تطرح مقالة الناقد العراقي المرموق، وقراءته لأربع روايات شهيرة افتراضا مستحيلا إلى حد ما، وهو قراءة الرواية في سياق يتحرر من كل المعارف المنهجية في نقد الرواية. وهو افتراض يطرح بدوره سؤاله: هل تحررت القراءة من أدوات النقد ومناهجه؟ أم أنها أسقطتها في قاع القراءة بدلا من أن تبقيها على سطحها؟

أن تقرأ الرواية في سياق نقدي حرّ

عبدالله إبراهيم

 

1. توطئة
تحتل قراءة النصوص الأدبية اليوم منزلة كبيرة في المناهج النقدية الحديثة، وقد تولّدت عنها مناهج خاصة تعنى بآليات القراءة، وطرائق التلقي. ومعلوم بأن نظريات القراءة مرّت بمراحل ثلاث أساسية، تمثلت الأولى بتركيز القراءة على السياقات التاريخية والثقافية للنصوص وللمؤلفين، وهو ما أظهر إلى الوجود المناهج الخارجية التي انصبّ اهتمامها على صلة النص بالمرجعيات الحاضنة له، ومن هذه المناهج: الاجتماعي، والتاريخي، والنفسي. وبعد أن استنفدت هذه المرحلة رهاناتها، انتقلت القراءة إلى النصوص الأدبية، فعزلتها عن تلك المرجعيات، وانخرطت في تحليل السمات الجمالية والأدبية لها، وجرى استبعاد كل ماله صله بالسياق والمؤلف، ومثل هذه المرحلة المناهج الداخلية، ومنها: الشكلانية الروسية، ومدرسة براغ، والنقد الجديد، والبنيوية، وكان الهدف هو انتاج علم أدبي من خضم الرسالة الأدبية التي يمثلها النص الأدبي. ثم ظهرت مرحلة ثالثة جرى التركيز فيها على كيفية تلقّي النص، لأن المتلقي هو الذي يعيد انتاج النص، مستفيدا من تجربته القرائية، ومن قيمة النص، وسياقه التاريخي، وهذه المرحلة أظهرت مناهج أخرى، منها: نظريات التلقي، والاستقبال. وعلى الرغم من هذا التصنيف الأولي الذي عرفه النقد، فلا نعدم تداخل بعض أنماط القراءات، واستفادة بعضها من بعض، لكننا نركز على الاتجاهات الأساسية فيها، ويعود ذلك إلى أن النقاد على نوعين،، نوع منكفئ على المنهجية النقدية التي يؤمن بها، فلا يرى لسواها قيمة، ويدافع عنها دفاعا أيدلوجيا، يصل حد التطرف والغلواء، ويسفّه المناهج الأخرى التي لا يرى فيها إلا القصور والخلل، ونوع يريد التركيز على قيمة الممارسة النقدية وصلتها بالنص الأدبي، ولهذا يتخطّى التصنيفات المدرسية الضيقة، ويفيد من الكشوفات المنهجية، وهذا النوع عابر للمنهجيات المدرسية، ويمثل جزءا من رهانات النقد بوصفه ممارسة ثقافية تشكل مزيجا مما يحمله النص، ويدخره المتلقي.

ليس من المتاح ضبط الصلة التي ينبغي أن تربط القارئ بالنص، لأن العناصر المكونة للعملية الأدبية، وهي المؤلف وبيئته، والنص وخصائصه، والملتقي وسياقه الثقافي، هي في حالة حراك دائم، ومتفاعل، ومن المستحيل وقف الحراك، وتقديم توصيف نهائي للعلاقة، وقد جُرّد عن الزمان والمكان، لأن تلك العلاقة تتميز بطبيعتها المتحولة، وصيرورتها الدائبة، والأصعب من كل ذلك هو الحكم النهائي على أي من القراءات هي الصائبة، فالأولى تضفي على السياق قيمة بما يجعل الأدب علامة دالة على أهمية الحاضنة الاجتماعية له، فقيمته في كونه يحيل على الخلفية التاريخية الخاصة بعصره وبمؤلفه، والقراءة الثانية تنصرف إلى جمالياته الداخلية، وكشف مظاهره الأدبية، من ناحية الأسلوب، والبناء، والدلالة الأدبية، والقراءة الثالثة تحاول التوفيق بين مضمرات النص، ومزاياه الكامنة فيه، واستعدادات المتلقي التي هي خلاصة ثقافته وسياق عصره، مع التركيز على كيفية التفاعل بين الاثنين. هذا النوع من الجدل لن ينتهي في وقت قريب، مادامت نظريات النقد تتبنى مفهوم حكم القيمة، والتفاضل، والتراتب، فهذا التنازع قديم، وسيظل لمدة طويلة مرافقا لكل نشاط نقدي نظري.

تشكل نظريات النقد في العصر الحديث تراثا كبيرا من التحليلات، والكشوفات، والفرضيات، والتوصيفات، والنتائج، ولعلها تمثل ثمرة من ثمار الجهد الفكري العظيم الذي انتهى إليه نقاد ومفكرون انخرطوا في صلب العملية النقدية، وأقاموا هذا الصرح الذي يمثل إحدى أهم انجازات العقل البشري في مضمار العلوم الانسانية، ولا غنى لأحد عنه، فقد تمكن النقد من فتح المسالك المجهولة للدخول إلى عالم التخيل الأدبي، وهو عالم مواز للعالم الحقيقي، ولا يقل أهمية عنه، لكن اكتشافه تعسر، وتأخر، فيما مضى الإنسان باكتشاف العالم الواقعي لاعتقاده بأنه أكثر أهمية ونفعا، فيما العالم التخيلي ينطوي على وعود كثيرة، لأنه يمثل مستوى موازيا من الرموز، والإيحاءات، والدلالات، والعلامات. وكثير من الدراسات الحديثة تحذر من استبعاد القيمة المخيالية لكل من الواقع، والتاريخ، والأدب، والعقائد، والنظم الاجتماعية والسياسية، وإحدى أكبر مظاهر الاحتجاج الحالية على فكرة الحداثة أنها أعطت العقل دورا جعلته يتحول إلى أداة قاطعة، لا تأخذ بالحسبان المستويات غير المنظورة للعلاقات الانسانية، وللآداب، وللأديان، وللتواريخ، ذلك أن فكرة المباشرة، والعملية، جرت الفكر الحديث، وبخاصة الفلسفي والعلمي، إلى جعلهما المعيار المحدد لقيمة الأشياء في الوجود، وجرى طمس متعمد لكل سيء سوى ذلك.

