني أثينا حتى سقطت أرضًا، وتحولت إلى شيطان360. انتفخ بطنها من الغضب انتفاخًا عظيمًا، وراحت تتخبط، وتصرخ، كمن جاءها المخاض، وراحت تخبط الأرض بقدميها، وتصرخ أشد صراخ، وتخبط الأرض بقدميها، وتصرخ أشد صراخ، وتعود وتخبط الأرض بقدميها، وتصرخ أشد صراخ، وانتهى بها الأمر إلى إبعاد ساقيها لتطلق سلاسل من ملايين الجرذان361. اكتسحت الجرذان الساحة الشهيرة، والبشر يفرون في كل صوب، والرجل العادل ينظر نحوي من أعلى مئذنة، ويشير إليّ بالاقتراب.
23
قال لي الرجل العادل:
- هؤلاء لم يختاروا362، فهم يخشون ويترددون بعد أن وكلوا أنفسهم إلى نزوات القلوب.
قلت للرجل العادل:
- اختار الألم363 عنهم.
فقال وهو يقودني إلى باب زهريّ اللون وكأنه بابٌ لكهف:
- لا أحد عبد لألمه والكل عبد لصانعه! وقبل أن تعرف العقول أسرار الأيام وغيوب الليالي، قبل أن يقام العدل بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان واللا-إنسان، سأريك بعض نماذج مما يدعى بسحر الشرق364، لكتاب لم يُكتب، ولحكمة لم تُصغ، ولآخر غير آخر365 سينظر إلى المفجع فينا، وتبهجه حالتنا. النماذج عشرة، وأبواب المدينة عشرة، لكل باب نموذجه وصورة بشره، من الحجر قام الباب، ومن البشر قامت الصورة، والبشر والحجر عنصران في قصص الحياة... هذا اسمه باب العريسة366، أنّثه البشر لأن امرأة تزوجت من مجنون367 لم يشأ أن تنجب له صبيًا368 يسقط ضحيةَ أقل فعل عاقل عليه، فيغدو على غراره مجنونًا، ونذر على نفسه أن يقيم عرسًا لابنته العريسة لم تر المدينة مثله مثيلاً، إلا أن الزوجة، وهي في شهرها الثالث، ما أن اجتازت عتبة الباب حتى أسقطت الجنين الذي كان بنتًا، مما أفجع المجنون، وزاده الأمر جنونًا على جنون، فكرر النذر، وكررت امرأته الإسقاط سبع مرات على عتبة الباب دومًا، وفي كل مرة كان الجنين بنتًا، رغم كل تعاويذ الأولياء، وكل وصفات العجائز من النساء، إلى أن قال له ناسك زاهد بالتضحية بنفسه، حياته مقابل حياة الجنين، فعزم على الذهاب إلى القتال في الصحراء369، ليقتل جنونه أول ما يقتل، وبعد ذلك ليمكنه أن يقتل نفسه، فينقذ آخر جنين تركه يكبر في بطن الألم... راح الجنين بالفعل يكبر، صار عمره أربعة شهور، ولم يعد الباب يفعل ما كان يفعل. استبشر الجميع بالأمر خيرًا370، وبعثوا إلى المجنون يخبرونه بالبطن الهنيء، ويقولون له أن لا حاجة له إلى قتل نفسه أو قتل جنونه، فقتل النفس جنون، والجنون عين العقل في هذا الزمن، وأخذوا يذكّرونه بعرس العريسة، حلمه وقد غدا حلمهم جميعًا. انتظروا أن يأتيهم منه خبر، ولم يأتهم منه أي خبر. كانت الحرب قد قتلت الكثيرين، ومحت وجوه الكثيرين، فلم يعد يُعرف المجنون من العاقل371، ولا الأواخر من الأوائل. مضى ذلك إلى أن كانت ليلة دامسة، سمع البشر فيها صرخات تأتي من الباب، قالوا عنها صرخات شياطين، فلم يخرجوا ليروا. وفي الصباح، وجدوا جثة امرأة المجنون على العتبة وهي تغرق في الدم والطين، وفي حضنها بنت وليدة كالقمر قتيلة372... قال بعضهم القاتل هو زوجها لأنه عاد عن رغبته، وهو يريد الآن ابنًا صبيًا، يغدو مثله مجنونًا، ليصمد في القتال، وقال بعضهم القاتل هو عشيقها، فما كبر الجنين إلا لأن أباه ليس أباه، والعشيق لم يشأ أن يترك من ورائه نسلاً مهينًا، وقال غير هؤلاء وأولئك هي التي قتلت نفسها بعد ابنتها لأنها تكره البنات، وقال غير غير هؤلاء وأولئك قتلها الرغيف الفقيد في مملكة الجوع، وقال غير غير غير هؤلاء وأولئك قتلها أخوها أو أبوها لأنهما لم يكونا أخًا لها أو أبًا والجنين ابن نكاحٍ للمحارم، وقلت أنا قتلتها الأقدام التي تعبر الباب كل يوم دون أن تعرف القاتل373.
24
قلت للرجل العادل:
- قَتَلَ الجنين أمه ليتهم الناس بعضهم بعضًا.
فغضب الرجل العادل:
- لا يقتل القمر الليل الذي يكبر في بطنه374.
احتاج إلى هنيهة صمت من أجل أن يذهب الغضب عنه قبل أن يضيف:
- لكنه أشار إلى شيء فينا. لسنا نحن المذنب على أي حال. استعمل المذنب قبضتنا، ولكننا لسنا القبضة. استخدم حلمنا، ولكننا لسنا الحلم.
- تقول "نحن" لأنك العادل في كل شيء.
- ولأنها أمتي مهما تكن أمتي375.
جذبني من ذراعي، وسار بي إلى باب الرب. عبرناه إلى مقابر على يسارنا، فوضع أمامه حجرًا، وراح يصلي. لما انتهى، قبّل الحجر، وفتح قبرًا أخرج منه إبريق ماء. شرب، وأشربني، وعاد إلى التعبد. جاءت بعض نساء في ثوب أسود وغطاء أبيض، وراحت تتضرع عند قدم الرجل العادل. بعد ساعة، نهض الرجل العادل، ونهضت النساء. تجاوز الذات إلى الذات، وتجاوزَتِ النساء الذات إلى سور قصر376، وأخذَتْ تضرب السور بأكفها إلى أن نزفت أكفها، والرجل العادل لا يفعل شيئًا لها. بدا غير آبه إلا بنفسه. جاء الحرس، وطردوا الرجل العادل بينا تركوا النساء تفعل ما تفعل. وفي اللحظة نفسها، رأيت فرسًا بيضاء377 ملطخة بالدم378 تعبر باب الرب، فامتطاها الرجل العادل، وغادر المكان. جلست على حجر، وأنا أخفض رأسي ذاهلاً. وبينا أنا أرفع رأسي، وجدت الرجل العادل يأتي باتجاهي مترجلاً، وبين ذراعيه جثة القمر379. أودعني الجثة، وطلب مني أن أدفنها تحت السور. قال لي سأتضرع إلى السماء كي تأتي لعونك، وعندما ذهبت بالجثة إلى هناك لم أجد النساء، ولكني رأيت بقع دم، وبعض طيور غريبة تشرب منها. وفي اللحظة التي أنهيت فيها دفن الجثة تساقط السور، فرأيت في القصر بشرًا لا يشبهون البشر، عراة، كلهم يتشابهون380. رفعوا التراب عن جثة البنت الوليدة، وحملوها إلى الداخل، وبدأوا يقيمون المراسم من حولها استعدادًا لأكلها. رأيت من وراء زجاج النوافذ ذات النساء التي رأيت في ثوبها الأسود381 وغطاء رأسها الأبيض382 تُقدم للبشر الغريبين دمًا حسبته في البداية نبيذًا. كانت الطيور الغريبة الشنيعة383 قد بدأت تضرب بمناقيرها الزجاج حتى حطمته، وغزت كل ركن من أركان القصر، ثم اختفت بعيدًا أكثر ما يكون البعد في الشفق الدامي.
رأيت ابتسامة على فم الرجل العادل، فسألته عن سببها في مثل تلك الحال المفجعة. أشار إلى جثة البنت الوليدة الجميلة، وقال:
- أبتسم للقمر لما صار جثة وللجثة لما صارت قمرًا! للقمر دم، وللدم قمر، وقمر الدم ثورة أطاحت بأركان القصر!
جاء رجل تبدو عليه أمارات الجنون، حمل الجثة بين ذراعيه، وذهب بها تحت سماء فيها ملايين النجوم، فقال الرجل العادل:
- للمرة الأولى يجري قانون عدلي.
وفي الليل، أخذ الرجل العادل، طوال الليل، يصلي، ويشكر، ويهمهم شيئًا مثل "عدالة الدم" و"انتقام الطفولة" و"جمال الرؤيا". وعند الفجر، عزم على الذهاب إلى "أوريكا"384، المدينة الجبلية الأقرب إلى باب السماء، هناك حيث كان يأمل في نشر قانونه.
25
وما أن اجتزنا باب القصيبة في الطريق الصاعدة إلى أوريكا حتى أتانا صوت قصبة من بين أشجار الزيتون، وراحت صورة الربابة المسحورة385 تكتنف الأفق المعانق للجبل الغائب في الثلج والسحاب الذي يغشى الأرض، وكأنه معلق على حافة الوجود.
قال الرجل العادل:
- من هذا الصوت يخرج الذين سيقيمون العدل معي.
إذا بامرأة تدفع رجلها تحت عجلات سيارة مسرعة، وتقتله386. ولما سألها الرجل العادل عن سبب صنيعها، قالت:
- ما سأُعوّض به من مال سيُمَكّنني من دفع ما عليه من ديون، فرجلي الكافر بالنعمة هذا قد باع أرضه لمن اشترى أرضه، وتركني ذليلة الحاجة.
قال لها الرجل العادل:
- خذي مالك واتبعيني.
وإذا برجل يهرب من السجن، وفي قبضته سكين يقطر دمًا، ولما سأله الرجل العادل عن سبب صنيعه، قال:
- بما أنهم اعتقلوني بريئًا دون جريمة هربت مذنبًا دون براءة بعد أن طعنت سجاني في القلب387.
قال له الرجل العادل:
- خذ سكينك واتبعني.
وإذا بصبي يسرق زيتونًا، وكلاب تهدد بالانقضاض عليه، فيقتل أحدها، ولما سأله الرجل العادل عن سبب صنيعه، قال:
- شجر الزيتون هذا زرعه جدي، وأنا وأمي وإخوتي وأخواتي بعد موت أبي ننام على جوع، وننهض على جوع388.
ضرب الرجل العادل الكلاب بعصاه حتى طردها، وقال للصبي:
- خذ زيتونك واتبعني.
وإذا بأرنب يطارد أرنبًا إلى أن يمسك به، ويقتله، ولما سأله الرجل العادل عن سبب صنيعه، قال:
- لأنه أخ جبان، وهذه صفة ورثناها عن أمنا وأبينا، وعلى الجبن أن يعاقب389.
أعطاه الرجل العادل عصا تشبه عصاه، وقال له:
- خذ شجاعتك واتبعني.
وإذا بهدهد يقص تاج هدهد بمقص ذهبي، فيقتل هذا ذاك، ولما سأله الرجل العادل عن سبب صنيعه، قال:
- لأنه كان عاجزًا عن الانتحار لبهائه، فكان الحل أن يقص لي تاجي لأقتله انتقامًا لبهائي.
أعطاه الرجل العادل فولارَ الإسلام، وقال له:
- خذ بهاءك واتبعني.
وهكذا مضى بكل القتلة بشرًا وطيرًا وحيوانًا، ولهم في القتل حقهم، وطلب منهم أن يتبعوه. قال لي: "لا أفضل هناك من الاختلاف، وفي اختلافهم ليست المساواة التي تجمعهم من حولي، وإنما اللامساواة، مصدر الظلم والبؤس." سيكونون الحَواريين أتباعه الذين يبحث عنهم لإقامة قانونه.
كنا قد وصلنا إلى القمم البيضاء في "أوكايمدن"390 قبل بلوغ أوريكا، والريح القارسة تهب علينا، فحملنا الثلج بجرأة أبنائه والريح، فزلقا من بين أصابعنا. عادت الريح تزفر والثلج يسقط وكلاهما يمنعنا من الذهاب إلى حيث يريد الرجل العادل الذهاب. حملتنا الريح، وعلا الثلج حتى خصورنا، فقال لنا الرجل العادل إن السماء تريد أن تكون الأرضُ شغلنا والبشرُ بدل الملائكة. كانت تلك رسالة الثلج والريح التي منعتنا من الذهاب إلى أوريكا، مدينة الجبل الأقرب إلى باب السماء.
قررنا ألا نبقى حتى ولو القليل على الرغم من تعبنا، وعدنا إلى مدينة الأبواب العشرة، وأمام باب أحمر نصبنا خيامنا لنستريح قبل أن نجتازه. وزع علينا الرجل العادل خبزًا وغطاء بينما كان الحرس في الطرف الآخر يقتلون البشر دون أن نعلم إذا ما كان ذلك للانتقام أم للتسلي. سمعنا زفرات الموت، ومع ذلك، قال الرجل العادل لنا:
- هذه زفرات الحياة391.
26
تحولت زفرات الموت إلى صيحات فجور، فاجتزنا بصحبة الرجل العادل باب أحمر لنرى النساء عاريات أو شبه عاريات بين أذرع الحرس في الدم والرماد. كان بعض الحرس يسوطون الرجال الذين لم يقتلوهم ليقوموا مع النساء بفعل الحرام عنوة، والدم برك، والرماد طبقات، آهات اللذة آهات الوجع، وآهات الوجع آهات اللذة. وتختلط الأفخاذ والأذرع بالأذرع والأفخاذ، أفخاذ طويلة طرية وأذرع قوية لا نهائية تتموج على بعضها كالحيايا، وهذه صورة من صور جهنم الحمراء392 التي حكى عنها الرسل والأنبياء، والرجل العادل يحدق في الصورة، فيرى القوي يتجبر بالضعيف والضعيف بالأضعف في اللذة والدم والرماد. وفي لحظة من اللحظات، امحت من الصورة أعضاء العناق393، فلم نعد نفرق بين أنثى وذكر، وذكر وأنثى، صار الواحد يشبه الواحد كالسردين يشبه السردين، وصار الكل واحدًا والواحد كلاً كشجرة صفصاف باكية394 تعرت فروعها.
وعندما أراد الرجل العادل أن يقيم قانونه في اللذة التي ليست لذةً، والألم الذي ليس ألمًا، والعقاب الذي ليس عقابًا، منعه الحرس والخاضعون للحرس. ظهرت له أثينا عارية كما ولدتها أمها، أجمل جميلات الدنيا وأكثرهن فتنة وإغراء، وقالت له:
- سنقيم حفلاً على شرف ديونيزوس395.
ورمت بمحاسنها396 في حضن الرجل العادل، فرماها أرضًا، وضربها بعصاه، وهي تزداد شبقًا، وتزداد إثارة، ثم ضربها بعصاه، وضربها، حتى جعلها تصرخ تحت ضرباته:
- تضربني أكثر فلا أخضع لك أكثر، يا رجلاً دون عدالة!
فأجاب:
- أضربك أكثر تخطئين أكثر، يا امرأة دون براءة397!
قالت، وهي تقبل قدميه، وتعوي من شدة الشهوة:
- لو كان العدل شهوة الزمن لما منعته عنك!
لكنه نبر:
- لو كان العدل شهوة ساعة لمنعته عنك!
جاءت بقائد الحرس، وجعلته جرذًا طيعًا أمام محاسنها. طلبت منه أن يقتل الرجل العادل، لكننا حميناه من عدم العدل في مملكتها، وذهبنا به بعيدًا عن الدم والمني والرماد. خبأناه في قبو بيت قديم قرب باب رحيمات398، فالتفت إليّ، وقال لي:
- أضاع الفرد الروح وانتقم منها بالجسد.
أضفت:
- وانتقم من الجسد بالسيف.
قال:
- اطلب الرحمة لصديقك الذي هو روحك حين لا يُبقي نظام السيف غير علاقات الدم والمني والرماد.
قلت وأنا أفكر في صديقي البربري:
- حتى الصديق ليس صديقًا في هذه اللحظة الفاحشة، صداقته غدت بقدر حاجته إليك، كحقلٍ زَرْعُهُ المصلحة وحصادُهُ النكران! آه، يا سيدي الرجل العادل، اطلب لي رحمة عدوي ولا تطلب لي رحمة صديقي399، حتى يتكتل الضعفاء ضد الأقوياء ويغدو العالم أرحم.
ذرف الرجل العادل دمعة، وهمهم:
- سأطلب لك ولعدوك ولصديقك رحمة الذي في السموات.
وسقط ضباب كالقطن ملطخ بالغروب400...
27
هجم أتباع الرجل العادل عليه، وهو راكع في الليل يصلي، ويتعبد، يريدون قتله401، فأتى أبوللو402، وأعماهم بضيائه. أخذ الرجل العادل، ورفرف بعد أن تحول إلى فراشة.
قال له:
- ستجتاز الآن بابي ثم ستضيع قبل أن تجد الباب التالي.
وتركه بلين على باب إيلين.
كنت قد وصلت الباب، وأنا ألهث من أثر الجري، واختراق جسدي في الليل. كان الرجل العادل بانتظاري، طلب مني أن أطرح عليه سؤالي، فطرحت عليه سؤالي:
- ما بهم أرادوا قتلك وأنت لم تشأ لهم إلا الخير؟
قال دون لين403:
- لأني أحسنت الكلام كثيرًا والفعل قليلاً.
قلت:
- وقبل أن يعاديك أتباعك، الحرس كانوا ضدك والبشر الخاضع للحرس وأثينا.
قال:
- خسرت من تبعني ومن لم يتبعني لأني لم أحرك فيه الروح، وما لبثت الروح أن غدت عدم الروح والكذب والممالقة، عندما أردت –ولكن بعد فوات الأوان404- أن يكون البشر أنفسهم، وأن تكمل أفعالهم أرواحهم، فسقطوا عليّ، وأرادوا هلاكي.
- هلاكك أنت فقط؟
- وعدلي من بعدي.
- بعدك لن يجدوا من الكلام غير الثرثرة، سيغتابونك، ولن ينشروا من كلامك التَّذكاريّ شيئًا.
- بعدي لن يكون غير عدل سوى عدلي ولا غير ماضٍ سوى حاضري، وسيقف الزمان على عتبة الفصل الأخير405.
ثم غاب عن بصري.
أخذت أسعى في الأزقة سعي التائه كي أجده، فلا أحدٌ معي، ولا أحدٌ غيري معي. كانت لخطواتي أصداء طفيفة على البلاطات الباردة والمكسرة، والأزقة بأقواسها أشبه بالسراديب، الحوانيت مغلقة، والأضواء الشاحبة تتساقط كاشفة عن عراء المصابيح. كانت الأضواء تَلْتَمّ كالأثواب الشفافة على نفسها، تلتم وتلتم ولا تنتهي، وفي عدم النهاية أضعت الخطو، وفي عدم النهاية أضعت الظل، وفي عدم النهاية أضعت كل ما يضيعه صبيّ. بدت المدينة القديمة جد كبيرة بأزقتها اللامتناهية، المتقاطعة، المتداخلة، والتي لا تنتهي، وأنا قد أضعت الطريق في النهاية التي لا تنتهي، في العدم الذي لا ينتهي، وأنا قد أضعت الزمن406.
وأنا في أقصى ضياعي، تبدت لي أثينا في ثوب عاهرة زاهدة407، وعندما رأتني وحدي خائفًا، كشفت لي عن ثديها الأبيض المدور، ثديها المذهل408، فالتقطته بأسناني، وأنا أسمعها تموء كلما عضضت ثديها بقوة تقوى مع مرور ثواني العناق. فجأة، وجدتُني أعض قطعة حطب409 بينا قهقهات أثينا تتصادى بضخامة من حولي. انغلقت الأزقة عليّ، وراحت تتقدم مني بدلاً من أن أتقدم منها، ومع المكان راحت تتقدم قصص ناسه وحكاياتهم التي خرج الزمان منها، وراح بدوره يتقدم مني، ويتقدم. رأيته شبحًا، ورأيته شيخًا، ورأيته طفلاً، ورأيته زنبقة410، انكسرت الزنبقة، وانفتحت، فخرج منها الرجل العادل، وقال لي:
- أما بعد الآن، فتعال نذهب في طريق الحصون هناك حيث من واجبي تطبيق قانوني.
اجتزنا باب دبّارة، فتدبرت الأمر كيلا أسبقه، هكذا أنا لا أضيعه وهو لا يخفى عن ناظري.
وبينما أنا أعود إلى قلب المدينة القديمة، هز كياني التوق إلى طفولتي. كان ذلك الثدي الأبيض المدور ثدي أثينا المذهل الذي عضضته في الوحدة والخوف، فتمنيت لو ألقاها لأهجع على صدرها ولأخضع لسلطتها.
28
بدت أثينا في طريق الحصون، وهي تمزق عن صدور النساء ثيابهن، وترمي بهن في أحضان رجال لا هم برجال ولا هم بأقزام411 تبدو عليهم أمارات التحكم، والتي تقاوم منهن تصفعها أو تركلها أو تشدها من جديلتها، وكانت أثينا حين تشعر بالتعب تصعد على ظهور أقزام لا هم بأقزام ولا هم برجال412 تبدو عليهم أمارات التذلل، والذي يقاوم منهم تصفعه أو تركله أو تشده من أذنه، وهو خانع خاضع لأمر أثينا عليه وأمر أولئك الذين تبدو عليهم أمارات التسلط. وعندما تنتهي أثينا من إنهاك المرأة أو القزم تعطيها وتعطيه مرآة ينظر الواحد فيها والواحدة، فيرى الواحد والواحدة جزرة413 يتمنى كلاهما من الجوع التهامها، لكن الواحد يضرب وجهه بالمرآة والواحدة، ولكي يسير الواحد والواحدة تتناول أثينا عصا الرجل العادل414 وتضربهما على مؤخرتهما، فيحلو لهما أن تعيد، ويلعقان عسل الهوان بتلذذ.
قال لي الرجل العادل:
- ترهبهم أثينا بعصاي وبالمرآة ترغّبهم.
هتفت:
- لكم هي كريهة، هذه الأثينا!
- أثينا غدت كريهة لأنهم غدوا قضية كل يوم، لا يعرفون أنفسهم فيك، أنت الرسول لدى العدل، ولا يربطهم بك إلا مكان الميلاد أو مكان الإقامة415.
همهمت حزينًا:
- كان عليهم ألا يغدوا ما غدوا إليه.
ضحك الرجل العادل، وقال:
- من سيقيم الحصون416 إذن؟
صحت:
- الضحية؟ المضطهد؟ الصورة في المرآة؟
- بل عصا العدل السليب417. لا خير بعد والبشر شر من الخير آت418! ليس الخير خيرًا والشر قوة أثينا وقوة أثينا فنون التحكم في النساء التي أُرغمت على بيع عِرضها وفي الرجال الذين أُرغموا على شراء الذل والاحتقار وفي إبعادك عن بنات الشفاه419.
أضاف بعد لحظة من الصمت:
- سأجعل بسحر عصاي الذليل مذلاً ليسود النساء بذله420.
لم يسد الذليل النساء فقط بل وكل من استطاع فيه التجبر إلا العصا السحرية421 التي خر لها ذليلاً كما كان عهده.
نبر الرجل العادل:
- هذه الحصون ستنهدم422.
أحس بالظمأ لكثرة ما أرغى وأزبد، فقلت له:
- هناك سيل بعد أن نجتاز الباب القادم.
همهم:
- أنا ظامئ ولست بظامئ.
فتمنى أمام عدم فهمي:
- يا ليتك تسقيني من ينابيع العلم أكثر ومن زيت القبائل المتحدين بين الماء والماء423 فأهبك القمر424.
29
اجتزنا باب كيشيش إلى نبع ماء يكش الظمأ كما تكش اليد النحل، فشرب الرجل العادل حتى ارتوى، وشربت من المكان الذي شرب منه حتى ارتويت. قال لي:
- بعدما شربنا وارتوينا سنظمأ من جديد على سماع صيحات آتية من ذاك البيت.
وفي الحال، وصلتنا صيحات حادة:
- أنا الرمل425! أنا الكلام426!
اقتربنا حيارى، فإذا بالحرس يكبلون أبوللو بالسلاسل427، وبعضهم قد أخذ يهدم عالمه، ويمزق كتبه، ويحرق أو يصادر أشعاره. عزم الرجل العادل على إنقاذ أبوللو كما أنقذه، فدخل بعصاه على الحرس من حطام الباب، وراح يضربهم بين أعينهم، فيخرون كالعميان428، ويتلوون كالديدان. حملنا أنا والرجل العادل أبوللو على كتفينا، ورحنا نجري به ليلتين ونهارين429، إلى أن أنفقنا كل قوانا، فجلسنا. كان اليوم يوم أربعاء، فقال أبوللو لنا:
- باب الخميس على مرمى يوم من هنا، اختبئا في حرزه، وأنا سأعود من حيث جئتما بي، لأن الرمل حالة اليوم430 والكلام مرحلته، وغدًا لنا لقاء.
وذهب.
قال لي الرجل العادل:
- حالة الغد الحجر431 ومرحلته السلام ونحن -أنا وأنت- لا الحالة ولا المرحلة.
قلت بدوري:
- نحن ما نحن عليه في الحالة ما قبل الحالة والمرحلة ما قبل المرحلة إلا أن حضورنا لازم طالما أن لا شيء يجري دوننا432.
- انتبه إلى ما تقوله، يا بنيّ! دومًا ما كان الادعاء غريبًا عن الإنصاف.
على الرغم من ذلك، ابتسم لي، ثم مشى، ومن ورائه غفر من البشر راح يتبعه. كانت للناس خطوة مصممة، وكانوا جوعى إلى الإنصاف والتمام والنزاهة، كانوا جوعى إلى الكبرياء وإنكار البؤس والفخار، ولكن أيضًا إلى الملح والخبز والزيت. صاح بهم الرجل العادل: "نفاد صبركم خلاصكم!" فما كان من البشر إلا أن بعثوا بأولادهم في طلب خبز أسود لم يجدوه على باب الخميس، وعلى العكس وجدوا الحرس بانتظارهم. تمرد الأولاد، فنطق النهار433. رد الحرس على النهار بالرصاص لأنه أخافهم حين نطق، لكنهم الأولاد الذين سقطوا. راح النهار يصرخ، وينادينا لنجيء إلى عون الصغار المتمردين، ولنضفي إلى كبريائهم وقرارهم كبرياءنا وقرارنا. تقدمنا بخطوة دومًا مصممة، والرجل العادل يقول لي:
- هذه هي الخطوة الأولى نحو حالة الحجر434.
