سبق للكلمة أن احتفت بهذا النص الروائي للكاتب المصري المرموق، هنا قراءة برؤية مختلفة لهذا العمل الإبداعي الذي لقي إبان نشره الكثير من الاحتفاء. رؤية مشتركة ترصد الحبكة والقراءة الوصفية والحوارية من زاوية النظر خاصة تستقصي البنية الفنية للنص الروائي.

صنع الله إبراهيم والبنية الفنية في التلصّص

سيد إبراهيم آرمن وزهرا باك نهاد

الملخص

خرج الروائيون فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، علي بناء الرواية التقليدية وبادروا بإعادة النظر في تيّار الرواية المعاصرة ورفضوا الحبكة الاعتيادية؛ إذ ركزوا علي الوصف الدقيق للأشياء والأحداث، كما جمعوا بين الأسلوب الوثائقي والتقنية للكتابة الروائية وعالجوا القضايا المجتمعية. ومن هؤلاء الكتّاب الثوّار صنع الله إبراهيم، الذي يتوازن بين التشكيل الفني والتعبير عن المتغيرات المجتمعية. فيأتي بمضمون روايته التلصّص من واقع المعيش بكل جزئياته، وتساعده التحولات العميقة في القرن العشرين، خاصة في نهاية الأربعينات لصياغة الجمالية من حيث المعني والمبني في هذا النتاج الأدبي الرائع.

الكلمات الدليلية: صنع الله إبراهيم، التلصّص، الحبكة، القراءة الوصفية والحوارية.

صنع الله إبراهيم

يعتبر صنع الله إبراهيم من أبرز نجوم الأدب الستيني في مصر. فهو الذي جدّد الشکل الفني للکتابة حيث کسر القوالب التقليدية الاعتيادية واجتهد في خلاص اللغة من صعوباتها. فيعتقد الدکتور سيد البحراوي بأنّ صنع الله إبراهيم: «قد حقّقت له قدرته الفائقة علي فهم الحياة والبشرعلي الأصعدة المختلفة نفسياً واجتماعياً وسياسيّاً وبالإجمال إنسانياً، حيث ينطلق الکاتب من درجة النضج الإنساني والفني الذي يکتسبه عبر رحلته من الحياة تجاوزت الستين، ورحلته من الفنّ التي تجاوزت  الأربعين.»(1)

ولد صنع الله إبراهيم عام 1937م في فترة تحتلّ القوات البريطانية منطقة قناة السويس طوال عشرين سنة. ثم عايش في مرحلة النهضة القومية ضد الاستعمار. وأقبل علی المنتفعين بها أجنحة متعددة من البرجوازية الصغيرة، انطلقت من عقالها لتنشر کل فکريتها في الحياة والأدب والسياسة والفنّ، باسم الاشتراکية العلمية. عالم مختلف عما کان يحلم به.(2)

«فتشکلت الروح الکامنة في روايات صنع الله إبراهيم روح محاصرة رافضة مهزومة تعيش الإحباط واليأس والعجز والفشل، الفشل في التکيف مع هذا الواقع المهترئ حيث النفاق والوصولية.»(3)

سجن عدة مرّات لأسباب سياسية في الغالب وفي انتمائه إلی السياسة الاشتراکية قبض عليه في 1959م حتّي 1964م. وصنع السجن منه کاتباً کبيراً حرّاً وشهدنا بداية الکتابة الأدبية عنده في مدة اعتقاله حينما کشفت له العوالم المختلفة في ملازمته مع الفنّان والسياسي والصحفي. ولم يکن لديهم هناک سوی الکلام يملأون به أوقاتهم.

لصنع الله إبراهيم نتاجات أدبية رائعة من الروايات والترجمات وغيرها. وتعتبر «التلصّص» الرواية التاسعة لهذا الکاتب المبدع الکبير.

البنية الفنية في التلصّص   

  نستلهم الأحداث التاريخية من نص رواية التلصّص في إطار القضايا السياسية والاجتماعية خلال القرن العشرين. ويصوّر الکاتب مصر في عام 1948م، ويتحدّث في بنائه الروائي عن الماضي مناقشا القضايا المعاصرة في القاهرة. فيصير الزمن الماضي زمناً حاضراً عند القارئ معتمداً علی اشتراکه مع الشخصيات والأحداث في الواقع المعيش.