هذا المدخل السريع يفضي بي إلى تقديم قراءات حرّة لجملة من النصوص الروائية، مررت بها خلال ربع قرن، ولا أريد بها، على الإطلاق، تقديم موعظة جاهزة عن القراءة وكيفياتها، إنما رغبت، دون أن أكون متشددا، في تقديم قراءة لجملة من الأعمال الأدبية، ضمن سياق متطور من التصورات الأدبية، ولا أدري إن كانت هذه القراءات حرّة فعلا، أم أنها مقيدة بسلاسل غير ظاهرة بالنسبة لي، ففي الماضي كنت مشغولا بالتحيزات المسبقة في قراءاتي، أي بالطريقة التي أقارب بها النصوص، وبالمناهج النظرية التي اهتدي بها في التحليل، وقد انجزت عشرات البحوث والكتب، وألقيت مئات المحاضرات، في هدي تلك التحيزات، وربما تكون أصبحت جزءا من طريقة التحليل والرؤية النقدية، لكنني منذ سنوات عزفت عن تقديم تلك الأطر المنهجية الجاهزة كشروط تمهيدية لكل قراءة أو تحليل، وأصبحت القراءة أكثر حرية، وفيها كثير من الشغف والجاذبية.

في الماضي كنت أريد ان أرى دورا لكل شيء أعمل به بداية من الرؤية النقدية، وصولا إلى جهاز المفاهيم، أما الآن فقد أصبح كل ذلك مضمرا في العملية النقدية، وجزءا من التحليل، ولست قادرا على ضبط السياق الخاص بهذه القراءات التي جاءت إثر حقبة من الهوس النظري بالنقد، فربما تحتمل ما لا أراه، والأمر الذي أستطيع تأكيده هو أن هذه النصوص تشكل، إلى جوار أخرى كثيرة، جزءا من الذخيرة الثمينة لما أنتجه المخيال، ولما ينبغي على النقد أن يستكشفه.

2. الدون كيخوته
يروى بأن وليم فولكنر، الروائي الأمريكي، وجِّه إليه السؤال الآتي، إثر فوزه بجائزة نوبل للآداب: ماذا تود أن تفعل، لو خيرت، فيما تبقى لك من عُمْر؟ وكان جوابه: العمل حارسا في ماخور، وقراءة كتاب"الدون كيخوته". قد تمر هذه الأمنية المستحيلة مرورا عابرا، فلا تلقى اهتماما من أولئك الذين لا يعرفون بأن المكان الذي تمنّى فولكنر أن يمضي بقية عمره في حراسته، هو مخزن لا ينتهي للتجارب الإنسانية المتنوعة، التي تستثير كاتبا بمنزلته، ولكن الأكثر غرابة هو قضاء ما تبقى من العمر في قراءة كتاب واحد. لكنني أسارع إلى القول بأن"الدون كيخوته"هو كتاب المتعة الذي لا ينتهي، المتعة التي تنبثق من سطوره كنافورة عجائب أخاذة إلى ما لانهاية. لم يكن فولكنر على خطأ، فالماخور والدون كيخوته، يقدّمان كشفا خصبا للتجارب الإنسانية. ولم يكن ضعيف البصيرة فهذا الاختيار عبّر عنه في خريف عمره. ولكن ما السرّ الذي ينطوي عليه هذا الكتاب، ليحوز هذا الإعجاب الاستثنائي، فيصبح الكتاب الثاني-في الثقافة الغربية- بعد الإنجيل في كثرة طبعاته في سائر لغات البشر، إلى درجة تشكلت حوله مكتبة كاملة من الشروحات والتفسيرات، والتأويلات، والتحليلات النقدية، ونشأ تخصص أكاديمي رفيع يعرف بـ"الثربانتسية" نسبة لمؤلفه؟. ثمة أكثر من نصف مليون كتاب وبحث ودراسة عن ثربانتس, ناهيك عن مئات الآلاف من التعليقات والحواشي والمقالات.

شاقني الكتاب في قراءته الأولى منتصف السبعينيات من القرن الماضي. لم أتلقّاه بوصفه كتابا عن البطولات الخيالية، وهو النسق الشائع في فهمه إلى يومنا، إنما فوجئت به ينتمي إلى نسق مختلف، وكان هذا بحدّ ذاته أقرب إلى الكشف الشخصي الذي جعلني أتعلّق به، وكلما مضيت معه عبر السنين ازددت ثقة بذلك الكشف البسيط، ولقد عزّزت البحوث والدراسات التي اطّلعت عليها، فيما بعد، فكرتي، فإذا بالدون كيخوته قارّة غامضة تحتاج إلى إعادة اكتشاف. صرت أقرأه بصورة متواصلة، وتتعمق قيمته الفنية مع كل قراءة جديدة. في إحدى زياراتي إلى العاصمة الأردنية في التسعينيات عثرت على طبعة جديدة للترجمة التي قام بها عبد الرحمن بدوي في منتصف الخمسينيات حينما كان مقيما في سويسرا، وأصدرها في منتصف الستينيات، فاقتنيتها فورا، وظلت معي في أسفاري إلى المؤتمرات الأدبية والندوات.

