يترجم لنا الباحث المغربي هنا هذه الدراسة التي تسعى لتقديم قراءة نقدية لإنجاز الناقد الألماني المرموق هانز روبرت ياوس التي أسس نظرية شيقة في جماليات التلقي، وإن كان صدور الدراسة عن الثقافة الفرنسية أدى إلى الربط بين استقصاءات ياوس وبعض أفكار عالم الاجتماعي الفرنسي الكبير بيير بورديو.

من أجل جمالية التلقي والإنتاج

مانون برونيه

ترجمة: سعيد بن الهاني

 

تعتبر مقولة الكلية الملموسة بالنسبة للفلسفة المادية أساسية باعتبار أنها أولا تجيب عن سؤال ماهو الواقع؟ وفيما بعد كجواب مادي عن هذا السؤال، فإنها تعتبر ربما مبدءا ابيستمولوجيا، ومطلبا منهاجيا
KAREL KOSIK        جدلية الملموس

تقديم المترجم:
تتداخل اختصاصات سوسيولوجية الأدب بجمالية التلقي التي شدت الانتباه إليها في كتاب "من أجل جمالية التلقي" الترجمة الفرنسية المنشورة في دار غاليمار لهانس روبيرت ياوس سنة 1978. لايتشكل المعنى الأدبي إلا من خلال المتلقين. ومن ثم، يقتضي العمل وجود أفق توقع يحدد المدونة الجمالية للقراء. لقد حاول ياوس إقامة أسس جديدة لتاريخ أدبي منظم قائم على الفاعل المنتج، باعتبار أن تلقي القراء للعمل عبر العصور هو من يقرر في الأهمية التاريخية للعمل. وستشكل الأسئلة المطروحة في هذه المقالة جزءا من الإشكالية التي تمت صياغتها في أطروحة الدكتوراه التي درس فيها مانون برونيه Manon Brunet الممارسات الأدبية المؤسسة لسيرورة اجتماعية العمل الأدبي الكيبيكي للقرن التاسع عشر. سيحاول في هذه المقالة فحص وانتقاد مشروع ه. ر. ياوس واختبار كفاية أدواته التحليلية وهو يجيب عن السؤال المؤرق "ماهو الواقع؟ "

 

النص المترجم:
لم تتمكن مختلف المحاولات في الدراسات الأدبية لإدراك معنى العمل الأدبي المحدد ككلية ملموسة من أن تأخذ بعين الاعتبار موضوعها إلا في وظيفته الرمزية (المقاربات الشكلانية والبنيوية)، أو وظيفته الاجتماعية (المقاربة الماركسية أو السوسيولوجية). ومن ثم، فإن مختلف هذه المقاربات لم تسمح لنا منهجيا ببناء تاريخ أدبي حقيقي في الوقت الذي نعتبر فيه أن مهمة هذا التخصص العلمي تقتضي أن نشرح تناظريا أو تعاقبيا، سانكرونيا أو دياكرونيا، كيف يتم ترهين معنى العمل الأدبي في الواقع التاريخي، أو بعبارة أخرى، كيف تتحقق العلاقة الجدلية بين الوظيفة الرمزية والوظيفة الاجتماعية للعمل. تشترك هذه المنظورات فعلا في كونها غير قادرة على أن تأخذ بعين الاعتبار الموضوع الواقعي الخاص بالدراسات الأدبية (العمل باعتباره كلية ملموسة). بين لحظة وأخرى، نجد أنفسنا مقودين إلى تعريف آخر للظاهرة الأدبية، مادامت لاتصل إلى إدراك موضوعها "بشكل جدلي". إنها لاتدرك معنى العمل الأدبي إلا بالنسبة لواقع يحددها (نظرية الإنعكاس)، أو إلا في علاقة "مسافة" بين العمل والواقع (نظرية المحايثة). حتى وإن قامت من هذه الجهة أو تلك محاولات لإعادة توجيه (للاستعادة) (لنفكر في مفهوم التماثل البنيوي لجولدمان أو مفهوم التطور الأدبي كما أعلنه تينيانوف)1. إن هذه المقاربات «تؤدي في نهاية المطاف إلى مشاكل ايبستمولوجية يتعذر التغلب عليها، كان علينا أن نجد لها حلا بإقامة علاقة جديدة بين المقاربة الجمالية والمقاربة التاريخية»2. لهذا السبب اقترح ياوس تشييد هذه العلاقة المرغوب فيها بوضعه أسس نظرية لجمالية التلقي. فقد حاول من جديد استعادة صور للتاريخ الأدبي، وإعادة تشييد الوضعية التي سبق لنا أن منحناها لهذا التخصص العلمي في زمن لانسون.

 ماذا يقترح ياوس علينا اليوم؟ كيف وصل إلى أن يأخذ بعين الاعتبار البنية الأدبية (القابلة للإدراك داخل سيرورة التحقق) بمنح الامتياز ك "موضوع للتحليل"3 للحظة ترهين هذه السيرورة، أي لحظة التلقي، تلك التي تم تصورها انطلاقا من جدلية Dialogism السؤال والجواب؟ ومن ثم يقتضي حديثنا البرهنة في حدود هذا المقال الحالي القول بفشل ياوس كذلك في محاولته الخاصة لإعادة بناء الموضوع الأدبي ككلية ملموسة، بل فشل حتى في البلورة نفسها للأسس المنهاجية الضرورية للتأريخ الأدبي الكلي اللامتجانس hétéronome قادنا ياوس بخطوته الهيرمينوطيقية إلى أن ندرك في الواقع غير جزء مما يقترحه هو للإدراك، بمعنى إدراك الوظيفة الرمزية للعمل الأدبي، حتى ولو كان ينوي نظريا " تحديد العلاقة التاريخية بين الأعمال في مركب العلاقات المتبادلة التي يقيمها الإنتاج والتلقي».4 في اللحظة الثانية، واعترافا دائما مع ياوس بأن مهمة التاريخ الأدبي هي إدراك العمل الأدبي "كتحقق وكلية"، أي بمعنى البرهنة على أن له بنية (ليس إذن بنية عفوية/ فوضوية)، يتطور (ليس ثابتا إذن، ولا معطى بصفة نهائية) ويتبلور (ليس إذن مكتملا في كليته، بطريقة وحدة أجزاءه واستعداداتها ستكون قابلة للتغير)5. وبان جمالية التلقي ماهي إلا «تأمل منهاجي جزئي، قابل لأن يكون مشتركا مع آخرين».6 نقترح أن ندمج في تحليل ياوس تحليلا للممارسات الأدبية وبذلك نتصور تاريخا أدبيا يمكن تحديده كتاريخ للإنتاج والتلقي.