أطلق الحرس علينا، فسال دمنا مُسْقِيًا الحجارة الظمأى. عزم الرجل العادل على أن يخلو إلى نفسه في الخميس، في اليوم الخامس435، في الزمن الناقص436، من أجل أن يفكر في مصيرنا، ويصلي مع طيور النخيل437. (1)
(1) نُشر هذا الفصل في مجلة "الفجر الأدبي" التي كانت تصدر في القدس المحتلة العدد 77/78 شباط/آذار 1987 أي قبل عدة أشهر من انتفاضة الحجر والدم الأولى.
30
أخذ الرجل العادل يصلي، والشمس تصلي بنارها صف النخيل المتفرق في الرمل438. ارتفعت الحرارة أكثر فأكثر، وهي تذيب كل شيء حتى ثلج الجبل البعيد439، والرجل العادل يصلي دومًا، ويهمهم:
- هي صلاتي في فضاء غريم440.
دبت النار في درر التمر، فهربت الطيور إلى ظلال لم تكن أرحم. وعلى دعاء الرجل العادل عادت، وجعلت له بأجنحتها هواءً، ومن أجسادها غيمًا441. حكت الطيور ما بينها عن عذاباتها وأمانيها، عن تفانيها وإنكارها لذواتها. سمع الله ما تقوله بلسان الرجل العادل، إلا أنه لم يقرر عونها، ولم يعطها ما تحتاج إليه442، فثار الرجل العادل في وجه الطبيعة الغاضبة:
- أيتها الطبيعة القاسية، اللاعادلة والجائرة، ستمزقك صغار هذه الطيور بمناقيرها ذات يوم!
ثم إلى الطيور:
- لتجهر الصلوات الخفية 443التي في القلوب!
رأيت عند ذلك كيف لا يمنع غضب الطبيعة غبطة النفس، وكيف لا يضع تخلي الله حدًا لعبادة الله444. لم يتوقف الرجل العادل عن التجديف وطلب الغفران من سيد السموات، عن التذمر وقول إن الصبر لا يمكن أن يبقى إلى الأبد. وفجأة، رأيته ينهض بعصاه ماردًا كأنه جبل هادرًا كأنه عاصفة مهددًا كأنه العدل الذي ترضخ له الشمس والقمر445، فيلفه شال من سحاب قاتم، يفرده الرجل العادل بأصابعه، ويطلق المطر الذي فيه446، فتغني الأرض والطير، ويغني النخيل الذي يغسله المطر ويسقيه. بقي المطر يمطر والرعد يرعد والبرق يبرق ونشوة الروح تطلق الإعجاب بالطبيعة447، فسجدت لإعجاز الجرأة، وإرادة البساطة، لعناد العقيدة، وقوة الفكرة، ولما رفعت رأسي إليه، وقد امتد بكل العدل الذي لديه، رأيته يصبح ضوءًا، ورأيته يصبح برقًا. لمع كالسيف القاطع للجسد الواهن قسمين متساويين، ثم تلاشى448، فقمت مرتعدًا، وناديته، فلم يجبني أحد. كان المطر قد توقف، والشمس قد عادت تطلق نارها من وراء آخر سحابة449، فمشيت باتجاه آخر أبواب450 المدينة كي أفتحه وحدي، وأغلقه خلفي، فتنغلق الأبواب العشرة من حول المدينة إغلاق الدائرة من حول الدائرة451.
ولما وصلت إلى باب دوكّالة452، آخر الأبواب، كانت أثينا بانتظاري. اقتربت مني، وقالت لي:
- أعبر الباب الأخير وتعال معي.
- إلى أين، أثينا، بعد كل هذا السير نحو الوصول453؟
- إلى مقري الأخير454.
- وهل لك مقر أخير وأنت الآخرة؟
- سآخذك إلى مقري الأخير لتقيم في آخرتي455.
- تريدين القول لأقف على ما أنت عليه في آخرتك.
- لا، لتقيم في آخرتي، فبعد أن وقفت على سر العدل في شخص الرجل العادل، حُبوت الآن بعرق إلهي.
- لم أُحْبَ بشيء إلهي! أنا أعرف نفسي بشكل أفضل، هذا كل ما هنالك.
- أنا التي تعرفك بشكل أفضل، هيا، فلتجئ.
وعبرتُ الباب الأخير دون أن ألتفت من ورائي456.
31
شدتني، وأنا أجتاز عتبة باب دوكّالة، الطبول والمزامير457، رأيت في ساحتها التي قرب محطة البشر الصاعدين والهابطين عيدًا للذين لا عيد لهم458. وأنا أدخل في العيد دخول الممنوع على الممنوع459، اعترض طريقي ألف متسول، وانتصبوا أمامي كالسور المتهدم، وفي الناحية الأخرى سائحون وسائحات يأخذون لمدينة الأحلام460 صورة، ويجعلون من الصورة أروع ذكرى. راحوا يتصورون بدورهم بين أذرع مقطوعة وشفاه مشروطة وعيون مفقوءة وهياكل تتصاعد منها روائح نافذة لشدتها يمكن شمها من الصورة461. كان السياح يقطرون نشوة462، وينظرون إلى الشمس بنارها المندلعة من باب جهنم، فيحسدون أهل المدينة، ويعرون زنودهم اللبنية، ومن الرضى يرمون إلى بعضهم البعض نظرة غبية463.
وجدت نفسي أمام رجل/امرأة464، وهو يرقص على حلبة، وبين الفينة والفينة يدعو المتسولين إلى الاشتراك بيانصيب تكون أرباحهم منه صحون وملاعق وكؤوس وطناجر465... ولما رآني أحدق فيه دون أن أراه، وأصغي إليه دون أن أسمعه، ترك الحلبة، وغادرها محزنًا، فحزنت على نفسي، وكأنني هو، وكأنه أنا، أقصي نفسي عن نفسي. بعد وقت قصير، جاء إلى جانبي ، ودون أن أقول له قال لي:
- لا أحسن الرقص، فما أنا مصنوع لهذا.
- بلى، بلى.
- لا أجذب الرجال، فما أنا مصنوع لهذا.
- بلى، بلى.
- على أي حال، أنا لا أحب الرجال، وكل هذا فكرة أمي بعد أن اغتصبني أبي.
- أنا لم أعد أحب الرجال466، ولم أعد أحب النساء، أما عن هذه الفكرة أو تلك، فهي فكرة أمنا دومًا في عالم أبينا. دخلنا بالقوة فيه، هذا العالم البطريركي الذي يدخل في نهايته، وعلينا أن نجد عالمًا جديدًا.
- تعال معي إذن! سآخذك إلى عالم لم تره ولم تسمع به من قبل، عالم ليس جديدًا وليس قديمًا على الرغم من هذا467، يتوقف عليه باقي عمرنا468.
- عالم غير معقول؟
- عالم معقول.
- عالم ضائع تريد أن تقول.
- عالم موجود.
ذهبت معه إلى تلال من الحلزون المغلي، والأولاد من حولي يسرقونها، ويأكلون. رأيت منهم من يضحك ومنهم من يبكي ومنهم من يتعاطى ومنهم من يتمومس469.
اقتربَتْ مومسٌ مني، فأبعدها عني صاحبي بعنف، فلم تصح به بل بي، وشتمتني. اعتذر صاحبي لي، وقال إن المومس تظل المومس منذ اليوم الذي باعت فيه جسدها لأول مرة470.
رحنا أنا وصاحبي نمضي بأنماط من البشر المحتفين كل على طريقته: من يرقص، ومن يغني، ومن يصعد، ومن يهبط، ومن يناصف، ومن يجانب، ومن يناجي، ومن يناغي، ومن يزلق، ومن يتزلق، ومن يلوي، ومن يتلوى، ومن يحلم، ومن يفسر، ومن يبصق على العالم أجمع، ومن يفكر أنه عالم غير معقول، ومن وجهة نظر معقولة، من غير المعقول أن يكون غير كذلك471.
تسلقنا أنا وصاحبي سلمًا على وشك الانكسار في أية لحظة472، بعد أن اشترينا تذكرتين، ووقفنا من وراء حاجز، ونحن ننظر إلى أسفل، وفي الأسفل دراجة نارية، في الهاوية، في قاع جهنم، يمتطيها فارس ارتدى بنطالاً وسترةً من جلد أسود، تكشف عن كتفيه الموشومتين. كان يضغط بقدمه على دواسة الدراجة دون توقف، والدراجة تزعق، وترسل دخانًا أسود. وبعد أن تجمهر الجمهور في دائرة من وراء الحاجز، بدأ الفارس الأسود يدور بدراجته على جدران الهاوية الدورات تلو الدورات، وفي كل مرة كان يرتفع بمصائرنا بالتدريج، وما لبث أن طار كالطائر في الفضاء. عند ذلك، أغمضت عينيّ، وخلتني أطير، ورحت أطير في دخان الحضارة على جناحي أثينا473.
32
وجدتني في مترو أورفليس474 على رصيف مهجور، أو، هذا على الأقل ما بدا لي، بعد أن غادرتني أثينا على دراجة الفارس الأسود في أحد الأنفاق المعتمة475 التي أشارت إليّ أن آخذه طريقًا في القطار أو على قدميّ. بدت مريضة، جد مريضة. كانت الأوجاع في رأسها، في قلبها، في صدرها، في بطنها، في خاصرتيها، في ركبتيها. اعترفت أنها كانت مريضة منذ زمن بعيد، وأنها تريد دخول المستشفى476.
انتظرت أن يأتي قطار ينقلني إلى مكان أعرف فيه شخصًا مهمًا عالي الوظيفة رفيعها يجد لي عملاً، ويخفف عني القليل من عبء هذا العالم، فأحتمل ما بقي لي من هذا العمر الرديء. أذهبت انتظاري عبثًا، فالوقت الذي انتظرت خلاله لم يكن يسير مع الوقت، كان أحدهما يتقدم لما يتوقف الآخر، أو أنهما يتقدمان في اتجاهين متعاكسين، فلم أعرف إذا ما كنت أقطع الوقت باتجاه عقرب الساعة أم باتجاهه المضاد، ولم أعرف إذا ما كنت أقطع الوقت إلى المستقبل أم إلى الماضي477، كنت كمركب مخر العباب لا يتقدم ولا يتقهقر.
على حين غرة، برزت478 من النفق وجوه مشعره ذات شعور مشعثة تشبه بعضها ولا اختلاف بينها، تزحف بأجسادها زحف المومياءات، مكسوة بجلود ممزقة. امتلأ الرصيف بهذه الكائنات الغريبة التي راحت تتمدد لتنام، فلم يعد هناك مكان لقدم واحدة. نظرت من فوهة النفق، فوجدت أكداسًا من هذه الكائنات مكدسة وراء السكة الحديدية وبين خطيها، كانت تخضع لقوة غير مرئية، وكان الصبر عبوديتها. هبطت بينها أسعى في طلب الشخص المهم الذي أعرفه، فمن يدري؟ أورفليس تغيرت، سكانها تغيروا، وربما وقعت عليه. كان بعضهم ينام بين قوائم جرذان عملاقة حسبتها في البداية قططًا أو كلابًا، وبعضهم ينيم أخرى "قزمة" بلغة الجرذان، صغيرة جدًا بلغتنا، في حضنه أو في شعره أو في لحيته إن كان رجلاً أو بين الثديين وتحت الإبطين إن كان امرأة. رأيت أحدهم يشوي وطواطًا، ويأكله بتلذذ، وآخر يربض متسمرًا في الدخان كناسك هندي أضاع الطريق إلى الهند مستغرقًا في أفكاره متأملاً، ورأيت ثلاثة يحرقون جثة479 تشبه أو على التقريب تشبه ابنة الرجل المجنون في مدينة ذات الأبواب العشرة. وعلى مقربة من هناك، كان دلو ماء يغلي، وفي البخار جلست امرأة لم تكن امرأة، امرأة عارية لا تلغو ولا تشكو من شيء.
جاء أحدهم يجري من الناحية الأخرى للنفق، وفي أعقابه شرطيان يطلقان الرصاص عليه. ومن خلفهما صوت ماسيّ يأمرهم عبر جهاز مكبر: أقتلوهم! أقتلوهم480! فتتساقط بعض تلك الكائنات الغريبة التي ينقلها البعض، ويجعل منها كومًا، ويتابع البعض الآخر المشهد بعينين نصف مغلقتين دون مبالاة481. تابعت طريقي بصعوبة حتى وجدتني أقع بين ذراعين عاريتين، فدفعت صاحبتهما بكل قواي، وعلى الرغم من العتمة والدخان، استطعت أن أراها، وهي تتلوى، وهي تطلق آهات التلذذ والانتشاء. كانت تتابع وحدها ما منعته عنها، وكانت تضرب فخذيها بكل حرية، ثم ندت عنها رائحة كريهة. رأيتها ترفع غائطها إلى فمها، وتأكله، فأحسست بالجوع482.
كان أحدهم قد راح يعزف على قيثارة لحنًا للموتى، فاتجهت نحو العازف، وأخذت أبحث في حقيبته المهترئة عن شيء يؤكل. وجدت نصف رغيف يابس، لكنه خلصني إياه، ولغضبه دقه في الأرض بقدمه، وطمره، وهو يرميني بنظرة متحدية:
- كل من هذا اللحن483، أيها الدخيل!
فصحت عجبًا:
- الدخيل أنا؟
- قبل، كنا نختلف في كل شيء، كلنا، الآن، كلنا سواء. وبانتظار أن تصبح مثلنا، أن تندمج بشكل ما، أعيد عليك أن تأكل من هذا اللحن، إنه الزاد الوحيد.
- الموسيقى لا تسمن ولا تغني من جوع!
- تدبر أمرك إذن.
- ولكن كيف؟
- جوعك أمرك484.
- أعرف. أنا من القدرة على قتل أبي كي أقتل جوعي485.
جعلني أبكي على لحن لم أسمع في حياتي أشد منه حزنًا، ومع ذلك، لم أفعل شيئًا، وبقيت أتضور جوعًا. ولكي أسوس جوعي فكرت في المرأة التي عانقت الهواء بعد أن منعت عنها جسدي، فأثارت في نفسي شعورًا نحوها يشابه شعورها نحوي. عدت إليها، وأنا أعانقها في خيالي، واستلقيت عليها، وأنا أغوص في غائطها486، وأحسبه عسل نحلة، وهي تحسبني قضيب زهرة حديدية، وأنا أغوص في مهبلها، وأحسبه لبن بغلة، وهي تحسبني عصا موسى اللحمية. آه! ما أشهى هذا التقزز. بقيت هكذا في الغائط أنعم وأنتشي إلى أن أنهضتني عشر أذرع حيوانية كان ذلك المهبل القذر صلاتها487، كانوا يعبدون كلهم ذلك الوضع الأكثر انحطاطًا الذي يجدون أنفسهم فيه، كان ذلك الوضع المريع دينهم. فقلت أتابع طريقي عسى بشاعة أهل أورفليس أن تهديني إلى الشخص الجميل488 الهام الذي أعرفه.
33
سارت قافلة من تلك الكائنات النفقية في الاتجاه الذي أسير فيه، إلى الشرق دومًا، وإن كان في الأنفاق لا الشرق شرق ولا الغرب غرب والشرق والغرب شرق، فتساءلت إن كان رحيل أهل أورفليس من محطة إلى محطة أم من أورفليس؟ كان من الممكن أن يكون ذلك طقسًا من طقوسهم الحديثة، طقوس أولئك العابدين المروعين الجدد لإله مروع أكثر كان الدمامة، فلا دين489 دون طقوس ومحافل، كما يقول الفيلسوف الكبير490. ولم يطل بي المطال حتى رأيتهم يدورون بعكاش491 حذرين قلقين أكثر ما يكون القلق. اختاروا ضحية من بين الأغلى على قلوبهم، ودفعوها على بابه492 الذي انفتح فجأة وانغلق فجأة على كُلاّب عنكب ضخم انقض على الضحية وابتلعها. خلال ذلك، هرب البعض خوفًا وهلعًا، وجمد البعض خوفًا وهلعًا. ومن جديد، انفتح باب العكاش فجأة وانغلق فجأة، فسقط أحدهم في الكُلاّب، وتم قضمه. سمعت طقطقة عظمه اللذيذ، ولعق دمه الشهي.
رحت أجري مع الجارين. كان الكثير منهم قد راح يجري على سجادة من حرير مدبّق، وهم يغوصون بأقدامهم فيها غوص الهالك في الرمال المتحركة. غرز الوحش الرهيب مخالبه في جسد أحدهم، وهشمه، وبعد عدة لحظات، رأيت رأسه، وهو يلقى في حفرة ضخمة امتلأت إلى نصفها بالرؤوس. وجدنا أنفسنا نجري في شبكات حريرية مربعة وجهًا لوجه مع قافلة من العناكب العملاقة المتقدمة نحونا، فتدافعنا كالحشرات الفزعة، ولأنفد بجلدي منها، تسلقت شبكة بعيدًا عنها أبعد ما يكون، وأهل أورفليس يصرخون دون أن يطلبوا عون أحد493، بينما داومت العناكب على اختيار منهم ما تختار، وكأنها تعلمت الفرز والاختيار494. وبعد ذلك، انعزل كل منها في ثقب ليتذوق فريسته على حدة، ويستطيب بها أكثر ما يمكنه الاستطياب. كنت قد تسللت إلى الطرف الآخر من شبكات الحرير، ورحت أجري بأقصى قواي كي أخرج من نفق الرعب والهلاك، والنفق طويل، أطول من الخط الفاصل بين الجحيم والجحيم495. تمنيت أن أجد ذلك الصديق الذي كان اعتمادي عليه كبيرًا، تمنيت أن يجدني هو، صاحب النفوذ، في الطريق، فينقذني من ورطة أوقعتني فيها أثينا.
ومع ذلك، إذا بصوت نبّوت أو مرزاق يصلني ورائحة أنثى بل رائحة أنوثة جد جاذبة496 تجذبني، فذهبت كالمخدر أسعى باتجاه الرائحة497، ومعي ألف ذكر، وشهوة مجنونة استبدت بنا، جعلتنا ننسى كل شيء إلا المضاجعة. رحنا نسعى كلنا سعي الأعمى وراء لذائذه العناقية، وإذا بنَبّوت يضرب ذكرًا كان أمامي، فيلصقه بصمغه، ويرفعه إلى كلاليب عَنْكَباة تنتظر افتراسه. شاهدت في عيني القناص نشوة عظمى، وفي عيني القنيصة خوفًا عظيمًا. اكتشفت في النشوة المجنونة للفعل المجرم بشاعة العنف الأقصى، بعد أن عشت عنف الدمامة الأفظع، العنف وسيلة للبقاء، وسيلة للحاجة والضرورة. نَقَبت بشكل تام الفم الظامئ للدم والمظمئ للمعرفة، الناب الجائع للعظم والمجوّع للحكمة. في الواقع، الصورة التي نود لو نبصرها هي التي لا نستطيع امتلاكها، والأغنية التي نود لو نسمعها هي التي لا نستطيع تلحينها...
صحت بأهل أورفليس المقيمين في أنفاق ذات مجليين، أنفاق مرعِبة مرعَبة: يا أهل أورفليس! إنما جمالكم الدمامة، وشجاعتكم الجبن، ووجودكم العدم! ما أنتم سوى دمامة وجبن وعدم! حتى الدمامة أجمل منكم، والجبن أشجع، والعدم أنبض بالحياة498!
34
كان رجل سامي التقاطيع499 يرتدي السموكن وفي أصابعه وحول عنقه ورسغيه وعقبيه مجوهرات لا تقدر بثمن، كان يكاد يموت ضجرًا، يتثاءب من حين لحين أو يلمّع بطرف كُم سترته مقدمة حذائه، ولا يلبث أن ينهض إلى صندوقٍ يخرجُ بعض قطع الماس منه، ويلقيها في هاون، ويسحقها500، ثم يلف المسحوق الماسي، وينفخه حتى... ينتشي. كانت العناكب قد أكلت منا ما أكلت عندما أمر الرجل السامي التقاطيع رجاله المصاحبين لرهط من الذئاب المطوقة أعناقها بعقود من الماس أن يضعوا حدًا للوليمة البهيمية. هجم الرجال/الذئاب، والعناكب تفر أو تخر، وأهل أورفليس يفرون أو يخرون أمام الهجوم. قطع عليهم الطريق ذئبٌ ضارٍ أكثر من غيره، لكنه وقع في كُلاّبات ثلاثة عناكب اتحدت ضده، فقامت معركة جهنمية501 لم أر نهايتها. كانت فرس بيضاء502 قد حضرت، حملتني على رِدفها، وراحت تعدو بي في الأنفاق من نفق إلى نفق. سمعت إلى جانب حوافرها عجلات قطار يتبعني، فتنحيت، ورأيت الرجل السامي التقاطيع يسوق القطار حتى محطة نزل فيها الركاب إلى داخل أقفاص أقفلها عليهم رجال الرجل القوي بإحكام503، والذئاب تحرس، والركاب الذين توحشوا يثيرون خوف الذئاب. عندما وصلت، فتشني أتباع الرجل السامي التقاطيع بأدواتهم الإلكترونية أنملة أنملة، وثنية ثنية، وشعرة شعرة، ووضعوني مع آخرين في قفص. انقضوا عليّ، وكادوا يمزقونني إربًا504، وهم يزأرون: أيها الشمال الأفريقي القذر! عندئذ سمحوا لهم بالخروج من القفص ليتيهوا في الأنفاق.
لتخلصني أثينا مما أنا فيه، جاءتني بالرجل الهام الذي أعرفه، فقال إنه لا يعرفني505. قلت بعد أن قال، إنني لم أعرفه، فقهقهت أثينا لسذاجتي، وأعلمتني:
- لسوف ينكرك الكل506 حتى إن ظلك لسوف ينكر ظلك507.
كانت واثقة من نفسها، وفي صحة جيدة، وكانت تبدو جازمة. قلت لها، وأنا أبكي بين يديها:
- آهٍ، يا أثينا! اصنعي مني ذئبًا، هنديًا أحمر508، صابئيًا، كيلا أكون منكرًا!
- أنت اليوم ما أنت، أنت اليوم وطنك ودينك509، وبعد موتك لن يأخذك أحد إلى هيكل المجد510.
- أنا اليوم غير أنا، أنا غير هويتي، وأنا غير ديني، وبعد موتي سيأخذني من يأخذني إلى هيكل كلاب جربى... أنا اليوم وحدي، تركني أهلي لأهل أورفليس وأهل أورفليس لذئاب الرجل السامي التقاطيع. أنا اليوم عاجز دون رفيق، معزول عن الآخرين511.
أخذتني أثينا بين ذراعيها مشفقة، وباحت لي:
- أنا اليوم معك وغدًا512.
- أنت اليوم معي وليس غدًا لأن اليومَ غدٌ513.
بكت أثينا، وقالت لي:
- في نهاية الزمن هذه السابقة لأوانها، يبقي لك فعل تنجزه: أن تعرف ابنتك مني514، وأن تعمل على الوقوع عليها بسرعة قبل أن يكرهك أهل أورفليس أكثر، وقبل أن يقتل أهلك أهل أورفليس باسمك، ويتآمر الرجال/الذئاب عليك، قبل أن يتهمك الرجل السامي بالمساومة على عرشه515.
ذرفت أثينا كل ما في مآقيها من دمع، بصدق، فلممتها من كتفيها، ورحت أسير بها من نفق إلى نفق بحثًا عن ابنتي.
35
كيف يمكن الخروج إلى ابنتي والأنفاق تلو الأنفاق وأثينا تبدو جائعة وضعيفة ويائسة؟ كيف يمكن الخروج إلى الضوء والخبز والحلم وقد ذهب عهد صياد الرجال516 وفقدنا سر التفاحة517 وزال سحر المعجزة518؟
كنا قد أخطأنا الطريق من شدة التعب، وبقينا نسير على خطأ، ونحن نعلم أن النفق نفق مجارٍ، فلا خطوط حديدية ممكنة ولا مترو محتمل. بدأ السيل يزداد سيلاً، ويزداد حجمًا، ويبللنا. ومن الظمأ شربت أثينا من الماء الملوث حتى ارتوت، ومن الجوع قطفت ثمارًا بيضاء نبتت في وضر الجدران السوداء519، وأكلتها بنهم.
وصلنا صوت أمواج بعيدة راح يتنامى إلى أن غدا هديرًا ثم هديرًا جبارًا، فباغتنا سيل ماؤه أسود طوانا في جوفه. وفي جوفه وقعنا على جثث قروش خرافية520 وسلاحف صومالية وتماسيح ذهبية521 لجأنا بين أسنانها، وتعلقنا بأجنحتها. وفي النفق التالي، وجدنا أنفسنا وسط جيش من الضفادع ذات عين واحدة522 تحت أنفها، راحت تنق نقًا حادًا لا يتوقف لحظة واحدة ضدنا، فكدنا نصاب بالطرش وخلايا أدمغتنا بالانفجار لولا أن انطلقت فجأة بنادق قتلت من الضفادع ما قتلت وجعلتها تغادر المكان.
عند ذلك، رأينا ساكني الأنفاق الغريبين، وهم يرتدون ملابس أكثر غرابة مصنوعة في كورية523، وهم يجمعون الضفادع الميتة، ويغلونها أو يشوونها. أكلوا منها بشراهة، وأكلنا نحن أيضًا منها بشراهة.
وبينما كنا مع التلمظ والتمزز غائبين، ولم يعد الوقوع على ابنتنا شغلنا الشاغل إلى حين، تفجرت في وسطنا524 قنبلة قتلت منا ما قتلت، وجرحت منا ما جرحت، قتلت أثينا، وجرحتني في صدري. جاء رجال الرجل السامي التقاطيع بصحبة ذئابهم ومسلمين من جزر القمر525 بشرتهم نحاسية، وهم على أشد غضب مني. ألقوا القبض عليّ، ووضعوني في قفص وحدي. وكان أهل أورفليس يمرون بي، ويرمونني بحجر أو بنظرة مثل حجر.
قال لي الرجل السامي التقاطيع:
- سنطلق سراحك لأننا نعرف أنك بريء526.
وقال لأهل أورفليس كالشاة في مظهره:
- لن نطلق سراحه لأننا نعرف أنه الجاني وأنا المجني عليه.
قال لي الرجل السامي التقاطيع:
- سنطلق سراحك مقابل أن يطلق أهلك سراح رهائننا على أن يكون إيل527 أولها مواطننا العجوز.