في زيارة طويلة صيف2001 إلى أوربا حملت الكتاب معي، قرأت أطرافا منه في المغرب، وفي مضيق جبل طارق جلست أمام إحدى النوافذ في السفينة، وقرأت فصلين من مغامراته العجيبة، ومضيت أقرأ في غرناطة، بعد العودة من قصر الحمراء، وفي قرطبة بعد زيارة المسجد"لاميثكيتا"، وفي أشبيلية بعد زيارة الكاتدرائية"الخيرالدا". لكن الذكرى الأكثر جذبا كانت في طليطلة، المدينة التي تقع في إقليم لامنتشا الذي ينتسب إليه"دون كيخوته المنتشاوي"، وتنتمي زوجة ثربانتس إلى الإقليم نفسه، وتقع معظم أحداث الكتاب فيه، وقد ادعى ثربانتس داخل روايته - وهي خدعة سردية شائعة في الفن الروائي - بأنه وجد مخطوطة الكتاب العربية التي كتبها  مؤلف عربي اسمه سيدي حامد الإيلي في أحد أسواق طليطلة، فاشتراه بثمن بخس، وكلف مورسكيا بترجمته،كما ترد الإشارة إلى ذلك في الصفحات 95، 198و270من الجزء الأول

ما إن غادرت طليطلة، واتجهت إلى محطة القطار في الثالثة عصرا ناحية مدريد، حتى فوجئت بالمحطة التي بنيت على طراز محطات القطار في الغرب الأمريكي. كانت خالية إلا من امرأة في الطرف الآخر من المقاعد الطويلة، فالقطار القادم من مدريد يصل في الرابعة، وثمة ساعة، جلست على أحد المقاعد متكئا على حقيبة السفر أقرأ المغامرة التي يتوهم فيها دون كيخوته أن القسس الذين يحملون جنازة بأنهم جيش من فرسان الأعداء فيحمل عليهم. وتصورته وتابعه "سانتشوبانثا" يظهران في أفق السهل المترامي الأطراف أمامي، إذ تخيل ثربانتس مغامراتهما في هذه السهول. كانت المحطة الخالية، والوقت، والدهشة تجعلني على شبه يقين بأن فارس لامنتشا سينبثق أمامي على ظهر بغلته الهزيلة"روثينانته"يرتدي بزة الفرسان، وخلفه التابع العجيب. وفي القطار العابر إلى فرنسا، واصلت القراءة طرفا من الليل، وفي باريس، وروان، ودوفيل، وبروفيل، لم أفارق ليلا صفحات الكتاب، وكذلك بروكسل، وبروج، ونوكا، ولاهاي، وأمستردام.

صرت أفهم بعد ربع قرن على أول ملامسة لهذا الكتاب كلام فولكنر بطريقة أفضل، وبتصور أعمق، الدون كيخوته لا يُملّ، كتب على حافة الهاوية بين الرغبة والانطفاء، وفي الحد الفاصل بين الأمل واليأس، وأظنه أفضل مجاز تمثيلي عبّر عن الحكمة الساخرة بين عصرين وثقافيين مختلفين. وخلف الأحداث المباشرة التي تعرض في الدون كيخوته، تلوح في الأفق مواقف لا تخفى، منها السخرية المبطنة من الكنيسة، والفكرة الأكثر إلحاحا وهي الأحلام الاستعمارية الخاصة بفتح الأسبان للعالم الجديد، فالوعود المتواصلة التي يغدقها بسخاء دون كيخوته على حامل سلاحه "سنشوبنثا"هي منح جزيرة فيما وراء البحار النائية حالما يصبح هو إمبراطورا، أو منحه وظيفة كنسية في حال أصبح هو كبيرا للأساقفة، ومع أن هذه الوعود تظل متعثرة إلى النهاية، لكن أحلام الفارس وتابعه تنبضان في الكتاب إلى نهايته.

ينتدب دون كيخوته نفسه لإعادة الاعتبار لقيم الفروسية وثقافة عصرها إلى درجة يخيل له أنه يذوب في شخصية الفارس"أماديس الغالي"شيخ الفرسان في روايات الفروسية التي كانت شائعة في أوربا قبل القرن السادس عشر. وبالنظر إلى أنه يعيش في عصر لا يوقر قيم الفروسية وثقافتها، فإن كل المعاني المتصلة بأفعاله تنقلب لتعطي دلالات مضادة لما يتصورها هو، ذلك أن النسق الثقافي الجديد الذي يعيش فيه دون كيخوته يحول دون منح المعنى القديم الموجود في روايات الفرسان، إنما يضفي عليه فائضاً من دلالاته هو، وهكذا تظهر كل أفعال دون كيخوته ساخرة، وغريبة، ومتناقضة، وتنطوي على مفارقة لا يمكن السكوت عليها. والحقيقة فإنها تنجز من قبل صاحبها بحسن نية وطبقاً لشروط النسق الثقافي الذي تشبع به، لكن مقتضيات النسق الجديد تجري اختزالاً وإكراهاً، فتعيد إنتاج تلك الأفعال داخل سياق مختلف، فتُسقط عليها دلالات تظهرها أفعالاً شاذة. كان دون كيخوته يريد أن يصير فارساً في عصر لم يعد قادراً على احتمال فكرة الفارس أصلاً، وعلى هذا فإن كل مقاصده تقود إلى عكس ما يريده منها. وفكرة التوتر بين نسقين ثقافيين متعارضين، كما ظهرت في الدون كيخوته، تقودني إلى قراءة رواية أخرى تعمق هذا الأمر.