1. الدائرة التأويلية من إيفيجيني لراسين إلى جوته:
في الوقت الذي نعترف به بأن "تاريخية العمل الفني لا تكمن في وظيفته التصويرية والتعبيرية ولكن أيضا وبالضرورة في الأثر الذي ينتجه"7، يصبح من الواجب خلق "موضوع للتحليل" قادر على تقويم بشكل كيفي الأثر الذي ينتجه العمل بدون السقوط في فخ النزعة النفسانية. إن "موضوع التحليل"، يجده ياوس فيما يسميه أفق التوقع  Erwartungshorizont وهكذا، فبدراسة هذا "النسق من الإحالات القابل للتشكل موضوعيا"8 يصبح من الممكن إدراك مختلف تحققات العمل (مختلف المعاني الممنوحة للعمل) تزمنيا وتعاقبيا، سانكرونيا كما هو دياكرونيا9. ولكن كيف يسمح أفق التوقع نفسه بإدراك ذلك؟ ماذا يطابق في الواقع؟

2. أفق التوقع الأدبي:
عندما حاول ياوس في دراسته عن إيفيجيني لجوته إعادة رسم بطريقة دياكرونية مختلف تحققات المسرحية من سنة 1779، يقترح علينا «إعادة تشكيل أفق السؤال والجواب في المنظورات الخاصة بتاريخ هذا العمل، المحدد من جانب التلقي التغيرات التي تظهر في فهمه، وأن تحدث من جانب الإنتاج النقدي استبدال صورة جديدة للعمل، ب"جواب " جديد بما لم يتم إشباعه بعد».10 بعبارات أخرى، إذا ما تتبعنا الخطوة المنهجية التأويلية/ الهيرمينوطيقية التي يقترحها ياوس، يتعلق الأمر بمعرفة أي سؤال طرحه القارئ على العمل في لحظة معطاة من التاريخ. كي يتوصل إلى صياغة هذا السؤال، على المؤرخ ان يأخذ بعين الاعتبار الدلالات الاحتمالية المتضمنة في العمل، بمعنى أفق التوقع الأدبي. يمكن لأفق التوقع الأدبي أن يدرك بواسطة تحليل «لعلامات يمكننا اكتشافها بل حتى وصفها بمصطلحات اللسانيات النصية»11. ومن ثم، يصبح من الضروري اللجوء إلى العمل ذاته في دراسة للتلقي المقترح في علاقة بين السؤال والجواب. فمن هذه الزاوية، ولتحليل الجواب الذي تمنحه مسرحية جوته، سيدرس ياوس كيف يمكن إعادة تملك أسطورة إيفيجيني. بينما وفي خطوته التأويلية المنهجية (سؤال/ جواب)، تريد إعادة التملك هذه أن تكون قابلة للإدراك انطلاقا من القراءة التي يقوم بها جوته نفسه لنصوص أخرى (سواء كانت ايفيجيني لأوريبيد أو راسين). إن المؤلف أولا كقارئ هو الذي يساءل الأعمال لا يشبع فضوله الجواب الذي أرسل إليه. بكتابته العمل يصبح ما يسميه ياوس بالمتلقي الحيوي12récepteur actif  وهو ما نسميه منتجا لأفق التوقع الأدبي. ومن ثم، لمعرفة أي سؤال يطرحه القارئ على العمل، يجب أولا، باعتباره قارئا أن يسائل العمل نفسه: أية أسئلة يسمح العمل نفسه للقارئ بأن يطرحها عليه؟ لن يصل مؤرخ الأدب إلى إعادة تشكيل السؤال الأصلي (أو الأسئلة الأصلية) إلا بدراسة الدلالات المحتملة المتضمنة في العمل. لن تكون هذه الأخيرة قابلة للإدراك إلا انطلاقا من معرفة الخطوة المنهجية التي قام بها المؤلف نفسه. في هذه الدائرة الهيرمينوطيقية يحدد ياوس ما يسميه أفق التوقع الادبي وأفق التوقع الإجتماعي.

3. أفق التوقع الاجتماعي:
في سنة 1975 رأى ياوس في خاتمة دراسته حول إيفيجيني iphigénie لجوته، ضرورة التمييز بين أفق التوقع الأدبي وأفق التوقع الاجتماعي. أتاح له بالفعل هذا التمييز بتقويم جيد «للعنصرين المؤسسين لتحقق المعنى – الأثر الذي ينتجه العمل والذي يعتبر وظيفة العمل نفسه، والتلقي الذي يحدده المرسل إليه وأن يفهم العلاقة بين النص والقارئ كإجراء يقيم العلاقة بين أفقين»13. وفي لحظة ثانية إذن من البحث عن تحقق العمل. وفي وقت معين من التاريخ، يتعلق الأمر بإدراك أي سؤال طرحه القارئ على العمل آخذا بعين الاعتبار الأسئلة التي يمكن أن يطرحها الفرد المنخرط سوسيولوجيا. بعبارات أخرى، يتعلق الأمر بتحديد أفق التوقع الاجتماعي. كيف أمكن لياوس أن يصل الى تحديد هذا الأفق؟

يحدد ياوس ما يقصده نظريا بأفق التوقع الاجتماعي: «الاستعداد العقلي أو السنن الجمالي للقراء اللذان يحددان التلقي»14. في نفس الخاتمة، يحدد بأن هذا الإستعداد العقلي والسنن الجمالي يعتبران بالفعل نتيجة لدور الإنتقاء اللذان يقومان به ما يسميه بالتقليد اللاواعي Habitus، والتقليد الواعي (المعايير الجمالية). ففي دراسته لإيفيجيني لجوته، لا يبحث ياوس حقا عن إدراك هذا الأفق الاجتماعي أو بالأحرى سيصل إلى ذلك بشكل سيء، لأنه لا يهتم بشروط إنتاج هذه "التقاليد"، تقاليد – حسب ياوس نفسه – تؤدي إلى «تحديد بشكل مسبق»15 للتلقي. وكما يقول هو نفسه "حديثه هنا هيرمينوطيقي بشكل متواضع". ومن ثم لمعرفة السؤال الذي طرحه مختلف القراء على العمل في لحظة معينة من التاريخ. سيكتفي ياوس بتسجيل الجواب الذي جاء به العمل. باختصار، يتعلق الأمر بأن نأخذ بعين الاعتبار تلقي العمل دون مراعاة الشروط الاجتماعية لإنتاج هذا التلقي.