وقال لأهل أورفليس كالذئب في مظهره:
- لن نطلق سراحه، وسيطلق أهله طوعًا أو كرهًا سراح رهائننا، ولن نتنازل، ولن نساوم، ولن نعطي أسلحة لأهله كي يقتلوا أهله، لن نعطيهم قمحًا ولا نبيذًا، ولن ندفع بالعملة الصعبة دينًا قديمًا، فالنبل والضعف صفتان متعارضتان.
قلت للرجل السامي التقاطيع:
- هؤلاء ليسوا أهلي، هؤلاء ليسوا مواطنيّ، هؤلاء قتلوا زوجي، هؤلاء جرحوني في صدري وفي أعماق روحي!
وقلت لأهل أورفليس:
- ما أنا سوى ذريعة، فالمشكل أنتم. أضعفكم الرجل السامي التقاطيع، وعليكم أن تظلوا. سلطته ضعفكم528! جعلكم تعتقدون أني أمثل تهديدًا لكم، وأنه كي يحميكم مني بعد إطلاق سراحي –يجب أن أكون حرًا لأكون مهدِدًا- عليكم أن تعطوه أصواتكم في الانتخابات!
أكد لهم الرجل السامي التقاطيع:
- سأحميكم منه بأصواتكم ومن غريم529 لي هو وأنا حريتكم.
لقلقهم وخوفهم وكبتهم، أعطوه أصواتهم ليغدو رجل البلاد الأقوى، فأطلق سراحي بعد أن شكرني:
-كنت الضحية مرة، فكن الضحية مرتين530!
بدأت أحقد على الرجل السامي التقاطيع حقدي على الجمل الدميم التقاطيع531، الحاكم لأهلي الذين لم يعد لديهم ما يخسرونه بعد أن فقدوا كل شيء، حاكمٌ لأهلي غدا قويًا هو أيضًا بجعلي ضحية مرتين، واغتيال نبي532 غير نبيي، نبي من هنا مات سحر الشرق فيه قبل أن يصبح وردة الشرق الدامي.
36
فكرت في العجوز إيل533، رهينة المدانين الذين يدينون والمضطهدين الذين يضطهدون، حُمْر الزَّرَد534 من أهلي، أحصنة الظلام التي أفقدوها كل أمل لتفعل فيه ما أرادوا أن تفعل في اللحظة التي يعبر فيها عتبة سنته الرابعة والثمانين. قلت معه يذهب العمر إلى بدايته والعار إلى نهايته، وتمنيت من كل قلبي إطلاق سراحه. ولأول مرة منذ مدة طويلة، حسدت ذلك الطائر الذي كان يزعجني صداحه في صباحات الصيف. أردت الذهاب إلى ابنتي535 بأية طريقة، فهي هدفي الأوحد، الهدف الأوحد بعد موت أثينا536.
هبت ريح عاتية منعتني من متابعة طريقي537، ودفعتني في فراغ أودى بي إلى نفق طويل أطول من كل الأنفاق التي قطعتها منذ وصولي على جناحي إلهتي الحبيبين، مع تلك الكائنات الغريبة لأورفليس. أحسست بفقدانها، وأملت بعودتها. أفرغتني حاجتي إليها من كل حاجة، ورغبتي فيها من كل رغبة. كان هدف الذهاب إلى ابنتي ألا أكابد هذه الحاجة لإشباع تلك الرغبة. أردت أن أجد طمأنينة النفس تلك التي كانت للرجل العادل صفة بعد كل الألم الذي سببه لي حُمْرُ الزَّرَد من أهلي وأهلُ أورفليس. رغبت في الصراخ بهم: ما جاءني منكم أملح من الملح، وأمر من المرارة، وأقسى من القسوة، ذلك الذي كان خفياً فيكم538! لكني تذكرت الرجل السامي التقاطيع، ماسه، حراسه، ذئابه، كان يبذر الموت أو يخوّف به خوفًا من ألا يكون "السمو" النظام المفروض على أورفليس. تذكرت أيضًا الجمل الدميم التقاطيع، قصوره، دباباته، ضباعه، كان ينشر الجريمة أو يرتكبها لرفع المجرم على سلم الحكم إلى أعلى درجاته خوفًا من ألا تكون الدمامة النظام المفروض على البادية.
سمعت صوت قطار قادم، فتأهبت لتسلقه، وحالما حاذاني نفّذت ما عزمت عليه. ألقيت نظرة من نافذة العربة، فوجدت الركاب جالسين أو واقفين، صامتين أو ضجرين. كانوا يتهمون بعضهم، ويضعون رؤوسهم في أجهزة تلفزيونية أو راديوية أو كمبيوترية539.
من نافذة العربة التالية، رأيت أطباء جراحين في ملابس بلاستيكية يقطعون القلوب والكلاوي والأكباد والأيادي والأعناق على طاولات بلاستيكية، ويستبدلونها بقلوب بلاستيكية وكلاو بلاستيكية وأكباد بلاستيكية وأياد بلاستيكية وأعناق بلاستيكية. كانت المقصات بلاستيكية والسكاكين بلاستيكية والإبر والخيوط وقطع القطن بلاستيكية، كلها بلاستيكية. لاحظت أن أصابع الأطباء بلاستيكية وعيونهم بلاستيكية وسيقان الممرضات بلاستيكية. نظرت من نوافذ العربات الأخرى، إلى النوافذ والعربات مِمَّ صُنعت، فكانت بلاستيكية، كالمقاعد والحواجز وصفارات الإنذار. في إحدى العربات، لاحظت أن رؤوس البشر ليست موضوعة لا في تلفزيون ولا في كمبيوتر ولا في راديو، فلم أندهش كثيرًا، لأن لا التلفزيون ولا الكمبيوتر ولا الراديو على الموضة اليوم. قلت لنفسي هم يجمعونهم في عربة وحدهم لئلا يختلطوا بآخر مبتكرات العصر الذي هو الإنسان البلاستيكي540. حتى في هذا العصر لم يزل نظام الأبارتيد541.
توقف القطار، فنزلت مع النازلين، وما أن مضت ثانية واحدة أو ثانيتان اثنتان حتى وجدتني وحدي على الرصيف. اختفى البشر على سجاجيد متحركة في كل الاتجاهات، تحت أعين أعوان الرجل السامي التقاطيع وذئابهم. وبينا أنا أقف حائرًا، توقف قطار على الرصيف المقابل، ونزل منه النازلون ليختفوا في الحال، وفي مضيهم الماضي رأيت ابنتي، وهي تناديني بصوت مكتوم، مختنق، وتناديني، وتشير إليّ542، وهي مجروفة في نهر الأجساد البلاستيكية، في مدها، وبرق حركتها، وأنا متسمر في مكاني، ورأيتها كفرخ نسر يحاول الطيران، بينا لحنٌ لتشايكوفسكي543 يضيع، ثم حط الصمت، وانفجرت أبكي.
باريس يوم الثلاثاء 11.11.1986
انتهى القسم الأول ويتبع القسم الثاني
37
ذهبت بحثًا عن ابنتي544 في شوارع أورفليس، حظيرة قدس الدنيا، وأهلها لا يبحثون عن شيء، وكل منهم وجد الشيء الذي يرغب فيه. كانوا يذهبون إلى أعمالهم في الصباح دون أن يبتسموا، ويعودون من أعمالهم في المساء دون أن يتيهوا. كنت الوحيد بينهم من لا يعرف الطريق إلى عمله، ولا إلى مأواه، فلم يكن لي عمل أذهب إليه، ولا بيت آوي إليه، فقط كانت لي ابنة توارت عن نظري بينا أنا متسمر في مكاني لا يمكنني أن أفعل شيئًا.
أسفت لزمان كانت أثينا تكرس فيه من أجل خدمتي بأسها545، وعلى فضاء لم أجد فيه بعد موتها بدلاً يعينني على الوقوع على ابنتنا. حقدت عليها لأنها تركتني إلى مملكة الموتى، وتركت لي بنتًا منها أضعتها في اللحظة التي وجدتها فيها. رغبت في عودتها إلى الحياة كي يمكنني قتلها، رغبت في حرمانها من الحياة على حساب حياتي، رغبت في كل ما لا أرغب من أجل أن أحقق رغبتي. لِمَ أعطيتني ابنة منكِ كما لو أردتِ الانتقام مني؟ لِمَ لم تورثيها شيئًا من جبروتك لتخلص من جبروت أهل أورفليس546 وتأتيني؟ لِمَ لم تلدي لي صبيًا يقتلني من أجل عينيك ويفقأ عينيه من أجل عينيّ؟
رآني شاب547 له شكل المجنون أبحث عن ابنتي بين البنات بوجهي القاسي وقمري الخافي ونهاري وقد غدا أسود غير نهاري، فاقترب على الرغم من ذلك مني، وسألني عن أمري. قلت له أمري، فسألني عن مقصدي. قلت له مقصدي، فقال:
-الأماكن التي يعمل البشر فيها آخر المقاصد، ابحث بالأحرى هناك حيث يصدرون الموظفين والعمال، الوكالات الوطنية من أجل العمل والجامعات548.
قلت:
- لن أجد ابنتي لا في الواحدة ولا في الأخرى، لأن ابنتي، في الواقع، لم تُصنع لتَصْنَع!
قهقه الشاب.
- ها أنت تُقهقه؟
- ها أنا أقهقه.
- ولماذا تقهقه؟
- وماذا في ظنك؟
- لأنها جميلة هذه النكتة!
- ليس كما تعتقد، أقسم لك.
- اشرح لي.
فشرح:
- شباب اليوم جُرّدوا من كل إرادة، ولن تكون ابنتك استثناءً بين الشباب، عليها أن تختار بين الجامعة والبطالة وإلا ما أمكنها العيش بيننا.
قلت لنفسي أن تسمع لمجنون في هذا الزمان أفضل بكثير من أن تسمع لعاقل.
سار أمامي، فتبعته. تابع السير، فتابعته. كنت أحدد النظر في العابرين، وهو في ظلالهم. كان يعرف جيدًا طريقه، ومع ذلك، كان يبدو غريبًا ما بينهم. لم تكن طريقه طريقهم، ولم تكن شمسه شمسهم، الذهب له أبخس المعادن، والحجر أثمن الأشياء. دخل جامعة قديمة، وأنا خلفه. اسم الجامعة كان مكونًا من كلمتين: سور (قدر) و بون (جيد)549، اتحدت الكلمتان (سوربون) ليذهب عنهما سحر أثرهما علينا، فجاء الأثر منحوسًا: (قدر سيء).
38
أدخلني الشاب المجنون في إحدى قاعات الجامعة، وأكياس ضخمة كانت في ممراتها وبين صفوفها، وفي الأكياس نخالة ولا شيء غير النخالة. كان الطلاب يفتحون رؤوسهم البلاستيكية ويحشونها بالنخالة550. قلت له:
- النخالة رمز حضارتنا، فلماذا هذه العودة إلى الوراء؟
- العودة إلى الوراء؟
- نعم، لماذا هذا التراجع؟
- لأن التاريخ مصنوع من تراجع وتراجع.
أخبرني الشاب المجنون أن أولئك الطلبة يشكلون قاعدة العمل المذل والاحتياطي من العمال، وسيكونون القوة المستهلِكة قبل أن يضيف:
-لن يجري تصديرهم إلى بلادكم، فلا شيء آخر عندكم من غيرهم، ولن يرقوا إلى آخر درجة من المِرقاة عندنا، التكنولوجيا في حضارتنا.
أكدت:
- أكيدٌ أن ابنتي ليست بينهم.
ومع ذلك، طلب مني أن أنظر إلى وجوههم، فلعلي أقع عليها. أمام ترددي، رجاني:
- انظر، بروفسور551، أرجوك!
- لست بروفسور.
فقد عقله:
- انظر، يا الله! ماذا سيجري لك لو نظرت قليلاً إلى وجوه هذه المومياءات الحديثة؟
أخذت أنظر إلى الوجوه واحدًا واحدًا، لم يكن يبدو لها من الأحاسيس والحياة شيء. الفتاة الجميلة لم تكن جميلة، والشاب الدميم لم يكن دميمًا. لم تكن للجمال سمات الجمال، وللدمامة نِعَم الدمامة. كانت الوجوه تخلو من الحرارة كما لو كانت حدائق من شمع، كمثرى سوداء، لوزًا أحمر، وكرزًا أبيض من جليد. رأيت على الوجه الجميل شيئًا آخر يعبر عنه، وعلى الوجه الدميم سماتٍ أخرى تخونه. أردت الوقوع على وجه ابنتي كما كان في اللحظة التي وُلدت فيها، أجمل وجه. وجه الله كان وجه ابنتي، ووجه النبي على براقه. كل تلك الوجوه كانت قد اعتادت صورتها الثانية، صورتها المشوهة، الدمامة الجميلة، والجمال الدميم. في عينيها، كان التشوه يبدو طبيعيًا على أكمل وجه، وكان أن أراها وهي تتبادل النظر فيما بينها أمرًا مفزعًا. الوجوه الجميلة خاصة، لأنها كانت تقرض جمالها وتجرّبه بوصفه الجمال الأعلى. الوجوه الأخرى، الدميمة، كانت تتباهى بدمامتها، رافعة إياها كالعَلم، معتبرة إياها المعيار المطلق للعِلم.
رفعت يدي، ولمست وجناتها بأصابعي، وأنا آمل أن أحس بوجنة ابنتي حبيبتي المخبئة للتفاحة الساخنة في داخلها، فسرى في جسدي تيار كهربائيّ جعلني أرتعد، ودفعني إلى الخروج. قلت للشاب المجنون:
- هذه الوجوه ليست وجوهًا.
أجابني:
- إنها وجوه تماثيل.
- حتى للتماثيل وجوهها الساخنة!
دمدم:
- ما تقوله حق، بروفسور، ما تقوله حق.
- أكرر لك، لست بروفسور.
- كن بروفسور، واخرس، أحسن لك552، صاح المجنون.
أردت تركه، والذهاب للبحث عن ابنتي في أماكن أكثر إنسانية لما سمعته يقول:
- بالقدر الذي يوجد فيه الإنسان في أماكن أكثر تشييئًا بالقدر الذي يكون فيه الحظ أكبر في الوقوع على ابنتك.
جعلني أدخل في قاعة أخرى من قاعات الجامعة سماها هو قاعةًً وأنا مصنعًا.
39
كان الطلاب هنا يفتحون رؤوسهم البلاستيكية كرفاقهم في القاعة السابقة، وقد ضاعوا بين الآلات. لم يكونوا يحشونها بنخالة الخشب، وإنما بمصهور الحديد.
شرح لي الشاب المجنون أن هؤلاء هم أرقى بمعيار عن الآخرين، بفضلهم ستتحقق الطفرة نحو القرن الحادي والعشرين. إنهم جوهر حضارة لا مثيل لها، وبالنسبة لحضارتنا المشرقية، هم يشبهون البغال والحمير، بيد أنهم أقوياء إلى حد رفع أهرامات القرن القادم على أكتافهم. إن لهم روح المثابرة الأكيدة والطاعة الكاملة، جرأتهم تتجاوز جرأة كل الجيوش، وشجاعتهم شجاعة كل الليوث. إنهم آلات في أفعالهم، ولا كلمة واحدة تخرج من أفواههم، جحافل العمال المرصودين لرفع العِلم على أكتافهم إلى أعلى درجة، لإحكامه، للعمل على الإفادة من بعض مكاسبه لا منها كلها وإلا تجاوَزَنا العلم بمكاسبه وصار لنا كارثة، الانتفاع بفوائد العلم في مجموعها دفعة واحدة لن يخدم الإنسانية، بعضها فقط سيكون لها نافعًا، وذلك حسب المرحلة وحاجات المرحلة وحاجات حاجات المرحلة. لهذا السبب كل هؤلاء ليسوا هنا إلا من أجل مراقبة العلم، جرده، إحصائه، وتكريس أفضل مكتسباته لأفضل لحظة من زمننا.
لم أكن أستمع إليه، كنت قد تركته يثرثر إلى ما شاء الله. كل ذلك ما كان بالنسبة لي سوى ثرثرة طالما لم أقع بعد على ابنتي، ضلعي، جناحي. دفعني قلقي من أجل الوقوع عليها إلى إنعام النظر في الوجوه ذات المعالم الحديدية، وفي الوقت نفسه، كانت خشيتي كبيرة من وقوعي عليها. لم أكن أريد مصيرًا كهذا لها. كنت أعلم أن ابنتي ليست هنا، ومع ذلك، كان كلام الشاب المجنون يجعلني أتخيل الأسوأ. كان بالإمكان أن تكون ابنتي أيًا من كائنات الحديد هذه، فالورد الحديدي موجود في أورفليس، والقمر الحديدي موجود في أورفليس، والغزالة الحديدية. وكان الانطباع بأن تكون ابنتي في حديدِ أيةِ واحدةٍ من تلك البنات يثير في نفسي أبالية الأب والرعبية. كن يتشابهن كلهن بشكل غريب. أخذتُ إحداهن بين ذراعيّ صائحًا:
- ابنتي، وجدتك أخيرًا، يا ابنتي!
لكن الفتاة دفعتني عنها بعيدًا وعادت إلى ملء رأسها البلاستيكي بالحديد المصهور. قلت لأخرى:
- ابنتي! أنت ابنتي!
وأمام برودها قلت لثالثة:
- بل أنت ابنتي!
- ليس هكذا، بروفسور، قال الشاب المجنون، وهو يسحبني من كتفي.
- ليس هكذا كيف؟
- ليس هكذا، يا الله، أنت تفزعهن!
- كلهن بناتي.
- وأنا، من أكون؟ سأل ساخرًا.
ونحن نغادر "المصنع" العلمي، همست في أذن صاحبي:
- يا للحظ أني لم أقع على ابنتي! يا لحظي! يا لحظها!
لم يفهمني الشاب المجنون في البداية ثم فهمني:
- لو كانت ابنتك محظوظة بالفعل لوجدتها في القاعة الثالثة والأخيرة التي سندخلها.
قررت ألا أدخل القاعة الثالثة والأخيرة: أي عبث! اتجهت إلى الباب الخارجي للسور-با-بون (قدر غير جيد)، فاعترضني تمثال فكتور هيغو553، وأنا أرى الشاب المجنون يخرج لي من وراء التمثال الضخم. قبض عليّ من ذراعي، ودفعني من أمامه.
40
حتى هنا كان الطلاب يفتحون رؤوسهم البلاستيكية إلا أنهم كانوا يوكلونها إلى رجال آليين يخرجون منها أدمغتهم وبدلها يضعون أدمغة إلكترونية. قال لي الشاب المجنون.
- مستقبل العالم بين أيدي هؤلاء، إنهم أسياد البشر، خالقو الحضارة القادمة. هؤلاء هم الذين سيتربعون على أعلى قمم العمل. بعدهم لن يكون سوى سيد واحد أوحد، الرجل السامي التقاطيع. وإذا جاء يوم فقد فيه هذا سلطته صاروا هم أسياده، صاروا أسياد السيد554! ومع الأسف لن تفلت السلطة من بين يديه قبل مائة سنة، لأنهم متحدون في الوقت الحاضر من أجل خدمته، إلا إذا ما فرقهم مفرق. والتكنولوجيا، كما تعلم، تجمع من التفاصيل أقلها، وأكثر التفاصيل في القليل.
قلت له:
- ابنتي ليست بينهم. لماذا ليست بينهم؟ بكل بساطة لأنني لم أنذرها لخدمة الرجل السامي التقاطيع. إنه خصمي الخَطِر!
تردد الشاب المجنون:
- الحَقّ، بروفسور...
- الحَقّ ماذا؟
- لو كنتَ ابن زنا لتمكنت منه.
- ابن زنا أنا!
قبضت عليه من خناقه، وأنا أجذبه، أريد تحطيم أنفه، لكنه أوضح:
- هذا ما تقوله النبوءة555.
- هذا مناف للعقل.
- للنبوءة معنى خفيٌّ، الروحيٌّ تحت الجسديّ556.
- أية نبوءة؟
- النبوءة، يا الله! النبوءة. اسأل أثينا تخبرك.
- لو كانت أثينا هنا لما تركتني إلى كل هذا التعب والجهد بحثًا عن ابنتي دقيقة واحدة. ماتت أثينا، أيها الساذج!
- ساذجٌ أنا؟
- ما أنت سوى ساذج، مجنون!
- ليس هناك من مجنون ساذج!
- بلى، أنت! أنت مجنون وساذج!
- ليس هناك من ساذج مجنون!
- هناك جنون وجنون، وأنت جنونك أحمق!
- جنوني، ربما كان بريئًا، لكنه ليس ساذجًا!
- بلى، ساذج! أنت ساذج، أنت مجنون، أنت مجنون وساذج!
تمتم:
- أنت الساذج، أنت المجنون، لأن أثينا ابنتك. هل كنت تعرف هذا، يا الله؟ يا بريء الخُلُق؟ أثينا هي ابنتك557!
- أحمق!
- أ-ثييييينا-هيييييا-إب-نا-تو-كا!!!!!!!!!!!!
نبت للشاب المجنون جناحا نسر أسود، طار نحو قبة القاعة، أخذ مكانًا في إحدى لوحاتها بين أعناق نسور مقطوعة وملاكين متمردين558، وتركني أغرق في عدم اليقين. قلت لنفسي: لن أبقى في هيكل اللعنة هذا، لن أبقى في مصنع الرعب. سأذهب إلى البحث عن ابنتي في العالم السفلي لأورفليس، هناك حيث النسور لم تفقد بعد أعناقها.
وبينا أنا أغادر السوربون، سبقني شابٌ بخطوة عجلى ثم التفتَ إليّ، فعرفت فيه الشاب المجنون. ناديته، لكنه أخذ بالركض، واختفى بين الجموع.
41
لم أجد ابنتي في مصانع المعرفة، فقلت أذهب إلى مصانع الجهالة559 علني أقع عليها هناك.
اخترقت أحياء أورفليس المشبوهة، وأخذت أبحث عن ابنتي بين مومسات شارع شهير يحمل اسمهن560. كانت المومسات يقفن شبه عاريات على منصات أمام الدكاكين، وأمام كل واحدة شريطان من المخمل الأحمر مربوطان بعوارض من النحاس الأصفر لصف الزبائن المحتمل. وكانت أسعارهن مكتوبة بالضوء الأزرق فوق رؤوسهن، ترتفع وتنخفض حسب حركة السوق والتنافس بين قواديه الذي كانت تحكمه، بالطبع مثل أي سوق، قوة الشراء وجودة البضاعة، فالشقراوات هن الأغلى، وتلي الشقراوات السمراوات، ثم الصفراوات، فالسوداوات. قالت لي أثينا ذات مرة، في البداية، لن تهبط إلى هاويتك، ستصعد هاويتك إليك، فتأخذك أفريقيا بين ذراعيها المقطوعتين، ويختلط دمك بدمها على رخام أسود. وكانت هناك أغلى الشقراوات، وأغلى السمراوات، وكذلك فيما يخص الصفراوات والسوداوات، تبعًا لمعايير لا يفهم فيها إلا التجار في بيع الأجساد، مستهلكة كانت أم أقل استهلاكًا، شابة كانت أم أقل شبابًا، طويلة كانت أم قصيرة، نحيفة كانت أم بدينة... وقالت لي أثينا إن جحيمي أشقر، ثم أصفر، ثم أحمر، للبشر جحيم واحد، وأنا جحيمي ثلاثة. لم أكن أعرف في أيها كنت، كانت مومس تنادي الزبون، وأخرى تحاول التعلق به لئلا تأخذه غيرها على بعد أمتار منها في الدكان المجاورة، وهي تطري بأوصافٍ عظمى محاسن زميلتها العارضة لجسدها على المنصة. كل هذا الممنوع المباح لي إذن، كل هذا الأبد المنتهي، كل هذا اللهب المجمَّد! لكن الصفوف تبقى فارغة أو شبه فارغة حتى تنخفض الأسعار، ويصل التنافس ما بين دكاكين بيع الأجساد أوجه، فتدق الأجراس، وتبدأ الفتيات بالصياح والصداح، والأضواء بالاشتعال والانطفاء، ويصبح الشارع كله أورفليس في عيدٍ للجحيم. لم أكن أعلم أن للجحيم عيدًا، لم أكن أعلم أن الجحيم على مثل هذا الجحيم، على مثل هذا الاصطلاء، لم أكن أعلم أن ملح الدم سعادة النزيف، والحمم قبلات الحريق، هناك حيث الحب دمار، والدمار حرية، النهد أوركسترا، والساق للشبق ناي، وفرج المرأة كل موسيقى الدنيا.
أبدًا لم تكن ابنتي لتشبه إحداهن، لأنها كانت ابنتي، ولأن أثينا صنعتها لتكون شيئًا عظيمًا مثلها. كانت ابنتي أثينا بشكل من الأشكال، لم يكن الشاب المجنون على خطأ، لقد صنعتها لتكون أثينا أخرى، ولترث على أرضها منها.
كانت الصفوف قد امتلأت بالزبائن، فتقدمت من جحيمي الأشقر، فتاة المنصة الشقراء التي ما لبثت أن غادرتها من باب خلفها يؤدي إلى ممر كل شيء فيه مبرمج ببراعة حسب أحدث برامج التفاحة. كان الرجل يدفع ثمن اللذة إلى آلة تعطيه بالمقابل قرصًا يفتح به باب قاعة يخلع فيها ثيابه، ومنها يمضي بحمام يرش فيه جسده رشًا سريعًا، ثم بقاعة أخرى فيها عدد من البنات اللاتي يعملن على انتصاب قضيبه، تلبسه حارسة باب النكاح حافظًا، وما أن يجتاز الباب حتى يجد فتاة المنصة مشرعة فخذيها تحت قمر أحمر، فيلقي بنفسه عليها، ويقوم بصنعه بينا ينتظر زبونٌ آخرُ من ورائه دوره، وهكذا إلى نهاية النعيم.
ستصعد هاويتك إليك، قالت لي أثينا ذات مرة، وهاويتي كانت النعيم، فأين الجحيم منها؟
في زاوية أخرى من زوايا الشارع، كان رجل أنيق الملبس يساوم مومسًا تشبه من بعيد أثينا، فسقط قلبي في الهاوية. أيكون هذا إذن مصير ابنتي؟ وأنا أتقدم من الفتاة متسلحًا بكل العنف الذي توجبه حالة كهذه حالة اكتشفتُ في اللحظة الأخيرة، وأنا على وشك أن أدق مخالبي في عنق الفتاة، أنها كانت سوداء. لم أزل إذن أذبح روحي على الرخام! فركت عينيّ، وأنا أطلق نفسًا عميقًا. هذه المرة سقط قلبي في الهاوية، ولم أسقط كلي، ومنذ قليل كنت فقط ثأري، ولم أكن ثأر كل الآباء الذين صنعوا من بناتهم غير ما صنعوا561، والآن أغدو غير هذا الأب الفاقد لأبوته، والذي ينظر من حوله دون أن يميز شيئًا.