ويتلقي القارئ في الأغلب قراءة حوارية ووصفية من خلال الأساليب الفنية متفاعلا مع النص المقروء ومتکاملة معني النص الذي اشتغل عليه صنع الله إبراهيم في التلصّص.

لقد اختار الکاتب عنوان التلصّص لهذه الرواية ليتحدّد لنا ماهية روايته من العنوان، لأنّه يجب أن يكون: «دالاً علي محتوی الرواية، فإنّه عند القراءة، يدعو إلي إيحاء قدر من العلاقة بينه وبين المحتوی.»(4)

فربّما أراد الکاتب من خلال تلصّصه علی الماضي أن يتسلل إلی أحوال المجتمع المصري وأفعال الحکومة ويقترب بخفّة من الخطوط الحمراء معرّياً نفاق الناس. فيتابع برکن عينيه وعقله معالجة القضايا الشتي کالجهل والخرافة والتطرّف في الدين وحال المرأة وتخلفها في المجتمع. وترتبط الألفاظ الکثيرة في هذه الرواية بکلمة التلصّص بشکل أو بآخر، مثل «نختلس النظر داخل فيلا»، (5) أو «ألصق عينيّ بثقب المفتاح.»(6) أو «أضع أذني علی الثقب.» (7) وغيرها.

ففي هذا المسار تميزت روايته ببراءة الطفولة وصدقها ليجعل الطفل الراوي کلّ جسمه آذاناً وعيوناً، ويقفز المؤلف بين عالم الخيال والواقع المعيش مستفيداً من الحکي التخييلي ليسافر إلي الماضي وأيام الطفولة. 

ويعتمد الراوي علی الوصف في أسلوب سرده وله مکان متميز في التلصّص، لأنّها تبدأ بالصورة الاستهلالية حول وصف ملامح والد الطفل الراوي وتنعکس فيها نفسية الشخصية علي مستوی السيکولوجي. ويشتمل وصفه علی ذات تنظيم دقيق وتجسيد العالم الخارجي لأبطال الرواية بدقة. حيث «يتمهّل أبي في مدخل المنزل قبل أن نخطو إلي الحارّة. يرفع يده إلي فمه. يتحسّس طرفي شاربه الرمادي الملويين إلی الأعلی. يتأکّد من أن طربوشه مائل قليلاً ناحية اليسار. ينزع سيجارته السوداء المطفأة من رکن فمه.» (8)

فکأنّ الراوي يجعل بيد الطفل جهاز الکاميرا التي تلتقط الصور وترسلها إلی ذهن المتلقي. فندرک هذه الصور من الميادين والشوارع وعناوين الأفلام في السينماء کما نلتقط  الدکاکين والشقق وبيوت الأقرباء والأصدقاء وغير ذلک.

تعتبر طريقة الرواية مسير الکاتب للبلوغ إلی أهدافه ولايتمّ أي عمل إلا في زمان ومکان خاصّ لتصبح القصّة حية. فيبني «صنع الله إبراهيم» هذه الرواية علی أساس النوع التقليدي ويکون البناء فيها متلاحم الأجزاء في سرد الأحداث والشخصيات ومتناغم الموضوع والواقع. وزمن الرواية يستغرق عاماً کاملاً من خلال أربعة فصول ويرسم لنا الإطار العام للحياة المصرية في القاهرة عام 1948م. فربّما اختيار الکاتب هذه الحقبة يدلّ علی الأحداث الهامّة فيها مثل إعلان دولة إسرائيل، وقضية فلسطين، وبداية انهيار النظام الملکي المصري، واقتراب موعد الثورة 1952م. کما يؤکد هذا الراوي الملتزم في هذه الرواية الاحتلال الإنجليزي وما يتبعه من الکارثات والاستثمارات الأجنبية. ويتحدّث عن القضايا والأحداث في الأمکنة المحدّدة الثابتة کالحارّة والمدرسة والشقة، خاصة في شقة الطفل الراوي التي تغرق في الفقر والظلمة. ويتحرّک الأحداث والشخصيات في أحياء القاهرة التي يعيش الراوي فيها ويعرفها معرفة عميقة.