لوصف مختلف تلقيات إيفيجيني، بحث ياوس عن شهادات قرائية. وجدها باستدعاء جريدة غوته، ودراسات شيلر، وويلند، وغريلبارزر، وولزر، وتيك، ايكرمان (ويمكننا متابعة تعداد ذلك في نفس الجنس) أو في دليل كتب التاريخ الأدبي المستعملة من طرف المؤسسة المدرسية الألمانية المعاصرة. وأخيرا، فقد لاحظنا كي يأخذ بعين الاعتبار مختلف تحققات عمل جوته اختار ياوس القراءات الأكثر قابلية لأن تركز على لحظة معينة على تلقي العمل: المؤلفين، النقاد، والأدباء. وأخيرا، فقد اختار ياوس قراء جامعين archilecteurs (القراء المتفوقين)، أو إذا فضلنا مصطلحية بورديو، فواعل الإنتاج، النشر وشرعنة الخيرات الرمزية.16 إن هؤلاء القراء هم بالفعل قراء "نوعيين" في الوقت الذي تتوفر لهم إمكانية التعبير بشكل علني عن السؤال الذي طرحوه على العمل، والجواب الذي قالوا بأنهم حصلوا عليه منه. إن لهم سلطة نشر لتلق خاص. بينما تسمح لهم هذه السلطة على الأرجح17، بالتأثير على أفق التوقع الاجتماعي بل على حتى أفق التوقع الأدبي نفسه. نفهم ذلك إذا حللنا الدور الحقيقي الذي لعبه هؤلاء القراء النوعيين (التي تعتبر قراءتهم ربما هي الوحيدة القابلة للإدراك من وجهة نظرنوعية). بالفعل، هؤلاء القراء ليسوا فقط قراء سلبيين (كي نستعمل مصطلحية ياوس) ومع ذلك لهم إمكانية نشر سؤالهم (تأويل العمل)، إنهم أيضا قراء حيويين (بمعنى حسب تعبير ياوس منتجو العمل)، لهم إمكانية نشر الجواب (العمل موضوع التأويل). ماهي ربما نتيجة تجاهل حصة المؤرخ من طرف ياوس للدور الحقيقي الذي لعبه قراؤه المتخصصون؟

4. المعنى التاريخي للتلقي:
تلخيصا، نقول بأن ياوس وعن طريق عدم أخذه بعين الاعتبار شروط إنتاج التلقي، فإنه يخاطر بعدم تقدير جيد للتلقي نفسه. من لا يقول لنا مثلا بأن شيلر أو حتى ويلند، أصدقاء الكتابة ومعاصرو جوته ليس من "مصلحتهم" (من "موقعهم داخل حقل إنتاج ونشر المنتجات الرمزية ") أن يعرفوا بتأويل مسرحية جوته أكثر من مسرحية أخرى؟ لن يكون هناك مزيدا من الحقيقة].. [ أن نمنح للناقد [ ] السلطة الكارزمية للتعرف داخل العمل عن العلامات غير قابلة للإدراك للعفو وأن تكشف لهم ما تم اكتشافه. فبالفعل داخل سيرورة من الدوران والاستهلاك اللتين تهيمن عليهما العلاقات الموضوعية بين المحافل والفواعل التي تجد نفسها منخرطة فيها يتأسس المعنى الذي يمنحه الجمهور للعمل الذي بواسطته يتحدد المؤلف وطبيعة العلاقة التي يجب على ضوئها أن يتحدد : إن العلاقات الاجتماعية التي ينجز فيها إنتاج هذا المعنى الذي يمنحه الجمهور بمعنى مجموع خصائص التلقي التي لا يكشفها العمل إلا في سيرورة "نشر"( بمعنى "تصبح عامة")، وكذا العلاقات بين المؤلف والناشر، والعلاقات بين الناشر والناقد،والعلاقات بين المؤلف والناقد،،إلخ إنها علاقات موجهة بواسطة الموقف النسبي التي تشغله هذه الفواعل في بنية حقل الإنتاج المقيد[.. ]18

سيكون من المشروع طرح السؤال في حالة القراء اللاحقين. لكن إذا كانت هذه هي الحالة (وهوما يجب فحصه في دراسة لإنتاج التلقي بالتحديد)، لا يمكننا أن نقول بأن التلقي الذي اعتقد ياوس أنه أدركه ليس هو "الجيد"19، لكن بالأحرى يجب القول بأن ياوس قد أدرك بشكل سيء هذا التلقي بعدما أخذه بعين الاعتبار أن التلقي غير قابل للفهم خارج شروط إنتاجه. ومن ثم،فإن هذا التلقي نفسه يعتبر كواحد من العناصر المؤسسة لتحقق معنى العمل، فإدراكه بشكل سيء هو بشكل ما إدراك سيء لمعنى فهم العمل نفسه، وقد يؤدي الى أن نجد أنفسنا أمام سوء فهم من نوع إن هذا التحقق قد امتلك السلطة المتفردة لإغراء الأرواح المختلفة كاكرمان، لوب، كانو فيشر، فريديرش كندولف، ولتر ريم، بل أيضا محرر كل هذه الطلبات البيداغوجية الأخيرة.(217) في هذه الشروط القرائية، نحو أي تلق يحيلنا ياوس؟ ألا يحيلنا إلى تلق مجرد، مجرد من معنى معين بسبب أنه انتزع من الواقع التاريخي المباشر الذي يمنحه معناه، والذي لا يمكن أن يأخذ بعين الاعتبار أخيرا الخصوصية التاريخية للعمل الأدبي نفسه؟

5. سوسيولوجيا المعرفة:
بعد أن درس ياوس طبيعة التلقي بوصفه كسيرورة تحقق العمل، سيهتم هذه المرة بدراسة وظيفته، بمعنى اعتباره كسيرورة لاجتماعية العمل. فكلامه كما يشير إلى ذلك العنوان الفرعي لتحليله، يقتضي دراسة "الشعر الغنائي سنة 1857 كمثال لنقل المعايير الاجتماعية بواسطة الأدب."20 تقوم التجربة الجمالية في لحظة معينة أو أخرى من التاريخ بواحدة من هذه الوظائف الاجتماعية: «تكوين قبلي لسلوكات أو نقل للمعيار ؛ تحفيز أو خلق للمعيار ؛ تحويله أو القطيعة معه».21 لاتكمن مهمة المؤرخ الأدبي إذن فقط في البرهنة كيف أن أفق التوقع الأدبي وأفق التوقع الاجتماعي "يحددان قبليا" المعنى (الجمالي) للعمل، وأن يبين كيف أن العمل بمجرد أن يحدد مرة واحدة في انصهار هذه الآفاق فإنه يتحدد كإبداع اجتماعي؟ أي "موضوع تحليل" سيختاره ياوس لتقويم "الوظيفة الإيديولوجية" (283) للعمل؟ هذا ما سندرسه برؤية قريبة لتحليل ياوس المعنون ب la douceur du foyer

