القاصة الفلسطينية تنسج أقاصيصها من أحلام وأشواق ورغبات تتكشف من خلال أسئلة الواقع الشائكة. وتصير اللحظة الحاضرة من خلال كثافة الكتابة قادرة على إعادة قراءة الماضي واستبصار مستقبل يلوح في الأفق.

إغواء وقصص أخرى

نجمه خليل حبيب

إغواء

مريمتي المجدلية التي تجيد مراوغة الحياة، زارها الملاك جبريل مرةّ.

قهقهت هازئة:

- بضاعتك لا تغريني. تعال الى تفاحي.

فاحمرّ خجلاً. 

لتفاحها ألق لا مثيل له في تفاح الجنة

- تفاحي عمره قصير. أهجره بعد أن ينقضي موسمه وأعلن التوبة. ألعب معه لعبة الحياة.

تعال إلى تفاحي فأسكب فوق قدميك العطور العربية. عطوري مسكها غير سرمدي. تذوب بعد أن ينقضي أريجه

خفض بصره فيما راح يتلوى أريج عطرها في شرايينه. يحيا ويموت. ينبعث ويتلاشى. يختلف كثيراً عن عطر الجنة.

- تعال إلى مخملي (قالت). مخملي يختلف ارتعاشه بين لمسة وأخرى.

صحا خياله النائم منذ آلاف القرون. أربكه ما صار من ارتعاش في أماكن ما من جسده.

- إخلع جسدك الاثيري المضيء منذ ملايين السنين. عتمة جسدي ستفتح نوافذ لا تفتح في النور

أغمض عينيه كأنما ليستجيب لندائها. جاءه صوت أثيري:

- إحذر حواء يا آدم

كاد يتجاهل النداء فتبعه آخر:

- لا تكن إبليساً آخر

لملم ذراته وطار ليحط  في غرفة أختها مريم الناصرية

 

التباس

قالوا لها!.. في مجتمعك الجديد هذا "كل عنزة معلقة بكرعوبها". استراليا غير لبنان. هنا أنت حرة. لا أهل يمنعون، ولا جيران يتلصصون ولا أقارب يحاسبون. تعملين ما يحلو لك.

صدقتهم. طردت الرقيب القابع في ثناياها وصارت تتصرف بما يشاء لها هواها.

تمايلت بغنج بريء على الشرفة ومررت أصابعها بين خصلات شعرها منتشية بعبق الحبق والغاردينيا المنبعث من تحت الشرفة، لاحظت رجلاً على الشرفة المقابلة يبتسم لها فبادلته الابتسام.

في المساء دق جرس بابها. كان رجلاً فوق ساعديه وشم ثقيل يحمل زجاجة نبيذ. انحنى بأدب مصطنع:

- nice to meet you my fair lady

شيء ما فيه، أو من بقايا شرقيتها، أيقظ توجسها. حاولت أن تمنعه من الدخول. وضع رجله بين الباب والعتبة وعطّل محاولتها. في انعطافة الباب الموارب مزق قميصها. استغاثت فما أثارت استغاثتها أيّ حرّ أو حرّة

كان ما كان ولم يكن الباب إلا موارباً فقط

 

نصيب

ثلاثون سنة في جلباب جدتها أم محمود وما أقنع جلبابها أي عريس فقررت استبداله علّ وعسى!...

 قررت أن تكون أسترالية. تخلت عن الثوب الأنيق والكعب العالي وتصفيفة الشعر المنمقة، ولبست السترة والحذاء الرياضيين. حرصت على شراء الديلي تلغراف يومياً وحرصت على تأبطها بشكل بارز في رواحها ومجيئها. حزمت أقراص وأشرطة عبد الحليم وعمرو دياب ووليد توفيق ونانسي عجرم في كيس نايلون وركنتها في زاوية مهملة اشترت بدلاً منها أغاني "ألتون جون" و"ريكي مارتن" و"فرانك سيناترا". ألقت باقلام الكحل السوداء وأصابع الروج الصارخة في سلة المهملات وتركت شعرها يتهدل دون تصفيف فوق كتفيها. نظرت لنفسها في المرآة وهمهمت: "هه!... ألف داهية بسميرة ال"ووغ".

كوني أسترالية عن حق وحقيق، قالت لها الصورة التي طالعتها في المرآة، فانصاعت لأوامرها.