فركت عينيّ مرة ثانية، واخترقت زقاقًا طويلاً، كانت خطواتي من وراء هذا الاختيار562. تركت نفسي تذهب طوع خطواتي إلى أن سمعت فجأة صرخات مختنقة لبنات كان بعضهم في صدد جلدهن. نظرت من النافذة، فرأيت جمعًا من الفتيات الصفراوات لهن من العمر ما لابنتي، وقد وقعن فرائس لرجال بشعي الخلقة شنيعي الخلق يفرضون عليهن أوضاعًا من جهنم تدكهن دكًا. كانوا ينقضون عليهن بفروجهم من كل حدب وصوب، والبنات يصرخن، وعلى الرُّغم منهن يخضعن لشططهم وشذوذهم563.
أردت الصراخ بدوري، لكن صراخي قد تحجر في حلقي. كان حلقي حجرًا، أحس بنفسي مدعوسًا، بل وأكثر، مسحوقًا، مبقورًا، لم تكن لديّ قوة، قليل القوة، ولم تكن لديّ شجاعة، قليل الشجاعة. وماذا لو كانت ابنتي إحداهن؟ اخترقْ جحيم الوهم، واقطعْ عرق يدك بنصل الكذب! افرحْ لعذابك، فالعذاب انتشاء، وليكن فرحك أصعب لحظة في حياتك! بل تعاسة الذليل، المهيض الجناح، المستباح. لم أعد موجودًا564، لم أعد أنا، لم أعد لون جلدي الأسمر، لم أعد شوك شعري الأكرت، لم أعد تاريخ حلمي الطويل، لم أعد لحظة تدميري على هواي، لم أعد إرادة عجزي المحرر، لم أعد ملح دمعي الخلاق. كنت حذاءً مهجورًا في شارع "العهرية"، قبلة مستحيلة، لمسة من يد امرأة في كابوس. اختلطت توسلات الاسترحام بشخير الخنازير، ولم يعد بإمكاني متابعة المشهد، غدا الأمر معي، وكأني أنا كل تلكم البنات، وكأني أنا موضوع الرجم والجرم.
ذهبت إلى البحث عن كرامتي في فكرتي، في أفكاري: لا شيء في استطاعتنا تمامًا سوى أفكارنا565. أرغمت نفسي على الابتعاد أكثر ما يكون الابتعاد عن جحيمي الأصفر: لحمٌ جحيميّ، وغرامٌ جحيميّ، ورذيلةٌ فردوسية! حتى المومسات بأقمارهن كان لهن جموح الملائكة! واهن العزيمة، لم تعد لي رغبة في البحث عن ابنتي. حتى وإن وجدتها، لم أعد أريدها، بيد أني كنت مضطرًا للمضي بحي المخدَّرين566.
42
كانوا قيامًا قعودًا أمام متجر لبيع المخدرات567، فتياتٍ وفتيةً في ربيع العمر، حُمرًا كلهم، بشرًا من عندهم، في آخر النهار، وآخر النهار أفق من نار، وفضاء أزرق وأسود. وكانوا يدفعون ثمن الكوكايين غاليًا، مالاً أخضر، أو يجعلونهم يدفعون شيئًا آخر، الجسد أول الأشياء، بقبح عادي: كان شرف الفتى أو الفتاة رخيصًا جدًا، الشرف كلمة ليس لها معنى، العفة لا أحد يسمع عنها، قلق الأب على ابنه أو ابنته بدعة. لم أر في حياتي مثل تلك اللوحة، اختلاط القامات، جذوع الشجر، وابتهالات شفاه مجتثة. كنت لا أرى سوى شفاه تصيح، وأحيانًا بعض جفون منتوشة الرمش. بشر من عندنا.
في شقة فخمة خلف المتجر، كان القبضايات يرمونهم بين ذراعي الرجل السامي التقاطيع568 ليفعل فيهم ما يفعل، وبدوره كان يتركهم لرجاله الذئاب، لذئابه الرجال، ليبدأ بالفعل جحيمهم. بشر من عندهم، في ربيع العمر، وصيف الرغبات الكهلة.
لكن الرجل السامي التقاطيع لم يكن ليتركهم هكذا، لم تكن هذه هي حاله معهم. كان يختار الفتى أو الفتاة بدقة، إن أعجبته فتاة امتلكها ما شاء له الامتلاك، وإن حملت منه أجبر أحد رجاله على الزواج منها كي يكون ابن السفاح شرعيًا569، التربية الحسنة والنبالة السامية توجبان ذلك، هذا إن لم تسقطه قبل أن تضعه، والطرق كثيرة، طَرْقُ الجنين بقضيب، أو حشوه فيها، أو إسقاطها هي من فوق ناطحة سحاب: انتحار! أو رميها بين أسنان الذئاب، أو... أو... الطرق أكثر من كثيرة. أما إن أعجبه فتى جعل منه ذئبًا من ذئابه بعد أن يُشبع منه الذئب الذي فيه، الهيمنة اللبقة والسلطة الحازمة تفرضان ذلك، هذا إن لم يجر سلبه من كليته، من جوهره، من كله، ورميه في محطات الموت ودهاليزها مع الرعاع، بصاق القوم، الحثالة. أما عنه، فقد كان الجميل، وسيبقى، النبيل، النظيف، السامي التقاطيع، ولكن يديه كانتا قذرتين... قذرتين... حتى كوعيه570!
سخرت من نفسي، فابنتي لن تتعاطى المخدرات أبدًا، وإذا ما كانت هذه هي حالها، فلن تعطي جسدها للرجل السامي التقاطيع، لن تعطي جسدها لأي كان قبل الزواج كما تنص عليه عاداتنا وتقاليدنا. هذا الشخص الداسر ستقتله بالأحرى، وستقتل نفسها. جحيم الجسد لن تعرف الطريق إليه، ولا إلى جحيم الدنيا. ناري أرحم، برد على القلب، وسلام للنفس. كنت فخورًا بها، لأنها ستقتله، ولن تدعه يلوث شرفها. بيد أني تذكرت الشاب المجنون، وما كان يقول بخصوص هزيمة الرجل السامي التقاطيع على يدي نغل. ابنتي كانت مني ومن أثينا، ولم تكن ابنة زنا. استبعدت فكرة أن يموت الرجل السامي التقاطيع على يدها، وأن يمارس كل الفواحش معها بكل حرية. كانت حريته عبوديتي، وأن أتخيله هكذا كان وسيلة من وسائل قهره. لم أكن حرًا إلا في الفكر571، إلا أن التفكير في ابنتي وهي بين ذراعيه كان يحيلني إلى عبد بكل ما في الكلمة من معنى. الجحيم في الرأس، هذا ما عنته أثينا. جحيم الإنسان في دماغه، يكفي أن أتخيل، أن أحلم. لم أكن حرًا، أن أفكر في ابنتي هكذا كان يحيلني إلى عبد رقيق. قطعة ماس أو قطعة سلاح أو بئر نفط. حفلة دم واغتصاب ومرايا محطمة. رؤوس مقتطعة في شوارع رام الله، وأمي جسد كلبة ميتة... دون رأس. كان رأس الكلبة الميتة المقتطع الغائب الضائع الغارق في النتانة هو ابنتي.
هذه المرة، تمكنت من الصراخ، صراخ أقرب إلى العُواء، أخذت أعوي في وجه العالم. تمزقت عروقٌ في رأسي، وبدوت مجنونًا. أَخَفْتُ المخَدَّرين، فانقضت أكثر البنات منهن أُنسًا عليّ، ومزقن بمخالبهن وجهي572. أذهلني توحشهن المفاجئ! طبيعتهن المتحررة من أثر الكوكايين، وأنا، لهذا، لم أدافع عن نفسي، لم ألملم أشلائي، لم أقتطع يدي اليمنى لأثبت للعالم أني أنا من اقتطع يده اليسرى، لم أذهب إلى عناق المستحيل، لم أستحل إلى الإنسان الذي فيّ، ورضيت بالذئب المهان. تركتهن يفعلن فيّ ما طاب لهن أن يفعلن، وجعلت من أمر الضحية لأجل الأمر على يد تلكم البنات الناجيات من أفران الموت أمري. فتيات من عندهم. ألقوا بهن في النار. انقضت النار على جمالهن أول ما انقضت لتبقى الأجمل، فذبن كالشمع. بلمح البصر ذبن. ذابت الوجنتان، والنهدان ذابا، وذاب البطن، والساقان ذابا، ثم احترق التفاح والكرز وقبلة أو قبلتين على الخاصرة، وشم العالم رائحة ثخينة للصندل، لم تكن رائحة الموت، وإنما رائحة ثخينة للصندل، رائحة تخنق الأنفاس، ثم تكربنت الأجساد، اسودت، وغدت بلون الفحم، وشم العالم رائحة ثخينة للحم المحترق، بشر من عندهم، رائحة أقرب إلى رائحة باربكيو نسيه المحتفلون، وعند ذلك دقت في الفحم النار، وانطلقت العصافير من رحمها. كل عصفور نبيعه بمدينة ونشتريه بمخيم، كل عصفور نبيعه بعصفور ونشتريه بسرب. بشر من عندنا وعندهم، عصافير من عندنا وعندهم. رحم النار. عصافير النار. أحصنة الدمار.
كان الرجل السامي التقاطيع قد فهم كل شيء، فبعث برجاله الذئاب وذئابه الرجال ليلقنوا ذلك الشخص –الذي لم يكن أحدًا آخر غيري- درسًا لن ينساه بعد أن أراد بكل ما أوتي من بأس احتمال الحقد ومكابدة التعذيب والخضوع لعدم العدالة. كان يعلم أن كل ما تلقيته من ضربات مخالب كان ضده، كل تلك التأوهات، كل تلك الجراح. بشر من عندنا. رحم النار. عصافير اللهب. الذنب ذنبك وذنب العالم! أحصنة الموت. إذا كان الذنب ذنبي فهو ذنب العالم، وإذا لم يكن الذنب ذنبي فهو ذنب العالم! نهشتني الذئاب، وبكتني. بشرنا وبشرهم. ذئابنا وذئابهم. كانت الذئاب بشرًا من عندهم، وعصافير النار بشرًا من عندنا وعندهم. بكت الذئاب قتلاها، وقتلتني. بشر من عندنا. أراد أن يبرهن لهن أن لا قوي غيره في أورفليس، الألم ماسه، والدم ذهبه، والدمع كازه.
عادت الفتيات إلى المتجر شاحبات، مريميات، وكان إحساس بالخطر يملأ صدورهن273. أما أنا، وقد امتلأت بشعور الحيوان المنكسر، فقد دفعني الرجال الذئاب حتى حدود الحي. سقط الليل، فنظر القمر إليّ بعين جذلى. لن أستيقظ في الصباح، ولن أنهض فرحًا، شهيّ الشفة، وأنا أفرك عينيّ. لن أذهب كما كنت أذهب في أيام العيد الكبرى274 بشعري المشعث وعينيّ المشعتين. وجدت نفسي محاطًا فجأة بإحدى عصابات الليل التي تدللها أورفليس كما تدلل فلذاتها275.
43
هاجمني أفراد العصابة الشقر بعصيهم، وشحذوا كل ما لديهم من خيال لضربي، وكل منهم يؤلمني على طريقته، وكل منهم يختلق طريقته الخاصة به لحصد الحنطة عن جلدي ونزع جلدي576.
سدد الأول أرنبة أنفي، والثاني شريط أذني، والثالث أطراف أصابعي. اقتلع رابع رمشي، وكوى خامس كتفي، وكسر سادس رأسي، وحز سابع حلمتي... انهارت قلاعي، وارمدت براكيني، وسقطت دار خلدي في الخراب، ماس ظلامي في البياض، وخيم جحيم الأبيض على العالم. ساط سابع ركبتيّ، وجلد ثامن ظهري، وفتق تاسع سُرّتي... لم يعد نبعي ينبع، ولا فوهي يفوه، ولا أوتاري تتوتر. لم يعد عود الموت يطرب قروش الصحارى كما كان يطرب، وطبلة الحرب ترقص عليها شقراوات الأدغال كما كانت ترقص. تقوس جسدي، عيني في القبر، وقابيل في عيني577.
لم أطلب أن يكفوا عن تعذيبي لأني كنت لا أستطيع أن أطلب، لم أعترف أني كنت مسالمًا منذ نعومة أظافري لأني كنت لا أستطيع أن أعترف، لم أرفع شعار الجمهورية578 لأني كنت لا أستطيع أن أرفع في وجوههم حتى إصبع يدي الأصغر. ضحكوا مني، وعلى إيقاع موسيقى المارسييز ضاعفوا من عنفهم ضدي، نوّعوه أكثر، وتفننوا، ليس من أجل التلذذ، وإنما العنف لأجل العنف. التعنيف. الترهيب. التفتيت. السحق لأجل السحق.
مرت عصابة من زقاقيي الخيل، وسخر أفرادها من أجلي بأول نشيد للحرية، فنشبت معركة بين الشقر والسمر من حول الوطنية. عودوا إلى دياركم! كانوا لا يعرفون أن العالم اليوم دارهم، وأنهم كلهم في العالم قتلة! كانوا لا يعرفون أن العالم فخذان مشرعتان! وكانوا لا يعرفون أن العالم أبٌ يبحث عن ابنته مثلي، نصلٌ في قلب! كانوا لا يريدون أن يعرفوا، وهم لهذا عادوا إليّ للإنتقام من كل الغرباء.
قلت لهم ما أنا هنا إلا من أجل البحث عن ابنتي، فلم يبالوا. قلت لهم لإبهارهم وليس لأن الشاب المجنون كان محقًا إن كانوا يعلمون أن ابنتي أثينا وأثينا زوجتي، فاتهموني بالانحلال، وكانوا على وشك الإجهاز عليّ. آخرون عُذبوا، أبدًا مثلي، أبدًا بمثل هذا الكره، وعلى مثل هذه الدرجة. عوقبت كما لم يعاقب أحد، أُبعدت، وطُرحت. جَسّدت العقاب، الإبعاد، الرمي، الطرح. كنت فريسة كل الوحوش، جسدًا أماتوه. بالتعذيب والكبح، دون ذنب.
بدأ الضراة يلهثون من التعب، ومع ذلك استمروا. رجوتهم أن يرتاحوا مقابل أن أفعل كل ما يطلبونه مني، وكأنهم ما كانوا ينتظرون إلا هذا. دفعوا لي عصا، وأمروني بتعذيب كل فتاة تقع بين أيديهم.
- نحن قطاع طرق شرفاء، اعترفوا لي. تلك البنات الغائطات هن عارنا!
- أية بنات؟ بنات الهوى؟
- بنات قفاي! بصق أحدهم. كل البنات دون استثناء579، كل النساء مومسات إن كنت تعلم.
- لم أكن أعلم.
- أنت تعلم الآن، يا ابن المومس!
- وأمك؟
ظننت أني قد استفززته إلى درجة التوقيع على صك موتي، ولدهشتي العظمى سمعته يقول:
- أُمي مثلها مثل أُم كل واحد هنا مومس أيضًا، فماذا تقول يا ابن أكبر مومس بين المومسات؟
ترددت قليلاً، وأنا أفكر في ابنتي، بيد أني لم يكن لي الخيار، وإلا صفوني في الحال. وعلى أي حال، لا يمكنني الحديث عن خيار، وهذا وضعي. في وضع حر أنا شرطي، هو شرطه، نحن شرطنا. في وضع عبودي، لسنا شرطنا، الخيار والفاجع سيان. أيكون لابن الذئب خيار آخر أمام جُرح أمه غير لعقه؟ ولابن الغراب خيار آخر أمام لونها الأبيض غير رشقها بالدغام؟ ولابنة الأفعى خيار آخر أمام إنقاذها من الموت غير شرب سمها؟ لقد اختير لي، أنا المجرم بنفسي.
كان عليّ أن أنفي الجرم بارتكاب الجرم، وأن أبرهن أني قادر على فعل أي شيء وكل شيء. كان الأمر معي، وكأني بصدد مواجهتي لنفسي. أن أواجه نفسي، ولأواجه نفسي، كان عليّ أن أثبت نفسي، وأن أبرهن على قدرتي، أنا الفاقد لكل قدرة، على تنفيذ ذلك. كان أمرًا أقرب إلى العبث، العبث في القبح!
في البداية، كانت ضرباتي لا توجع كثيرًا، وبعد ذلك، اعتدت الأمر580. الضرب، وبقوة أكثر فأكثر، كان يجعل قضيبي ينتصب. كن أناثاً، يا رب الخلق! نعم، الضرب بعصاي، وبقسوة، كان يثيرني بضخامة581. هذا ما لم يكن الرجل العادل يعلمه. كان يعتقد باحتقار المحتقرين، ليس إلى هذا النوع من الاستثارة الإنسانية حصرًا. لأن حتى الوحوش الأكثر ضراوة لن تشعر بما كنت أشعر عند جلطي لورك مرمريّ أو ثدي مُخضِع. والبربرية لن تكون أبدًا بربرية بالمقارنة مع قطاع طرق الخزي هؤلاء. هذا أيضًا كان الرجل العادل يجهله: لقد كان أقل عدلاً مما كان! وتلكم الفتيات البائسات كن يبلن في سراويلهن، وكن يتغوطن فيها، وأنا لا أتوقف عن إماتتهن. لم أكن أثأر لحالتي، لم أكن آمل بأخرى أفضل منها، تلك التي لسفّاحي. لا شيء من هذا. كانت تلك اللذة التي لا توصف أمام السَّجْح النسائي مهما كان صغيرًا. لم أشأ بعد ذلك الوقوع على ابنتي بالفعل، وهي لو عادت لي لضربتها حتى الموت582.
44
أثرت حَنَق العصابة، لأني كنت في مادة التعذيب الأكثر مهارة. لم تكن آلهة الدمار بدعة الإنسان وصنعته. كانت الإنسان. لهذا كان الإنسان على طريقته إلهًا، وكانت طريقته الأشد قبحًا مذ كان إنسان. كان قطاع الطرق كلما عذبوني أكثر أبدع أكثر في تعذيب غيري، وهم لهذا السبب، قطاع الطرق، اللصوص، المرحاضيون، تلكم الآلهة الصغار، لم يعودوا يعذبونني كما كانوا يعذبونني، وذلك من أجل إرغامي على أن أكون أخرق في تعذيب غيري، عديم المهارة. أبدى بعضهم بعض الغيرة، وبعضهم الآخر بعض الزهق583. كنت عليهم متفوقًا في هذا الفن الدقيق بفضل النَّكال الذي أحاقوه بي، وهم لهذا دفعوني على رخام أسود، وقيدوني بذراعين سوداوين مقطوعتين، اختلط دمي بدمهما. وبعد ذلك، لم يطردوني من عندهم فقط بل ورافقوني حتى أبواب جزيرة القديس لويس.
كنت مضطرًا إذن بعد أن وضعوا حدًا لأعظم طاقة عندي إلى العودة إلى البحث عن ابنتي، كان ذلك نوعًا من تشغيل بطالتي الإنسانية، حقًا من حقوق المواطنة، والطرق على أبواب المستقبل: كانت ابنتي لحظة من لحظات المستقبل، رغبة من رغباتي الزمنية، وكان عليّ أن أجدها في مكان ما في اللامكان، في تلك الجزيرة التي لا جذر لها ولا أصل، فهي جذري، وهي أصلي. ومع ذلك، كانت ابنتي على صورة جزيرة القديس لويس منتزعة الجذر584 وبلا أصل، ولم يكن أحد آخر غير الرجل السامي التقاطيع قائمًا فيها كالقيامة، السنديانة الوحيدة الراسخة في الأرض بين كل سنديانات السين الأخرى الضعيفة في شرشها، وهو لهذا السبب كان يهيمن، يعتدي، يغتصب، يعتبر نفسه الامبراطور الأخير. انهارت صروح الصين، وأضاء قمر أصفر، كان الضوء الأصفر للقمر ابنتي. وكان الرجل السامي التقاطيع بالضباب الأسود فخورًا، فهو حضارة نظامه الشعبي، الدين والحرية، يطغى على كل شيء في الجزيرة، فتصبح كل الألوان فيها سوداء حتى اللون الأصفر. أوصافه أيضًا تصبح كلها واحدة: الدكتاتور، المهيمن، المستبد، سيد المرتشين، سيد المدلسين، سيد المختلقين، تصبح كلها أوصافًا سامية.
مضى من أمامي، وهو يقود عربته الذهبية التي تجرها أحصنة عربية أصيلة. كان ذاهبًا إلى قصر بناه في الجزيرة بدم أهالي أورفليس فريسة "تكنولوجياه". عندما كان ينفجر ضاحكًا، كان له شكل الملك المغولي، وتقاطيعه السامية كبياض جلده لم تكن إلا الظاهر فيه. كانت لما تزل لديه أوصاف البرابرة. فكرت فيما قاله الشاب المجنون. لم تكن بي حاجة إلى أن أكون دعيًا كي يكون على يدي أجله. يكفي أن أستغل بربريته الخفية لأهزم نبله الزائف. ترددت. لم تكن بربريتي من النوع الذي يسمح لي القيام بفعل كهذا كما يجب. كنت أقرب إلى الرجل المتحضر، وإن كنت في أصلي ابنًا للخيل. كان الشاب المجنون على صواب. الوسيلة الوحيدة، الوسيلة الأكثر سهولة كي أضع حدًا لمثل هذا النبل وذلك السمو كانت أن أكون ابن سفاح585. هكذا فقط يمكن للنبوءة أن تتحقق. ترددت مرة أخرى لأني كنت أعرف من كنت. الوحيد الذي لم يكن في أورفليس ابنًا هجينًا كان أنا، وكل من كان يحيط بي ابن زنا. لماذا إذن لم يتحرك منهم أحد؟ واحد فقط؟ فقط واحد؟ باسم الجميع؟ كان كل أولئك الدعيين مكبلين بالعار، عار يصمهم منذ أجيال وأجيال. المحرر، ذلك الرجل المنتظَر، سيكون حقًا مثلهم، ولكن مع شيء مختلف. كان ذلك شرط المجد. إنجاح التغيير عندما تموت العصافير من الجليد دفعة واحدة، وتغدو للبشر الأقفاص وللذئاب مراكز الشرطة.
شككت مرة أخرى في أمري. أيكون الرجل المنتظَر أنا دون أن أدري586؟ فكرت في الذهاب إلى أمي لأعرف إذا ما كان لي أب حقًا.
انفجر ضحك في ظهري587، كان الضحك لأثينا، وبما أن أثينا كانت قد ماتت، ما قاله الشاب المجنون إذن صحيح: كانت أثينا وابنتي شخصًا واحدًا. أمس كانت أثينا زوجتي، واليوم هي ابنتي. ولكن أين أجدها تلك الابنة العاقّة؟ وإن وجدتها، فهل ستعينني على إثبات من أنا؟ ذهبت باتجاه الضحك، ونظرت في كل الأنحاء دون أن أقع على أحد. لم يكن الضحك إذن حقيقيًا، كان ذلك على التأكيد جزءًا من هذياناتي.
45
بحثت عن ابنتي في جزيرة القديس لويس، اخترقت الطرقات المبلطة، ونظرت إلى داخل الدكاكين المسدلة أبوابها إلى منتصفها. كان العابرون قلة، وكانت الجزيرة تبدو مهجورة، عالمًا من العوالم الغابرة، أو جزءًا من حلم مرعب، مقبرةً مضببة، وسفينةً محطمة، ومقصلة.
في المساء، أسقط الليل قطع ثيابه الثقيلة، وتساقطت أضواء القناديل القتيلة على جسد أبيض كان الموت. دبت الحركة في الطرقات، حركة جثث قامت من لحودها، وخُطى أناسٍ ما كنتُ لأعيرها أدنى اهتمام في مكان آخر: الأحدب أحدب والأعور أعور والمشوه مشوه588. كانوا بالعشرات، وكانوا لا يتخالطون، وكأن كل واحد يريد أن يبرهن على انتمائه لشريحة من البشر يتميز بها تمامًا عن غيره بعد أن اعتاد على ما أضاع، إلا أنهم، على مرأى الدخيل الذي كنته لهم، اتحدوا كلهم في جبهة واحدة ضدي. أنا من كنت غريبًا وصحيحًا، أنا من كنت عما أضعت باحثًا، كنت أشكل خطرًا عليهم.
عند منعطف شارع صغير، انقضوا عليّ، دفعوني تحت أحد المصابيح، وأخذوا باستنطاقي: من أي عرق أنت؟ من أي بلد؟ لماذا أنت عندنا؟ ماذا تعمل؟ أين تسكن؟ هل تقبض معونات عائلية؟ هل أنت لص؟ مجرم؟ مخالف للقانون؟ بلا أوراق؟ مهرب مخدرات؟ مندمج؟ غير مندمج؟ فرنسي جدير بفرنسيته؟ غير جدير؟ في وضع قانوني؟ غير قانوني589؟ وكنت أسمع من خلفي فحيحًا: لنقتله! لنرمه في السين! لنلق به على الحدود! غريب! غريب! أجنبيّ! مغتربٌ غائطيّ! عجزُنا! تشوّهُنا! جدْعُنا! العمل هو من حرمنا منه! القبر اللائق! العون الاجتماعي! هذا الألله أكبر المراحيض! البسم الله المزابل! المحمد المجاري! ال... ال... ال.. كضيف الذل كنت، وكأفاعي الإباء كانوا. كنت في جحيم النعيم، وكانوا في نعيم الجحيم يفحون فحيح العُجْب. كنت قبلة الأنفة، وكانوا ذهب الليل. كتلاً متراكمة من الدغام كانوا، وصخورًا باردة، بيضاء، منتصبة في الفراغ السحيق، وريحًا تصر. وذاك العُواء الذي كان يقص الأذن، الحاد كالنصل، المديد، البعيد، السعيد، المحتفل بالموت، وإلا ما قيمة الموت دون احتفال، وما معنى أن أكون حيًا في الدمامة والدم؟ بدوا لي للحظة أنهم أجمل بشر، أقمار في النار. احترقت الأقمار، وأخذوا بالصراخ، بتهديدي، بدفعي، باقتحام ظلي، لم يكن لي سوى ظلي معي، وفكرة عاجزة عن النهوض من الموت، وعودة الفينيق، وانتصار الضعفاء، وفي اللحظة التي أيقنت فيها من عبث المقاومة، وعزمت على الاستسلام، انفتحت نافذة، وأطلت منها فتاة أجمل من قمر. ابنتي! أتكون ابنتي؟ أتكون هي؟ لم يكن يمكنني رؤيتها بوضوح، لكنها لم تتأخر عن إحضار دلو ماء رشقت به تلك الكائنات الضعيفة الجبانة والتي تهاجمني بحمية وشجاعة، فهربت تاركتني وحدي تحت نافذة منقذتي.