6. النموذج الشعري للتفاعل الاجتماعي :
باعتبار أن السوسيولوجيا الأدبية قد اختارت إلى الآن موضوعا للدراسة (الشكل الرومانسي) مقاربة سهلة نسبيا من أجل اكتشاف المظاهر التواصلية لل"ممارسة" الجمالية، بادر ياوس بدراسة متن مكون من 700 سبعمائة قصيدة كي يرى "أيةأخبار يمكن للنزعة الغنائية باعتبارها حامل لنماذج تواصلية أن تزودنا به حول العوالم الخاصة وحدودها في الواقع اليومي للعالم البورجوازي في القرن التاسع عشر"(271) في اللحظة الأولى، حاول ياوس في إطار التحليل البنيوي أن "يستخلص الرسالة الشعرية الصريحة والضمنية، المقنعة أو المرفوضة التي تصل القارئ في المتعة الجمالية للقصيدة "(266) سيقوم هذا النمط من التحليل بتحديث الحقل الدلالي للصور القائم في النص والذي يصلح لإثارة فضاء وزمن معينين من الحياة العائلية الخاصة : أي النموذج التواصلي ل "la douceur du foyer".يعتبر هذا الحقل الدلالي للصور قابل للتعريف حسب ياوس الذي يستعير من سوسيولوجيا المعرفة «نظرية بناء العالم الاجتماعي» (270)، داخل "نموذج التفاعل الاجتماعي" (الغنائية) التي تكون وظيفته الوحيدة هي اقتراح مجموعة أدوات معرفية، عالما خاصا :إن قيمة النزعة الغنائية بمتغيراتها هي أيضا إبدال اجتماعي يوصل دائما تجارب، ويعلم أنماطا سلوكية، ومعايير للمعرفة اليومية. تعتبر هذه الوظيفة تقريبا وبشكل دائم ضمنية أو مخفية في النماذج الشعرية. ومع ذلك، يدافع ياوس عن ذلك جيدا، نظريا، باختزال تحليله في دراسة الأنساق الوصفية للأسلوبية الوصفية عند ريفاتير، بمعنى السنن اللساني والنماذج الوصفية المتدخلة (264). بالنسبة إليه، يفترض الأثر الناتج عن لعبة التصوير الشعري (في سيرورة من التحديد التضافري للنماذج) كذلك "سلسلة من الانتقاءات الخارج لسانية وحده التاريخ يمكن أن يشرحها، هو إذن اتفاق متغير عند المستعملين المألوفين للسنن الشعري" (268). كيف سيدرك ياوس هذه "المتوالية من الإنتقاءات غير اللسانية"؟

7. نموذج الإجتماعي الممؤسس :
يمكن تحديد هذه المتوالية من الانتقاءات الخارج لسانية باعتبارها مجموعة من النماذج يكون "أثرها إثارة توقعات مثبتة في معايير اجتماعية ". تشكل هذه النماذج " معرفة في نظام السلوك الهابتوس.(269) إن هذه المعرفة التي توجه السلوكات هي مدمجة، الى حد بعيد، في السلوك اليومي للفاعل الاجتماعي، والذي لا يمكن أن يكون واعيا حقا بما يشكله. يمكن قياس الوظيفة الإيديولوجية للعمل الأدبي، من هذه الزاوية، بكفاءتها على أن تسهر على أن يرى الفاعل الاجتماعي بواسطة القراءة، عاداته السلوكية الاجتماعية habitus (التراث المشدود إليه بشكل لاواعي) تشرعن،تخرق أوترهن ببساطة؛ ومن ثم يشرح ياوس دور التوسيط المتعلق بالعمل الأدبي :يكمن الإسهام الأصلي للموقف الجمالي في أن يظهر بوضوح ترسيم الحدود بين الحقول الدلالية، والتي تبقى كامنة في واقع الممارسة اليومية، وأن تجعل هذه الحقول الدلالية تصل إلى مستوى الصياغة باعتبارها عوالم خاصة تكتفي بذاتها، وأن تمنحها الشكل المكتمل للإتقان الذي سيجعل منها نماذج (280) في المثال الذي يهمنا، لن يحاول ياوس إدراك الدور الذي يلعبه هابتوس القراء المحتملين في فك شفرات القصائد الغنائية التي تحمل عالما خاصا. سيبحث ببساطة من جهة عن وصف نموذج التفاعل الاجتماعي الذي يقترحه العمل، ومن جهة أخرى، وصف "الواقع" (نقصد به ذلك الذي تقترحه المؤسسات الاجتماعية في عين المكان). هكذا، وكما هو الحال في الدراسة حول ايفيجيني لجوته، لن ينجح ياوس حقا في إدراك أفق التوقع الإجتماعي،لأنه لن يبحث حقا عن إدراك ما يدفع القراء المحتملين لسبعمائة قصيدة غنائية أن يروا في هذه الأعمال عالما خاصا، وفي هذه الحالة تلك التي يحددها إبدال "la douceur du foyer" جملة القول، يقترح علينا ياوس إدراك وظيفة تصوير العمل في نتيجته فقط، بمعنى خارج كل تفسير يهم إنتاج هذا التصوير القابل للإدراك في فعل القراءة/ التلقي).

ومن ثم، بعد وصف ياوس لنموذج التفاعل الاجتماعي الذي اقترحه العمل بمساعدة التحليل البنيوي (الصورة المبنية للأسرة)، سيبحث ياوس عن وصف البنية الأسرية في مجتمع 1875. ولذلك فقد استدعى القانون المدني للحقبة، في روايات تلك المرحلة وأخيرا في البحث الاستكشافي السوسيولوجي لفيليب أرياس. ولكن بنفس الطريقة التي يعمل بها لكي يتم تحديث أفق التوقع الأدبي، سينسى ياوس أن "الواقع" الأسري للقرن التاسع عشر الذي اعتقد أنه أدركه هو واقع قابل للإدراك : «تتعلق معرفة الواقع،ونمط فهمه بل حتى إمكانية إدراكه أخيرا بتصور صريح أو ضمني للواقع»22. يصبح من الصعب إذن، لمن يهمل إدراك الدور الذي يلعبه الهابتوس habitus (ذلك الذي "يحدد" الإدراكات، التلقيات نفسها)، أن يقيم انصهارا بين الآفاق، أو إذا أردنا فضلا عن ذلك أن نصف الخطوة المنهجية لياوس، وخاصة في هذا المثال، انصهار "رؤى العالم" المقترحة :إن مايميز الإيديولوجيا في هذا السياق، هو أن ماوراء الخطاب تختبئ اهتمامات الطبقة الاجتماعية المهيمنة، وأن التواصل يتم تشويهه بواسطة تأكيد، هو في نفس الوقت صمت متواطئ، وأن اهتمام المجموعة يطالب بقيمة كونية من أجل تأويلها الخاص للعالم.(268). بالفعل، حتى وإن استدعى ياوس نظرية سوسيولوجيا المعرفة لشوتز A. Schutz ولوكمان Luckmann، فإن المشروع الذي يقتضي التوسيط يظهر لنا غير كامل نوعا ما.

