يعرض الناقد الأردني لكتاب المتوكل طه الذي يحمل عنوان «قراءة المحذوف»، وفيه تناول قصائد لم تنشرها فدوى طوقان. ويرى إلى أن المعالجة قدمها طه تحتوي على التباس، يدفعه للقول بأن الكتاب أساء للشاعرة من حيث أراد الإحسان، وطأطأ من شُموخها، وقد أراد لها عُلوّ الشأن.

قراءة المحذوف في بواكير فدوى طوقان

إبراهيم الخليل

كثيرًا ما يُقال: إن البدايات تبشر عادة بالنهايات، وهذا شيء لا ينسحب على بدايات فدوى طوقان في الشعر. ففي الكتاب الذي نشره وصدّره المتوكل طه متضمّنًا عددًا غير قليل من قصائد كانت قد كتبتها الشاعر منذ أمدٍ بعيد دون أن تنشر، ما يلقي الضوء على جانب آخر خفيّ من شخصيتها الأدبيّة، والفنية، ومن تجاربها الشعرية.

ومن المؤكد أنّ القارئ الحصيف، والناقد الممحّص، الذي قرأ شعرها من قبل، ووقف إزاءه متذوقاً، سيتمنى لو أنه لم يطلع على هذه القصائد، وأنّ المتوكل طه لم يقم بنشر ما نشره، ولا كتابة المقدّمة الطويلة التي مهَّدَ لها بها، ووَطأ، على الرغم من ما تحتويهِ منْ مَعْلوماتٍ قيمة عن الشاعرة.

فباستثناء القصيدة الأولى "هذا الكوكبُ الأرضيّ" وهي لا تختلف عن سائر شعرها الذي عرفنا فيه ميلها المرهف لحب الإنسان، وسعادته، وخيرهِ، ومقتها للحروب، وما تجره على البشرية من دمار، وخرابٍ، وويلات، نجد سائر القصائد الأخرى في موضوع واحدٍ، لا يكادُ يتغير، وهو مناكفة أحد الأشخاص ممن ربطتها بهم علاقة حبّ من نمط ما، غير أنّ هذا الشخص فيما يبدو- لم يكنْ وفيًا، ولا صادقاً في الحب، وكان السبب في تدمير ما كانت تظنه سعادة لهما معًا، مما جعل الكون في نظرها مفتقرًا للتوازن، فالنجوم تبدو لها مُبَعثرة، والسماء تحتلّ موْقعَ الأرض، والأرض تحتل موقع السماء، والبغضاء تحاصرها من جهات الدنيا، فلا تجد مناصًا من أن تصرح تصريحًا مباشرًا ببغضها الشديد لهذا الإنسان النكرة:

أكرهك وأكرهُ اسمك

أمسحه حرفا حرفًا من ذاكرة القلب

مزقت الرسم، خلتْ من رسْمك أدراجي

ورفوف الكتب خلت منها جدران البيت

كابوسَ حياتي أصبحتْ

أكرهكَ كثيرًا جداً(1)

فمثلُ هذا الشعر المباشر قلّ أن نجده في قصائد فدوى التي تضمنتها دواوين "وحدي مع الأيام" (1952) و"وجدتها" (1957) و"أعطنا حباً" (1961) و"أمام الباب المغلق" (1966) فهي لا تفتأ تصوّرُ تأثير هذه الجفوة في حياتها بكلمات تقطرُ مرارَة، فالحزن الشديد يلفّ وجودَها، والدمْع الهتون يظللُ الفضاء الذي يحيط بها، ولا تشعرُ إلا بمزيدٍ من التخبّط، وهي تعاني من نقطة ضعْفٍ هي حبّها هذا الشخص الذي تصفه بالإنسان ذي الوجهين:

كيف أصدّق أنك أنت

صاحب ذاك الوجه الآخر

الباعث في أغوار كياني

كل البغض وكل المقت

شوهت كياني يا هذا

شوهت وجودي

شوهني البغضُ وصيّرني بنت الحنظل

فتجذر في روحي وتعرّشُ

في كل زوايا القلب(2)