أشارت إلي بالانتظار، واختفت. حسبت أنها ستحضر، أنها ستشدني إلى صدرها قائلة: "آه! أبي!" لكن شابًا عينه اليمنى مفقوءة، ومِنخره الأيمن ممزق، وشفته السفلى مقطوعة، وساقه اليمنى مبتورة590، خرج من العمارة، وتقدم مني على عكازيه. سحبني من ذراعي إلى باب واطئ في الجهة الأخرى من الشارع دفعه بقدمه الوحيدة. أدخلني في حجرة كبيرة، وغادرني دون أن يفوه بكلمة واحدة. وفي الوقت ذاته، دخلت الفتاة التي رأيتها منذ لحظات، كانت ابنتي. ثم لا، وأنا أراها عن مقربة. كانت لا تشبه أثينا، وأنا قد أخطأت.
أكدت الفتاة:
- أنا ابنتك.
أقنعتني طريقتها في الكلام، وصوتها الرنان كصوت أمها. شدتني إلى صدرها، فشددتها إلى صدري، وأنا أهمهم:
- وجدتك أخيرًا، يا ابنتي!
استمرت تشدني إلى صدرها، وهي تهمهم بدورها:
- كم أنت رائع، يا أبي! كم أنت رقيق القلب!
- كسير القلب!
- آه! يا أبي!
- آه! يا ابنتي!
أخذتُ بالبكاء، وأنا أحكي لها عما كابدتُ لأجلها من أوجاع، فطمأنتني، وهي من جديد تشدني إلى صدرها، وتهمس في أذني:
- الأوجاع انتهت! وابتداء من الآن ليس هناك غير الأفراح لنا.
التصقت بي أكثر، وأنا أردد:
- آه! يا ابنتي! يا ابنتي الغالية على قلبي! الآن وقد وجدتك، وعرفت من أنت، أود أن أعرف من أنا.
- امرأة واحدة من بين كل النساء تعرف من أنت، قالت بنبرة حاسمة.
- أثينا، صحت.
- أمك.
- أين سأجد أمي؟ تأوهت. أردت الذهاب إليها، ولكن أين؟ لا نار لها ولا قرار، لا عتبة لها ولا دار591. قولي لي أين أجدها كي أذهب إليها.
- لن تجدها أنت، ستجدك هي.
- كيف هذا؟ سألت حائرًا.
- إذا أثبتّ أنك بالفعل ابن سفاح.
- هي من عليها إثبات ذلك.
- ليس ضروريًا.
- هي وهي فقط من يمكنها معرفة ذلك.
- معرفة مع من صنعتك؟
- وإذا كان أبي قبل الزواج أو بعده.
- أنت تقلب على رأسك الدنيا من أجل لا شيء، يا أبي!
- ما العمل إذن؟
- ومع ذلك، فالأمر سهل...
انقضت على فمي، وعضتني، فبصقت دمًا، وأنا من شدة الحنق أزبد، وأرغي. تحولت ابنتي إلى عنق أفعى، فقرن ظبي، فلسان ثور، فضرع بقرة، ففخذ لبؤة، فخرطوم ذبابة، ففرج فراشة، فجناح نسر قذفتني به أثينا في وجهي قبل أن تختفي، وتنفجر ضاحكة592.
46
وبينا أنا أخرج من الباب الواطئ كضائع مضيع لعقله بقدر ما كنت عاجزًا عن تصديق ما حدث، قطع عليّ الشاب المعاق الطريق، فحاولت التخلص منه دون أن أفلح. تعلق بذراعي، وسحبني إلى باب آخر واطئ كأخيه. دفعني منه في حجرة أخرى كبيرة كأختها، وأغلق عليّ الباب بالمفتاح بعد أن خرج. انفتحت ستارة لأجد نفسي أمام الشاب المجنون، وما عاد للشاب المجنون شكل المجنون الذي كان له.
قال لي:
- أنا ابن عمك593 الذي لم يكن لك أبدًا. بحثت عنك في كل مكان قبل أن أجدك.
سألت حائرًا:
- ابن عم لم يكن لي أبدًا؟
- لنقل ابن عم بعيد.
- ابن عم بعيد لم يكن لي أبدًا؟
- لا تعقد الأمور، بروفسور، ابن عم، نقطة أول السطر.
- وقد بحثت عني في كل مكان؟
- الواقع، يا ابن عمي، أنت من كنت تبحث عني دون أن تعلم.
عرفت أنه يتكلم غير مباشرة عن هوية النغل التي كانت لي، هوية أمر مستحيل أريد إثباته، فنظرت إليه، وكأني أقع على لُقية ليست ممكنة، وكأني أقع على نفس ليست معقولة في عالم ليس معقولاً. كان إدراكي لكل هذا ليس إدراكًا، لكني واصلت السير فيما لا يُدرك مع أمل الوصول إلى ما أبتغي، كان ذلك أشبه بلعبة المرايا.
وجدت والحال هذه أن في اجتماعي بابن عم غير ممكن وغير معقول ما يدعو للتفاؤل، فلربما كان يعلم إن كانت ولادتي دون زواج أو إن كان أبي ليس أبي. سألته إذا ما كان أبوه لم يزل حيًا، فأجاب:
- لم يزل، وله ذاكرة أشبه بذاكرة أمة سبأ رغم سنيه التسعين.
- يعرف على التأكيد إذا ما كنت ابنًا طبيعيًا.
غضب ابن عمي:
- أنت ابن عمي! وابن عم لي لا يمكن إلا أن يكون ابنًا شرعيًا. في حياة أبيك، حقًا كان أبوك وأبي لا يتحابان، لكنهما كانا أخوين شرعيين من أب واحد يعيشان تحت سقف واحد. وأنت، ابن أبيك بعد الزواج، تمامًا كما هو أنا بعد الزواج ابن أبي. لماذا تشك في جوهرك؟
- أريد أن أكون ابن زنا594، همهمت.
صاح ابن عمي:
- حقًا إنها نهاية العالم!
عندما شاهد دمعًا ينبثق من عينيّ، لف كتفيّ بذراعه، وأوفى لي:
- ابن زنا أو عدمه، كنت أظنك ميتًا، لم أعلم أين كنت إلا منذ أن تضاربت مع سفلة القوم في أورفليس، شراميط الغائط الكارهين للغرباء. عند ذلك، بعثت في طلبك. لنحتفل في الوقت الحاضر بوقوعنا على بعضنا البعض!
- لم يعد الوقت للاحتفال.
- تقول لم يعد!
- لم يعد الوقت لقرع كؤوس الظفر بعد أن اختفت ابنتي من جديد تحت ناظري دون أن أستطيع منعها من ذلك. وبالطريقة الغريبة التي اختفت فيها، ربما كانت ميتة.
- تقول ربما!
- نعم، الحق لديك، أنا لست متأكدًا.
- أُفَضِّلُ هذا.
- لا يمكنني أن أجدها إلا إذا قتلت.
- تقول إلا إذا!
- النبوءة التي تقول وليس أنا. أتذكر النبوءة؟
- آه! النبوءة!
- من أجل استرداد ابنتي، إنقاذها من بين مخالب الذئاب، العيش معها بسلام، ومع الكل، يجب أن أهزم الرجل السامي التقاطيع. بكلام آخر، يجب أن أقتله. كل شيء واضح الآن.
- لا أحد على وجه الأرض يمكنه قتله.
- بلى! ابن سفاح.
- ابن سفاح، أنت؟ أبدًا!
- أنت متأكد؟
- أنا متأكد.
- آه! يا لتعاستنا كلنا!
خرجت من باب آخر مفتوح لا كأخيه في أقصى الحجرة، وأخذت طريقًا تنزل إلى السين. راحت السواحر تبكي على مصيري، والمصابيح تنحني على نفسها من شدة حزنها عليّ، والذئاب تنعب ابنًا مات كنته لها. غدا العالم مقبرة كبرى، النجوم فيه مشانق لا بداية لها، والجبال سلالم لا نهاية لها، وبين الصعود والهبوط إلى الجحيم كنت أفضل الهبوط، والاصطلاء بنار الوقت الذي انتهى. لم تعد للوقت دقاته المتوافقة مع دقات قلبي وقد مات قلبي بموت كل أمل في الوقوع على ابنتي. انطبقت صورتها على صورة حورية من حور السين القتيلة، الممزقة الثديين، ثم تلاشت الصورة في أحضان موجة إلى الأبد. أحسست باليتم وقد غدت ابنتي أبي، وبالحيوانية، بعد أن كانت ابنتي شرط انسانيتي، إنسانيتي بعينها، فأعويت على مصيري، وملأت العالم بالنعيب.
في تلك اللحظة، لحظة ما بين الموت والموت، لحظة أشبه بالفناء والعدم، وبقبلة حواء الأولى، خرج الشاب المعاق من ظل ملقى كالشيطان من مخبئه، وقال لي:
- أمك هناك بانتظارك595.
47
وصلت قرب امرأة عجوز تقول عن نفسها أمي، أخذت يدها وقبلتها، أحطتها بذراعي كما لو كنت طفلاً، وسألتها إن كنت ابنًا شرعيًا، إن كنت بالفعل ابن أبي. أبعدتني عنها، وعيناها تقدحان شررًا، فسارعتُ إلى القول:
- يا أمي، لو كنتُ ابن سفاح لكنتِ بي فخورة. لو لم يكن أبي أبي لتركتني أنقذ العالم. لو كنت دعيّا لاستعدت على الأقل ابنتي حبيبة قلبي وقلبك. قولي لي إذن كل شيء.
أكدت أمي حقيقة أني كنت ابنها الشرعي596، أنها لم تحاول خداع أبي مرة واحدة حتى إنها لم تفكر أبدًا في هذا، أنها قبل الزواج كانت عذراء، والديك بعرفه الأحمر كان شاهدًا عليها.
- ما العمل، إذن، يا أمي؟ قلت وأنا اليأس بعينه.
مسحت لي أمي شعري بيدها الحنون والوجنة والعنق وعَيِيَت:
- كم أشفق عليك، آه! يا ولدي المسكين!
- لا، يا أمي، ليست الشفقة إلا على النفوس الضعيفة!
- أنت نفس ضعيفة شئت أم أبيت، يا ولدي! لو لم تكن لما كنت!
صفقت مرتين، فحضرت سبع نساء في الحال، لم أر في حياتي أبدًا أجمل منهن.
قالت لي أمي:
- كل هذه النساء متزوجات، اختر واحدة منهن، واصنع النغل الذي تريد.
- أنت لستِ جادة، يا أمي.
- أثبت أنك رجل، يا بُنيّ، وسيان أن يكون صنيعك ذكرًا أم أنثى597.
- بل ذكر، يا أمي، ذكر، يجب أن يكون ذكرًا.
- عديدات هن تحت تصرفك، وسيولد على التأكيد صبي ذكر من بين خلفك.
رفضت.
لأن طبعي لم يكن طبع المغتصب. أحسست حينذاك باستقامتي الألفية، وندمت. ما كان يمكنني أن أكون نذلاً، فغضبت. ما كان يمكنني أن أكون سافلاً، فبكيت. ما كان يمكنني أن أسقط في الحضيض، وأن أتشبه بالمتشبهين، وأن أتمخور في ماخور العالم، فمُسخت. أحسستني كلبًا شريفًا، وذئبًا طيبًا، وجرذًا أنظف من كل القياصرة، فتمنيت أن أموت، أن أُقتل على يد أمي، بَيْدَ أن أمي أمرت النساء بأن يقمن بفعل العشق عنوة معي598. أخذنني بين أذرعهن، وأخذن بخلع ملابسي عني. كن يضحكن بينما كنت أصيح، ربما كي أخفي تواطؤي، وربما كي أبدي ضعفي، وأعبّر عن شرط المهان الذي كنته، حتى إنني ناديت أثينا كي تأتي لنجدتي. لم أكن بحاجة آنذاك إلى حكمتها، ولا إلى حرب ضروس تشنها من أجلي، وإنما إلى حضورها الإلهي. في تلك اللحظة الحاسمة كم كانت حاجتي ماسة إلى عين ميتافيزيقية، وكأن الإخصاب الذي سأقوم به لاستثنائيته يلزمه شاهد استثنائي، وأنا على كل حال، لوضعي الوضيع كان الفعل الذي سأقوم به أو لنقل الذنب الذي سأقترفه يشابه إلى حد بعيد الاجتراح إن لم يكن الافتكاك الرسولي.
بدأت النساء بتقبيلي تحت النظرة الراضية لأمي، قبلنني أيضًا وأيضًا، قبلنني من كل جسدي... إلى أن أصابني العِيّ، فتركتهن يعبثن كما رغبن بجسدي. ومع أول قبلة برغبتي مُسِخن، وتحولن إلى أفاعٍ599، أفاعي صغيرة ومتوسطة وكبيرة، أفاعي تتبدل في عِرقها ولونها وبرقها كل لحظة. احترقت العجوز التي كانت تدّعي أنها أمي600 كمن ضُربت بسوط من نار، وتحولت إلى دخان. ضرب الشاب المعاق الأفاعي بعكازه، وسحبني من ذراعي.
قال لي:
- في الحجرة المجاورة أمك التي هي بالفعل أمك601، اذهب إليها، واطلب منها أن تكشف لك عن سرك.
48
حكت لي أمي، أمي التي هي بالفعل أمي602، كل شيء. قالت لي إني كنت نغلاً، فطرت من الفرح. وقالت لي إني كنت آبقًا، فرفعتها بين ذراعيّ من النشوة. وقالت لي إني كنت بشرًا آخر، فرقصت بها من الفخار. شكرتها لأني لم أكن ابنًا شرعيًا603، وقلت لها إن العالم بأسره سيكون ممتنًا لزناها. أوصتني ألا أقول لأحد، وإلا لن أتمكن أبدًا من تحقيق هدفي، فلا أحد شرعي604.
أوضحت:
- في الخارج كلهم أبناء زنا، يا ولدي، لكنك أنت شيء غير شيء. أمهاتهم فعلت ذلك تحت أنظار الجميع برضاهن أو بإكراههن ليعطوا ميلاد شعوب ليست شرعية على صورة حكامهم. أنا فعلت ذلك لأرضي القدر، لأجسد ما هو مكتوب، لأجعل من الخفي شيئًا مرئيًا، ومن المرئي شيئًا ملموسًا، ولكي تصنع شعوبًا على صورتك بعد أن ترفعها إلى أعلى الدرجات.
تلعثمت:
- في رأيك، يا أمي، هل سأنجح؟
أجابت بحزم:
- أنت محكوم عليك بالنجاح.
- لكن...
- لا يوجد لكن. عليك الذهاب بالنبوءة إلى نهايتها. الله وأنا بعد الله معك.
- لكن605، يا أمي، ليست لي غير يد واحدة، وليست لي غير رأس واحده، وليست لي غير حياة واحدة.
- يدك لأجل إنقاذنا، رأسك لأجل تقدمنا، حياتك لأجل حيوات تولد منها606.
كانت أمي التي تكبرني بعشرين عامًا تسبقني في أفكارها بعشرين قرن من أعمار البشر، حيرني بصرها مثلما حيرتني بصيرتها، وجعلت من أفكارها عبئًا ثقيلاً أحمله على كاهلي. لم تكن مسؤولية الشجاع الذي لم أكنه أبدًا، ولا إرادة المغتر الذي كنته طوال عمري، كان الرهان، وكانت المغامرة، وأكثر من كل هذا كانت الفاجعة، فاجعة تحرّض وتمتّع في آن. أرتني أمي الطريق المؤدية إلى قصر الرجل السامي التقاطيع، وأمرت أثينا بالعودة نهائيًا من مملكة الموتى كي تضفي عليّ شكل الرجال/الذئاب وقوتهم607. أطاعت أثينا. كانت البأس المتعقل، والقتال الحكيم. وقبل أن أنجز بطولتي، أردت العبث قليلاً بعرضي. عانقت البوم والانتصار المجنح، فغدونا في أحضان بعضنا كحيوانات البحر الهلامية. استظللت بكنفها، ونمت ساعة أو ساعتين. حلمت أني أنجزت المهمة، وحررت الابنة. نهضت سعيدًا، وبقدرة أثينا غدوت ذئبًا. كنت ذئبًا وفيًا، وكنت بربريًا عازمًا. كان يمكن للوحشية أن تغدو صراطًا للمجد، وللدموية أن تصبح عنوانًا للحرية. كنت مستعدًا. قبلتني أثينا فبل ذهابي، وقالت لي:
- انتبه إلى نفسك، يا زوجي العزيز، ولتنجح في مهمتك!
- سأنقذ ابنتنا من بين مخالب لا شفقة لها.
- واجبك نحو ابنتك وامرأتك وأمك، واجبك نحو كل نفس ضائعة.
رافقني الشاب المعاق إلى منتصف الطريق ثم نفخ من فمه نارًا أحرقته. بعد ذلك، صعد كالكوكب إلى أعالي السماء، وأضاء لي ما تبقى من درب.
تمكنت من تسلق درج القصر دون صعوبة، خدع شكلي الحيواني حراس الرجل السامي التقاطيع، ظنوني ذئبًا أو كلبًا. توقفت قرب باب الصالون، فوصل إلى مسامعي من انفتاح الباب اليسير حوار بين الرجل السامي التقاطيع وشخص آخر لم أره من مكاني608. كان هذا المحاور يرجو ويتوسل:
- أوه، يا سيدي السامي! أوه، يا قائدي الباسل! أوه، يا صديقي العظيم! اطلبني ما تشاء، يدي، رأسي، حياتي.
- وماذا سيبقى لك إذا كانت يدك التي تقمع لم تعد يدك، ورأسك التي تتآمر لم تعد رأسك، وحياتك التي تحرم الآخرين من الحياة لم تعد حياتك609؟
- أنت، يا سيدي السامي! ستبقى لي أنت، يكفيني هذا كما لم يكف أحد.
- أنا عبوديتك أعرف610، ولكن...
- حريتي، أنت حريتي611، مجدي، عظمتي! دونك سأخسر في عيني شعبي كل شيء وفي عيني العالم. سأفقد كل اعتبار. كيف أخدم إذن يدك العليا؟ كيف أحقق كل طموحاتك؟ كيف ألعق نعلك أفضل وأكثر مما فعلت لحد الآن؟
ثم صاح فجأة، وهو يسقط بشفتيه على حذاء الرجل السامي التقاطيع:
- بركاتك، أوه، يا سيدي السامي!
في تلك اللحظة، رأيته من جانب وجهه، وقلت لنفسي المستعدة ولقلبي المتأهب: هذا الجمل العربي ذو الوجه الدميم يجب هو أيضًا قتله بعد قتل الرجل السامي التقاطيع، ولم أتخيل أن يكون عقبة في وجه إنجاز هدفي الأساسي612.
49
مثل صقر، انقضضت على الرجل السامي التقاطيع أريد قتله، فانتصب الجمل العربي دميم الوجه بيني وبينه، وترك نفسه يُقتل بدلاً من أن يرى الآخر قتيلاً. وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، همس في أذن سيد الذئاب:
- ضحيت بنفسي من أجلك، آه، يا سيدي السامي، من أجل أن أثبت لك إخلاصي، وأعبر لك عن بالغ امتناني!
دفعه الرجل السامي التقاطيع بقدمه، وهو مشمئز منه، وذهب ليقيء. أمر رجاله بتركي، وقال لي:
- سأكافئك على ما فعلت بسخاء.
قلت له:
- لم يكن لي هدف آخر سوى قتلك.
قهقه:
- لكنك لم تستطع، وأنت لم تستطع لأن أمك كذبت عليك613.
صحت:
- كاذب! أنا ابن الزنا الذي سيجهز عليك!
قهقه الرجل السامي التقاطيع من جديد، واعترف:
- لم تكن أمك، كانت أثينا تحت ثوب أمك، وأنا زوج أثينا منذ قديم الزمان.
- كاذب! أثينا امرأتي، وأنا والد ابنتها!
رد ببرود:
- ابنتي أنا، أيها الغبي! وكل ما حصل ما هو سوى خطة وضعناها أنا وأثينا من أجل أن ندفعك إلى التخلص من أبشع جِمال العرب. لقد كمدت صورته هذه الأيام الأخيرة، ولم يعد بإمكاني تغطيته. لقد خبثت رائحته أكثر مما يجب!
- خطة؟ قلت خطة؟
- نعم، خطة، أيها الغبي!
- والنبوءة؟
- لا توجد نبوءة.
- وكل ذلك كان للقضاء على هذا الشخص الخسيس؟
- نعم، كل هذا، أيها الغبي!
- ولماذا أنا؟ أحد كلابك يمكنه أن يفعله.
- لأبرهن لك على أني أستطيع أن أجعل منك قاتلاً أيضًا.
- هذا كل ما هنالك؟ كنت مستعدًا لأكون قاتلاً بقتلك أنت.
- ولأبدي لك كم هو من المستحيل المساس بشعرة واحدة من شعري، فمن لا يقتلني
يجعلني أكثر قوة. القوة محرك العالم، أيها الغبي! الحياة نفسها إرادة القوة، ولكنك أنت، وليد الانحطاط، لن تفهم هذا. كل الغرائز لديك غريزة واحدة، غريزة الضعفاء. وكل الأخلاق لديك من أجل إخفائها، يا أيها المستقيم، ويا أيها النظيف، ويا أيها السويّ! كل القيم لديك، قيم الموت كقيم الحياة، قيم ضعيف ذي خلق ضعيف، قيم منحط يريد أن يغدو نبيًا! عدالتك لانحطاطك، ومساواتك لانحطاطك، حتى الحرية والديموقراطية والرفاهية للجميع وباقي أوهام قفاي لانحطاطك. أنت أرستقراطيتك الجديدة، لكني لن أتركك في صراعي معك دقيقة واحدة تتحكم بمصير البشرية. لن أدعك ثانية واحدة ترتقي بشرط البشرية. لأني الأقوى، وسأبقى الأقوى، ولأن الأقوياء كائنات استثنائية يبذلون القوة دون أخلاقك ودون قيمك، ويدعون إلى تحرر النفوس منك لأجل أن تطرق هي قيمها كما تطرق قلاداتها.
كنت أستمع إليه، وأنا أفكر في كلام الساحر الذي له، النبي الدجال، الفيلسوف، وفي حقيقة ما يقول، ليس تمامًا كل ما يقول، وإنما في حقيقة بعض ما يقول، لأن الأخلاق العامة انتساب مؤقت، وهم لهذا سموها عامة، ولأن القوة لا أخلاق لها. أحقًا كنت طهريًا إلى هذا الحد؟ لم يكن الرياء من أخلاقي، هذا صحيح، لكني لم أكن طهريًا إلى هذا الحد كما لم أكن عصابيًا العالم له بلا حدود والبشر بلا أدمغة دون طاعة أخرى إلا له. صارت أثينا شغلي الشاغل، أثينا التي ولدت في ليبيا وليست تلك التي خرجت من رأس الرجل السامي التقاطيع.
دخلت أثينا بصحبة ابنتي، حملتُ شجاعة الضعيف الذي كنته، وذهبتُ لأخذهما في أحضاني، فدفعتاني عنهما بعيدًا، وأحاطتا بالرجل السامي التقاطيع الذي قال لي:
- بعد نجاحك في مهمتك من أجلي، أكافئك، وذلك برفعك إلى مصاف الجمل العربي الدميم الوجه، وأثينا الخيل شاهدي. وأنت أن تكون الغريب أو حتى الشيطان بعينه، عندما يتعلق الأمر بمنفعتي الشخصية614، أجعل منك حاكمًا لجزيرة القديس لويس.
- حاكمًا على أوباش البشر الكارهين للغرباء وأنا الغريب؟
- في جزيرة القديس لويس هناك مدينة الشرطة، لا تنس ذلك، وكنيسة نوتردام. ستكون لك هاتان القوتان اللتان لا يمكن إهمالهما، تلك القامعة للأجساد وتلك المالكة للنفوس، وستكون مرتين رئيسًا، رئيسًا للصحراء ورئيسًا للماء! ها هي مكافأتي العظمى!
- بالأحرى عرضك، وعرض يسيل له اللعاب.
- خذه أو...
- اتركه.
- تتركه؟ لا. تنتحر. عليك اختيار الطريقة، والطرق كثيرة.
- تنسى تفصيلاً واحدًا: استقامتي، أنفتي، شرفي، أخلاق الضعفاء وقيمهم.
- مؤخرتي!
- لن ترغمني على القبول.
كنت أهذي، شخصًا يتجاهل وضعه، ويحاول بشتى السبل أن يؤجل التسليم بالأمر الواقع، بانتظار شيء أقرب إلى الإعجاز. نظرت إلى أثينا كأمل أخير، كمحراب أخير، كشجرة زيتون أخيرة لم تُسحق أسفل الجنازير، فغطت رأسها بأُرصوصة وصدرها بدرع، وفعلت ابنتي مثلها.
- بل سأرغمك، لأن هذه الفتاة في الواقع هي ابنتك، وهو يخلع عن رأس ابنتي الأُرصوصة، فيبدو لها وجه البوم.
- آه! صحت كما لم يصح أحد. أيها القذر! كنت أعرف أنك كاذب وطِلَسْمِيّ، لا شيء آخر غير كاذب وطِلَسْمِيّ!
- ستكون ابنتك رهينتي إلى أن تنفذ بالحرف الواحد كل ما أفرضه عليك615.
50
نفذت كل ما أمرني الرجل السامي التقاطيع بفعله616، ليس لأن ابنتي رهينة لديه، ولكن لأن بقائي رهن إرادته لا كما كنت أعتقد، فما الجدوى من مواجهته، وقد حسم الأمر لصالحه؟ حولت وجوه ناسي وناس جزيرة القديس لويس إلى علب زيت وبندورة مركزة وسردين... ملأت السجون بالمشاغبين والفوضويين والإرهابيين، بنيت بالعملة الصعبة سجونًا أخرى أكثر حداثة، أما أدوات التعذيب، فاستوردت منها الأكثر تطورًا.