8. وظيفة النسق التواصلي :
بلجوء ياوس الى سوسيولوجيا المعرفة فإنه يحاول تقريب نموذج التفاعل الاجتماعي النصي بنموذج التفاعل الاجتماعي المعيش (الممارسة/ البراكسيس) الإجتماعي). إنه يحاول إدراكهما فيما يوحدهما من وجهة نظر تنظيم بنيتهما الخاصة. حسب الترسيمة التي يستعيرها ياوس من شوتز، «تتشكل تجربة الواقع في العالم اليومي حول مركز هو في نفس الوقت فضائي وزمني. ففي هذا النسق يمكننا إدراك و استعادة التجارب الجوهرية للممارسة الاجتماعية بل إذن نماذج التفاعل الاجتماعي التي تمثله وتنقله (292). وهكذا، وصل ياوس إلى إقامة انسجام "صريح"23 بين الطريقة التي يتحدد بها الفرد ويحدد بها محيطه الاجتماعي في "الواقع" والطريقة التي يتبنين فيها هذا "الواقع" في النصوص الغنائية المدروسة هنا. بغاية اعتبار العمل الأدبي كشكل من "العالم الرمزي للمعنى" عالم "يهيمن" ك «محفل للشرعية» على محاور الملاءمة التي حولها ينتظم الواقع اليومي (293) سيصل ياوس إلى استنتاج بأن "النموذج التواصلي ل la douceur du foyer يؤمثل- مع العوالم الخاصة التي يثيرها -، معايير وقيم الحياة البورجوازية كي يستخلص صورة سعادة مصنوعة كلها من النقص (اللامساواة)" (295). في هذه الخطوة المنهجية، يكون السؤال الملائم طرحه إذن هو كالتالي بواسطة تحليله، ماهي الوظيفة الاجتماعية التي يمنحها ياوس حقا للعمل الأدبي؟

يبدو لي أن منهجية ياوس أقل دينامية كي يأخذ بعين الاعتبار الوظيفة الاجتماعية للتلقي ومن ثم، تلك المتعلقة بالعمل نفسه، المحدد ككلية ملموسة حيث العنصر التاريخي – الاجتماعي هو المؤسس لمعناه. بالفعل، حتى لو اعترف ياوس بقوله "يمكن أيضا أن تكون الوظيفة الإيديولوجية للنماذج الشعرية للتفاعل الاجتماعي هي إخفاء - داخل الحدود نفسها المقدسة لعالم خاص - لواقع علاقة قوى واهتمامات تجد نفسها منخرطة فيه"287 لن يتأخر ياوس في أن يأخذ بعين الاعتبار علاقة القوة هذه، التي لا تعتبر فقط مؤسسة لرؤية "الواقع" بصفة عامة، بل كذلك هي مؤسسة "للواقع" الأدبي نفسه وقراءة هذا الواقع الخاص؛ وهو مايعني عند جادامر أن «الأحكام المسبقة للفرد فضلا عن أحكامه تشكل الواقع التاريخي لكينونته».24 بالفعل، وعن طريق إفراغ الدور الذي يلعبه الهابتوس habitus في تشكيل معرفة واقع الفاعل الاجتماعي (لنذكر بأن ياوس يحاول أن يدرك "الواقع" – الأسرة إلا بعدم وصفه) ونفس الدور الذي يلعبه في بناء الممارسات الاجتماعية، ومن ضمنها الممارسة الأدبية، من الصعب إيجاد الأدوات الميتودولوجية الملائمة من أجل إدراك الوظيفة التاريخية – الاجتماعية للعمل الأدبي نفسه. انطلاقا من هذه اللحظة، لم يعد العمل الأدبي يتم تصوره إلا ك "نسق تواصلي" منخرط وقابل للوصف في نفسه، مجرد من كل واقع تاريخي حيث تتلخص وظيفته الإجتماعية في وظيفته الرمزية للتصوير : " يبدو أن النموذج الغنائي ل la douceur du foyer كمجال للسيادة النسائية في هذا الاتجاه يطابق الواقع"291.إن ل "مؤرخ" الأدب إذن مهمة إقامة علاقة تماثلية بين البنية التواصلية الخاصة بالعمل وبنية "الواقع" الاجتماعي المعيش، مرورا بالبنية المعرفية الخاصة بالمتلقي. لم يكن الموضوع الشاغل أبدا استبدال هذه البنيات في بعدها التاريخي. ففي حالة البنية النصية، وفي دراسة ياوس، لا يتم تحديثها وشرعنتها إلا انطلاقا من مقارنة كمية كبيرة للنصوص 700 نص. بينما كيف يمكن أن نفهم أن ياوس يبحث عن تحليل الوظيفة الاجتماعية للعمل، في فعل التلقي، بل حتى داخل السيرورة نفسها لإنتاج هذا العمل، لايرى ياوس أية ممارسة اجتماعية قابلة لأن تكون مؤسسة لمعنى هذا العمل. ومن ثم، للوظيفة الاجتماعية التي يمكن لها أن تقوم بها؟

ينتج هذا الخيار الميتودولوجي بالفعل عن تقطيع داخل السيرورة العامة لاشتراكية العمل وتقود ياوس إلا إدراك جزء من الواقع، وتعريف العمل الأدبي إلا باعتباره وثيقة اجتماعية مثالية : " تقدم التجربة الجمالية بالمقارنة مع مصادر أخرى لإخبار التاريخ الاجتماعي امتياز صياغة بطريقة سريعة، وثيماتية، المعرفة الوجودية اليومية التي يتم تغييرها بالروتين الواضح"278. لقد بينا بما يكفي سابقا كيف أن ياوس يدرك بنية ما يسميه " الواقع ". يكفي القول هنا بان العلاقة التماثلية القائمة من طرف ياوس بين هذه البنية وبنية النص لا يمكنها أن تكون قابلة للإدراك بشكل ملائم إلا عبر مختلف تصويرات العالم المعبر عنه من طرف الأفراد. من وجهة نظرنا، غن هذه العلاقة التي لايمكن أن تكون أبدا موسومة ب"التماثلية" كذلك (ولا محددة)، عليها أيضا أن تدرك عبر مختلف الممارسات الاجتماعية، المعيشة داخل نظام العلاقات الاجتماعية، التي تعتبر مؤسسة ل وغير قابلة للاختزالي في هذه التصويرات. إن غياب مقاربة ما يقود ياوس أن يرى أفق التوقع الاجتماعية عبر ما يسميه الواقع عوض إدراكه عبر الهابتوس الذي عرف دوره حتى الآن نظريا. هو ما ستكون نتيجته أن مقاربة ياوس الي يحاول إقامتها بين " الواقع " النصي و "الواقع " الإجتماعي هي مقاربة مجردة تماما، لأنها مقاربة قائمة انطلاقا من نموذجين للتفاعل الإجتماعي واللذان لا يوجدان أيضا إلا في "محاور للملاءمة" المحددة بشكل شمولي :

