الانتظار لدى القاصة الجزائرية يعيد تشكيل مشاعر "المثقلة بالحنين" وتدفعها إلى اتخاذ خطوات قد تكون عكس ما تروم إليه. وتتبدى نشرة الأحوال الجوية المرآة التي تبصر فيها أحوالها.

لنصف يوم تظل السماء رمادية

سامية بن دريس

محملة بالوعود كغيمة فاح منها عطر مطر خفيف هامس، مثقلة بالحنين كدالية. تسارع نحو أول طاكسي وتطلب الانطلاق، الألم غير قابل للتأجيل، عشرات الاتصالات والرسائل القصيرة والهاتف دائما مغلق أو خارج مجال التغطية، والموضوع عاجل، وهو لا يعلن عن حضوره السري كما في بؤرة القلب. تحدد موعدا عبر رسالة قصيرة، رسالة ستكون مصيرية  بغير شك

ـــ لنصف يوم تظل السماء رمادية... أعلن مقدم نشرة  المطر، ولم تقدر على مواصلة التفاصيل تاهت في حكاياتها كما يحدث لها دائما مع مقدم أخبار المطر.

في الصباح الغبشي  ذاك الذي لم تهتك غلالته الشفافة، غادرت السرير، السرير الذي بات يتأوه   يتقلب على جنبه، يتكتك، يحدث أنينا خافتا، هاتفها. وحده طاب له النوم.  وفي الصباح الثاني كانت جاهزة، مسحة من ماكياج خفيف، حمرة رقيقة على الشفاه، زرقة فاتحة فوق الأهداب وعطر ماجن مغرق في الاستهتار  يحملها كغلالة، عطر هو شهادة لهذا الكم من الغضب والتساؤل والحيرة. ونزلت إلى الرصيف في  طريق الحديقة، تترقب إعلان خطاه  لتصالحها مع خطاها، انتظرت قليلا، نظرت إلى ساعة يدها ذات اللون البنفسجي كفستانها، ودخلت الحديقة بخطى واثقة متمرسة على المكان، الأزهار التي آلمها الإهمال والندى المرتعش والعصافير التي ولت منذ أمد، دخلت ما كان يسمى حديقة  مخترقة بقايا طعام وقارورات خمر، وانتابها بعض الخوف،  في هذا الصباح أحست أنها لوحة مهملة في غير موضعها المناسب، جلست على كرسي إسمنتي وأحست برودته تخترق عظامها، طفلان يتقاذفان الكرة وامرأة غريبة تحدق بها، فتتلهى بمداعبة هاتفها تحاول الاتصال مجددا والرد نفسه غير مبال، بارد وقاطع، تقضم قطعة شوكولاطا، بتأن تذيبها داخل فمها تتحسس بعض مرارة خلفية، وعيناها، عيناها على البوابة وقلبها لا يقول شيئا، لا يقوى على الغناء، يعلق قيثارته على الجدار.  تترقب قامته المديدة خطواته المتلاحقة و عيناه المشرقتان باللهفة ولم يأت، بعد ساعتين من الانتظار لا يأتي وبعد ثلاث ساعات وبعد آذان الظهر لا يأتي لا يفتح هاتفه، حتى بعد بقائها وحيدة في الحديقة المترهلة الآيلة نحو النهاية، الحشائش المضربة بصفرة موجعة والإكليل الذي كف منذ وقت  عن إطلاق عبيره الجبلي الحاد. 

 ــ لنصف يوم تظل السماء رمادية... رنت الجملة في ذهنها، بدت موجعة كجرس عتيق متآكل.

عينان غائمتان وخطوات مسترخية، وحقيبة اليد مثقلة بالأغلال والصدأ والغبار، الخواتم جارحة والأصابع متعرقة، الفستان البنفسجي ذي الزرقة الباسمة  الذي كان مهفهفا ورقيقا هذا الصباح بدا خشنا محملا بالعرق وأشواك الصبار:

ــ ينتظرونها عند الظهيرة...

ــ ماذا تقول لهم؟

لخالها وعمها والرجل الذي جاء يطلب ودها، جاء هكذا دون مقدمات بلا كلمات مسبقة جهزها ذات ليلة، كان واضحا، كالرياضيات وكالخط المستقيم...

على الرغم منها انحدرت دمعتان، دمعتان وحيدتان على وجنتيها تنثران دم الورد،  وتأهب غروب فاجع ليكتسح عالمها،  مد أشرعته الثقيلة  للحظات، وشرع في نقش حروفه،  وكما لو أن رصاصة طائشة اخترقت رأسها، انتصبت  واقفة:                         

ـــ  علام تهدر هذي النجوم التي يسميها البعض كيمياء الأنوثة؟

وكفكفت دموعها للتو، مسحتها بمنديل ورقي وزمت شفتيها بحزم. الآن كفت عن إفراز العسل لأن الملكة تدخر غلتها ليوم آخر تنبت أعشابه  استيقظت الأميرة النائمة في طريق العودة  وحشرجت على الرغم منها عند عتبة الباب:

ــ هل جاؤوا؟

ــ أين تأخرت؟ــ  ردت أمها  ــ ينتظرونك في الصالون.       

أخذت حماما دافئا على عجل ومررت المجفف بسرعة على شعرها وامتشقت قوامها في ثوب أسود طويل، الكحل وحمرة الشفاه وعطر خافت اجتهدت كثيرا لتضليل الألم، مع ذلك ظلت مقلتاها تلمعان في انكسار.

ــ ماذا ستقول؟

ــ هل  ستقول: نعم؟.