ويبدو أنّ هذه القصيدة  "جدلية الحبّ والبغْض" من القصائد الأولى التي تطرقت فيها لهذه التجربة، وما فيها من ألم، ومشاعر مُرَّة، تشهد على ذلك الكلمات التي ما تزال تشيرُ إلى أنّ حبّها، على الرغم من خيانة الآخر المنكرة لها، ما تزال بقاياه، ورواسبه في النفس، والقلب. لكنها في قصائد أخرى تظهر الأسف عميقاً على ما كان، بما في ذلك حبهما الذي لم يكن أكثر من هفوة، ولا أقلّ من خطيئة كبيرة، جديرة ألا تتمتع بعدها بغفران:

كيف أحببتك يا أقنومَ شر

غلطة في عمري

لا تغتفر

غلطة سطرها فوق جبيني

قدرٌ في حجب الغيب استتر(3).

ما من شكٍّ في أنّ هذه التجربة أساءت للشاعرة الكبيرة، فقد بددت من جهودها الشعرية الكثير، تارة في الاعتذار عن هذا الحب، لأنه خطأ ما كان ينبغي لشاعرةٍ في مثل مكانة فدوى طوقان أن ترتكبه، وتارة تحاورُ هذا العاشق حوارًا من طرف واحد لا يتضمن إلا عبارات الهجاء اللاذع، والقدْح المقذع، فهو امرؤ رديء، سيء الطبع، غويّ، ذو شخصية مهزوزة، جبلت على الشر، والمكر، والخداع، وهو بلية ابتليت بها لكثرة ما هو فظ وشرس، وتلك كلماتٌ لم تعتد الشاعرة استعمالها في شعرها قط، وقد اضطرها هذا الموقف للإسفاف، والتفوه بالنابي من اللفظ، مثل: منحرف، ومقيت، ولعنة، ورذيلة، ويابس الرأس (كذا) مما يعفّ اللسان عن ذكرهِ، والقلم عن تدوينه، وتسطيره:

اعترفْ يا منحرف

اعترفْ

فالاعترافُ توبة مقبولة

تمْحو الرذيلة

أنت يا توأم ثور

يابس الرأس عنيد ومكابر

أمْض عني إن مرآك مقيت

إنه لعنة ُتعْمي البَصائر(4).

فمن هو الشاعر الذي يطيبُ له أنْ يصف الآخر بالثور، أو بالرذيل، والعنيد المقيت، وبأنه لعنة تعمي القلوب؟ ألا نجد في هذا ما يشي بالقدر الكبير من النقمة التي امتلأت بها روح الشاعرة بعد إخفاق هذه العلاقة، وتبديد الأحلام، التي كان يعد بها مثل ذلك الحب؟ ألا يؤكّد هذا ما تذهب إليه الظنون بالشاعرة من أنها كانت تعلق عليه آمالا كبارًا تتعب في مرادها الأجسام؟ ألم تكن ترى في ذلك الشخص من قبل علمًا '"أشمّ" في رأسه نارٌ، تتوهّج ذراهُ مثل نجمة وضاءة باهرة؟ ألم يذهب ذلك الألق الذهبي الذي كانت تراه لينقشع الوهم عن نهاية قاسية أي قسْوة:

حلمٌ مكسور

وحصاد مرّ

ونهاية عمر(5).

على أنّ الوقت لا يطول بالقارئ حتى يكتشف أنّ هذا العاشق كانَ شاعرًا، أو بكلمة أدقّ: مشروع شاعر، وأن الشعر هو ما قرَّبَ بين الحبيبين، وانه كان بمنزلة رسول الحب بينهما قبل أنْ يفترقا متقاطعيْن، وينفصلا متجافيَيْن. فها هي ذي تؤكد في قصيدة بعنوان "دعيّ الشعر" أن هذا الشخص لم يكن شاعرًا، وإنما هو دعيّ، فالشعْرُ يتطلب الحس المرهف، والذوق الرفيع، والمشاعر الصادقة الفياضة المفعمة بالحب الطاهر النقي، وهو بريء من ذلك كله براءة الذئب من دم يوسف:

أنت ما أنت

أتدري

أنت وحشٌ أزرق الأنياب كاسِر

من سماء الشعر مطرودٌ، فهاجر

لمكان مقفر ما طارَ يومًا فيه طائر

غير بوم ناعق ينعق ما بيْن المقابر(6).

