يكتب القاص الفلسطيني عن هذا المعجون المجلوب ليشكل به الأطفال ما يشاؤون من أشكال وكيف تحول إلى اختبار خاضه "الختيار الأرمل" وواجه من خلاله حياته بملامحها ومعانيها بينما يلهو بالمعجون.

المعجون

رياض بيدس

ابتاع الختيار الأرمل معجوناً من الأسواق متحمّساً لفكرة أن أحفاده المدللين هم أيضاً سيتحمسون للعب بالمعجون متناسين قليلاً ألعابهم الأخرى الإلكترونية،  لكنه عندما عرض عليهم معجونه فرحاً ومفتخراً أعرضوا عن المعجون بأدب جم، ودعوا للجد بطول العمر، وعادوا الى بيوتهم وهم يتبادلون نظرات الاستغراب.

نظر الجد الى المعجون وسأل نفسه: "ماذا أفعل به؟!"، ولمعت في ذهنه فكرة أن يلعب هو بالمعجون. في البداية تردد قليلاً، لكنه بعد تريّث مدّ يديه الواهنتين إلى المعجون وقال لنفسه: "إذا كان الأحفاد قد شبّوا وبات المعجون لا يعنيهم، فأنا سألعب به "، وأعجبته الفكرة.

في البداية، دعك أعواد المعجون العشرة معاً من دون أن يعرف ماذا يفعل بها. تأملها، فبدت له كعصا، ثم دورّها فبدت له كطابة صغيرة. بعدها تذكّر شكل الفيل، وصنع منها فيلاً صغيراً بدا له جميل المظهر.

وقف الختيار، ونفث دخان سيجارته متمليّاً منظر الفيل، وتحسّر بينه وبين نفسه لأن الفيل لا يمشي وخرطومه لا يتحرّك وكل ما فيه جامد.

وكان الكلب هو الحيوان المفضلّ لدى الختيار في طفولته، فقال: "لأصنع من هذا المعجون كلباً!"، فكان ذلك. أمعن النظر فيه، وقال لنفسه إنه جماد بلا روح، ثم أن من الممكن صنع أشياء عديدة من المعجون. وفكر الختيار: هل هي فكرة جيدة أن تصنع من المعجون أشياء كثيرة متنوّعة؟ ولم يدر لم احتار في الأمر، لكنه كسر طوق انشغال ذهنه بذلك الأمر، وصنع من المعجون حلقات صغيرة تشبه استدارة الأذنين، فبدت له جميلة جداً، لكنه بعد دقائق أعاد جمعها، وجعل منها حصاناً يشبه الخيول العربية القديمة، فأعجب بالحصان إيما إعجاب لاسيما وأنه بدا له حصانا عربياً أصيلاً.

بعدها جمع الحصان بين يديه، وجعل منه هرّاً لا يستطيع المواء، فضحك الختيار،  وسأل نفسه:"أيعقل أن هرّاً لا يموء وحصاناً لا يصهل؟!"، وصفن الختيار لحظات ثم سأل نفسه: "كيف سيكون الحال لو كان المعجون يحكي؟!"، عندها جعل منه إنساناً شبيهاً به الى حد ما. هنا، أغرق الختيار في الضحك، لكنه بعدما أمعن في تأمله، تغيّر شكله، وبات أقرب الى الحزن والعبوس، وردد بصوت عال: "ماذا لو كنت أنا معجوناً؟!"، لكنه أجاب نفسه في الحال: "لا اقبل أن أكون معجوناً إلا في يد خالقي !".

ودعك المعجون في الحال، ووضعه جانباً غاضباً لأن المقارنة بينه وبين المعجون أزعجته جداً وكادت تخرجه عن طوره، وسأل نفسه: "هل كنت معجوناً بين أيدي الناس؟!"، واسترجع بذاكرته مجرى حياته، فوجد أنه كان لطيفاً جداً ودمثاً ومحبّاً للآخرين، لكنه لن يقبل بأي حال من الأحوال أن يكون معجوناً بين أيدي الآخرين. وأكّد الامر لنفسه: " من يقبل أن يكون معجوناً بين أيدي الناس سيؤول به الأمر إلى ما لا يحمد عقباه ".

حاول الختيار أن يكسر جو التوتر الذي نشب بينه وبين المعجون بأن يصنع منه شيئاً جديداً يدخل البهجة والسرور الى قلبه البسيط , إلا أن يديه المرتجفتين أخفقتا،فتوقف قليلاً محاولاً أن يعيد الكرة إلا أن فكرة أن يعجن ما يريده الآخرون منه لم تنل إعجابه بالمرة، وقال لنفسه وللمعجون: " أنا لست معجوناً ولن أكون، ولن أسمح بذلك أبداً ".

ولما كان الختيار ليّن العريكة يحب المزاح والضحك ويقبل على الحياة من دون تذمر أو تعقيد، فقد وجد أن المعجون لا يستحق إعجابه لأنه لا يملك خواصاً بل يصنع به الاطفال ما يشاؤون.

وحمل الختيار المعجون، ورمى به من الشباك من غير أي تردد علّ أحد الصغار يلتقطه وهو يهتف: " أيها المعجون مصيرك تافه وسخيف جدا لأنك تسمح للآخرين أن يصنعوا منك دببة وقروداً وفيلة وما يشاؤون دون أدنى اعتراض منك ".

ونام الختيار هانئاً متخلّصاً من كابوس المعجون الذي لا يعترض على أي شيء.

 

(الجليل 16 شباط 2011)