فيعتبر «صنع الله إبراهيم» أديباً شعبياً  فيستفيد من الشخصيات التي نلمس حضورها نشيطاً في المجتمع، کالطفل الراوي ووالده وأمّه الغائبة وأخته نبيله وزوجها وغير ذلک. فيشغل الکاتب عمله الإبداعي في التلصّص بمرکزية هذا الصبي البريء متلصّصاً علی الجميع ومسخّراً ذکائه، فيتنحّی الروائي نفسه جانباً «ليترک الشخصية حرية الحرکة والتعبير عن نفسها بنفسها، مستعملة ضمير المتکلم، فتکشف أبعادها أمام القارئ بصورة تدريجية، عبر أحاديثها وتصرّفاتها وأفعالها.» (9) فاستطاع الکاتب أن يطرح أفکاره ويستجيب أسئلتنا من خلال الحبکة المحکمة والمتراکمة والمتشابکة وإن نجد فيها نوعاً من التفکيک. فيرتّب هذا الروائي الأحداث ترتيباً فنياً قصصياً تجري في مکان واحد وفي خط مواز واحد.

فيبدأ الکاتب روايته بطريقة البدء من الوسط حيث يخرج الطفل الذي كان في التاسعة من عمره مع والده من المنزل إلی الحارّة وينقل لنا ممّايشاهد في طريقه ثم يعود إلی الوراء بأسلوب مناجاة النفس الداخلية حيث «يسعی الکاتب إلی النهاية إلی الحلّ تارکاً للبطل أن يتذکّر الماضي، فتتداعی بدايات القصة التي أوصلت إلی أزمته في أسلوب من أساليب العرض، کالنجاوی الداخلية حين يخلو البطل إلی نفسه.» (10) ويستفيد الکاتب من هذا الأسلوب مستحضراً الأمّ الغائبة بطريقة تيار الوعي. فيسترجع الطفل إلی أيامه مع الأمّ قبل الفراغ مستخدماً تداعي الأفکار حينما يصفها باللون الداکن المتمايز من ساير الحروف لترشد القارئ إلی أنّ هناك تحوّلاً في الزمن. (11) فيعود البطل الراوي إلی ذكريّاته، حيث يقول: «يرتفع المقعد إلی مستوی المائدة الكبيرة. أمّي تحيط بمريلة تربطها خلف رأسي. تضع أمامي طبق الشوربة.تعطيني ملعقتي الصغيرة. يجلسان حولي.» (12)

فيدرک القارئ علاقات عميقة بين أحداث الرواية ويوضّح الکاتب من خلالها کيف انتهت الأمور بها ويحللها کما يحکي قتل الممثلة المشهورة المصرية «أسمهان» ويشرح علة قتلها: يسأل الشيخ المعمم: ومين قتلها؟ يقول أبي: المخابرات الإنجليزية. کانت جاسوسة للألمان. فدبّرت قتلها الملکة «نازلي» أمّ الملک «فاروق». (13)

يختار «صنع الله إبراهيم» لغة أسلوبه السردي في هذه الرواية بالفصحي ولغة تحاوره بالعامية. فيأتي بلغته علی حسب المواقف التي يقتضي الکلام. فتقترب لغته من الأفهام وتنسجم مع الشخصيات. فهو يرعی فيها مقدّرات الثقافية والبيئية فمستوی لغته تکون سهلة وبسيطة، ولا ينفصم الحوار عن هيکل الرواية، حيث يروي الطفل الراوي: «نتوقف أمام الجزار. يشتري أبي رطلاً من الکلاوي وخصية خروف. يدفع حساب الشهر الماضي. سأله: أخبار أبوک إيه؟ يجيب بلهجة مستنکرة: قاعد مع العروسة. يبتسم أبي: هنيا له. يصح راجل کبير يعمل کده؟» (14)