ولا يملأ مثلُ هذا الشخص عيني الشاعرة مثلما يقولون، ولهذا تبرأ من تبعات تلك العلاقة، وتدعي أنّ ما كان بينهما لا يعدو أن يكون تسلية، تزْجي بها أوقات الفراغ، أي أنّ الحبّ الذي كان بينهما لم يكنْ حبّاً حقيقيا:

أيها المأفونُ.

هلا عدتَ للعقل، وأدركت بأني

كنت أملا بك أوقاتَ فراغي

كنت ألهو، أتسلّى

ليس إلا(7).

ولم تدمْ تلك العلاقة، فيما يبدو، بدليل أن الشاعرة في قصيدة "نفضتُ منكَ اليديْن" تشير إلى إخفاقه في الرجوع بالمياه إلى مجاريها، والعودة بها إلى ما كانت عليه في السابق. ولم يشفع له تقرّبه منها، وتزلفه إليها عن طريق الوسطاء من الناس، فقد قامت- في سورة غضب - بتمزيق الصور، وإلقاء رسائله في النار، كاتمة بذلك أنفاس ذلك الماضي، طامسة ذكراه في حفرة من النسيان، إذ لم تعد في الحبّ أيّ درْب لعودة. فالخبرة، والتجارب، أزالا عن عينيها كل غشاوة لتكتشف تحت أضواء الحقيقة أن هذا المحب الدعيّ غير طيب، وأن علاقتها به لا تتجاوز الخطأ الفاحش الذي انزلقت إليه، والاختيار العشوائي غير الموفّق:

فالعين عادت بصيرة

سليمة من عشاها

لم يبْق شيءٌ لديّ

لا حبَّ، لا بغض، حتى

لا وخزةً من ألم

لم يبق منك إلا

مذاق طعم الندم

على قصائدِ شعْر غنّيُْتها لصنم(8).

وإذاً، تعرب الشاعرة في الأبيات السابقة، وتكشفُ، عن سرّ دفين، لطالما ظلت تخفيه طوال حياتها، وهو أن قصائد الحبّ الكثيرة التي اشتملت عليها دواوين "وجدتها" و"أعطنا حباً" كانت قبض ريح، فلم يكن العاشق الذي خوطب بها سوى صنم، بارد العواطف، لا يتحرّج من أن يعترفَ بحبّ امرأة أخرى (9) ولا يتورع عن مقابلة الوفاء بالجحود، والعقوق، والغدر، والصراخ تارة في صلفٍ، وتارة في رجاء، لذا تبوءُ محاولاته المتكرّرةُ للتنصل مما مضى، بالفشل الذريع، والإخفاق الفظيع:

أيهذا المستفزّ المستثار

دعك مني

وامض عني

أنا حسبي ما سلف

من عقوق، وجُحودٍ، وَصَلف(10)

تصوّر الشاعرة، تبعًا لذلك، ذاتها بالنبع الصافي، السلسل العذب، الذي يقذفه الآخرون، بعد أن يستقوا منه حد الارتواء، بالحجارة. وهذه القصائد، على ما يستبين القارئ، تمثل بقعة كامدة في حياة الشاعرة الكبيرة، لا نقطة مضيئة جديرة بالاحتفاء، والعناية، والتنميق. ففي قصائدها الأخرى التي انطوت عليها الدواوين لا أثر لهذه التجربة المريرة، وفي سيرتها النثرية "رحلة جبلية" و"الرحلة الأصعب" لا موْضع لهذا البوح، ولا لهذا الجفاء الشديد الذي تتقطّع له الأنفاس، ولا لتلك القطيعة التي تؤدي إلى ما وجدناه من إحساس فظيع مفجع بالسخط على كل شيء. ولو طويت صفحة هذه القصائد طيًّا، ولم تنشر في كتاب كهذا الكتاب "قراءة المحذوف" لبقي ما تراءى لنا من نقاء سريرة الشاعرة، وما عرفناه عنها من اتزان، هو الشيء السائد الذي لا يرتابُ فيه أحد، ولا يختلف حوله اثنان، أمَا وقد نشر المتوكل طه هذه البواكير، فقد أسهم عن غير قصد في إضافة ملامح جديدة أقلّ ما يقال فيها أنها تعكر صفو تلك الصورة النقية، وذلك الألق، اللذين عرفت بهما الشاعرة الكبيرة.