تؤسس العلاقة الفضائية "هنا-هناك " علاقة الأنا بالعالم المحيط؛ ووضعية وجها لوجه تؤسس علاقة الأنا بالعالم العلائقي. وأخيرا، يمكن ربما أن تعتبر حياة الفرد في اشتغالها البيوغرافي كسيرورة مدمجة لهاذين المحورين من الملائمة.292 إن هذه النماذج من التفاعل الاجتماعية كان بإمكانها أن تكون منغرسة في الواقع التاريخي إذا لم نخلي في البداية تحليل العلاقات الاجتماعية التي تكون مؤسسة لمعناها. هذا ما يجعل ياوس أحيانا يسمح لنفسه، بدون أن يستشعر بعض الصعوبات، إعادة امتلاك بعض المنازل بمعنى مفقود: «وهكذا تم فهم أن القصيدة تزيل قناع وهم الفلسفة المبررة للعطف الإلاهي، الرومانسية على طريقة شاتوبريان، يجب أن نؤول بصراحة النافذة كتمثيل استعاري للإيديولوجيا، كذب المظاهر. لكن ما من قصدية للنقد الإيديولوجي تعتبر غريبة عن هوجو». 284 ماذا نعرف؟ وهذا ما يجعل في المقام الأخير، من نمط المقاربة المقترحة على "مؤرخي " الأدب، مقاربة بين العوالم الخاصة (ماعبر عنه النص وما عبر عنه المعيش)، مقاربة تأخذ أحيانا بطريقة أخرى من الحكي :هذه المرة، مع ذلك، شيء استثنائي لم تستفد أبدا ذات الرداء الأحمر وجدتها، لأن البعث لم يحصل. لماذا لم تحصل ببساطة كما هي العادة سنة 1875؟ ربما هذه النهاية الحاسمة لذات الرداء الأحمر، ضدا على القاعدة، لم تسجل على مستوى أدب الاستهلاك الحالي شيئا من الوعي الذي يكتسبه الجمهور شيئا فشيئا أكثر من المنزل، فضاء السعادة البورجوازية والسعادة الأليفة المتواضعة والملجأ الأخير، كانت كذلك مهددة في واقع التاريخ أكثر من منازل باريس القديمة بواسطة التطور القاسي للحضارة المدنية (285)

9. جمالية الإنتاج والتلقي: فرضيات
بعدما حللنا ما سمح لياوس بأن يدرك جمالية التلقي، نفضل بشكل سريع أن نستخلص ما يبدو لنا مهما استخلاصه واستكمال ذلك على المستوى الميتودولوجي من أجل تاريخ جديد للأدب. يبدو لنا فعلا من الضروري، من أجل كل الأسباب التي جعلت ياوس نفسه يعرضها في نصوص مختلفة توجه انتقادات لما يسمى ب" البنيويين" كما "الوضعيين"، من أجل تجنب اعتبار النص كعالم مغلق، وكنسق من «العلامات بدون ذات، بل بدون علاقة مع وضعية الإنتاج والتلقي للمعنى»25 يقترح علينا ياوس بالأحرى إدراك العمل الأدبي في وظيفته التواصلية، في تجربة (Erfahrung) المتعة الجمالية. بترهين العمل كذلك، يأخذ العمل معناه في علاقة معينة بين la poiesis (الوعي الإنتاجي) وl aisthesis و(الوعي المتلقي) ؛والعنصر الثالث في التجربة الجمالية،la catharsis  (الوظيفة التواصلية)، كلها تشكل الوظيفة الاجتماعية لهذه الممارسة الفنية26. تبحث جمالية التلقي أولا عن إعادة امتلاك موضوع التمرس الجمالي، تمرس يحيا في القراءة، وقراءة تعطي معنى للموضوع، والنص الذي بإمكانه أن يساهم في تنظيم معنى موضوع آخر :إنها الدائرة التأويلية للسؤال والجواب.

ولهذا السبب، فإن مؤرخ الأدب مدعو إلى أن يعتبر نفسه أولا كقارئ، بالمعنى الذي أشار إليه ياوس، بمعنى قارئ لاتشكل القراءة عنده إلا معلما تمهد الطريق لسيرورة تحقق معنى العمل. بهذه الطريقة، فقد يؤدي ذلك أيضا إلى عدم اعتبار النص الأدبي كفعل ذي دلالة موضوعية، ولكن بالأحرى «تصوره في شكل تاريخ مستمر مكان "الممكنات" انطلاقا من هذه اللحظة، لايتعلق الأمر أبدا باكتشاف النص الأصلي عبر تزويرات التاريخ، ولكن اكتشاف النص في تاريخه»27 ينكشف معنى الحقبة الأدبية في التحققات المتوالية لاندلاله (كي نستعمل مصطلح رولان بارث) تنتج عن الحدث كما عن أثره في لحظات مختلفة والتي يمكن إعادة بنائها عبر تاريخ تلقيها، انطلاقا من الاستقبال الأول الى التأويل الحالي28. إذا كانت إعادة تملك الموضوع في دراسة العمل الجمالي تبدو لنا مبررة تماما كي نجدد مقارباتنا في التاريخ الأدبي، فإنها تبدو مع ذلك لنا مصاغة بطريقة ناقصة كي تأخذ بعين الاعتبار كل الخصوصية التاريخية للعمل الأدبي، بدءا بتلك المتعلقة بالتلقي.