3. اسم الوردة
في عام1991 تلقيت، وأنا في بغداد، من الناقد التونسي محمود طرشونه، طردا يحتوي الترجمة العربية من"اسم الوردة" لأمبرتو إيكو"وهي ترجمة صافية وفخمة قام بها أحمد الصمعي عن الإيطالية، وصدرت عن دار التركي للنشر في تونس، وهي نفسها التي أصدرتها دار "أويا" في طرابلس عام 1999 وشاعت بعدها، فتلقيت الرواية بالاحتفاء الذي يليق بها، وفي السنوات اللاحقة كانت تلاحقني كظل. لم استطع أبدا التخلَص من تأثيرها، وكثيرا ما أشرت إليها في الندوات، والمؤتمرات الأدبية الخاصة بالرواية. ما السر الذي تنطوي عليه هذه الرواية التي كتبها عالم متخصص بالسيميوطيقا والاتصال؟ الواقع إن الجواب يبدو صعبا ونسبيا، فما أراه من أسباب قد لا يراه غيري، ومن الواضح أن إيكو ضخّ في هذه الرواية، وفي رواياته الأخرى- بندول فوكو، جزيرة اليوم السابق، باودولينو-خبراته بوصفه قارئا وناقدا وروائيا، فمن ناحية لجأ إلى أسلوب الإيهام السردي الذي يخدع القارئ العادي بصدق الوقائع والأحداث، وذلك حينما لجأ إلى توظيف فكرة المخطوط، وهي فكرة شائعة في الآداب السردية، ورأيناها في الدون كيخوته. المخطوط الذي يعثر عليه في"براغ" بعد أيام من اجتياح القوات السوفيتية، وهو مخطوط فريد من نوعه مر بلغات عدة وترجم كثيرا. كتبه في الأصل باللاتينية راهب ألماني في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي يدعى" أدسو دا مالك"عن أحداث رهيبة وقعت في أحد الأديرة الإيطالية أواخر عام 1327م ، وكان المدوّن شاهدا على تلك الأحداث، ومشاركا فيها. ثم مرّ المخطوط بتقلّبات كثيرة بين اللغات والأديرة قبل أن يصل إلى الراوي الذي سرعان ما يغيب بعد أن ينجز هذه المهمة السردية الإيهامية، ومن ناحية أخرى فالرواية تستعين بأساليب البحث التاريخي الذي يهدف إلى تخليص المسيحية من البدع التي ألحقها بها الهراطقة في ذروة التناحر المذهبي الذي استفحل في نهاية العصر الوسيط، ومطلع عصر النهضة، ولكن على خلفية متخيلة قوامها تحقيق جنائي يستفيد من التقنيات السردية للرواية البوليسية، ومن ناحية ثالثة توظف الرواية بمهارة عالية فكرة التابع الذي يمثله" أدسو" الذي كان يرافق راهبا ومحققا هو"غوليالمو دا بارسكافيل" فيقوم على خدمته. ويكون شاهدا على سلسلة الجرائم التي تجتاح الدير.

لكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد، فالرواية تقف في المنطقة الفاصلة بين عصرين هما الوسيط والحديث، وتعرض عبر الإيحاء الرمزي لأسلوبين من التفكير، إلى ذلك تفضح بوساطة السرد طبيعة الصراعات المذهبية، وآثارها المدمرة على البشر، تلك الآثار التي تؤدي إلى تدمير كل شيء: حرق الدير، قتل الرهبان، تدمير المكتبة التي ترمز إلى العالم. لكن الأمر المهم أنها أحالتني إلى الدون كيخوته. والمماثلة بينهما تستدعي جملة من الملاحظات تتعلق بالمقومات السردية للنصين، وبالمغزى، إلى درجة تظهر اسم الوردة وكأنها معارضة سردية للدون كيخوته. لنقف أولاً على توظيف مكونات سردية أساسية لا يمكن تجاهلها في الروايتين. قصدتُ فكرة "المخطوط" وفكرة "الرحلة" وفكرة "التابع". إنها مكونات وظفت على نحو يجعل الروايتين، رغم فارق الزمن بينهما، وكأن كلاً منهما مرآة للأخرى. لا يتردد ثربانتس  من الإشارة في تضاعيف النص إلى أنه يأخذ حكاية الدون كيخوته من مصادر عدة سبقته إلى الاهتمام بالبطل، منها الإشارة الى أنه عثر في طليطلة على مخطوط قديم باللغة العربية، ومن أجل فك مغاليق ذلك المخطوط العربي الذي يجهل لغته، فكّر بأن يعرضه على أحد المورسكيين، فإذا بالعربي يخبره بأن المخطوط إنما هو كتاب بعنوان" تاريخ دون كيخوتي دي لامانشا" وهو لمؤرخ عربي يدعى "سيدي حامد الأيلي" فيحصل على ترجمة إسبانية للأصل العربي، ويتكتم على الأمر، وينشر الكتاب ممهوراً باسمه. ولكن ما أن يعلم دون كيخوته بأن مدّون مغامراته مؤرخ عربي من المغرب، إلا ويصاب بخيبة أمل وانزعاج، لأن مؤرخاً مغربياً كاذباً وخادعاً ومزيفاً، لا يمكن أن يصوره على حقيقته.

