تكتب القاصة المغربية رؤيا أن تكون في بئر. وتبصر أحوالها داخله والكيفية التي صارت عليها حياتها قبل البئر وبعده. وتتماهى رؤياها مع قصة يوسف وأخوته وان ظلت نهاية حكايتها مشرعة على نهايات متعددة.

البــــئر

زوليخا موساوي الأخضري

يقف على حافة الكأس. نعم. أفهم اعتراضكم. يده هي التي تمسك بالكأس. يعي ذلك من خلال البرودة التي تتسرب إلى مسامه كخدر لذيذ، لكن يشعر كأنه واقف على حافة الكأس ينظر إلى ما بداخله كأنه ينظر في بئر عميقة.

هكذا تحول كل شيء إلى فاجعة اسمها البئر.

البئر: منظر جميل من الخضرة و الأزهار الريانة في مختلف الأشكال و الألوان. حديقة غناء تشبه الجنة. لماذا لا يكون ذلك إلا في كتب المقرر الدراسي؟

يغمض عينيه.تتداخل الصور. يقلب الصفحة. الحفّار الأصفر، السقوط، المطر، الصرخة، الظلام، الألم، البياض...

هل انتهى كل شيء؟ تقريبا.

هل ابتدأ كل شيء و لا شيء؟ تقريبا.

في الحلم كان يحلم. نزل من القطار كي يدخن سيجارة. لكن الفيلم قد بدأ. جذبته الصور على الشاشة  وكعادته نسي كل شيء. رحل القطار و بداخله كل أغراضه.

بئر الطفولة في منزل جده. الطين. صلصال أصفر. رحلة مضنية للبحث عن الماء. الحفارون يقلبون شفاههم الوردية و يبسطون أكفهم الوردية علامة على قلة الحيلة. يهزون أكتافهم و يجلسون بتثاقل تحت الظل الشحيح للرمانة العجوز.

الحفار ذو الأكف الوردية جاء من الصحراء- أصبح بلون الصلصال. يمسح عرقه الأصفر بكمه الأصفر.

أدندن بلحن قديم هجم عليّ اللحظة مرفوقا بحنين طاغ لحجر أمي.

و كأنني أسمع صوتي في بئر. كانت أمي تقول وهي تحكي حلمها لجارتنا. صوتي عميق وغامق. هل أحلم أم أني فعلا  في بئر؟

طعم الصلصال في فمي، رائحة الرطوبة في أنفي،العتمة  تملأ عيني، ألم  فظيع في ساقي وأطرافي متيبسة من البرد، كل هذا يدل على أني في بئر.

أنا في البئر إذن أنا لا أحلم. أنا موجود.

هل سيعثر عليّ أحدهم؟ لماذا لا يسمعون صراخي؟ أريد أن أخرج من هذه العتمة. أخرج إلى الهواء الطلق. رغم أن للبئر فتحة مشرعة على السماء، أرى ومضات  البرق تخترقها حين أرفع رأسي التي تؤلمني، فالظلام هنا موحش. ذلك الظلام الذي يسكن مع الخفافيش الأماكن المغلقة على أسرارها. والبئر أسرار. ألا يقولون سرك في بئر؟

هل سأتحول إلى سرّ مدفون في هذه البئر؟

ضحكة الحفار الصحراوي الأصفر. تظهر أسنانه البيضاء اللامعة في وسط صفرته. يحرك رأسه يمينا و يسارا:

يا سيدتي، الكنز الذي إن كنا محظوظين و عثرنا عليه هنا هو الماء و لا شيء غيره.

جدتي التي كانت دائما تؤمن أن أحدهم خبأ في البئر كنزا، تزعج الحفار بأسئلتها التي لا تنتهي.

هل تحولت إلى صحراوي أصفر، أبحث عن الكنز من أجل جدتي  و غالبني النوم فنمت؟

إيه! جدتي! قولي لهم أن يرموني بالحبال. أجل أجل سألفها على وسطي بقوة. لا تخافي قولي لهم ذلك فقط.

ربما نسوا أنهم أنزلوني هنا. أسمع أصواتا هناك في الأعلى و صخبا.

الأصوات كأنها تدور حول البئر. لا أميز كل ما يقولون:

إنه هنا!

ابحث عن الحبل يا صاحبي!

اللعنة أنه فيضان!

و ليلة هذي!

الله! الله! الله!

مسكين!!!

تتشبث بي كلمة مسكين، تنفذ إلى أعماقي كنصل حاد.أشعر بالنزيف هناك في عمق الخاصرة، قرب الكلية أو أبعد قليلا.

هويتي الجديدة: مسكين... و بئر.

كل الناس يعيشون حياة واحدة و أنا أعيش حياتين. ما قبل  و ما بعد البئر. كأن سيافا هوى بمقصلته على الخيط الرفيع الفاصل بينهما و شرخهما نصفين. كل واحد ذهب في اتجاه. أنا ما قبل البئر أشبه ولا أشبه أنا ما بعد البئر.

كنت أنا فقط محاطا ببعض الشهادات: شهادة الميلاد، شهادة السكنى، شهادة مدرسية، أشهد أن لا إله إلا الله... فأصبحت أنا محاطا بكل هذا زائد شهادة مسكين و قصة البئر.

أما يوسف فلم يعرفني أو لم يتعرف إليّ. وجدته هناك يتسلى بكواكبه الأحد عشر. إخوته منشغلون عنه في حبك دسائس أخرى.

لا كواكب تسجد لي. الأمطار تغمرني إلى مستوى السرة. لم أعد قادرا على تحريك أطرافي السفلية.

الأصوات تدور و تدور حول البئر. أين إخوتي؟ لماذا يهملونني؟ ألا دسائس لديهم غير البئر الذي رموني فيها؟

سقط في البئر!