القاصة المصرية تتأمل الحياة وتعدد وتباين المصائر فيها، ووقع مرور الزمن على شخصيات تواجه محنتها وحيدة. وتشتبك الراوية مع تلك الحيوات وتتداخل معها بدون أن تستسلم لأحكام مسبقة، وبدون أن تختصر ألوان طيفها في صفات محددة

قصص

سماح تمّام

رجل وسيارة

الساعةُ الواحدةُ والنصف فجراً. نسمةٌ باردةٌ جعلتها ترتجفُ. قامت لتغلقَ النافذة. رأتْ رجلاً يتحرك بصعوبة شديدة حول سيارةٍ واقفةٍ أسفل العمارة المواجهة لها ويمسح السيارة.

عندما دققتْ النظرَ تبينت أنه جارها الذي لا تكادُ تراهُ سوى خمسِ أو ستِ مراتٍ في العام. لم تردْ إحراجه، رجعت برأسها إلى الوراء قليلاً.

ينقلُ قدميه بصعوبة ويمسحُ سيارته، عيناها تلتهبان. الرجلُ تجاوز الستين، ولم ينجب. ما الذي جعل قلبَها يدقُّ بسرعة وما الذي جعل عينيها تلتهبان بدمعتين مالحتين رفضتا أن تطفرا؟

هل رأتْ نفسَها في الواحدة والنصف من فجر يوم ما وهي تنقل أقدامها بصعوبة شديدة ممسكة بقماشة وتدور بها بصعوبة أشد حول سيارتها؟

ربما!

 

أصابع ونغمات

حذرتها جدتُها من الاقتراب منه، ظلَّتْ لسنوات تنظرُ إليه بفضولٍ ممتزج بالرهبة، تريدُ أن ترفعَ غطاءَه لترى الشياطين الذي تسكنه. كانت تسمعُ جدتها تقول إن الأصواتَ المنبعثة منه ما هي إلا مزيج من ضحكاتهم وصرخات المقتربين منهم، ولكنها لا تعلم لماذا أصرَّ والدُها على الاحتفاظ به رغم توسلات جدتها وأمها.

اقتربتْ بحذرٍ ورفعتْ غطاءَ البيانو. بعد كل هذه السنوات واتتها الجرأةُ أن ترفعه وتضغط بإصبعها لتسمعَ صوتَ هديل اليمام وهو يناجي صديقته على سور الشرفة ولا يبالي بالمحيطين. يتلونُ وجهُها بحمرة الخجل فتنتقل بإصبعها لتغيير النغمة، فإذا بها تستمعُ لصوت إصبعه وهو يكتب وتسمع حفيفَ الأوراق التي يقلب صفحاتها.

يعلو صوتُ جدتها يهدد إما أنا أو وجوده في البيت. تلتفتُ وراءها خشية أن يراها أحد، فترى الفِراش. تضغط بإصبعها لتسمع صوت أنفاسه المنتظمة وتنصتُ إليه وهو نائم تنبعثُ من وجهه الملائكي أروع النغمات.

تسألُ نفسَها: أين هذه الشياطين يا جدتي؟ فأنا أشعرُ بنشوة تسري في جسدي كتلك التي أشعر بها الآن وأنا أنزل بيدي عليه فأسمع همس الكلمات في أذني. ثم تنصتُ فلا تسمع سوى صوت أمها المتوسلة إلى أبيها ألا يغضبها ويحقق لها رغبتها، فهي الأهم قطعاً من هذه الآلة الموسيقية التي أصبحت مجرد قطعة ديكور.

تشعرُ بسعادةٍ للحوار الدائر الذي يعطيها لحظات من حرية العربدة بأناملها فوقه قبل أن ينتبه الآخرون. هناك أصابعُ بيضاء وسوداء تضغط عليها يدُها تباعاً، فتسمعُ أصوات جلجلة وصخب وفرحة تغمر البيت، وترى نفسها وقد انزوتْ في الركن ويغمرها إحساسٌ بأنها باتتْ كائناً من الدرجة العاشرة.

وبحركةٍ خاطفةٍ تمرُّ سريعاً ذهاباً وإياباً، فتأتي عديد من الأصوات المتداخلة. الناهرُ الغاضبُ جعلها تجفلُ والحزينُ أبكاها والمضحك أضحكها.

يتعالى صوتُ جدتها من بعيد: ستؤلمك أصابعُك. تلتفتُ قائلةً:

- أجل إنها تؤلمني ولكن من كثرة ما ضغطت بها على قلبي، تؤلمني لأنني دون أن أدري مسحتُ بها وجهي وكان الدمعُ أكثرَ ملوحة من المعتاد فأدركتُ أنها دموع قهر.

تدخلُ جدتها فجأةً، وتراها وكأن بها مساً من الشيطان، تصرخُ:

- ألمْ أحذركِ؟ لماذا كشفتِ الغطاءَ عن هذا اللعين؟ يا إلهي تبكين وتضحكين في آن واحد؟

ومن وراء دموعها التي اختلطت ملوحتُها فلم تعد تدري من أي نوع هي، تجيبُ:

- يا جدتي.. الشيطانُ كان يسكنُ أصابعي وعندما تركتها تتحرك على سجيتها أطلقت له العنان، وحتى وإن أغلقت الغطاء فلن أستطيعَ أن أغلقَ مسامَ جسدي التي تسكنها دائماً وأبداً شياطينُ الهوى والحلم.

 

ثلاث سيدات

قال لها المُشرفُ على رسالتها: اذهبي إلى هذه المصحة النفسية فقد تجدي بها من الحالات ما يُساعدكِ في إعداد بحثك. ذهبتْ الباحثةُ الشابة، واختارتْ ثلاثَ حالاتٍ على أمل أن يكون في حديثهن شئ من التعقل.