أما في"اسم الوردة" فإن المؤلف الذي يتحدث من وراء قناع الراوي، يعثر في براغ عام 1968 على "مخطوط دون أدسو دا مالك" لمؤلف فرنسي يدعى الأب "فالي" كان صدر في باريس عام 1842 وهو مأخوذ عن نص أقدم ظهر بالفرنسية القوطية في القرن السابع عشر، وهذا النص القوطي هو ترجمة لطبعة لاتينية تنقل في الأصل مخطوطاً كتبه باللغة اللاتينية راهب ألماني يدعى"أدسو دا مالك" في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي عن أحداث وقعت في دير إيطالي في أواخر عام 1327، وكان أدسو شاهداً عليها حينما كان صبياً يرافق راهباً وعالماً فرانشيسكانياً ومحققاً انجليزياً هو "غوليالمو دا بارسكافيل" وما أن يعثر المؤلف على المخطوط إلا ويباشر فوراً بترجمته من الفرنسية إلى الإيطالية، ثم يفقد النص الفرنسي، لكنه يشغل بالبحث عن الأصل اللاتيني، فلا يعثر إلا على نبذ منه مأخوذة عن أصل جيورجي ضُمت إلى كتاب بالفرنسية، وحينما يعجز عن العثور على المخطوط، يقرر نشر ترجمته الإيطالية التي أنجزها في جو ذهني متوهج وهو مفتون بالمخطوط، وكما كان دون كيخوته يتدخل من أجل تصحيح مسار الأحداث والصورة المركبة له، وتعديل الصياغات السردية، فإن أدسو يفعل الأمر نفسه، ومع أنه يستعيد - عبر ضباب شيخوخته - أحداثاً مر عليها أكثر من نصف قرن، وهو معتكف في دير"مالك" فإنه يتدخل كثيراً لضبط مسار الأحداث وتعليلها وشرحها، وكأنه شبيه بدون كيخوته الذي تظهر صورته في المخطوط العربي المختلق لغاية سردية. هذا ما يتصل بالآفاق الخاصة بفكرة توظيف المخطوط، أما فكرة الرحلة فهي عنصر آخر مشترك بين النصين. ذلك أن كلاً من دون كيخوته وغوليالمو يرحلان في مغامرة عجيبة، تكتنفها كثير من المخاطر والصعاب، وأخيراً فإن فكرة التابع تغلق دائرة التماثل بين الروايتين، فـ"سانشوبنثا" و"أدسو" تابعان مخلصان لمتبوعين لهما صفات فكرية وثقافية غريبة وهما دون كيخوته وغوليالمو. وهذا يفضي بنا إلى ما نراه التماثل الأكبر، وهو المغزى العام للروايتين، استناداً إلى ما تشكله الشخصيات الرئيسية من مراكز دلالية تتمحور حولها شبكة المعاني.

يعيش كل من دون كيخوته وغوليالمو في اللحظة الفاصلة بين ثقافتين: الأولى تنتمي إلى عصر في طريقه للأفول، والثانية لعصر لم تتبيّن بعد معالمه الواضحة، ونظراً إلى أنهما ورثا الثقافة القديمة، فلم تعد تسعفهما في العصر الذي  يعيشان فيه كما يتصوران، فقيم الثقافة القديمة تتدخل في توجيه أفعالهما، لكن ذلك يتعارض، بدرجة أو بأخرى، مع القيم الثقافية الجديدة. وهذا الأمر ينعكس في سلوكهما وأفعالهما واختياراتهما وعلاقاتهما بالآخرين. وقد بينا ذلك في حالة الفارس الإسباني، وعلى غرار ذلك يبدو"غوليالمو"منقسما على ذاته، فهو يمثل رمزياً رجل القرن الرابع عشر الذي تزدوج فيه الرؤى العقلية المنطقية المغلفة بمنظور ديني من جهة، وبوادر الإيمان العلمي- التجريبي من جهة ثانية، ففي الوقت الذي يمارس فيه عمله كراهب ومحقق في الخصومات الدينية، فإنه لا ينسى أنه أحد تلامذة "روجر بيكون".

والحال فهو محقق بارع، وراهب، يستعين بالفرضيات العقلية والمنطق القياسي، لكن مقدماته المنطقية لا تفلح في مطابقة الواقع، ولهذا يتشكك بوجود نظام يحكم الكون، إنه جزوع من التفسير الديني لوجود نظام كوني، لكنه لم يتمكن بعد من هضم إمكانية الإيمان الكامل بوجود تفسير علمي لذلك النظام. ولهذا تتضارب تصوراته وتأملاته، فهو عالق بين نسقين ثقافيين، شأنه في ذلك شأن"دون كيخوته". وكما نجد الأخير منكسراً بإزاء نسق ثقافي لا يقاوم، نلمس مظاهر الحيرة والانكسار أحياناً عند "غوليالمو" وكما يقول تلميذه "أدسو" فهو يرتكب كثيراً من أفعال الغرور نظراً "لكبرياء فكره" فما يدفعه للعمل هو فقط "الرغبة في معرفة الحقيقة، والشك بأن الحقيقة ليست تلك التي تظهر له في الآونة الحاضرة". وكان بحثه لا يتعارض مع فكرة الفرح التي يثيرها الضحك. وتبدو له المفارقة كبيرة، حينما تؤدي به تحقيقاته في الدير إلى اكتشاف أن سلسلة الجرائم التي يكون ضحاياها من الرهبان، إنما هي بسبب كتاب مسموم عن الضحك، هو القسم المفقود من"فن الشعر" لـ"أرسطو" المخصص لـ"الكوميديا". فلا يراد الإطلاع عليه لأن الضحك، حسب تصوره، يفسد المسيحية الجدية والصارمة، فبظهور الفرح الذي يسببه الضحك تتحلل المسيحية، ويغزوها الفساد والخراب، فالكنيسة تعدّ الضحك من نتاج الشيطان، وهو يحرّر الانسان من الخوف، ومتى قيض للإنسان أن يتحرّر من فكرة الخوف، فهو في غنى عن الله. والخوف على المسيحية، والتنازع حول حقيقتها، كما ظهر في "اسم الوردة" يقودني إلى رواية أخرى جعلت من هذا الموضوع عمادها الأساس.