بالفعل، إن ثنائية الذات/ القارئ (" قارئ "، كاتب، ناقد أدبي) تبدو لنا غير متمايزة، مجهولة جدا، غير منغرسة في التاريخ كي تكون قابلة للإدراك، كي تسمح لنا في اللحظة الأخيرة أن ندرك جيدا معنى العمل الجمالي نفسه. سواء سمى ياوس (كما هو الحال عند قراء iphigénie  لجوته أو عند القراء/ منتجو سبعمائة قصيدة غنائية) أو لم يسمي (كما هو الشأن في حالة القراء الممكنين لسبعمائة قصيدة غنائية) قراءه، يصبح موضوع التلقي دائما غير معروف، ومن ثم يصبح تلقيه قابل للإدراك بصعوبة. لا أنطلق من تخييل "القارئ العادي، ولكن من القارئ المعاصر، ذي الثقافة المتوسطة، المتآلف مع الشعر، بدون أن يكون له مع ذلك لا تكوين مؤرخ للأدب ولا تكوين اللساني، وفي مقابل ذلك فهو ذكي كي يندهش أحيانا مما يقرؤه، وكي يمرر هذا الاندهاش في شكل سؤال ما.29  فضلا عن ذلك، إن تلقي هذا الموضوع SUJET قابل للفهم بصعوبة بسبب الطريقة التي يدرك بها، مادام منفصلا عن الشروط الإجتماعية لإنتاجه. نتخيل بشكل سيء إذن كيف أن معلقا حتى لو كان «كفؤا بشكل علمي بإمكانه أن يعمق تحليليا انطباعاته الجمالية لهذا القارئ».30 بالفعل، ما يمكننا أن نعاتب عليه ياوس، هوأنه يعتبرالتلقي الذي يدركه كفعل ينتج المعنىfait de sens  التلقي بمعنى بنفس الطريقة لأولئك الذي كان يوجه إليهم انتقاد وهمهم التاريخاني.31 يقوم ذلك بالضبط لما يعتبره، في تحليلاته. أن فعل التلقي هذا لا يكون له معنى إلا بالنسبة لفعل تلق سابق، بدو اعتبار أن فعل المعنى هذا لايأخذ معناه أولا إلا داخل علاقات اجتماعية تنخرط فيها الذات sujet / القارئ وممارساته القرائية /الكتابية في لحظة معينة من التاريخ. وهكذا، ماسنقترحه، كما سنرى، سيكون عبارة عن استعادة الخطوة المنهجية لياوس هنا حيث تبدو ناقصة من أجل امتلاك المعنى الجمالي للأعمال الأدبية عبر التاريخ. نقترح، نظرا لكل الأسباب التي عرضناها في هذه المقالة، أن ندرك فضلا عن ذلك ثنائية الذات/ القارئ بالخروج لحظة من الإشكالية الهيرمينوطيقية كي نخلق موضوعا تحليليا حقيقيا يمكن أن يكون هذا الموضوع الجماعات الأدبية ؛ بداخلها يمكن أن يتحقق في نفس الوقت التلقي السلبي والتلقي الإيجابي. كما يمكن أن تعتبر هذه الجماعات الأدبية كمكان مفضل تجري فيه انصهارات لآفاق التوقع الأدبي والإجتماعي.ففي داخل هذه الجماعات بالفعل حيث يتم ترهين الممارسات الأدبية السلبية (تعريف وانتشارتحققات المعنى الخاصة) والحيوية(إنتاج وانتشار الأعمال الأدبية الخاصة)، كما يبين ذلك جزئيا دراسات كل من جاك ديبوا،بيير بورديو، كريستوف شارل وريمي بونتون.32

تقودنا هذه الدراسات إلى اعتبار بشكل سانكروني أن المعنى الذي تعطيه ثنائية الذات/ القارئ (الجماعة الأدبية) لممارسته (تلق سلبي أو حيوي) غير قابل للاختزال في ومؤسس لممارسته. والعكس صحيح، إن ممارسة الفاعل غير قابلة للاختزال أو الانفصال عن المعنى الذي يعطيه. إن هذا المعنى وهذه الممارسة ممكن إدراكهما انطلاقا من دراسة العلاقات الإجتماعية المعيشة في مختلف دوائر الحركية الإنسانية، بل فورا مؤسستين في المؤسسة الأدبية. بمجرد إدراك هذه الممارسات وتعريفات الأدب المقترحة من طرف الجماعات الأدبية داخل هذه الترسيمة الجدلية، يصبح حينئذ م الممكن تصور إعادة بناء سيرورة تحقق العمل الأدبي بشكل دياكروني، كما يقترحه علينا ياوس. ومن ثم، سيتم تعريف العمل في إدراكه aesthesis وتطهيره، بواسطة بمختلف المعاني (مختلف التلقيات) التي أعطتها له مختلف الجماعات الأدبية، مع عدم اختزال - كما يحدد ذلك ياوس – معنى العمل الأدبي في مجموعة من المعاني، بإدراكه في دينامية من السؤال والجواب.

سيكون مفهوما هنا، في حدود هذه المقالة، ما سنقترحه على جمالية التلقي يقتضي ببساطة أن نختار أدوات تحليل مناسبة كي نجيب عن السؤال "ماذا نعني بالواقع؟" اعتبارا أن «جوهر الإنسان ليس تجريدا محايثا عند الفرد المعزول. في الواقع، إنه مجموعة علاقات اجتماعية»3، فإننا نقاد إلى صياغة بعض فرضيات العمل من أجل جمالية الإنتاج والتلقي. يجب الإعتقاد بأن تاريخ الأدب سيبقى دائما حيا بما فيه الكفاية كي يكون قادرا على إطلاق تحد دائم في النظرية الأدبية.

 

هوامش :
1.             J.Tynianov : De l evolution littéraire(1972) ,in theorie de la littérature ,PARIS /SEUIL /1965 P :120-137

2.             Hans Robert Jauss. l Histoire de la littérature un défi a la théorie littéraire (1967). Pour une esthétique de la réception Paris. NRF.GALLIMARD 1978 P : 31

3.             نضع هذا المصطلح بين قوسين، لأننا نعتبر مثل Gilles-Gaston Granger فلسفة،علم،ايديولوجيات Tidschrift voor filosofie 1967)، أن الخطوة المنهجية الهيرمينوطيقية "لاتعمل بطريقة بناء النماذج،بل بتأويل للدلالات " (779)

4.             هانس روبير ياوس : المرجع السابق ص : 39

5.             Karel Kosik :La dialectique du concret(1967) ;PARIS , francois Maspero , 1978 , (1970) P: 29-30

6.             Hans Robert Jauss « Postface a De l iphigénie de Racine a celle de Goethe (1975) , in Pour une esthétique de la réception , Paris ,NRF ,GALLIMARD , 1978 ,P 244

7.             Hans Robert Jauss , L Histoire de la littérature: un défi a la théorie littéraire (1967) P. 49

8.             نفسه ص 49

9.             Hans Robert Jauss « Postface a De l iphigénie de Racine a celle de Goethe P 259 /1975فضلا عن الإنصهار الدياكروني للآفاق الذي أدخله هانس جيورج كادامرفي التأويلية التاريخية، نضيف بذلك أيضا الإنصهار السانكروني " أنظر هانس جيورج غادمر : حقيقة ومنهج 1960 ,PARIS ,SEUIL. 1967 P :147 " لايوجد أبدا من أفق للحاضر يمكن أن يوجد منفصلا عن الآفاق التاريخية التي بإمكاننا الوصول إليها. يقتضي الفهم بالأحرى في سيرورة انصهار هذه الآفاق أن نطالب بفصل الواحدة عن الأخرى ".