كنت أحس بمتعة لا توصف في كوني حاكمًا، وبغُلْمة لا تصدق في كوني جائرًا، فضاعفت الظلم، وجعلت من جزيرتي جزيرة سوداء، فحماء، لعينة، جزيرة دمع ودم، لا سلام ولا أمان فيها: مثالاً يُحتذى به للأنظمة الديموكتاتورية في العالم. جعلت من صحرائي تحديًا ترتابه في مادة الحمرنة كل بلدان العالم الثالث. حولت ذهبها إلى رمل، ورملها إلى زمن. عندما كان ينفد نقدي القوي في البنوك الخاصة التي كنت صاحبها، كنت أبيع غذاء شعبي بأقل ثمن، الغذاء المستورد من لدن الرجل السامي التقاطيع، للرجل السامي التقاطيع، فيطعمها لدوابه. ولمكافأتي، نعم، أيضًا، كان يبني لي سجونًا حسب القياس، سجونًا على سجون، من نوافذها كان يمكنني أن أرى كل خبايا الصحراء، كل خبايا الجزيرة، وكل خبايا الصدور. كنت العين الكلية، واليد الكلية، وكنت الحضور، وكنت الوجود. كنت العلم دون أن أعلم، والدق على الأبواب، وكنت متعة العقاب. ولما دعاني البشر بالآمر، ائتمروا بأوامري وانتهوا بنواهيّ، لم تعد بي حاجة إلى مراقبة النمل في جحورها الأكثر بعدًا من أجل أن أتدخل لما تقوم النملة بفعل الغرام مع حشرة من نوع آخر.
لم يتوقف الرجل السامي التقاطيع عن الارتقاء، وعن الارتقاء على ظهري إلى قمة هرم يسحق العالم. ومن أجل أن يتربع في المستوى الأكثر تقدما –للسيطرة على العالم يجب ترويض التكنولوجيا- ذهب إلى السوربون، وأمر بابتكار عقل إلكتروني لا يضاهيه عقل، بدقة لا تضاهيها دقة، وبعالمية تعادل ألف عقل "عادي"، يحل محل ذلك الذي لم يكن سوى "إلكتروني".
لم أعد أفكر في ابنتي، حتى إني لم أعد أذكر أن لي ابنة. بدأ ذلك عندما لم أعد أحبها، ولم أعد أكرهها. كان أمر عواطفي نحوها محيرًا في البداية قبل أن يخلو قلبي من كل عاطفة، وقبل أن أنظر إلى الورد نظرة المقص في يد جنائني قصري. كان الورد لا يعرف الدفاع عن نفسه، وابنتي كانت من هذا النوع. كل شعبي كان من هذا النوع، وإن كانت بين شعبي أشواك. وعلى أي حال، أرغمتني حالة شعبي جد الرديئة على تبديل وجهي إلى علبة زيت في النهار، وفي الليل إلى رأس جمل ظامئ إلى هذا العطاء الرباني الذي هو زيت الزيتون. لهذا السبب كانت أثينا إلهة الزيتون، وابنة الأم-الأرض، لكني لم أفهم ذلك إلا متأخرًا. كنت أفهم كل شيء متأخرًا، وبعد فوات الأوان، وكأن هذا قدري. كنت أدرك كل شيء بعد أن أخسر كل شيء، فأنا أعرف الآن أني خسرت أثينا، وأفهم الآن جمود عواطفي نحو ابنتي. الآن، وقد فقدت كل شيء، وأضحى كل شيء طيفًا أو انعكاسًا، شعاعًا أو حلمًا.
كانت أحلامي كلها أحلام يقظة بعد أن تركت لليل كل كوابيس الدنيا التي من صنع يديّ الدمويتين. كنت أحلم بأثينا، وأنا أفتح عينيّ على سعتهما، أنظر إلى بقع الدم، وألثم شفتيها، أغرق في الدم حتى قمة رأسي، وأغوص بين فخذيها. كنت، وأنا أهدم الحصون، أفعل ذلك من أجل نهد أثينا، وأنا أحرق العالم، من أجل فخذها. كان جسدها لي كل تراجيديات البشر، وكل معارك الإنسانية، وكل هزائم الجيوش، وكان جسدها لي الجحيم جحيمًا!
عندما كنت أراها قادمة نحوي، هي إلهة الخيل، وهي تمتطي صهوة العالم، كنت أرتاح إلى بربريتي، وأبرر كل الذبائح التي ذبحت، وكل الورد الذي قتلت. الورد لا يعرف القتل، هذا لأنه ورد، والثدي لا يعرف القتل، هذا لأنه ثدي، والشفة لا تعرف القتل، هذا لأنها شفة. أما أنا، فكنت أعرف، وكنت أفعل ذلك من أجل قبلة أقتنصها في الخيال. كل النساء اللاتي كن لي لم يشبعن رغابي إلا قبلة أقتنصها في الخيال، وخنصرًا ألعقه في الوهم، وفرجًا أصلي على أعتابه في بقعة من الظل. كل نسائي كن جسرًا يصلني إلى ذراع أثينا، وكتف أثينا، وعنق أثينا، وإلى سحل العالم على ظهر أثينا. كل نسائي كن زيتًا، وأثينا لذةً ودمًا.
طلبت من نسائي أن يدهنني بالزيت، أن يغسلنني به، أن يعملن بحرًا منه أعوم فيه. كان ذلك طقسًا من طقوس حبي لها ولأعدائي من أصدقائها، وكنت أحرق الزيت بعد ذلك، ليشم أعدائي رائحة وفائي القديم منذ أوشفتز، وليقفوا على صدق نواياي إلى ما بعد شاتيلا وصبرا. كانوا أعداء خصوصيين، أعداء ميتافيزيقيين. إذا كانت حلمة أثينا لي عدوًا، فهم أعز عدو، وإذا كانت لي سُرّة أثينا عدوًا، فهم أغلى عدو، وإذا كانت لي قدم أثينا عدوًا، فهم أخلص عدو. من أجلهم، كنت لا أفكر إلا في عصر جزيرة القديس لويس بين يديّ، كي أخنقها، وأبعدها أكثر ما يمكن عن النهر. من أجلهم كنت لا أفكر إلا في الشخ على الصحراء، كي أغرقها محولاً إياها إلى مرحاض أخضر، كي أرفعها في الجَمال وفي القيمة إلى مستوى مشاخخ أورفليس. ومن أجلهم كنت لا أفكر إلا في تنفيد ما يُطلب مني –أقول يُطلب وإنما في الواقع يُبصق في صميم وجهي- بدأب لم يعادله دأب، وبحذق يليق بما لم يُخترع بعد في كيمياء الكليانية.
بتقديمي الماء والكاز للرجل السامي التقاطيع كما كان الذين من قبلي617 في غابر الأزمان يقدمون الكمّون والعصفر والسكر ضمنت منصبي مدى الحياة، وخلصت إلى الاعتقاد نهائيًا أني ابنٌ شرعيّ، وأن أمي لم تخن كل حياتها أبدًا حتى ولو مرة واحدة أبي. إصبع قدم أثينا الخائن كان معبدي، تل على خاصرتها كان قدسي، قمر أسود تحت بطنها كان أمتي.
لم أفعل شيئًا آخر غير أن أقدم للعالم أجمع صورة قائد متواضع ومتسامح، مزهو ومظفر، إلا أني كنت أقمع فقط لأن الورد ورد، وكنت أسرق فقط لأن البندق بندق، وكنت أتآمر فقط لأن عكا عكا، وفي الليل والنهار، في الكابوس والكابوس، أخرّ ساجدًا على قدمي الرجل السامي التقاطيع أكثر ذلاً من أي جمل عربيّ، لأن الزنابق ذليلة، والأضاليا أذل، ولا شهامة للجِمال.
كنت أقبل نعلي الرجل السامي التقاطيع بأقصى انفعال، وبهوى لا حدود له، كنت ألحسهما، أضاجعهما، وبالمقابل، كانت كل نساء أثينا الجميلات يسقطن بين ذراعيه، لم يكن يتحولن إلى أفاعٍ، وكذلك كل الرجال الجميلين، لكني لم أكن لوطيًا. وددت لو أكون لوطيًا، فلم أستطع. تركتهم دون عقاب، ورميت في المعتقلات كارهي الأجانب. بما أن كره الأجانب والخوف منهم –ومع ذلك نحن كلنا أبناء مغتربين- كانا يسمحان لي بضبط الأمن (أو اللاأمن إن أمكننا القول) بيدٍ من حديد، بما في ذلك اللاأمن الغذائي، اللاأمن العولمي، اللاأمن في العالم: من المهم جدًا تنظيم بعض الشيء ما عندنا، وأنا أعتمد كثيرًا على هذا. كان ذلك شغل سيدي الشاغل، أسباب اللاأمن لم تكن مهمة، العنف المولّد للعنف، في المدينة كما في الريف، في الضواحي خاصة، في الشوارع، في أماكن العبادة، في المدارس، في المترو... كنا نهنئ أنفسنا على ذلك، وكنا نذهب في حلم يقظة لا ينتهي، وأثينا بلسانها تطفئ النار ثم لا تلبث بفمها تشعلها.
اللاأمن، اللامساواة، اللاعدل، العَرَضية، الضرائب المرتفعة، التقاعدات المنخفضة، البطالة، انقلاب القيم، البيروقراطية، الورقية، الركود، العولمة، الأمركة... كان كل هذا يشكل نقاط حكمه القوية وحكمي. ولستر كل هذا، ليقال "إننا نهتم بهم"، لتفادي الطرح والاستياء، القلق والكبت، السخط واليأس، عدم الرضى وعدم الفهم، الشعور بالانسحاق وبالتخلي، إرادة الثأر والإثبات، كنا نبيع في سوق مبادئ الجمهورية كلمات مثل: علمانية، تماسك الأمة، حقوق الإنسان، وحدة الشعب، تجمع وطني، تجدد وطني، جمهورية جديدة، ديمقراطية جديدة، مشروع جمهوري وحديث... وكان هناك من يقول: بيئية وإنسانية، تسامح واحترام الآخر، اقتصاد، نمو، عمل، أوروبا، يورو، تسابقية، صحة، عائلة، فعالية، جِوار، صفاء، شجاعة، أمنية، شفافية، حقيقة... أورفليس أولاً، وسان-لويس وسان-جمل618 ثانيًا، ولكن معًا وبوجهٍ آخر619.
أثار موت أمي متعتي620، اليوم الذي فقدتها فيه كان يومًا مشهودًا، خصوصًا عندما علمتُ أنها ماتت مختنقة من جراء حقدها عليّ. الورود الكهلة تعرف الحقد، وهذا ما كنت أجهله. والناقات المهيضة لا تورث فقط سوى الخنوع لأبنائها، وهذا ما كنت أتجاهله. كانت متعتي بموت أمي شيئًا من هذا، من عدم الخنوع، لكني كنت قد فقدت كل شيء منذ أمد طويل قبل موتها، التمرد لم يعد له معنى عندي، والثورة أمر مضحك، والتحرر شعار أخرق. ليس هناك إلا التمتع بالموت والخراب! ليس هناك إلا الاحتفاء بالفاجع والفاجع، وهذا ما فعلته حين ماتت أمي، الاحتفاء بالفاجع، وإهراق النبيذ، وليس ذلك بحضور الموت فقط، ليس ذلك لبحور الحقد فقط، فالموت والحقد بدايتان، وإنما لأن كل صلة لنا مع الحياة انتهت، ولما نزل أحياء. كانت صلتي بابنتي قد انتهت ليس بسبب هَجرٍ أو هُجر، فالهُجر مثير للمتعة أيضًا، ومومسة أثينا لبنات شعبي كان يسعدني بشكل كبير.
في أحد الأيام، كنت عَيِيّا عن فعل أي شيء، سئمًا كما لن يتصور أحد. كانت لحظة نادرة من لحظات الهدوء عندي المليئة بالضجر والبرم والغثيان، لحظة تموت فيها الأحلام، وتتوقف الآلام، ويبدو كل شيء أبيض، الليل أبيض والدم أبيض والبحر أبيض والأفق أبيض والعشب أبيض وعلم العباسيين أبيض والتاريخ أبيض والقرآن أبيض والله أبيض، ويتوقف الوقت، فيشعر المرء بكونه ما كان أو أنه كان فقط، يدخل في العدم فاتحًا عينيه على سعتهما منتظرًا التقدم والابتعاد أكثر، فيمنعه السأم من تحقيق ذلك، سأم رهيب، وشعور بالسقوط وبالمسخ، كالبَزّاق لما يزلق، فتزلق، وأنت تلصق بالأشياء، وتدبق، ومن جديد يطاردك الغثيان، فيدور رأسك، وتفتح فمك، تريد التقيؤ، ولا يأتي التقيؤ، فتوقن بتفاهة الوجود، وتفاهة الحياة، وتفاهة الإنسان، وتفاهة الجاه، وتفاهة المال، وتفاهة التاج، وتفاهة التفاح، وتفاهة النظام، وتفاهة الدولة، وتفاهة السلطة، وتفاهة المؤسسة، وتفاهة اللجان، وتفاهة السيف، وتفاهة الغمد، وتفاهة الحزم، وتفاهة القرار... في تلك اللحظة الحاسمة من لحظات اليقين والتردي، دخل الشاب المجنون عليّ، كان له وجه الطفل المُرَوَّع. انقض عليّ مثل صقر، وهو يصرخ بصوت أعادني إلى هيكل الجلاد الذي كنته:
- أنا ابنك اللا شرعي621!
تم التنقيح الأخير في باريس
السبت في 23.07.2011
الشروحات
1) عندما طرد آدم من الجنة، يعتبر وجوده على الأرض للمرة الأولى كأول غربة للإنسان.
2) صورة آدم على صورة الله.
3) إنها الفكرة حسب هيغل الذي يماثل الكائن والفكر ضمن مبدأ واحد هو الفكرة المتطورة في لحظات ثلاث: طريحة، نقيضة، حصيلة، أي وّفقًا لسيرورة جدلية.
4) جسد آدم المصنوع من الطين.
5) الأرض.
6) خطوات آدم وحواء.
7) يقول آناتول فرانس: من طبيعة الإنسان أن يفكر بشكل عاقل وأن يفعل بشكل عبثي.
8) تفاحة حواء التي قدمتها لآدم.
9) كل أنواع الشجر ولكن على الخصوص شجرة أبوللو (الغار)، شجرة مينيرفا (الزيتون)، شجرة سيبيلا (الصنوبر)، ثلاث شجرات من الأرض المقدسة، وهناك أيضًا الزئبق، شجرة الفلاسفة.
10) بالطبع الأرض.
11) الأرض دائمًا.
12) شجرة الصليب التي ربط بها المسيح، شجرة الحرية، شجرة الحياة حسب الإنجيل: شجرة جنة الأرض التي حفظ ثمرها حياة الإنسان مع براءته.
13) الواحة.
14) كل معتقد لا أساس له.
15) الغصن الذي ينبت مباشرة على الجذر، وبعبارة أخرى الذي يعبر بوضوح.
16) إنها أغصان شجرة نسب آدم التي أصلها الأرض من ذرية شائعة.
17) الجريمة هنا وبعد سطرين العقاب إشارة إلى رواية دوستويفسكي "الجريمة والعقاب" ولكن أيضًا الجريمة تحت رمز الدم... انظر إلى الاستعارة القادمة.
18) يقول فلوبير: "يتبدد الدم مطرًا".
19) بالولادة يكون المخاض الدائم لسر الحياة وبالتالي للإنسان المجرم فتعتبر كما لو كانت عقابًا.
20) السر الخفي سر من أسرار الدين يعرف بالوحي ولا يفهم فهمًا كاملاً.
21) الصعاب التي يرمز إليها البحر، هذا الامتداد الشاسع من الماء المالح، وقد تحول إلى دم حلو بفعل إنساني (رمي الحجر)، أول فعل عدائي للإنسان. بحر من الدم لا يكفي من أجل خلاص البشر بالنسبة إلى دم المسيح: "من يأكل لحمي ويشرب دمي يبقى فيّ".
22) أول فعل إجرامي ستتبعه أفعال على اعتبار أن الحياة سلسلة من الأفعال الإجرامية.
23) من العادة ما يكون الوحشي البربري معادلاً للإنساني.
24) إنه الوعل الراب، والوعل هو الحيوان الخرافي، ولكن على الخصوص لأنه من الحيوانات اللبونة.
25) إنها ورود رمل الصحراء وهي تمثل صورة في نقد المرأة (حواء) لأن لا وجود للورود الدميمة إلا إذا كانت ذابلة وليس هذا هنا.
26) ديدان الرمل أو ديدان المخطئين ولكن على الخصوص حسب المعتقد الشعبي الديدان التي تقرض لحم الموتى لهذا كانت مرحة: بما أن آدم سيكون لها ألذ طعام.
27) إشارة إلى حكاية لافونتين "السنديانة والقصبة" كما أن السنديانة كانت شجرة مقدسة في الزمن القديم.
28) مخالفة الوعل تدفعه إلى الشعور بضعفه، وهو الذي كان يظن نفسه قويًا كالسنديانة بأسراره، وها هي السنديانة تقتله، فالسر الزائف كالحلم الزائف يقتل صاحبه.
29) أكل الوعل يعيد إلى الحياة أسرار الطبيعة الزائفة: الضوء أسود، القمر وحش، البحر دم.
30) الدخول والخروج عند الجماع، ويمثل هذا الفعل الجنسي أيضًا بداية تدجين الطبيعة إزاء المعاش.
31) يبتدع الإنسان جنته على الأرض إلى جانب جحيمه، إنها بداية "أنسنته".
32) ألف ليلة وليلة دون الليلة الأخيرة، كي يقال إن القصص التي ترويها شهرزاد لم تنته بعد، ومن ناحية ثانية، ترمز الليالي إلى الزمن الذي مضي منذ آدم إلى يومنا هذا، إذ تلخص هذه الليالي تاريخ البشرية.
33) إنها "مجمعة" المجتمع الذي تقوده المرأة عاملة ومنتجة، وفي الواقع، هذا الرحلة الشفقية تبدأ عند فجر الإنسانية حيث كانت المرأة المزارعة السلطة، وبالتالي، فإن الرجل والحيوان، تحت علامة الوعل، يعودان إليها.
34) إنها المرحلة التي تبعت عصر الحجر المصقول.
35) كانت أريحا تسمى هكذا لأنها كانت محاطة بأسوار عالية.
36) مرحلة هامة اجتيزت من مراحل حضارتنا تبعها تطور الخزف في اليابان، الري والدولاب في العراق، والشراع في مصر.
37) كان الدولاب وسيلة لتخفيف عذابات البشر، وعلى العكس، قَتَلَ الشراع الذي بواسطته رفعت الحجارة الضخمة آلاف من العمال سقطوا تحت حجارة الأهرامات ولا شأن هنا بالعبودية وذلك للمساواة التي كان المصريون القدامى يتمتعون بها أمام آلهتهم.
38) المقصود هنا غلغامش الملك الكلداني ملك أوروك رمز الحضارة.
39) إنه جمبابا رمز الوحشية المنظور إليه هنا من زاوية العدم، يغدو صديقًا لغلغامش، "فيخون" وضع البربري الذي له، ويترك ملك أوروك يمضي لينجز مهمته.
40) على عكس ما جاء في الملحمة المراد هنا الوقوع على عدم البقاء.
41) هنا يحتوي "الصديق الوفي الخائن" على معنى إيجابي، إذ بالاغتسال في دجلة يصبح الرجل الوحشي أو الرجل القرد إن شئت إنسانًا وبشكل كامل، فليس هناك غير الإنسان من ينفخ أنفاسًا جنسية.
42) في ذلك العصر، كان البشر يغتسلون في الماء "المقدس" لدجلة الذي كان وسيلة اتصال بين الإنسان والله، وفي الزمن الغابر، كان البشر يقدمون له القرابين لشكر الله على كرمه نحو الأرض. ومن ناحية أخرى، دجلة "tigre" يعني بالفرنسية الرجل الفظ والغيور، وهنا يريد جمبابا التخلص من غيرته وفظاظته.
43) عِشتار أو عَشتارت المعادلة لأستارتيه الإلهة اليونانية.
44) يرفضها بوصفها منافسًا له لأنها تجدد الحياة وهو يسعى إلى إدامة هذه الحياة نفسها باكتشاف سر الموت.
45) إشارة إلى التفاحة المحرمة.
46) بريئة لأنها إلهة ظلمها حق.
47) حمورابي، أمير الأسرة البابلونية السادس، اشتهر لشريعته أقدم ما وصلنا (حوالي 1730-1685 قبل الميلاد): "العين بالعين والسن بالسن".
48) لهذا تتكلم زوجة غلغامش بعد قليل عن نكبات.
49) التراجيديا الفلسطينية.
50) كان اليهود يطالبون بالعدالة والمساواة اللتين كانتا من حقهم كمواطنين.
51) هنا ندخل في عصر آخر، عصر اليونان القديمة، في اللحظة التي اخترعت فيها الحروف الفنيقية.
52) إنه عوليس، الملك والمغامر في الأوديسه.
53) المعني في هذه الجملة عوليس ملك إيطاكه الذي يتجول عشر سنين قبل أن يعود إلى مملكته، والمعني أيضًا عوليس جيمس جويس الذي يحاول المؤلف عبر روايته عرض مشاعر وانطباعات شخص واحد في يوم واحد.
54) ابتداء من الآن الصور التي تتتالى تصف التراجيديا الإنسانية.
55) التفكك الإنساني.
56) المضمر هنا الفضائل الثمانية التي سبح يسوع بها في عظة الجبل وقد غدت آلامًا واضطرابات فكرية ونفسية.
57) تاج شوك المسيح.
58) ما هو مكتوب على باب الجحيم حسب دانت.
59) عالم بلا أمل (أقل أمل) حسب مالرو هو عالم غير صالح للتنفس.
60) الوعل: رمز المرأة والولادة.
61) حرير العقاب هنا عبارة عن مكافأة.
62) بدلاً من قول "الفعل الفاضل" على طريقة سيمون دوبوفوار عندما تقول "هذا النفور الفاضل". أضف إلى ذلك أن هناك فعلاً في تدمير.
63) العنب الأسود بالتعارض مع الغضب الأسود (العنب سكري الطعم فهو بالتالي حلو وأسود الشكل فهو بالتالي مر)
64) ما أطعمته حواء لآدم.
65) تحجر القلب والروح حسب فكتور هيغو.
66) بالمكان يحتويني الكون، ويبتلعني كنقطة، وبالفكر أفهمه، يقول باسكال.
67) الزمان: وسط غير محدد تدور فيه الموجودات إلى ما لا نهاية في تبدلها والأحداث والظواهر في تعاقبها (قاموس روبير الصغير).
68) بالأحرى الإنسان في المكان.
69) لأنه في حركة دائمة.
70) الزمان هنا هو بالأحرى الحياة.
71) لأنه مجمد سبق له الموت.
72) تتحدد الأشياء هنا، ليس المكان ولا الإنسان في المكان وإنما يبقى ذلك عند طور الفكر الذي يحاول المؤلف عبره فهم العالم.
73) هي في الواقع ميتة طالما بقيت غائبة.
74) هنا توقف الزمان وكل شيء توقف عن الوجود وكأن المكان والزمان والإنسان وفكر الإنسان الذي هو بشكل من الأشكال امرأته (يتكلم معها دون أن تكون هنا) جسد ميت واحد.
75) إنه عالم الجنس الحيواني الوحيد الموجود من الآن فصاعدًا.
76) لنذكّر أن آدم قبل أن يبدأ رحلته قد عاش كل تاريخ الإنسانية.
77) يتحدث إلى زوجته كما لو كان في حلم، هذا الفصل عبارة عن استمرار هلوسي لأحاسيس عوليس المختلطة كلها.
78) النجمة الأولى نجمة المساء: كوكب فينوس. تتجلى تارة مع الغروب وتارة مع الشروق.
79) التوحش هنا ليس للتعارض مع التمدن لأن تمدننا يلده كما هو الحال منذ فجر الإنسانية (منذ أول نجمة).
80) إنه عيد-الله الذي يجري خلاله تقديم قربان لعبادة الأوفياء (يمثل الكلب الأول هنا الوفاء –نقول كلب وفيّ- الذي ينحر)... قلب الأدوار.
81) أفروديت اليونان (فينوس عند الرومان).
82) أسسها الفنيقيون في القرن التاسع قبل الميلاد قرب مدينة تونس الحالية، وترمز قرطاج في هذه السردية إلى قوة ضائعة تلد الكلاب.
83) هنا تم تطبيق أقوال باسكال: الإنسان ليس ملاكًا ولا حيوانًا وترمي التعاسة إلى أن من يريد أن يعمل الملاك يعمل الحيوان.
84) بالتعارض مع الذئبة المرضعة التي كانت تُرضع حسب الأسطورة الرومانية ريموس ورومولوس.
85) حسب المثل: كلب حي أحسن من أسد ميت.
86) lionne بالفرنسية لبؤة وتعني أيضًا امرأة أنيقة، والنص يربط الأناقة بالخيانة.
87) استعملت هنا المفردة العاطفية التي نتكلم بها عن الأطفال ومعهم.
88) الشيء نفسه كما جاء في 87.
89) يقرص الدبور مسببًا شديد الألم وليست هذه حاله هنا.
90) ملاك سيء في خدمة الشيطان.
91) مدينة تنكية.
92) نحلة لصة بائعة على عكس نحلة عاملة جارسة.
93) بالتعارض مع "عاشق إحدى عشرة ألف عذراء" أي كل النساء.
94) للمحتفلين مخالب وأنياب تمامًا كالكلاب مع قوة الذئاب.
95) "يذهب الإنسان من الكره إلى الود"، كما يقول بلزاك، أو العكس، أو بقلب معنى كل واحد من هذه الأحاسيس كما هو الحال هنا.
96) رمز النشوة والإدمان.
97) إنه حمل الله، المسيح.
98) لامارتين.
99) ترتبط أثينا بالفكر والفكر بالبحر.
100) جواب ساخر مفعم بالمرارة.
101) كما جاء في 100.
102) نعود إلى حمل الله، المسيح.
103) على عكس المعنى الإنجيلي وموقف يسوع.
104) إنهما القبر والمقبرة اللذان يلجأ إليهما الملك لير بعد ترك بناته له وإنه كيس الذهب وليس كيس العواصف في الأوديسه الذي سنتكلم عنه في الفصل القادم.
105) حكم فيه اللوم والشجب لأثينا.
106) منحلة، خليعة
107) "جريمة متعمدة، طوعية، بنزق واع ومراد"، يقول موباسان.