4. شفرة دافنشي
صدرت هذه الرواية في ربيع 2003، وسرعان ما لاقت صدى منقطع النظير، إلى درجة بقيت لسنتين تتصدر مبيعات الكتب في العالم، وبلغ عدد نسخها الموزعة في خمسين لغة نحو أربعين مليونا، وهي تستثمر جملة من التصورات الشائعة عن المسيحية والتأويلات المتصلة بها، وتقوم على نقضها بالتدريج، وتتضمن بحثا في أساس العقيدة، وكيفية كتابة الأناجيل، وما له علاقة بشخصية المسيح "الكرستولوجيا" وصلته بمريم المجدلية، والبعد الإنساني لشخصيته، وقد شكر المؤلف في مقدمة الرواية كتيبة من الباحثين المتخصصين في شؤون الدين والفن على جهودهم في توفير المعلومات الدقيقة التي  ضمنها الرواية، بل وأكد "أن وصف كافة الأعمال الفنية والمعمارية والوثائق والطقوس السرية في هذه الرواية هو وصف دقيق وحقيقي" وهذه ليست خدعة سردية يريد منها المؤلف أن يدفع بالقارئ إلى تصديق المعلومات التي أدرجها في روايته،كما لاحظنا في الروايتين السابقتين، إنما هي معلومات استقاها المؤلف من مصادر تاريخية موثوقة، وكثير منها معروف للمتخصصين في الدراسات المسيحية، فلا يمكن عد الرواية مصدرا لمعلومات مجهولة. في الرواية مزج شديد الذكاء بين مادة تاريخية-دينية-أسطورية، وإطار سردي يعتمد أسلوب البحث المتقطع، والمتناوب، والسريع، فالرواية من روايات البحث والتحقيق، شأنها شأن"اسم الوردة"فهما تنهلان من المادة التاريخية حول المسيحية بطريقة البحث والتحقيق، وتهدفان إلى إزالة الشوائب الزائفة حولها، فيما يعتقد المؤلفان. تقدم الرواية نقضا متتابعا للمسلّمات التي ترسخت في وعي المسيحيين، عن شخصية المسيح، وأسرته، وعلاقته بالمرأة، ثم تكشف الاستراتيجية التي اتبعتها الكنيسة في إعادة انتاج المسيحية بما يوافق مصالح البابوات وكبار رجال الدين منذ القرن الميلادي الثالث إلى اليوم، وبذلك تهدم اليقينيات المتداولة في أذهان المؤمنين بالعقيدة المسيحية التي رسخها التفسير الكنسي الضيق للمسيحية، وتقدّم وجهة نظر مغايرة لوجهة نظر الكنيسة عن كل الظروف التي رافقت نشأة المسيحية الحقيقية. وبهذا فهي تثير السؤال الذي لا يخص المسيحية وحدها إنما كل الديانات: ما الحقيقي وما الزائف في المعلومات المتداولة بين المؤمنين في سائر الديانات عن أنبيائهم، ورسلهم، وظروف نشأتهم، وكتبهم، تلك المعلومات التي جعلها التعليم المدرسي المغلق، ومصالح رجال الدين، والسلطات السياسية، جزءا لا يتجزأ من الدين، فهل ما تتداوله الكنائس في العالم الآن هو حقائق موثوقة أم جملة أكاذيب روّج لها لقطع المسيحية عن أصلها الأنثوي، وربطها بأصل أبوي زائف.أي الأصل الذي مثله المسيح بوصفه إنسانا ارتبط بالمرأة بعلاقة طبيعية، وقطعت الكنيسة صلته بذلك لتوقف نسبه، فيصبح أبا رمزيا لجميع المؤمنين بدون أبوة حقيقية؟.

تذهب الرواية إلى التأكيد بأن الديانات رموز، وصور، ومجازات، وأنه ينتصر تأويل ما للدين في عصر ما تبعا لقوة المؤولين وسيطرتهم على المجتمع، وبالنظر إلى أن الكنسية هي الوجه الديني لمؤسسة الدولة الرومانية القائمة على فكرة السلطة الهرمية الأبوية، فإن تفسيرها المعبر عن مصالحها هو الذي ساد بين المسيحيين إلى اليوم، ولكي يعم هذا التفسير بين عموم المؤمنين، فلابد من ممارسة قوة تلجأ إلى طمس أي رمز أو مجاز يمكن أن ينبثق للتذكير بالأصل الحقيقي للمسيحية، ثم قتل وتصفية لكل من يتبنى تفسيرا مغايرا للتفسير الكنسي الشائع، ووصمه بالهرطقة والمروق عن الطريق الصحيح، تجعل الرواية من هذه المشكلة قضية بحث معقد عن الرموز الحقيقية المطمورة في مكان سري، ثم النزاع بين جماعة تريد إعلان السر للعالم أجمع، وأخرى تريد طمسه إلى الأبد لقطع دابر الحقيقة المتوارية في مكان مجهول.

هذه القضية الدينية الخلافية هي في الأساس محل اهتمام مئات الملايين، وفي ضوء المكاسب العلمانية التي حققتها الحداثة في الغرب وسائر أرجاء العالم، فقد تدفق تيار الشكوك بالعقيدة المسيحية، والسياقات التاريخية التي رافقت نشأتها، وصار أي بحث يهدف إلى نقض التفاسير التقليدية محل اهتمام الجمهور، لقد نشأ خلال القرنين الأخيرين وعي يريد أن يحسم العلاقة مع الكنسية بصورة نهائية، وهو وعي يتزايد بفعل الطابع المدني للحياة الحديثة، ولما يكرس كاتب هذه القضية في كتاب مشوق، فذلك يؤدي إلى انجذاب العامة والخاصة إليه لاستكشاف الحقيقة الملتبسة في أذهانهم، وبخاصة أن المعلومات المعروضة في النص تأتي على ألسنة كبار العلماء والمتخصصين في فك الرموز الدينية، وتحليل الشفرات الكامنة في الفنون والعمارة والشعر وغيرها.