10.          Hans Robert Jauss « Postface a De l iphigénie de Racine a celle de Goethe (1975) , in Pour une esthétique de la réception , Paris ,NRF ,GALLIMARD , 1978 ,P 213 كل الإحالات على هذه الدراسة في هذاالجزء من المقالة سيكون من الآن فصاعدا مشارا إليه في النص بواسطة رقم الصفحة.

11.          Hans Robert Jauss , L Histoire de la littérature: un défi a la théorie littéraire (1967) P : 50

12.          Hans Robert Jauss : المرجع نفسه ص :45 " من غير المعقول أن نتصور أن يحيا العمل الأدبي في التاريخ دون الإسهام الفعلي للذين يتوجه إليهم.ذلك أن تدخلهم هو الذي يدرج العمل ضمن الإستمرار المتحرك للتجربة الأدبية،هناك حيث لا يكف الأفق عن التحول وحيث يتم دائما الإنتقال من التلقي السلبي إلى التلقي الإيجابي من مجرد القراءة البسيطة إلى الفهم النقدي، ومن المعيار الجمالي المقبول إلى مجاوزته بإنتاج جديد ".

13.          Hans Robert Jauss « Postface a De l iphigénie de Racine a celle de Goethe (1975) P : 259

14.          المرجع نفسه

15.          Hans Robert Jauss : المرجع نفسه ص 250 " إن الأعمال التي يقع عليها الإجماع الأدبي قد صنعت نماذج و كلاسيكيات مدرسية بإمكانها أن تصبح تدريجيا معايير جمالية لتقليد يحدد مسبقا توقع وتوجه الأجيال اللاحقة في ميدان الفن " والتشديد من عندنا.

16.          بيير بورديو : "سوق الخيرات الرمزية " L année socilogique , 1971,22 ,pp 49-126

17.          المرجع نفسه

18.          المرجع نفسه ص 63

19.          بالفعل،لا أحد بإمكانه أن يحاول انتقاد ياوس في اختياراته للشهادات القرائية في الوقت الذي كان على مؤرخ الأدب أن يحاول إدراك التلقي بمعناه الواسع، أي ما يمكن أن نقصد به التلقي الشعبي كما التلقي العالم. لا يتعلق الأمر بإطلاق النقاش حول الثقافة الشعبية والثقافة العالمة.من الملائم بالأحرى هنا، في إطار نظام تحليل ايبستمولوجي، أن نرى كيف أن ياوس يشتغل منهاجيا بالمقولات التحليلية المختارة في هذا المستوى، لايمكننا إلا أن نثير قضية أن ياوس لم يذهب الى نهاية سؤاله. بالفعل، عندما نطلب كيف ندرك التلقي،لايهم على من نحيل عليه بشكل ملموس، الجواب عن هذا السؤال يجب أن يكون،من وجهة نظرنا، في خضم سؤال آخر أكثر خصوصية هذه المرة، لمعرفة كيف وأين تم إنتاج هذا التلقي؟ وهكذا، نظرا للصنف التجريبي المعزول في تحليل ياوس، من الملائم هنا أن نحتفظ بما يلي " إذا أحيلت العلامات على مراجع مع الجمع بينهم، و إذا عينت الثقافة عالما مع كونها هي نفسها عالما معينا،تخرج منها احتمالية معينة، وتأخذ شكلها في الثقافة الثانوية،تصبح بشكل من الأشكال رسمية في الثقافة العالمة،على الحد، تترسب الإحالة على الأشياء، والثقافة تحيل على نفسها ") Fernand Dumont ,la culture savante reconnaissance du terrain : questions de culture 1 cette culture que l on appelle savante ;Québec/Montréal ;IQRC/leméac , 1981. P : 30)

20.          Hans Robert Jauss : la douceur du foyer(1975]in Pour une esthétique de la réception.PARIS ; NRF ; GALLIMARD , 1978 ; P 263-297. كل الإحالات على هذه الدراسة في هذاالجزء من المقالة سيكون من الآن فصاعدا مشارا إليه في النص بواسطة رقم الصفحة.

21.          Hans Robert Jauss « Postface a De l iphigénie de Racine a celle de Goethe (1975) P :261

22.          Karel Kosik :La dialectique du concret(1967) ;PARIS , francois Maspero , 1978 , (1970) P:28

23.          انظر موضوع الطابع التفسيري للعلاقة التناظرية المماثل في العلوم الإنسانية Paris , PUF , 1978 Michel De coster يحلل في جملة الأمور التماثل البنيوي عند لوسيان غولدمان كي يصل إلى الإستنتاج التالي " لم تصل أطروحة غولدمان الى البرهنة عن شيء آخر غيرالإنعكاس، فقط في مستوى معين، غير الشروط الإقتصادية والإجتماعية لحقبة معينة، و الأفكار التي كانت رائجة، في عالم رومانيسكي معين. خارج هذه السوسيولوجيا -الإنعكاسية التي تحدد حقل التماثل النظري، يبدو أن غولدمان يحيا في عالم صور يديرها بكثير من البراعة " (119)

24.          هانس جيورج كادامر : حقيقة ومنهج 1960 باريس، سوي 1976 ص :115

25.          Hans Robert Jauss : Esthétique de la réception et communication littéraire , in AILC actes du 9congrés de l association internationale de littérature comparée (Insbru74ck ,1979) ;2 ,Innsbruck , AMOE ,1980 ;P : 18

26.          Hans Robert Jauss : la jouissance esthétique 1977 IN Poétique ; septembre 1979 N : 39 P :261\274

27.          Hans Robert Jauss : L Histoire de la littérature : un défi a la théorie littéraire ,1967 , p :43

28.          Hans Robert Jauss : Esthétique de la réception et communication littéraire P :21

29.          Hans Robert Jauss : le texte poétique et le changement d horizon de la lecture ;in centre culturel international de Cerisy-la-Salle /Problémes actuels de lecture ,Paris ,Clanciers-Guénaud ,bibliothéque des signes ;1982 P :101

30.          المرجع نفسه

31.          Hans Robert Jauss : Esthétique de la réception et communication littéraire 1979. P19

32.          Pierre bourdieu ;op cit , Jacques Dubois , l institution de la littérature, Paris/Bruxelles , Fernand / Nathan/Editions Labord ; 1978 (Dossiers Media). Christophe charle ; l expansion et la crise de la production littéraire(2 moitié du 19 siécle) Actes de la recherche en sciences sociales , juillet 1975 , 4 ,P :44-65 Rémy Ponton ;programme esthétique et accumulation de capitale symbolique l exemple du Parnasse , Revue francaise de sociologie , avril –juin 1973 , 14 P : 202-220

كارل ماركس : الإيديولوجيا الألمانية، باريس، المنشورات الإجتماعية، 1968 أطروحة حول فيورباخ.


Benhanisaid34@yahoo.fr