108) دون انقطاع في المكان والزمان.
109) "الغضب"، "الحنق"، "اللعنة"، هذا ما يبدو لدى راسين الأكثر إنسانية، يقول مورياك. أما هنا، فهي الطبيعة التي تغضب.
110) نقول "امرأة مستباحة"، وهنا تحل الطبيعة محل الإنسان دومًا.
111) نسمي العاصمة المصرية القاهرة لأنها تقهر الأعداء وتُكْرِه سكانها.
112) إنه الملك لير الذي يتكلم.
113) كيس الثروة دون كيس السلطة (في هذه اللحظة الملك لير هو ملك مخلوع).
114) لحمه ودمه هما بناته والأنياب الشرسة أنيابهن.
115) حقد الآلهة على اعتبار أن الملك إله.
116) صورة تؤكد الفكرة السابقة.
117) تمامًا ك 116.
118) إشارة إلى الفصل الرابع وإلى الحيوانات الإنسانية التي عواطفها من أقسى العواطف.
119) إشارة إلى وليمة بالتازار وإلى قصوف العربدة التي يتفاجأ بالتازار فيها بسيروس.
120) البحار والنجوم عنصران أسطوريان يقودان الأبطال "المجهولين": هو بطل دون أن يعلم أحد، قدر مجهول، فهو في طريق التشكل.
121) أكبر متعة للداعر (الباعث المحفز هنا) أن يدفع إلى الدعر، كما يرى أندريه جيد.
122) رفض الخضوع.
123) مصطلح "الثالب" وكذلك المصطلحات السابقة استعملت إيجابيًا.
124) القمر هو السلطة.
125) فرح السلطة النسوية (القمر-الذئبة) سلطة أثينا في اللحظة التي لم تعد له فيها أية سلطة.
126) تتضح الأشياء هنا: كيس الذهب هو كيس أثينا (من يمتلك الثروة يمتلك السلطة). أما عنه، في وضع السقوط الذي هو فيه، لا يبقى له إلا الموت.
127) إنه بغض البشر لدى الملك لير، وهو إشارة أيضًا إلى مسرحية موليير "مبغض البشر".
128) لأن حصان طروادة لم يكن فكرة ذات فائدة لطروادة.
129) نداء وتحد في الوقت نفسه.
130) الأرض في الكتاب الشهير ل ت. س. إليوت.
131) الكبرياء الممجد يلحق بالوضاعة حسب باسكال.
132) الكائن اللانهائي في كل أوصافه، الله، كل ما يستعلي الإنساني.
133) بالطبع لا تحقق أثينا هنا أمنية آدم (في ثوب الملك لير).
134) المقصود هنا عرابة الحرب وإشبينتها، التي تُعنى بالجندي. في الظاهر، "تتبنى" الشخصية الرئيسية، ولكنها في الواقع تبعث به إلى الجحيم... من هنا جاءت المفردة "غرابة" المعادلة للأطلال.
135) كلاب أُكلت أو بُترت من طرف كلاب أخرى، على اعتبار أن البشر ككلاب فيما بينهم. عبارة استغلال الإنسان للإنسان حسب ماركس تقرأ هكذا: استغلال الكلب للكلب.
136) سيفصّل المؤلف هذا الكلام المقتطف من الإنجيل.
137) أخطاؤهم، خطاياهم، لا تساوي رغم ذلك التمثيل بهم والموت.
138) المسيح.
139) ليست أدوات القتل التي تقتل ولكن اليد التي تحملها. أضف إلى ذلك أن المسيح لم يقتل على يد واحد منهم، فهم إذن أبرياء.
140) يقال ولد تحت طالع سيء أو طالع حسن، وفي الحال بعد ذلك جرى تبديل الطالع بالحظ.
141) يستعمل مصطلح القاتل ومصطلح المجرم إيجابيًا كالمقاتل: ما يهم هو الإرادة، وهذا يتوقف على من هو القتيل (رجل السلطة اللاعادل مثلاً).
142) موت الشعوب العربية على الخصوص، وكذلك بالتعارض مع سر الحياة الذي يبحث عنه غلغامش الملحمة.
143) أجواء كافكا: كل شيء ممسوخ، الكلاب التي تتكلم هي البشر، كل واحد منها يمثل قيمة ضائعة في عالم الأموات العربي (الشرف، الكرامة، الشجاعة...).
144) الضحايا، دون وعي بؤسهم، ينتقمون من بعضهم.
145) في انحطاط كهذا على المرأة ألا تختار بين أن تغدو أمًا أو عاهرة.
146) الكلبة ذات الفخذ اليمنى: أحزاب اليمين (اليمين)، وذات الفخذ اليسرى: أحزاب اليسار (اليسار)، في العالم العربي، في العالم الثالث، وأحيانًا في الغرب.
147) بما أنه لا يوجد موقف سياسي واجتماعي واضح لليسار العربي يعتبر كعاهرة تنتقل من ذراعي هذا الزبون إلى ذراعي ذاك.
148) لأن في السياق المنحط المسيطر، العاهرة في مكانها الصحيح، مقتلها خطأ.
149) أحزاب الوسط.
150) في ذلك العصر، كانت تقيات المعبد في الوقت نفسه عاهرات، من هنا الصورة المزدوجة للوسط بلغة السياسة.
151) الحاكم العربي.
152) بالنسبة للذئاب الحاكم العربي هو الأضعف ومع ذلك هو من القوة بحيث في مقدوره قتل كل الكلاب/الرجال.
153) حرير وعرش (كرسي أثينا) رمزان للسلطة وللثروة.
154) حكام عرب أقوى.
155) حكام عرب أشجع.
156) العاهرات الشريفات هن بنات المعابد اللواتي بتقديمهن أجسادهن هن أقل وفاء لعبادة الإلهة أثينا من مواطني المدينة أثينا.
157) يشاهد عوليس في مقر طروادة ثم يتيه بعد ذلك، كما قلنا، خلال عشر سنوات قبل أن يعود إلى إيطاكه.
158) في الأوديسه كلبه أول من يعرفه.
159) بينيلوب، زوجة عوليس. تعرضت خلال غياب زوجها لطلب العديد من الخاطبين الذين رفضتهم تحت ذريعة أنها ستحدد اختيارها عندما تكمل نسج القماشة دون أن تنهي ذلك أبدًا لأنها كانت في الليل تنسل الخيوط التي حاكتها في النهار.
160) الأسطورة وقد استعملت بشكل مخالف (خاطبون أقزام بالنسبة لعوليس الزوج العملاق في قامته وأفعاله).
161) هذه بينيلوب أخرى دامية.
162) للجمال ثمن غال، لا يتردد الآلهة (ومن لديهم السلطة) عن سكب دم البشر حتى آخر الأزمان من أجل امتلاكه.
163) إنها قصة قماشة بينيلوب تحت رواية أخرى.
164) يراد بتراجيديا الجميل عبادة الجميل بدءًا من وسائل دامية وليس بدءًا من قوانين جمالية غير ساكنة.
165) واجه كل الأخطار مسيلاً دمه من أجل العودة إليها.
166) هذا جزء من العبث السائد هنا وهناك.
167) إنه القوس الذي يحاول خاطبو بينيلوب إطلاقه من أجل الزواج بها دون أن يفلحوا.
168) إشارة إلى الأقزام السبعة في "بيضاء الثلج".
169) فساد أخلاق الآن، حسب موليير.
170) الغريزة الجنسية (والغرائز النبيلة).
171) الحب الماضي هو الغريزة التي اكتملت، حسب بيرغسون، والتي هي القدرة على استعمال وحتى بناء أدوات منظمة.
172) تونس زمننا الحالي.
173) في الواقع هم متنكرون في نساء.
174) بعل هو أحد آلهة الديانة الفنيقية (الحاكم التونسي إضمارًا، ولكن خاصة الحاكم الفلسطيني الذي أقام في تونس بعد الخروج من بيروت).
175) الموت بدافع عبادة الشخصية كرد فعل معارض لهذه العبادة لا كما يفترض النظام (عبادة الشخصية هذه التي يفرضها كل رؤساء الدول العربية على مواطنيهم، ونحن نرى صورهم أينما ذهبنا حتى في الششم وفي الرؤوس).
176) سيدفعه البعاد إلى عبادة صورة امرأته إلى أن تكون هذه الصورة سبب موته.
177) شارع في تونس حيث كان يقيم نائب القائد العام للثورة الفلسطينية أبو جهاد، والزيزفون أيضًا نوع من أشجار المناطق المعتدلة. نقع الزيزفون مهدء.
178) هنيبعل، الجنرال الشهير ورجل الدولة القرطاجي لأسرة بركة (يمثل هنا نائب القائد العام للثورة الفلسطينية أبو جهاد)، تربى في إسبانيا بين الجنود على يدي والده أميلكار (ياسر عرفات)، ولا يفكر إلا في تدمير روما (إسرائيل) المنافسة لبلده.
179) إنه المؤلف نفسه.
180) الغريب لألبير كامو.
181) سلميًا.
182) أخذ الزيزفون رمز الثورة.
183) الفصائل التي تتشكل منها الثورة.
184) حرب لبنان.
185) أميلكار أو ياسر عرفات.
186) الإعدام.
187) المؤلف من يتكلم.
188) لإظهار تفرق قادة الثورة.
189) في الواقع أن هنيبعل انتحر في المنفى لكن نائب القائد العام للثورة قتل في تونس.
190) ليس المسيح، إنه "النبي" للكاتب اللبناني الذي عاش في أمريكا جبران خليل جبران والمعروف عالميًا.
191) الرحيل هو الموت قليلاً، يقول هاروكور.
192) بداية.
193) لقد قلب المؤلف كل شيء. نقرأ في كتاب جبران: لولا البحر لما كانت المراكب... البحر قدره الوصول... البحر حرية النهر... إلى آخره.
194) في نص جبران: لماذا تحبون البحر وهو يكرهكم... إلى آخره.
195) وليس لأن الكره غضب الضعفاء: معادلة ساذجة لرؤية الأشياء.
196) طبيعيًا الأحقاد العامة هي التي تثور.
197) طبيعيًا ننظم الثورة ابتداء من الحقد على الطاغية، إلا أننا نقرأ هنا: يكرهون البحر الذي يحبهم. هذا التناقض لا معنى له، لهذا يريد النبي أن يكرههم البحر كي يحبوه بالمقابل تطبيقًا للمعادلة الساذجة.
198) يوجد نفي هنا للمعادلة الساذجة الخاصة بالرؤية الجمعية للعالم.
199) يواصل النبي إيضاح منطقه العقلاني.
200) فصل كل الأخطار، فصل جهنم.
201) حيث كان يوجد الحب.
202) يؤكد الفصل القادم موت الحب والمنطق المعكوس الذي تم تبنيه بخصوص المعادلة: كره-حب.
203) ليست دموع الدالية الشاربة للدم كما سنرى.
204) إنها تضحية إبراهيم في التقليد الديني.
205) في التراث الفلسطيني العروس هي الثورة والأطفال هم المقاتلون.
206) في التاريخ الفلسطيني وقعت عدة ثورات.
207) العالم الأرضي.
208) يعني يعظ.
209) طبقت طريقة بريشت المعروفة تحت مصطلح "التبعيد": لا يتكلم النبي مع آدم ولكن عن آدم كي يشدد تراجيديًا على "الإنساني". العنب حلو لأن دم الطفلين حلو.
210) يسخر النبي من البشر، فالموج ليس قاسيًا أبدًا.
211) تناقض متعمد.
212) يتابع النبي سخريته من مواطنيه لأن عبيد الحب هم أسعد الناس على وجه الأرض، ومع ذلك، علاقتهم بالحب كالماء الهارب من بين الأصابع.
213) حبهم للثورة على الخصوص.
214) كأس نبيذ المسيح وخبزه.
215) القمر البربري هو النظام العربي.
216) وسطاء بين العبودية والحرية.
217) صورة تشير إلى البحر كمسكن للنبي، الحور سلطة سحره وإغرائه.
218) يبحث عن أثينا على غرار عوليس مع الحور، لكن الغناء الخاص بالحور أول ما يصل إليه حسب الأسطورة.
219) نجوم المرتبة الأولى مرتين ونصف المرة أكثر لمعانًا من نجوم المرتبة الثانية... إلى آخره.
220) الشمس.
221) تناقض متعمد.
222) كان يسوع يسمى "السمكة"، فكل هذا جزء من عالمه.
223) الرَّعاع، الشعب.
224) المرجان حجر ذو قدر رفيع.
225) تناقض متعمد.
226) الفلسطيني الباحث عن بيت، وبعد قليل الفدائي.
227) الموت.
228) هنا تبدل حاسم في الثورة.
229) النبي مع العنف "العادل".
230) رجال السلطة.
231) عودة إلى خبز ونبيذ المسيح.
232) العجل رمز القدرة والرخاء.
233) لنقيم وليمة.
234) يأخذ العجل هوية المعبود تارة والحيوان تارة
235) الفرح يختلف عن السعادة والمتعة والسرور، الفرح شعور النفس اللطيف، حسب ديكارت.
236) دجال.
237) ليس من الضرورة أن يكون كل ما هو حلال عادلاً أو شرعيًا.
238) اختيار الإنسان الحر
239) يقال عصر الشعب، عرق المعدمين.
240) في المقطع السابق صور تعبر عن الصراع الطبقي ولكن على الخصوص تؤكد تعلق الإنسان بالحرية والجمال.
241) حال من لا يجبر على شيء.
242) إنه على الخصوص التأمل حسب زن الذي ساهم في بحثه عن الجمال في تطور الفنون، ولا ننس أن أثينا إلهة الفكر والفنون.
243) الله هنا أو رمزه.
244) المعرفة سلطة، قول مأثور لباكون.
245) من يملك العمل يملك السلطة.
246) الكد.
247) القوة,
248) رمز النزوات والنفوذ.
249) كان اليسوع عيسى يعيد البصر للعميان لكن الروي التالي يضع هذا الفعل في سياق جديد.
250) هم أنفسهم الذين أدانوا المسيح تحت رمز الحمامة، رجل السلام.
251) على الروح ألا تسمح بالعوج في تنفيذ ما قررته، كما يقول جول رومانس.
252) التضامن الطبقي.
253) في حال عدم التضامن يغدو الحوت حوتًا حقيقيًا.
254) قصة معدلة ليحيى أحد الأنبياء الاثني العشر الصغار الذي بقي في بطن الحوت ثلاثة أيام.
255) يذكرنا هذا بالدمى الروس.
256) أهذا هو معروف رجل متواضع عمله في رجل متواضع؟
257) كنود، كافر بالنعمة.
258) ما سيجري العكس.
259) على ارتباط هنا الحورية والحوت والمرأة كمخلوق واحد.
260) يصيب الإنسانَ قليلٌ من هذا أو ذاك، هذه هي طبيعته، ولكن أن تُستعمل هذه المشاعر من أجل غايات ليست صائبة أمر مدان حسب فلسفة المؤلف. لهذا لا يقبل اليسوع أن يتألم واحد مكانه، فهو يعلم أنه يمكن لهذا "الواحد" ألا يحزن على مصير المصلوب الذي له.
261) من أجل المرأة أكثر مما هو عليه من أجل المسيح.
262) بالنسبة إلى عِشاء المسيح الأخير.
263) طوائف دينية ونحل كما يوجد على الخصوص في لبنان.
264) نقرأ في الإنجيل: أنا الطريق، الحقيقة، الحياة، لكن يؤكد النبي هنا أن لكل واحد حقيقته.
265) رودان.
266) محمد أو المسيح نفسه.
267) تفاحة آدم، تفاحة الخطيئة الأصلية. ومن ناحية ثانية، العبث هو الخطيئة دون إله حسب كامو، من هنا تأتي سيطرة العبث في هذا الفصل. أيضًا يمكن أن يكون الله أي واحد أو أي حل انهزامي للمسألة الفلسطينية.
268) بينيلوب في فصل سابق.
269) إنه مصير الفلسطينيين الذين أخطأوا بعدم الدفاع عن أنفسهم أو الدفاع عن "المخلّص"، المقاتل. إنهم اليهود الجوالون لنهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين الذين حسب الرواية الشعبية حُكم عليهم بالتجوال حتى نهاية العالم لأنهم سبّوا المسيح وهو يحمل صليبه.
270) الذي عليه تكلم موسى مع الله.
271) كما كان يفعل البرتغاليون (غاما) والإسبان (كولومبس).
272) الإسلاميون.
273) الروح مقابل الجسد.
274) الاستسلام الجماعي,
275) الاستسلام الفردي.
276) قول المسيح الشهير معدلاً.
277) يقال طوفان من دم.
278) القول المأثور عن الخيانة معدلاً. إنه يهوذا الأسخريوطي الذي، حسب الإنجيل، خان يسوع وسلّمه. الخيانة هنا ليس دافعها المنفعة والطموح، كما يقول سارتر، ولكن الجبن واللامبالاة.
279) زوس هو إله الآلهة، من أوصافه العادل. هنا يتوسل آدم إلى أثينا لأجل أن يعاد العدل إليه (بالثأر لنبيه الشهيد).
280) أن أكون ذئبًا، أن أكون بربريًا، أن أستعيد إنسانيتي طالما بقيت الحضارة سيئة، وتُرتكب الجرائم باسمها. ولأن "الإنسان ذئب للإنسان" يرمي آدم إلى أن يكون ذئبًا للعدالة: الذئب إنسان للذئب!
281) باراباس: مثير الفتن العبري الذي فضل الشعب إطلاق سراحه في عيد الفصح بدلاً من المسيح.
282) من يسرق اللصوص، التفسير في النص فيما بعد.
283) السجان الروماني الذي حرر باراباس وصلب المسيح، ويمكن أن يكون المسيح على اعتبار أنه المذنب الذي عرف فيه باراباس البريء بعد أن حرره السجان الروماني.
284) كان قد تحرر: لأن باراباس عاد إلى السجن بعد أن تحرر.
285) ليس البحر الذي يكره أو يحب –كما سبق لنا ورأينا- إنهم الناس فيما بينهم منقسمين بين ناس البحر وناس البر.
286) شعار لينين: اسرقوا البضائع المسروقة! هو يعتبر أصحاب المصانع كلصوص ينهبون قوة الطبقة العاملة (فائض القيمة).
287) إشارة إلى "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي.
288) مخيم للاجئين الفلسطينيين المطرودين من بلدهم عام 1948.
289) سرقة الأغنياء.
290) الذهب والقمح ما كانت تقدمه مصر لروما.
291) يستقي الوصف قوته من هذا التناقض المتعمد من طرف المؤلف. نعرف بالطبع أن هذا ليس صحيحًا لكن الحياة في هذا الجحيم "السعيد" الذي هو المخيم عليها أن تكون هكذا.
292) العداء معروف بين أثينا وروما.
293) قيصر (أو أي حاكم عربي اليوم).
294) تلخص هذه الجملة الموقف العربي من فلسطين، من الإنسان، موضوع طمع بكل بساطة.
295) كليوبترا، ابنة إيزيس، رمز سكان متواطئين إن لم يكن خائنين: ستطالب بإعدام زوجها فقط لأنه يبكي عليها.
296) في هذه الظروف يصبح الفرح قانونًا عاديًا.
297) مقابل الوحشية السائدة المكسوة بطيب الخلق هناك دومًا لجوء إلى نفس الوحشية ولكن بوصفها جوهرًا للإنسان، وذلك لحماية الإنساني فيه.
298) يلعب الجسد هنا دورًا حاسمًا كالروح في فصول أخرى. لا يعارض المؤلف بينهما على نحو مبسط كما هو الحال مع المبادئ الهندية-السنسكريتية.
299) إشارة إلى مصاصي الدماء اللطفاء.
300) الخلد يخونه كامرأته على عكس طبيعة كل منهما: من العادة أن ينام الخلد في الشتاء.
301) من وجهة نظره لا جرم هناك في فعل باراباس وليس من وجهة النظر الرسمية.
302) هنا يذهب المؤلف "فلسفة" حول موضوعة الحرية حتى نهاية الفصل.
303) الفكر والمتحرك لبيرغسون.
304) إنه المصير الذي استبقاه العالم العربي لكاتب هذه السطور.
305) بغداد.
306) أعزّت بغداد أرسطو وكل فلاسفة اليونان وترجمتهم في ذلك الوقت إلى العربية.
307) يشير المؤلف إلى ما جاء به العرب إلى المعرفة ويربط ازدهار ذلك العصر بما قدم الإغريق وذلك بترجمة أعمالهم وتعميقها.
308) يقال "السكوت من ذهب" بينما يؤثر المؤلف الكلام.
309) ابنة شهرزاد كما سنرى، ثمرة الحضارة الإغريقية.
310) البلدان العربية في عصرنا.
311) ابتداء من هنا يصف المؤلف عصر هارون الرشيد، عصر العلم والحب والرفاهية.
312) تبقى شهرزاد وألف ليلة وليلة معاصرة دون أن تشيخ، يقال "الكتب تبقى".
313) الأسطورة مقلوبة والعالم البطريركي.
314) يشكك المؤلف في الألف ليلة الباقية، ويؤكد أن واقع هذا العمل مكتوب بالخيال الشعبي، أما الحقيقة، فهي شيء آخر، إنها دموية كما سنرى في الفصل القادم.
315) الباب الثاني بعد باب الجنة.
316) الانحطاط.
317) تحت رمز الغرب.
318) يقول الغرب للطغاة المشارقة أنتم صنعتم هكذا! من طبيعتهم ألا يكونوا ديمقراطيين وظمأى للدم! هكذا يبرر الغرب كل تعاسات الشرق.
319) أثينا الإلهة وأثينا المدينة (المدنية).
320) البرق في الميتولوجيا هو غضب الآلهة، غضب الحكام في الغرب.
321) ابتداء من الآن لن نرى سوى صورة صدام حسين، ويوصف فيما بعد كيف عاش الناس الحرب العراقية-الإيرانية.
322) هذا ما نشعر به حسب بسيكولوجية الحرب.
323) الجندي المجهول.
324) هكذا كنا نسمي الجبهة العراقية-الإيرانية.
325) الموت.
326) لا يقول المؤلف ليل اليأس كي يعمق التراجيدي.
327) سينتصر على الإيرانيين.
328) ستنتظر موت شهريار (أو صدام).
329) مقابل الازدهار القديم للثقافة.
330) حكايات شهرزاد الألف والواحدة ممنوعة ما عدا حكاية صدام، بطل كل الأزمان!
331) هذا ما رآه المؤلف من قصور للشاه بالفعل من الجبهة العراقية.
332) بما أنها أصبحت إلهة عربية، حاكمة عربية، يتبنى المؤلف هنا بشرية الآلهة.
333) لا ننس أن آدم الحكاية قد عاش كل شيء ابتداء من أيامه الأولى على الأرض مرورًا بالعصور القديمة حتى يومنا هذا (يوم إنجاز الكتابة)، وهو يعرف ما سيحدث من وجهة النظر السردية.
334) عودة إلى العصر الشعري في زمن الحرب ولكن دون فائدة.
335) بالأحرى صورة الجسد، روحه.
336) الرؤية الواضحة للأشياء.
337) طعم الحياة مع التمييز بين الصحيح والزائف.
338) جسد المرأة وليس صورتها.
339) إنها دومًا المأساة القائمة بين الغرب والشرق.
340) كان الغرب مع الحرب العراقية-الإيرانية، وكان يزود السلاح والدعم للعراق.
341) ترمز شهرزاد إلى الحضارة الجديدة القائمة على الحضارة الإغريقية القديمة لكن مصرع شهرزاد هو سياسي أولاً وقبل كل شيء، يظهر هذا القتل استعاريًا في الفقرة القادمة.
342) كذلك المواجهة بين الحضارتين الغربية والشرقية وسيطرة الأولى على الثانية.
343) تنبؤ للحالة في العراق بعد حرب الخليج (كتبت هذه الصفحات في الثمانينات).
344) التنينان هما الملاك والشيطان، الأول يسمح بعبور النفوس الطيبة والثاني يمنع عبور النفوس السيئة. الصورة للحاكم (صدام).
345) باب قديم من عهد الخليفة.
346) احتل الأتراك العثمانيون العراق فيما بعد لبناء امبراطوريتهم (آدم الحكاية عاش كل هذا، لهذا يقوله).
347) مجهول لغيره وليس له.
348) التنين الثاني.
349) الخليفة.
350) المغول في السياق التاريخي، ولكنهم بالطبع الإيرانيون.
351) عندما رآها للمرة الأولى ولكن أيضًا صورة حواء العفيفة.
352) المسيح بشكل من الأشكال. موصوفة في هذه الشخصية الأخلاق المعروفة للخليفة الراشدي عمر بن الخطاب المدعو بالعادل.
353) مراكش.
354) في التوراة والقرآن هذا الخط يفصل بين جهنم والجنة.
355) البشر يتشابهون كلهم وفي الوقت نفسه يختلفون.
356) يصف المؤلف هنا ما عاشه بالضبط.
357) تجربة عاشها المؤلف.
358) عاشه المؤلف الذي عرف فيما بعد أن المسامير لم تكن من حديد.
359) قراءة الكف أمر مألوف في ساحة جامع الفناء.
360) حسب الألف ليلة وليلة، عندما نكشف عن هوية أحدهم يتبدل في شكل آخر أكثر قبحًا لما يكون شريرًا.
361) لماذا الجرذان؟ لوصف جبن الناس (تغادر الجرذان السفينة في حالة الخطر).
362) يقول كورنيي: اختر إن جرؤت!
363) يحل الألم محل القدر.
364) في القول سخرية.
365) السياح، فصل 31.
366) تنسج حكاية لكل باب تبعًا لتسميته.
367) المجنون في هذه الشروط وحده العاقل.
368) يغاير المؤلف التقليد السائد.
369) الصحراء الغربية.
370) نحن في قلب الحكاية الشعبية عندما تغدو المسألة الفردية مسألة جماعية.
371) شرط كل تراجيديا إنسانية.
372) تطارد التراجيديا الأفراد في أبنائهم، وبقول آخر في جوهرهم ووجودهم نفسه.
373) أن تتهم أو تتهم نفسك يدفع الناس إلى التفكير في وضعهم.
374) استعارة مستقاة من التقليد الشهرزادي، وهكذا غالبًا ما يعتمد الرجل العادل على الصور لتبرير ذاته وتبرير عدالته.
375) امحى العار تمامًا لكوني عربيًا، هذا العار هدف أساسي للحكام كي يسيطروا جيدًا على أناس جبناء يشعرون بالعار.
376) قصر الملك حسن الثاني.
377) البراق.