سيّما وأن القارئ لا يجد في هاته الأشعار من الأداء الفني ما يتناسب مع المستوى المتفوّق الذي بلغته في قصائدها الأخرى. فهي أشعار تقليدية جدًا على الرغم ممّا فيها من تحرّر الأوْزان وهي تقريرية مباشرة لا أثر فيها للصورة البارعة التي تتوافرُ بكثرة في "وحْدي مع الأيام" وفي "وَجَدْتها" و"أعطنا حبًا" وغيرها من دواوين. فمن حيث الشكلُ لا تضيف هذه الأشعار لعطاء الشاعرة إلا ما يُقلل من شأنه، ويحط من قدْره، فبدلاً من أن تضيف لذلك العطاء جديدًا تسْبغُ عليه تراجعًا في المستوى، على الرغم من أن المتوكل يريد خلاف ذلك. بدليل تلك القصيدة التي سماها الناشرُ: "المُتعَجْرف" . ففيها تتكدس ألفاظ، ونعوتٌ، تشتم منها رائحة الشتيمة، فهو متعالٍ، متعجرف، ومقرفٌ، مغرورٌ غرورًا قويًا، مكثفاً، والغرور داءٌ عضال لا شفاء منه:

أيهذا المتعالي المتعجرف

أيها المقرفُ ليتك تعرف

كيف تبدو لعيون الناس

كيف تعرف

وغرور النفس يغشاك قويّاً ومُكثّف

وغرور النفس داءٌ ليس يشفى

أعْجز العلم فما منه شفاء(11).

فهذا كلامٌ أدنى من أي كلام عاديّ يطلقه شخصٌ، لا علاقة له بالشعْر، على شخص آخر، فأين منه ما اعتدناهُ في شعْرها من رقة الحاشية، ودقة التعبير، وعذوبة الإيقاع، والبعد عن الإسفاف الذي اضطرها لاستعمال كلمات، وعبارات، مثل: أنتَ مُقرف، أنت متعالٍ، أنت متعجرف، ففي أخرى غزلية من ديوان "وجدتها" عنوانها "هل تذكرُ" نجد - عكس ذلك- حيث الرقة تتجلى في أبهى حلة، وآنق صورة:

لقاؤنا ودرْبنا الأرحبُ

وشاطئ النهر

والعشّ في حديقة يزهر

وحارس الحديقة الطيب

والمقعد الأخضرُ

هل تذكر(12).

فاللقاءُ، والدربُ المتسع، وشاطئ النهر، والحديقة، والزهر، والمقعد الأخضر، علاماتٌ على تفتح الحياة في موسم الحبّ الغنيّ، الدافئ، ولقطات تتجمّعُ في صورة متناميةٍ تتدرّجُ من موْقع لآخر، بحيث تكتمل في أداء جدير بالاستحسان، بعيد عما يشين الشعرَ من ألفاظ القدح، والردح، والاستهجان.

وزبدة الحديث أن المتوكل طه - في هذا الكتاب - الذي وسمه بعنوان طريف وهو "قراءة المحذوف" قصائد لم تنشرها فدوى طوقان، أساء للشاعرة الكبيرة من حيث أراد الإحسان، وطأطأ – في نظرنا - من شُموخها، وقد أراد لها عُلوّ الشأن.

 

ناقد وأكاديمي من الأردن

ibrahim_ju2004@yahoo.com

 

الإحالات

(1) فدوى طوقان: قراءة المحذوف، قصائد لم تنشر، إعداد وتقديم المتوكل طه، دار الشروق، عمان، ط1، 2004 ص 74

(2) قصائد، ص 75

(3) قصائد ص77

(4) قصائد ص 84

(5) قصائد ص 85

(6) قصائد ص 87

(7) قصائد ص 88.

(8) قصائد ص 108

(9) قصائد ص 111

(10) قصائد ص 112

(11) قصائد ص 105 والمقرف في العربية هو الشخص الذي يدعى أهلا غير أهله، ومن معانيها من يقارف الذنوب فهو مقرف، ومنها في العامية المقرف الذي يثير الاشمئزاز والتقزز وهو غير مقبول اجتماعياً.

(12) فدوى طوقان: وجدتها، دار الآداب، بيروت، ط4، 1966 ص66.