اشترت كلباً ابيض جميلاً مكزبر الشعر وصارت تأخذه في نزهة كل صباح وترسله الى صالون الأناقة الكلبية مرّة كل شهر ليقلم أظافره ويقص غرته التي تنسدل بدلال فوق حاجبيه. كفت عن شرب القهوة العربية الثقيلة وصارت تشرب الشاي بالحليب. استعاضت عن سندويشات الشيش كباب باطباق "فيش آند شيبس". لم تعد تقصد صبحيات مروى وليلى واعتدال، صارت مداومة في الملاعب الرياضية وسباقات الخيل.

في المباراة الحاسمة التي جرت بين فريقين: أسترالي ونيوزيلاندي، حرصت على أن تكون من أوائل الحضور. تحمست لفريق بلدها وتعالت صيحاتها تهلل لأعضائه تناديهم بأسمائهم. صفقت حتى احمر كفيها وانتفخت عروق رقبتها "أوداجها يعني". لَفت حماسُها أحدهم. بدّل مقعده مع آخر ليصير إلى جانبها. أعجبته العينان الواسعتان والبشرة البرونزية الشهية

- ماذا عندك بعد المبارة

تطلعت في وجهه ثم قامته ثم قالت في سرها: في الثلاثين لا بد من تنازل.

- أبداً لا شيء مهم

- ما رأيك بكأس نبيذ
- لا فنجان قهوة أفضل

- أوكي فليكن.

خرجا معاً من المدرج. قال لها انتظريني كي أجلب السيارة. سوّت طاقيتها وحرصت على أن يكون رفرافها الأمامي إلى الوراء، وابتسمت علامة الموافقة.

- تأخر! أيكون غيّر رأيه!

مرت سيارة مرسيدس فاشرأبت بعنقها. تبعتها إم جي سبور. ثم تويوتا عائلية. وأخرى مليئة بشباب وشابات يتصايحون. هي دقائق قليلة ولكنها أقلقتها. وفيما هي ساهمة على وشك أن تندب حظها، توقفت  أمامها شاحنة لنقل النفايات. شاحت بوجهها تنتظر فارسها القادم في سيارة ما. ولدهشتها أطل رأس السائق من نافذة الشاحنة قائلاً: تفضلي سيدتي الجميلة.

 

مصيدة

مددت يدي الى تلافيف الذاكرة طالعتني حية رقطاء تنتصب في وسط العتمة. جبنت... تراجعت... وصرت أعيش في حاضر تعس لا ذكرى مغامرة جريئة تزيح عنه بعض كربته.                                                    

 

اختلاف

هو يحب أنور السادات وهي تحب جمال عبدالناصر. نسمعهما يتصايحان بعد نشرة الأخبار المسائية. هو يتهمها بالسذاجة والمراهقة السياسية. هي تتهمه بالانحراف والتخلي عن مبادئه

- يوم همت في هواك وتزوجتك وانت "نوري اندبوري" كان لأنك عروبي ووطني وناصري. بتتذكر؟

- كنت مراهقاً ونضجت. أنت! ما زلت تافهة. عنيدة. متشبثة برأيك الأعوج. سأطلقك ولو كان آخر يوم في حياتي.

نسمع اصطفاق أبواب. قرقعة صحون. أصوات تحطم زجاج.

تشرق على وجهي ابتسامة متشفية وأقوم لأقلب الحذاء كي يستفحل الخصام:

- سوف يطلقها ألوي شفتي شامتة      

يعم الشقة هدوء، ثم لا تلبث أن تنبعث أنغام هادئة ورائحة شموع عطرية. لا أجروء على الإصغاء جيداً. لو فعلت، لسمعت قهقات خافتة وربما ماجنة من ذلك النوع الذي لا يحدث إلا في غرف حمراء مغلقة.

 

2-أنا وأبو عمار وقصص أخرى                                                  

أنا وأبو عمّار

أنا مستلق، ليس على صخرة دهرية بيضاء كمخائيل نعيمة، بل على كنبة عتيقة في بيت منفرد عتيق يفتح بابه مباشرة على الخارج. لا أقول شارعاً، فأنتَ/أنتِ  قبل الوصول اليه عليكم اللهاث صعوداً ست وتسعين درجة.