طرقت الباب بحذر، وانبعث صوتٌ من الداخل يأذن لها، فولجت إلى الحجرة وجلست تنصتُ إلى محدثتها وهي تقصُّ حكايتها:

- دائي الوحيد هو سنواتُ عمري، فهي تعاندني. كنتُ أسيرُ وراء اليقين ووراء الخرافة بالثقة نفسِها. وعندما أخبروني أن هناك سيدةً تجعلُ النساء حوامل عندما ينظرن إلى عينيها، ذهبتُ ونسيتُ أنه لم يكن بي داء لكي أذهب لها.

لم يكن عندي اختيار أو حرية اتخاذ قرار، وعندما رحل جنيني قلت لأمي: اذهبي لنساءِ القرية وأبلغيهم أنني عدتُ خاليةَ الوفاض. ومع كل يوم يرحلُ أتذكرُ رحمي الخالي وأجدُ بداخلي طاقةَ حقدٍ أودُّ معها أن أنزعَ أفواهَ الأطفال من أثداءِ أمهاتهم، وأشعرُ أن كل نساء الأرض لسن جديرات بأطفالهن وأنني وحدي الأحق.

لم أكن أدري على من أصبُّ غضبي، ولم أجرؤ أن أبوح بما داخلي لأحد، فلم أجد سوى التحدث مع نفسي. كنت أُجيد التحدُّثَ معها، فظنوا أن بي مساً من الجنون وأتوا بي إلى هنا. كنتُ أحياناً أصرخ ويشقُّ صراخي الفضاءَ ليصلَ إلى القمر لعله يتنازل ويرد لي طفلي الذي توهمتُه جالساً فيه.

تركتْها السيدةُ وذهبت إلى النافذة تتطلع إلى السماء وتهمهمُ بكلماتٍ غير مفهومة، فانصرفت الفتاةُ إلى الحالة الثانية، وجلست تنصتُ لصاحبتها:

- كنتُ دائماً أحذِّر ابنتي من النار، وكان التحذير يُذكرني بعلبة الثقاب التي حرصتُ دوماً أن أنقلها معي من حياةٍ إلى حياة. كان والدي يُخبرني أن النار مثل الأيام لا يمكن الاطمئنان لها أو الوثوق بها.

كنتُ أحملُ نفساً ثائرة وكانتْ الثقابُ قريبةً مني أشعلُها وقتما أشاء. كم حذروني من النار، ولكنني كنتُ أصمُّ أذني وأسيرُ معصوبةَ العينين إلى العود أُشعلُه وتشتعلُ معه قطعةٌ مني.

انظري.. العلبةُ ليست فارغةً تماماً. كلُّ الأعواد بها ولكنها لم تعدْ صالحةً، فما سبق اشتعاله لن يشتعلَ ثانيةً ولن يخلفَ وراءَه سوى رمادٍ مثل رماد الذكرياتِ والندوبِ التي بقيتْ في قلبي وفي روحي بعد كل عود أشعلته.

يا ابنتي.. قتلني الانتظارُ وجعلني أُشعلُ في كل يومٍ من ألمي ووحدتي وشوقي عودَ ثقاب.

أتمتْ حديثَها وأشاحتْ بوجهها عن الفتاة وذهبتْ تفتحُ حقيبتها وتُخرجُ منها مجموعةً من أعواد الثقاب، تتحدث معها وتناجيها مناجاةَ الحبيب.

طرقتْ باب المرأة الثالثة، فوجدتها تتأمل قلَّامةَ أظافر وضعتْها أمامها، ودون أن تسألها بادرتها السيدةُ بالحديث:

- أنا بإرادتي قلَّمتُ أظافري، كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة للاحتفاظ بمن أحبُّ. كنتُ كالفرس الجامح، وعندما كدتُ أن أفقدَه اشتريتُها، وأصبحتُ كلما سمعتُ حفيفَ أقدام الفرس يقتربُ، أُمسكُ بها لأنزعَ بعض الأظافر التي قد يفقدني وجودها إياه. ويوماً بعد يوم، صرتُ مثل هرة تآكلت مخالبُها فلم تعدْ تجد ما تدافعُ به عن نفسها.

لم أكنْ أريدُ سوى ما يريده هو، ولم أكنْ أعرفُ أنني عندما أصبحُ مُقلَّمةَ الأظافر هكذا سوف أفقدُ أيضاً جنوني واندفاعي في حبه، فالفرس لم يكن جامحاً في غضبه فقط ولكنه في حبه كان أشد جموحاً.

لم أعد أعرفُ أيهما أُصدِّق وأيهما أريد: مَنْ كنتُ أم مَنْ أصبحتُ.

توقفتْ المرأةُ عن الحديث ونظرتْ إلى الفتاةِ نظرةً فاحصةً ثم قالتْ: هل تستطيعين أن تُعيدي أظافري هذه إلى أصابعي مرةً أخرى لأعودَ كما كنتُ؟ انصرفتْ الفتاةُ تاركةً خلفها امرأةً تحاولُ دون جدوى أن تعيدَ أظافرها، ومع كلِّ محاولةٍ فاشلةٍ تُلقي باللوم والغضب على قَلَّامة الأظافر.

... ... ...

أنهتْ الباحثةُ الشابةُ مهمتها، وفي طريق العودة شردتْ وراحتْ تسألُ نفسها: أي قدر قاد هؤلاء السيدات الثلاث إلى ذلك المكان وأبقانا نحنُ خارجه؟

مزَّقت أوراقَها وابتسمتْ ساخرةً وأخرجتْ من حقيبتها أعوادَ ثقاب.. بعضها سبق اشتعاله.