على أن المؤلف استثمر قضية شهيرة في تاريخ المسيحية ليجعل منها موضوعا للبحث، وهي  "الكأس المقدسة San Grail" التي يعتقد أن المسيح شرب منها في العشاء الأخير قبل صلبه، واختفت منذ ذلك الوقت، والبحث جار من أجل العثور عليها، ومعها سرّ الدم الملكي للمسيح. وهي كأس تجسد رمزيا الأصل الأنثوي للمسيحية، وبالنظر إلى هيمنة التفسير الأبوي للمسيحية فلابد من تدمير الكأس، وعلى هذا نشأت جماعة تحتفظ بالكأس عبر القرون كيلا يطالها الضرر، وهي تنتظر الوقت المناسب لإظهارها، وبحلول الألفية الثالثة فالعالم ينتظر أن يفرج أخيرا عن السر الحقيقي، فيما تريد الكنسية العثور على الكأس من أجل تدميرها، لإخفاء الدليل الذي يقود إلى الحقائق المنسية. هذه هي الخلفية الدينية - الثقافية للرواية، وهي خلفية تجتذب في وقت واحد خصوما وأنصارا.

تتجسد قضية البحث عن "الكأس المقدسة" من خلال الصراع بين جماعتين، تمثل الأولى"أخوية سيون" بشخص معلمها الأكبر، جاك سونير، القيّم على متحف اللوفر في باريس، وهو سليل آباء مشهورين لهذه الأخوية التي تأسست في عام 1099ومن أعضائها نيوتن، ودافنشي، وبوتشللي، وهيغو، وجان كوكتو، وقد حافظوا جميعا على سر الكأس منذ نحو ألف سنة، وتمثل الاتجاه الكنسي المتشدد جمعية "أبوس داي" في نيويورك بزعامة القس "أرينغاروزا" وهي جمعية أصولية متزمتة تعتمد على فكرة الإيمان القائم على تعذيب الجسد، ووخزه بالمسامير للتذكير الدائم بعذاب المسيح، فالأولى تمثل جماعة تريد الاحتفاظ بالكأس التي ترمز لوثائق وتقاليد خاصة بالدم الملكي المسيحي لإشهارها في الوقت المناسب، والثانية تريد طمس هذا الأثر المقلق الذي سيؤدي ظهوره إلى فضح أكاذيب الكنسية الكاثوليكية. ويعزز الصراع بين هاتين الجماعتين كل من المؤرخ الأميركي لانغدون، وصوفي بالنسبة للجماعة الأولى، والبوليس الفرنسي ممثلا بالنقيب فاش المتواطئ مع الكنسية بالنسبة للثانية. تقع أحداث الرواية بين فرنسا، وانجلترا، وجزئيا إيطاليا وأميركا، ومعظم الوقائع تدور خلال أقل من أربع وعشرين ساعة بين متحف اللوفر وكنيسة سولبيس، والريف الفرنسي في النورماندي، ثم بعض الكنائس العريقة في لندن.

تستأثر عملية فك الرموز السرية للعثور على مكان الكأس، باهتمام بالغ، ثم التقطيع المدهش للأحداث، والتوازي بينها، والدفع بمعلومات تاريخية في تضاعيفها، فالقارئ موزع بين الحركة السردية البارعة للشخصيات ليلا، والمعلومات التي تكتشف شيئا فشيئا من خلال الحوارات، وفك الشفرات المستغلقة، وفي النهاية يجد القارئ نفسه أمام كشف كبير لقضية دينية-أسطورية استأثرت باهتمام جدّي إلى درجة يعتقد كثيرون أنها حقيقة. لا خلاف أن المادة الأصلية للرواية صعبة، ومعقدة، وجافة، لكن عملية عرضها ظهرت بجاذبية ورشاقة، فليس معرفة الحقائق فقط هو الذي يهيمن على القارئ، إنما مصائر الشخصيات، وتداخل الأحداث، وسرعة الإيقاع، الذي جعل رواية ضخمة محط اهتمام أعداد متزايدة من القراء. وقضية فك الرموز، والشفرات، تعديني إلى راوية "مئة عام من العزلة"

5. مئة عام من العزلة
تناهى إلى سمعي اسم ماركيز، أول مرة، في نهاية السبعينيات، حينما كنت أتردد على مكتبة المجلس الثقافي البريطاني في أحد شوارع الوزيرية المظللة بالأشجار السامقة في بغداد، كان اسمه يتكرر دائما في الصحف الإنجليزية المعروضة في أرفف الجرائد، وكثيرا ما كان يشار إلى "مئة عام من العزلة" بحفاوة كبيرة، واعتقد بأنني اطلعت، في تلك الفترة، على إحدى قصصه المترجمة، لكن صورته الكاملة لم ترتسم في ذهني. كنت طالبا في السنة الأخيرة في جامعة بغداد، ولدي شغف بكل ما يتصل بالرواية. ندر أن تفاعلت مع نص روائي كما تفاعلت مع هذه الرواية التي صدمتني كليا، وهزت كل تصوراتي عن الرواية بداية من تذكّر لمسة الثلج البارد في الصفحة الأولى إلى العاصفة التي تزيح قرية ماكوندو من الوجود في نهاية الكتاب. قرأتها مرتين متتاليتين، وجلدتها بغلاف أزرق سميك، وأنشأت ثبتا لفهارس الأجيال الستة من سلالة "بوينديا" لكي أتتبع التشعبات المعقدة للأحداث والوقائع، ولأعرف الأنساب، والزواجات، وعلاقات السفاح، وطيران النساء، وإيقاعات الغجر، وكتائب المحاربين، والنساء الناريات، فيها، وتبين لي أن السلالة تنحدر من"خوزيه أركاديو" الابن الأكبر "لأركاديو بوينديا" المرافق الشبق للغجريات، وليس من العقيد "أورليانو" الأخ الأصغر، مع أن الحضور الطاغي للعقيد، وتشعب علاقاته النسائية، في صفحات الرواية يوحي بأن السلالة تنحدر منه، وتابعت سلالة "بوينديا" بعهرها وشغفها بالحب والقتل من "أركاديو" الأب إلى "أورليانو" الحزين، همت بالنص وصرت أتحدث به مع نفسي، وحلمت كثيرا به، وتخيلته نحوا من خمس سنوات، في لذة عارمة من التلقي المثير الذي ندر أن وقع معي إلا مع الدون كيخوته، قبل ذلك، واسم الوردة، فيما بعد.