378) الدمويون العرب لطخوا حتى رمز الرسالة الإلهية.
379) إنها جثة الوليد الذي يشبه القمر في طوره لما يكون بدرًا.
380) رجال الملك. خلال ثورة الخبز في مراكش، "عاقب" حسن الثاني سكان المدينة بامتناعه عن قضاء عطلته الشتائية فيها، وكان مقصده أن يحرمهم من "بركة" حضوره بينهم، فأرسل مكانه أشباهه، جلاديه.
381) إشارة حداد مطبوعة بالشر.
382) أن ترتدي الأبيض، أن تنذر للأبيض إكرامًا للعذراء التي ترمز إليها البنت القتيلة ثم الملتهمة.
383) طيور التعاسة، والطائر الشنيع هو شخص كريه. ترمز هذه الطيور الغريبة إلى جلادي النظام المغربي الآخرين الذين هم ليسوا رجال القصر ولا العساكر والذين يريدون حصتهم من جثة الشعب المغربي. ويمكننا القول أيضًا: في نظام دموي تصبح حتى الطيور دموية على صورته. ومن ناحية أخرى، لنترك الدمويين "ينشغلون" بأنفسهم لا بالشعب، يمكن أن نفكر أنهم أرسلوا من طرف مليكة السماء مريم العذراء أو مليك الأرض الرجل العادل.
384) مدينة قرب مراكش.
385) إشارة إلى ربابة موزارت.
386) واقعة حقيقية.
387) قصة حقيقية.
388) قصة فارسية معدلة.
389) قصة فارسية على طريقة لافونتين معدلة وكذلك قصة الهدهد التالية أما الفولار الإسلامي فقصته معروفة في فرنسا عندما منعت التلميذات المحجبات من وضعه في المدارس مثله مثل كل ما له علاقة ظاهرية بالأديان الثلاثة عملاً بالعلمانية، وهذه القصة مضافة إلى هذه الطبعة المزيدة والمعدلة390) مدينة على جبل الأطلس يسقط فيها الثلج طوال السنة.
391) حياة محتضرة في الواقع.
392) نوع من القصوف بالإجبار.
393) عودة إلى خلق ما قبل-الإنسان: يتشابه البشر كالسردين دون اختلاف ودون تمييز.
394) يتحد البشر في الحرمان والأسى، وتبكي شجرة الصفصاف على مصيرهم.
395) إله النبيذ الإغريقي، ساهمت عبادته في تطوير التراجيديا.
396) ينحط حتى الآلهة في لحظة سقوط الإنسان.
397) صواب ما يقوله الرجل العادل، أثينا ليست بريئة، ولكن عندما تتهمه هذه باللاعدل تكذب.
398) كما سبق لنا وقلنا تنسج لكل باب قصة توافقه.
399) خلال عبور المؤلف الطويل للصحراء، تركه كل أصدقائه.
400) غروب الشمس، لحظة شؤم تدفع إلى التساؤل: هل سيعطي الله شيئًا من رحمته؟ يشكك المؤلف في حصرية الرحمة الإلهية.
401) يشكك المؤلف في الإخلاص القائم حصريًا على الإيمان.
402) إله إغريقي للفنون (كأثينا)، للطب، للعرافة، للشعر، وللضوء.
403) على عكس الأبواب الأخرى، يبدي الحوار غضب الرجل العادل وليس هدوءه أو لينه، فالرجل العادل إنسان أولاً وقبل كل شيء يخضع للأحاسيس المتعارضة.
404) يفوت الأوان عندما يمضي الوقت.
405) حيث سيقام العدل، ويمكن أيضًا تفسير ذلك بما قبل القيامة.
406) لقول كم هو بعيد زمن العدل.
407) كانت بنات المعابد عاهرات منذورة لخدمة الآلهة.
408) ثدي الرضاعة، وسيجري الحديث فيما بعد عن التوق الطفولي.
409) تغير مفاجئ للحالة الغرض منه زيادة الاهتمام بالفعل، وهو أيضًا مستعار من التقليد الشهرازادي عندما يتعلق الأمر بقلب الحالة وضرب الفعل لمحو كل فصل بين اللاحقيقي والحقيقي، الهذيان والجلاء. ومن ناحية أخرى، هذه الرواية التي هي عبارة عن مزيج من الروائي والمسرحي، رواية ممسرحة، غالبًا ما تلجأ إلى انقلابات المسرح المفاجئة.
410) إلماح إلى البطل الشعبي الفرنسي "فانفان الزنبقة" في رواية الزنبقة السوداء لإسكندر دوما الأب.
411) ليسوا رجال السلطة ولكن مخدوميهم، أضف إلى ذلك، تمثل أثينا هنا السلطة المطلقة.
412) المستغَلون بين بني البشر.
413) التحريض. وبعد قليل، التهديد (العصا)، بالإشارة إلى الحمار الذي يدفع إلى التقدم تحت ضربات العصا أو بمد جزرة له. يخترق الرجل-الحمار هنا المرحلة الأكثر انحطاطًا من مراحل الاستغلال تحت صورة الجنس.
414) التهديد مموه بإرادة عدل هو عدل مزيف. سنقرأ فيما بعد عن عصا عدل سليب بإيقاع مع استقلال سليب تروجه الجماهير الشعبية في المغرب.
415) إنه موقف الشعوب العربية (السلبية) من الشعب الفلسطيني.
416) ثروات الأثرى وقوتهم.
417) الطغيان الذي ليس من حقه اغتصاب العدل.
418) نصل إلى نقطة القيم فيها والسلوكات مشوهة تمامًا.
419) ما يفعله الحكام العرب، وبنات الشفاه الكلمات، الكلام.
420) إنه مصير كل من يتعرض للاضطهاد الاقتصادي والثقافي: وعي معذَّب يعذِّب.
421) عصا السلطة.
422) نبوءة من الصعب تحققها في الشروط الجارية. فيما بعد ستسوء الأمور كما هي عليه في الفصول الخاصة بأورفليس، باريس عصرنا.
423) بين الخليج الفارسي والمحيط الأطلسي.
424) المعنى هنا ليس محقِّرًا.
425) أبوللو من يتكلم ولأنه إله العرافة.
426) أبوللو من يتكلم دائمًا ولأنه إله الشعر.
427) إنه في الواقع أحد طلبة المؤلف عندما كان يدرّس في جامعة مراكش.
428) على عكس المسيح يجعل الرجل العادل "أدوات" السلطة عمياء.
429) تقليد شهرزادي.
430) بالنسبة لحالة الحجر القادمة المدعوة ب"الانتفاضة". إقرأ السطور التالية.
431) في الوقت الذي كتب فيه المؤلف هذه الرواية لم تكن "الانتفاضة" أو حرب الحجارة قد شنت بعد.
432) لا شيء يولد من عدم، إلا أن من الجدير عدم الادعاء كما سيلاحظ ذلك الرجل العادل مباشرة في السطر اللاحق.
433) ثورة الخبز في مراكش.
434) التضامن بين كافة المضطهدين. ومن ناحية ثانية، يرمز "الحجر" إلى الحرية والسلام والعدل.
435) الأسبوع على الطريقة الإنجليزية يبدأ هكذا: الأحد، الاثنين... (الخميس هو اليوم الخامس في الأسبوع).
436) ناقص بالنسبة للأسبوع.
437) إنها طيور السعادة، الطيور اللطيفة.
438) تضاد متعمد بين الصلاة كفعل مسالم، والحرارة كفعل معتد. سنرى أن الصلاة والإيمان ليسا بالضرورة دينيين.
439) الأطلس الكبير.
440) رأينا عداء الإنسان وعداء الزمان، الآن عداء الطبيعة وعداء المكان. عزلة الرجل العادل كاملة.
441) هذه الطيور الغريبة عن وسطها تشبه طيور الجنة، وهي محباة بقوة ميتافيزيقية تارة وقوة فيزيقية تارة. الأفعال التالية تتشاطر هذه السمة المزدوجة التي تتشكل منها بنية هذا الفصل.
442) الله هنا إنساني أكثر منه رباني.
443) الأفكار التي نؤمن بها.
444) على عكس مبادئ الصوفية العقلانية، الطبيعة ليست الله، وهو يجدف قليلاً فيما بعد ليعبر عن تمرده الإنساني الخالص.
445) الإنسان يتنافس مع الله، ويمكننا الحديث هنا عن الإنسان الإلهي.
446) على العدل أن يصاحب إرادة كينونة العدل حتى على حساب الزوال: انظر قليلاً فيما بعد.
447) كل شيء تم بإرادة الإنسان/الإله. التوافق بين الطبيعة والإنسان كليًا وكاملاً.
448) يذوب في الطبيعة بما أنه الطبيعة. عودة إلى عقلنة التأله.
449) دون الإرادة الإنسانية لن يكون هناك أبدًا توازن بين الله والطبيعة.
450) السحاب الأخير، الباب الأخير، لكل شيء بداية ونهاية.
451) لا يمكن إحضار العدل (كما كانت رغبة ابنة شهرزاد) إنه ثمرة الكثير من التضحيات التي يقدمها ناس هذه المدينة أو تلك، مواضيع العدل. لهذا تنغلق الأبواب على مراكش، على تعاساتها الحاضرة وسعاداتها القادمة.
452) الباب الوحيد الذي لا معنى له. إنه الباب الأخير، فهو إذن مفتوح (أو مغلق) على كل تأويل.
453) بالأحرى الذهاب. لكن أورفليس كرحلة قادمة لآدم هي منذ الآن حاضرة.
454) ليس القبر على التأكيد، ولكن للجو الدرامي العام المسيطر من الطبيعي التفكير في الموت.
455) عدل كل عدل.
456) على عكس أورفيوس الذي تعده الآلهة الجحيمية بإعادة زوجه إليه تحت شرط ألا ينظر من ورائه قبل مغادرته الجحيم، ولأنه انتهك هذا الحظر فقد أورفيوس أوريديس نهائيًا.
457) عند وصول آدم إلى مراكش وعند مغادرته لها كانت الطبول في استقباله، ومع ذلك، هذه المدينة ليست في عيد سوى في الظاهر.
458) البؤساء.
459) هو جزء من هؤلاء الناس "الممنوعين"، يتعاطف وإياهم، يدعم قضيتهم، لكن طقوسهم ليست طقوسه. ومن ناحية أخرى، على عكس كل ما هو ممنوع، لا يوجد سوى هؤلاء الأفراد "الممنوعين"، التعساء، في مراكش.
460) للتذكير: مراكش.
461) البؤس يصدع حتى الصورة.
462) للصورة المزيفة المباعة في الغرب.
463) نظرة غبية لأنهم عميان بالصورة الجميلة للمدينة القتيلة، فالغربيون بعيدون عن الحقيقة.
464) إشارة إلى "طفل الرمل" للطاهر بن جلون، ولكن على عكس هذه الرواية، الأم هي التي توجد وراء هذه الشخصية المزدوجة للطفل وليس الأب، بشارب، مستبد، ومتعجرف. وهو الصبي الذي يتحول إلى بنت.
465) أدوات منزلية لمن يمكنه الحصول على شيء يطبخ.
466) الرجال دون مفهوم لوطيّ.
467) عالم وسيط، قبل العبور إلى عالم أورفليس "الغريب".
468) شيء طبيعي بما أن الحكايات تترابط على طريقة ألف ليلة وليلة. إنها حكايات غير مكتملة لا بداية لها ولا نهاية، وهناك أيضًا إلماح لما سيجري في أورفليس.
469) ليس هذا العالم الوسيط وإنما "نافذة" تطل على هذا العالم. يرمز الحلزون إلى الحيوانات الصغيرة التي تأكلها حيوانات أكبر: البشر. وبمصطلحات أخرى، في زمن التراجيديا، لا أحد ينجو، حتى الحيوانات الصغيرة.
470) البِغاء أقدم تجارة في التاريخ.
471) بالأحرى مخالف للصواب، بالنظر إلى عبث كل هذه السلوكات.
472) هذا يؤكد فكرة عالم لا قديم ولا جديد: إنه قابل للانكسار، وبالتالي قديم، لكن "دراجة الريح" –كبساط الريح في عصر شهرزاد- تنتسب إلى حضارة جديدة تمام الجدة. هذا العالم قائم ما بينهما.
473) كل ما سبق جزء مما عاشه المؤلف ما عدا، بالطبع، الطيران في الفضاء، من أجل القطع النهائي مع عالم مراكش. في ذلك الوقت، غادر المؤلف مراكش إلى باريس.
474) باريس.
475) بالنسبة إلى أورفيوس الذي هبط إلى الجحيم بحثًا عن زوجته، ينزل آدم في أورفيليس، مدينة من الصعب معرفتها، تشبه الجحيم، بحثًا عن ابنته –كما سنرى- ولكن قبل ذلك بحثًا عن هذا الصديق، شخصية متمكنة، محافظ سابق للمكتبة الوطنية.
476) النظام في الغرب، مريض منذ أمد بعيد.
477) إشارة أساسية إلى عالم جهنمي، عالم مغترب، الذي هو خلاف الزمن.
478) الحِطة الإنسانية كما سنرى عندما يكون اغتراب الإنسان على أشده.
479) جثة المؤلف، فهو القمر القتيل الذي كانه.
480) في كفر قاسم، القرية الفلسطينية الشهيدة، كان شعار الجنود الإسرائيليين.
481) لامبالاة الغربيين أمام المأساة الفلسطينية.
482) رد فعل عادي من داخل الحِطة الإنسانية.
483) تمامًا كماري-أنطوانيت عندما اقترحت إعطاء "الجاتو" للشعب الجائع. تفاوت هائل بين حياة الحكام وحياة الشعب. ثالثة الأثافي ما يجري هنا بين فردين من الطبقة المسيطر عليها. الائتلاف النفسي والاجتماعي لهذه الطبقة كامل، وعدم التضامن أيضًا.
484) إشارة إلى الرخاء كما كان الحال مع العدل.
485) من المريع أن يقال هذا، ولكن في شروط الحِطة القائمة، هي الحقيقة الخالصة.
486) صورة كريهة للحب في شروط كهذه.
487) هذا يذكر بمهبل القديسة مجدلينا.
488) بما أن كل شيء دميم، نميز الجميل بشكل أسهل. يسخر المؤلف هنا بمرارة.
489) كما هو عليه في عصرنا، الدعاية دين.
490) بيرغسون.
491) لا تنتسب المشاهد اللاحقة إلى الخيال العلمي ولا إلى أفلام الرعب، إنها جزء من حبكة الاغتراب والحِطة التي لا توفر أي مخلوق حتى المخلوق الحيواني. رمزيًا، تمثل هذه الوحوش الحيوانية القسم الأشد قسوة من مستلمي السلطة.
492) في مصر القديمة، يختار أيضًا كعطايا للنيل من بين الأبناء أغلاهم، هنا لتحاشي الشر، وهناك للانتفاع من الخير الذي هو الماء.
493) الاستسلام كلي.
494) كالبشر. هذا ما يقوي التوازي المعطى بينها وبين الجشعين الأقوياء من الناس.
495) لنذكّر أننا هنا في قعر الجحيم، وسيتعرض النص إلى "الهاوية" بعد قليل.
496) في الوسط الحيواني، تصعّد الأنثى رائحة معينة لجذب الذكور الذين هم هنا بشر يعاملون كالحيوانات.
497) موضوعة العنف معروضة هنا تحت كافة أشكالها وكاملاً.
498) هذه الصرخات التي أقل ما يقال عنها درامية لهي التمهيد للحظة حاسمة من الروي ومن حكاية أورفليس، ولا بد من طرح سؤال أساسي: من يوجد وراء كل هذا؟ ومن المستفيد من كل هذا؟ الجواب في الفصل القادم.
499) أقصى اليمين مختبئ تحت قناع السمو والنبل. إضافة إلى ذلك، مع الرجل العادل، الروحانية، الصعود إلى السماء. مع الرجل السامي التقاطيع، الهبوط إلى الأرض، العالم الحيواني المهيمن. ولنشر كذلك إلى ما تمثله الصفحات اللاحقة عن هذا الكابوس المروع من إنذار لكل الديمقراطيين في فرنسا والعالم.
500) لا شيء مستحيل على أقصى اليمين، فهو يسحق حتى الماس. يرخص كل شيء في سبيل تحقيق رغباته الأكثر مخالفة للصواب، إنه يدخن بودرة الماس!
501) متطرفو اليمين يتصارعون فيما بينهم للسيطرة وللمحق.
502) للإفلات من حقيقة غدت غير محتملة، لدينا في الغالب الوسيلة الحلمية، ويا للسعادة عندما يعني هذا أن هؤلاء الجلادين لا يصلون إلى قتل الحلم. ومن ناحية ثانية، إنها وسيلة تقنية للتقدم في السرد. لنذكّر أن الحبكة تتشكل من عدة رحلات، والرحلات من عدة عناصر مغيِّرة، ومن تغيرات مفاجئة، ومن طفرات.
503) عبودية اليمين المتطرف وحمائيته.
504) العنصرية.
505) نفاق اليمين إن لم يكن تواطؤه مع أقصى اليمين.
506) الفلسطيني.
507) الفصائل الفلسطينية المعادية لحل سلمي.
508) من الغالب ما تقارن التراجيديا الفلسطينية بتراجيديا هنود أمريكا، هنا تعاسات الفلسطيني أكثر خطورة من تعاسات الهندي الأحمر.
509) الفلسطيني بوصفه منفيًا: المنفى وطنه، دينه...
510) البانتيون، مقبرة العظماء.
511) عجز الفلسطيني كامل، عزلته مطلقة.
512) اليسار الغربي.
513) لن يتغير شيء.
514) فلسطين متعددة الأجناس وديمقراطية.
515) هناك معنيان: 1- خوض معركة حاسمة لا هوادة فيها ضد اليمين المتطرف. 2- الحكام الإسرائيليون الذين يخافون السلام.
516) يسوع المسيح.
517) تفاحة آدم.
518) معجزة العدل، ولكن أيضًا المعجزة التي تشفي (معجزات مدينة لورد الفرنسية).
519) هناك دومًا "الأسود" الذي يلد "الأبيض"، الأمل.
520) التي لا توجد إلا في الحلم.
521) نتابع الحلم الذي يحول الحيوانات الأكثر خطورة إلى أخرى محببة. لنذكّر أننا رأينا في واقع هذه الرواية الحيوانات الأكثر وحشية.
522) لا توجد ضفدعة سيكلوب (بعين واحدة) كهذه حتى في الميتولوجيات، هنا استمرارية للجو الحلمي.
523) من عند المخازن الباريسية الشعبية الشهيرة "تاتي". لقول إن هذه الشريحة من الناس تنتمي إلى أكثرهم إدقاعًا.
524) في مثل هذه الظروف، لن يبقى الحلم إلى ما لا نهاية. إنه حادث أعمى الأبرياء ضحاياه. بالطبع الهدف في مكان آخر. يسرد المؤلف هنا حادث شارع رين في باريس.
525) رجال شرطة فرنسيون في زمن حوادث الاعتداءات. ومن ناحية أخرى، لا يمنع الانتماء الديني من خدمة سلطة قمعية.
526) ابتداء من هنا، يقيم المؤلف الدليل على مساومات الحكومة الفرنسية لذلك العهد مع خاطفي الرهائن اللبنانيين لأجل إطلاق سراحهم: عمل كل شيء لإبعاد الناس عن المشكل الحقيقي، عن مشاكلهم الحقيقية. ومن ناحية أخرى، على شاكلة مجرمي أورسون ويلز في "ظمأ الشر" Touch of evil المتهم تهمته ملفقة.
527) "سونتياغ" الاسم الحقيقي للرهينة الأكبر سنًا.
528) قول لموليير.
529) اليمين.
530) ضحية بوصفه مغتربًا، وضحية بوصفه فلسطينيًا مطرودًا.
531) إنه الحاكم العربي أو الفلسطيني.
532) المستعرب ميشيل سورا، صديق المؤلف، أخذ رهينة في لبنان ثم تمت تصفيته. في ذلك الوقت، ثارت صيحات كبرى من الغضب والاستنكار الإعلامية في صالحه.
533) إنه سونتياغ دومًا.
534) إنهم الشيعيون اللبنانيون على الخصوص والإسلاميون على العموم. الاستعارة التالية "أحصنة الظلام" عن روبير دينوس في قصيدته حمار الزَّرَد. ومن ناحية أخرى، يمكن الحديث هنا عن انتقام "المسلمين" من الأجانب.
535) بعيدًا عن الرمز السابق، تعامل الابنة هنا كشخصية مستقلة تمام الاستقلال.
536) سنرى أن هذا الموت ليس نهائيًا. في الواقع، أمام ترك العرب للفلسطينيين والعالم، على الفلسطينيين وعلى الفلسطينيين وحدهم استعادة حقوقهم. هذه هي على الأقل الروح التي كانت تسيطر في ذلك الوقت.
537) الأمر طبيعي والصعوبات والعقبات التي تعيق الوصول إلى هذه الحقوق.
538) بالنسبة له، كل شيء واضح في الوقت الحاضر. ومع ذلك، فالمجرد من كل شيء الذي كانه لا يمكنه أن يفعل شيئًا. في السطور التالية، سنفهم بشكل أفضل لماذا هذا التراجع دون القدرة على الفعل.
539) محددة هنا الوسائل القمعية التي في أيدي الرجال/الذئاب للإبقاء على الوضع الراهن.
540) الإنسان البلاستيكي هو الإنسان المجرد من إنسانيته، ومع ذلك يمثل هذا جزءًا من الحداثة.
541) إشارة إلى النظام القديم في جنوب أفريقيا، وتحية لنلسون مانديلا الذي كان لم يزل سجينًا عند كتابة هذه السطور.
542) يقترض المؤلف هذه اللقطة (مع بعض التعديل بالطبع) من فيلليني. إنه المشهد الأخير من فيلم الدولتشيه فيتا.
543) السيمفونية المشجية.
544) بحثًا عن النفس، عن الهوية، عن البيت، عن الوطن.
545) هناك مزج بين المرأة والإلهة.
546) يأخذ سكان أورفليس بعدًا كونيًا، بعد العالم، وأثينا بعد الأمم-المتحدة، بقرارتها التي لم تطبق أبدًا.
547) يبحث البطل عن ابنته لكنه يقع على "ابنه"، وهذا جزء من عبث الأشياء السائدة. وليس صدفة أن يكون مجنونًا محظيًا بمعارف وقوى لا نجدها عند الآخرين، إنه "ابن" الخيال الخالص، ودوره أساسي في التطور السردي.
548) سيجري تحليل نقدي للمجتمع المدعو "صناعي، متشيء".
549) المقصود بالطبع جامعة السوربون حيث قام المؤلف بتعليم اللغة العربية الحديثة والأدب العربي الحديث، مؤسسها العالم باللاهوت التيولوجي روبير دو سوربون.
550) ستُعرض ثلاثة أنواع من الدراسة والتي تشكل نقدًا مرًا لإنتاج "العقول" في المجتمعات التي يقال عنها متطورة.
551) إشارة إلى مهنة المؤلف القديمة.
552) يتكلم على سليقته لجعل هذه الشخصية "المتخيلة" أقرب منا. ومن ناحية أخرى، الحوار المتعلق به أكثر خفة وأكثر طلاقة للسبب نفسه.
553) تحية لفكتور هيغو أحد آباء المؤلف الروحيين.
554) تصور مفجع للتكنولوجيا من أجل الذهاب قدامها.
555) نبوءة عراقية.
556) باسكال.
557) نغترف هنا من المعنى نفسه للبطل الميتولوجي الذي غالبًا ما يضع نفسه في ثوب شخص آخر، ولكن على الخصوص من أجل خلط الأوراق والعمل من العبث عنصرًا سرديًا يجيب على عبث العالم.
558) في الواقع، كل ما سبق جدير بلوحة لمايكل اينجل من أيامنا.
559) سيقام الدليل على عواقب المجتمع الذي يقال عنه صناعيًا.
560) شارع سان-دُني الشهير في باريس.
561) فكرة ذاهبة إلى بنات أوروبا الشرقية اللواتي يردن أن يصبحن "عارضات أزياء" برضاء آبائهن.
562) هو أيضًا يخضع للتألية (من آلة).
563) هذه المشهد الكابوسي الذي لا يتوقف عن تعذيب كل فلسطيني يشعر باغتصاب أرضه. إقرأ قليلاً فيما بعد والفصل 42.
564) سر العدم أو الوجود هو في نهاية الأمر شعور نكابده.
565) ديكارت.
566) ظاهرة غدت ملزمة.
567) تبذيل هذه الظاهرة التي غدت جد خطيرة.
568) بالتأكيد.
569) من أجل التصدي للنبوءة.
570) سارتر. سيتم تطوير هذا الشرط في الفصل الأخير.
571) يقول سارتر: تقتصر هذه الحرية على تأكيد استقلال الفكر.
572) هو ضحية قضية عادلة: إقرأ ما يلي.
573) هذا الشعور معاكس لمبادئ الجمهورية.
574) آرتور رامبو مع بعض التعديل. قصيدة: أول يناير.
575) صفة على صفة للمجتمع الذي يقال عنه صناعيًا.
576) كيف يُعذب مسيح القرن العشرين. ومن ناحية أخرى، سيقام الدليل على تبذيل عدم التسامح والحقد.
577) فكتور هيغو.
578) حرية، مساواة، أخوة، هذه هي قيم الثورة الفرنسية القيم التي تصنع عظمة فرنسا.
579) التطرف الرافض لكل شيء.
580) تبذيل العنف.
581) كيف يشوه الكائن الإنساني.
582) كيف يولد اللاأمن والألم.
583) ينتهي الأمر مع الفاشيين بالزهق. فما الفائدة إذن؟
584) مدينة مسيطر عليها من طرف العنصرية هي مدينة مقتلعة من جذورها، من قيمها، من أصولها.
585) عودة إلى النبوءة كوسيلة وحيدة ممكنة مقابل فقدان القوة.
586) سؤال سيطبع مشروع البطل على الدوام.
587) ضحك ساخر، لكنه أيضًا ضحك معلن عن عودة أثينا.
588) هذه الطبقة "الدنيا" التي تدعم أقصى اليمين ليس على اقتناع ولكن لعاهة.
589) حجج خادعة يستخدمها اليمين المتطرف ضد وجود الأجانب.
590) اليسار الفرنسي المعاق.
591) الأم/الوطن.
592) للخروج من وضع مربك، يكون اللجوء إلى وسائل "قبلانية" (سحرية، سرية): إحدى خصائص الواقعية السحرية.
593) شخصية تأخذ عدة هويات كما يريده التقليد الشهرزادي.