نائم أو هاجس لست متأكداً عندما دفع الباب ودخل أبو عمّار ببدلته الكاكية وحطته الفلسطينية بامتياز ويحمل في يده علبتي فول. قدم لي واحدة فاعتذرت عن قبولها. ألح وارتجفت شفته السفلى كعادته في أيامه الأخيرة. وقبل أن أرحب به وأدعوه للجلوس او أسأله عن سر هذه الزيارة لرجل درويش مثلي، دخل علينا من الباب نصف المشقوق دون أن يستأذن، رجل ضخم الجثة عريض المنكبين يبدو أنه من حرس الختيار. كان يحضن بين يديه خمس علب فول. عرضها عليّ فاعتذرت عن أخذها. ابتسم ابو عمار ولكن الرجل الضخم قال: شوف هياهم مسخنين. يلا قوم جبلنا صحون حتى نصبهم ونفطر.

كانت العلب منتفخة. قلت في نفسي هذا من التسخين. تركت ضيوفي ودخلت المطبخ لأحضر الصحون. تلقتني زوجتي وقالت بلهجة آمرة

- يلا "عاللي" الطبخة على النار.

كان موقد الغاز الصامت عادةً، يهدر وكأنه بريموس قديم. وكان لهبه عكراً وله رائحة المازوت. وضعت الطنجرة على النار وأدرت المواد التي تؤلف الطبخة: اللحمة والجزر والبازيلا والبصل والثوم. قرقعت المواد في الطنجرة ورفضت أن تستقيم. فإن حركتها نطت أجزاؤها إلى الخارج، وإن تركتها احترقت.

ما العمل؟ لسانها السليط سيلاحقني والضيوف في الصالة لا يجوز التأخر عليهم. أطفأت الغاز وقلت "أعالي" الطبخة لاحقاً.

استدرت إلى حيث نضع الصحون. أخذت المجموعة التي على اليمين فأحسستها غير نظيفة فتركتها. أخذت الصحون التي على الشمال فكانت هي الأخرى دبقة. قلت يلا ما في حدا غريب سآخذ الجاط. استدرت إلى الجهة المقابلة والتقطت جاطاً غميقاً يصلح للمناسبة فرأيت أن غباراً عالقاً فيه. ذهبت إلى المجلى فتحت الحنفية كي اشطفه من الغبار فنزل الماء من الحنفية أسود كأنه مياه مجارير. اخذت فوطة الجلي المعلقة قرب المجلى ومسحت الجاط فصار كأنه مدهون بالشحبار. مسحته بقوة ولكن الشحبار كان عالقاً بقوة.

_ يلا بلا هالفطور صار وقت الغدا إعزمهم على الغدا قالت بلهجة آمرة.

كرهتها. فأنا في هذه الورطة. أفشل في إحضار صحن نظيف لضيوفي وبنت الباشا تفكر  بالأتيكيت واللي بيسوى واللي ما يسواش. أدرت ظهري صامتاً وتوجهت إلى الصالون. قلت في نفسي سأبين عذري وأضع اللوم على شركة المياه.

كان الرجلان لا يزالان واقفين. تقدمت من الرجل السمين ومددت يدي بالجاط. تطلع إليه باستغراب واقترب من "أبو عمار". توجه إليه  بالكلام وقال بلهجة منكسرة:

_ يلا ختيار يلا قوم. زلمتك بدو يطعمنا الفول مدمس بالشحبار.

أوجعني الخجل حتى أنه أيقظ ما بي من خدر، فانتفضت فإذ أنا لا أزال على الصوفا.

تلبسني الحلم استفقت حزيناً أشعر بالعار. كان يأتيني من الداخل صوت مذيع يسرد تفاصيل طبخة البحص الأسلوية.  

 

حلمت بوصال رؤوف

هذه الليلة زارتني وصال رؤوف. هل تعرفونها؟! هي عشيقة وليد مسعود الفلسطيني الذي اختفى على الحدود الأردنية العراقية على يدي جبر ابراهيم جبرا عام 1978. نظرت إلي باحتقار واشمئزاز. لم تقل شيئاً ولكني علمت أنها غاضبة لأنني في مقالتي الأخيرة جعلتها عاهرة.

جلست كاشفة عن فخذين عاجيين ونفخت من بز سيجارة طويل دخاناً تصاعد لولبياً في سماء الغرفة المقفلة الستائر. ترددت طويلاً قبل ان أكسر الصمت الثقيل...

- لم أقصد الإساءة يا سيدتي الجميلة.

لم تلتفت نحوي وظل رأسها عالياً يبحلق في سقف الغرفة.