صدرت الرواية في عام 1967 قبل أكثر من ثلاثة عشر سنة من إطلاعي عليها، وفي الثمانينيات، حينما غرقت في النقد الجديد قرأت أن "تودوروف" عدّها "ملحمة العصر الحديث" فقد اشتقت معايير جديدة للبنية السردية في الفن الروائي، وقادتني الرواية إلى العالم العجائبي لروايات ماركيز، وصدتني عنه في الوقت نفسه، صرت أترقب رواياته بشغف، فأتيت على كل ما ترجم له. أحببت بشكل مفرط روايته "وقائع موت معلن عنه" التي تحدد مسبقا مقتل بطلها "نصار" وتقوم على واقعة حقيقية حدثت لشاب هو ابن إحدى صديقات أم ماركيز، وقد منعته أمه من كتابة الرواية لثلاثين سنة، بعد أن حدثها برغبته في ذلك، كيلا يستثير حزن صديقتها، إلى أن اتصلت به في برشلونه بعد ثلاثة عقود وأخبرته بوفاة الأم، ومنحته إذنا بالكتابة، وقد أورد ماركيز ذلك في سيرته الذاتية "أن تعيش لتحكي".

وشغفت برواية "الحب في زمن الكوليرا" وأحببت روايته القصيرة "أنديريرا البربئة وجدتها الشيطانية" للقرار الذي اتخذته الجدة في بيع جسد حفيدتها إلى أن تفك ديونها، فتطوف بها مومسا في قرى الكاريبي التي لا ترتوي من النساء، وعشت لحظات ترقب وأنا أقرأ روايته القصيرة "حكاية بحار غريق" التي جرى تقليد ضعيف لها في الرواية العربية، وهي في الأصل تحقيق صحفي قام ماركيز به في عام 1955 حينما التقى أحد الناجين الثمانية من كارثة كادت تغرق المدمرة الكولومبية "كالداس" وكشف له معاناته طوال تلك الأيام المريرة في بحر عاصف، لكنني لم أتفاعل مع "خريف البطريرك" مع رغبتي الجارفة بمعرفة طبائع الاستبداد الذي صورته الرواية، ولم أ تفاعل كثيرا مع رواية "ليس للعقيد من يكاتبه" فقد وجدتها قصة انتظار عقيد هرم لراتبه التقاعدي، خلال خدمته العسكرية في الحرب الأهلية، وتنتهي بكلمة "خراء".

وما وجدت استجابة من أي نوع ما تجاه رواية "في ساعة نحس" التي عرضت سلسلة من الفضائح الخادعة على سبيل الانتقام، وعزفت عن أي نوع من التفاعل مع رواية "الجنرال في متاهته" التي خربت الصورة المتخيلة لسيمون بوليفار الضبابية في ذهني، وهو الذي قاد حروب التحرير ضد الاستعمار الأسباني في أميركا اللاتينية، ولم أحب كثيرا  قصصه القصيرة، مع أنها تصور ببراعة العصافير المرتطمة بأسلاك الكهرباء بسبب حرارة الصيف الكاريبي، وتصور الأمطار الجارفة لجثث الحيوانات في الشوارع الطينية، باستثناء تلك القصة التي تقع أحداثها بين أسبانيا وفرنسا في ليلة عيد الميلاد، وفيها يتابع الراوي سيل الدم على الثلج عبر الجبال إلى باريس، ولم أعد قادرا على تذكر متى وأين قرأت هذه القصة التي تتقد كجمرة في غياهب الظلام.

لم أقرأ لماركيز شيئا منذ منتصف التسعينيات، فآخر ما قرأت رواية "الجنرال في متاهته" وعزفت عنه، وقررت أن أتوقف عن متابعته، فلم أعد أنتظر جديدا منه، كل تلك الدهشة بعالمة تبددت بمرور السنين. ولا أدري أيّنا الذي ضربه التغيير؟ وأيّنا الذي تسبب في هذه الفجوة التي لا تردم؟ وأيّنا قطع حبل الوصال؟ وأرجح أنني أنا الذي تغيرت فلم أعد قادرا على تلقّي نصوص ماركيز بتلك القوة التي كنت عليها قبل أكثر من عقدين، فقد نضبت انفعالات القراءة المدهشة، وحل مكانها تذوق عميق وبطئ بذلك العالم الساحر المتخيل. كنت أتلقف جمرات الكتب، وأنفخ فيها ناري، فتتقد فوق اتقادها، والآن صرت، بسبب النظريات النقدية، وطرائق القراءة التحليلية، واستنطاق النصوص، أكثر برودة من فيافي الشمال. أعمل فورا على إطفاء تلك الجمرات الملتهبة في الكتب!.

حينما سئل ماركيز، مرة، عما يريد قوله في "مئة عام من العزلة" أجاب: إنها حكاية أسرة تعتقد أنه إذا وقع فيها سفاح المحارم فإن الوليد سيكون له ذنب خنزير، وطوال مئة عام كرست كل وعيها وخبرتها وحرصها على ألا يقع هذا الأمر المحظور، لكنها من حيث لا تدري كانت تبذل قصارى جهدها لقرن كامل لكي يقع ذلك الحادث. فكرة الدنس، والسفاح، والعلاقات المحرمة، تتناثر في روايات ماركيز، وعموم الأدب الأمريكي اللاتيني، وجواب ماركيز عن السؤال يرفع نص الرواية من مستوى إلى مستوى آخر، يسمو بها لتكون إحدى أساطير المحارم، وهي لوحة عارمة بالمشاهد الملحمية الرمزية لتطلعات ذلك الجنس الحار من الهنود في الكاريبي، على خلفية من الصراعات والحروب الأهلية.