ويستخدم الروائي لغته بالإيجاز وربّما تتکوّن من کلمة أو کلمتين ويترکز في حذف الفعل والفاعل أحياناً، فنجد المفعول به باقياً في النصّ فقط، مثل: «دکان الخردواتي.» (15) «حارة مظلمة.» (16) «صوت قدمين علی السلم.» (17)

 فربّما يعتقد بأنّ بلاغة الحذف أقوی من بلاغة الإطناب، ولو يطلب عند قارئ النص يقظة شديدة لمتابعة سلسلة الأفعال أو مرجع الضماير الموجودة في هذه الرواية. ولايأتي في الرواية حروف العطف أو الربط أو المعوّقات، کما نری جملاتها کانت خبرية قصيرة تخلو من الفاصلة أيضاً. «يشتري لي أبي کيساً من اللبّ. فيلمان. الأول قصير. ...الثاني «بلبل أفندي» لفريد الأطرش وصباح.» (18)

فيقدّم صنع الله إبراهيم روايته التلصّص، لتستوعب الرسالة والخبر الصحافي، والفيلم السينمائي، والمسرحية، والصورة الفوتوغرافية، والمذکرات، والدراسات لتکون نسيجاً سردياً فريداً من نوعه.

النتيجة

تعتبر هذه الرواية من مجهودات صنع الله إبراهيم، والتي نشرت في عام 2007م في دار المستقبل العربي. ويستخدم الكاتب فيها الأساليب الفنية والأدوات الملائمة بما يناسب موضوع روايته ويزيّن أسلوبه السردي بهذه التقنيات. ولم تكن شخصية الكاتب بارزة وملموسة في التلصّص بل يعتمد في سرده علی التحاور والوصف الدقيق وأجاد فيهما. فنعتبر هذا الكاتب المبدع من الذين يجدّدون في بناء الرواية العربية المعاصرة حينما يتمتّع من المستحدثات السينمائية وأساليب تيّار الوعي كالاسترجاع والتداعي الحرّ. ويستفيد من الجمل الفعلية القصيرة المقطعة لتلائم عنوان الرواية وإدراك حالة المتلصّص بها.

 

الهوامش:

1. البحراوي، لاتا:95.

2. عبدالغني، 1994م: 309.

3. الحسيني، 1997م: 185.

4. وادي، 1996م، 19.

5. إبراهيم، 2007م: 34.

6. المصدر نفسه:10.

7. المصدر نفسه: 14.

8. المصدر نفسه: 1.

9. نجم، لاتا: 98.

10. جمع من المؤلفين، 1999م: 367.

11. همفري، لاتا: 97.

12. إبراهيم، 2007م: 51.

13. المصدر نفسه: 74.

14. المصدر نفسه: 61.

15. المصدر نفسه: 2.

16. المصدر نفسه: 17.

17. المصدر نفسه: 46.

18. المصدر نفسه: 53.

 

المصادر و المراجع:

- إبراهيم، صنع الله. 2007م. رواية التلصّص. القاهرة: دارالمستقبل العربي.

- البحراوي، سيد. لاتا . الأنواع النثرية في الأدب العربي المعاصر. الملتقی الثقافي الحضرمي: www.hadramy.com      

- جمع من المؤلفين. 1999م. المفيد في الأدب العربي. الجزء الثاني.  ط1. بيروت: دارالعلم للملايين.

- الحسيني ، محمود. 1997م. تيّار الوعي في الرواية المصرية المعاصرة . لاط. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة.

 - عبد الغني، مصطفی. 1994م. الاتجاه القومي في الرواية. لاط. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

- نجم، محمد يوسف. لاتا. فنّ القصة. ط7. بيروت: دارالثقافة.

- وادي، طه. 1996م. الرواية السياسية. ط1. القاهرة: دار النشر للجامعات المصرية.

Zahra Paknahad (M.A)

Department of Arabic Literature’ Karaj Branch’ Islamic Azad University’ Karaj’ Iran.

Seyed Ebrahim Armen (PH.D)

Department of Arabic Literature’ Karaj Branch’ Islamic Azad University’ Karaj’ Iran.