- يا سيدتي نحن في عام 2010 وليس في عام 1978.

الدخان ممنوع في غرف النوم. أرجوك!....

ظلت على وجومها

- سيدتي!... كنت بغدادية تعشق فلسطينياً يعشقك ويعشق العروبة فيك وانا لا أستطيع إلا ان أسبك وأتبرأ منك وإلا هدر دمي. كان رماد سيكارتها يطول ويطول فلا هو يسقط ولا هي تنفضه.

- سيدتي نحن في عام 2007 ولسنا في عام 1978. أبو مصعب الزرقاوي سيقطع رأسي لو قلت غير الذي قتله فيك.

عدلت من جلستها فاشتد ثوبها الزهري اكثر صوب الأعلى. والله لولا أنني في سن انطفأت فيه جذوة الشهوة لكنت تحولت إلى سحاقية إمام قرمية الفخذ الإلهية

- سيدتي نحن في عام 2003 فكيف تسللت أنت بين الأزقة المملوءة بالأمريكان والسستاني وابو مصعب الزرقاوي وعبد الحكيم الصدر والبارازاني والطالباني والجوعاني واللصوص وسارقو الاثار. كيف انهم لم يسرقوك؟ كيف انهم لم يرموا بك خارج بغداد وفي رحمك مني فلسطيني؟ 

تغيرت ملامحها. سمعتها تتمتم

رحت أخمن بما يمكن قد تكون قالته

استفقت مذعورة... كانت يدي اليمنى محروقة بزرزور سيكارة منعني ان أغير مقالتي وقول رأي الحقيقي في وصال رؤوف وفي انها لم تكن عاهرة وإنما ثائرة ومتمردة وبطلة كسرت تابوهات القبيلة، فنحن في سنة 2010 وما كان يصح قوله عام 1978 لا يصح ان يقال في هذه السنوات العجاف.... 

 

نفسي لم تعد حزينة حتى الموت

في الخامس عشر من أيار من كل عام كانت تسند خدها على كفها وتسهم بعيداً صوب الجنوب وتقول: "نفسي حزينة حتى القيامة... في السنوات الخمس الاخيرة صارت تقعد محنية الظهر تغرس أصابعها في لحم خديها حتى الوجع وتقول: "نفسي حزينة حتى الموت". 

في الخامس عشر من هذا الأيار، ظلت تسهم بعيداً صوب الجنوب، ولكن قامتها صارت شامخة ومنتصبة وامحت تجاعيد خديها ورجلها العرجاء استقامت دون عكازة

 15/5/2011

 

بين تموزين

14 تموز 2010

افقت هذا الصباح متوعكة، أثر بقايا حلم يرخي غلالة رمادية فوق النفس. الروزنامة الرقيمة المتكئة على المنضدة حدقت بي بشراسة. انا لاتهمني الأيام قلت لها. ولا يرعبني مرورها.

ازدادت غمزاتها

- لقد اتممت واجبي تجاه الحياة وأوصلت أبنائي إلى شاطئ الأمان. انا لا أخاف الموت ولو أني أخاف عجز الشيخوخة.

ظلت تحدق بي بوقاحة.

- ماذا وراؤك تساءلت

ازداد تحديقها وتراقص الأحمر في نيوناتها.

- إنه 14 تموز. يوم هدموا سجن الباستيل وانطلقوا إلى الحرية (قالت)

- آه ما أمرها من مناسبة!.... متى نكسر نحن باستيلنا ونخرج من زنزانات العتمة التي تقبع فيها قلوبنا وعقولنا؟

14 تموز 2011

استفقت هذا الصباح وأنا أردد: هتافاتكم كتغريدة طفل على صدر عاقر. روزنامتى القابعة في زاوية ما من الغرفة غمزت إلي بأرقام حمراء راقصة. كانت تقول: حصلت المعجزة. كسرنا باستيل خوفنا، دفعنا بسجانينا إلى جهنم وصرنا أبناء الحياة.

 

تساؤل خبيث

قريبتي القادمة من لبنان شدها الفضول لحضور صفي لتعليم العربية في جامعة سدني

عند انتهاء الدرس فاجاتني بسؤالها

- لماذا عندما يلفظ الأجانب الضاد دالاً نضحك لهم،  ولما أحد من عندنا يلفظ ال B P نضحك عليه؟
- مُرّة... أليس كذلك؟