بعد انطواء عام على ثورة الياسمين، ينكب الكاتب على الحوار مع الشهداء، يعرض للقارئ وصلة تاريخية مسحت مسار تونس لشهور مضت، ويفضح تلاعب بعض التيارات السياسية على لجم القوة الثورية في دوامة المصالح الضيقة، واغتنام المرحلة عبر العراك على دستور يصاغ كيفما اتفق.

ليس ثمة جديد نخبركم به أيها الشهداء

عبدالوهّاب الملوّح

سنة مضت منذ اندلعت شرارة أول ثورة شعبية في القرن الواحد والعشرين يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010؛ لما خرج الشعب التونسي ينتفض ويتمرد على كل من قمع فيه روح الكينونة الكريمة يعلن العصيان ويبتكر له وجوداً آخر مغايراً يليق به كإنسان عابر للحضارات ليؤكد إنه قيمة حضارية تستحق التقدير والعيش الكريم، فاجتاحت البلاد ثورة لم تستنسخ أي جينة من جينات الثورات السابقة، وليس لها أي مواصفات قبلية، لم تأت ترجمة لأي ايديولوجيا ولم يصنعها أي حزب كما لم يخطط لها أحد.

منذ انطلاقتها تشكلتْ فعلاً شعبياً عفوياً تدفق يحتل الحارات والشوارع والوقت المر الذي قيدوه به فطبع التاريخ بحقوقه المحفوظة كأول ثورة شارعيّة خرجت غاضبة سلمياً هزت أركان البلاد أفقياً وعمودياً، وكان أن خلعت رئيساً استبدَّ وحاشيته بالحكم لأكثر من ربع قرن وكان أن أجّجت ثورات مماثلة لها في العالم؛ نحَّت فرعوناً وجرته للحساب وأعدمت زعيماً كاريزمياً وعزلت كمبردوراً ماكراً؛ غيَّرت أجندات سياسية دولية؛ أطاحت بحكومات وفككت كارتيلات عالمية، فانهارت بورصات وتراجعت قوى لتفلس دولاً عريقة ويتغير شكل النظام السياسي العالمي، وكان لابدَّ من إعادة النظر في التقويم الزمني؟!!

كان لا بد من ابتكار عبارة واحدة؛ جملة اسمية بسيطة تنادى بها الجميع وأصبحت شعاراً دولياً بختم تونسي "الشعب يريد إسقاط النظام"

هل كانت 17كانون الأول/ ديسمبر 2010 بداية أخرى للتقويم الزمني؟ وهل مضت فعلاً سنة واللحظة مازالت بين مدّ وجزر بين الحلم والواقع؛ بين الشعوب وسلطاتها بين المواطنين والحكام المدججين بشتى أنواع الخبث.. لحظة عاصفة أقوى من طوفان نوح أشد خطراً من الحروب العالمية هي إرادة الناس لما تضيق بهم الدنيا وهم يتطلعون للحياة البسيطة الكريمة؛ تسونامي من المتغيرات والانقلابات والقفز في المجهول؛ قتلة وقتلى مسلحون وجرحى؛ مخبرون ومغيبون في السجون؛ مسلخ عمومي مفتوح للجميع؛ يستبد الذعر بالروح وإذا بالوضع أفظع من سنوات الجمر الاستعماري؛ هي لحظة متفلتة كآخر فرصة للبقاء وسوف تتعدد أشكال الرفض والتعبير عن إرادة البقاء الكريم: التظاهرات اليومية والبيان تلو البيان والإضرابات العامة واكتساح الشوارع واعتصامات في كل مكان تَطال حتى مقرات الحكومة؛ القصبة 1 والقصبة 2 والقصبة 3 وحكومة أولى وثانية وثالثة وانفلات أمني وانفلات قضائي وميليشيات مسلحة تأتي على الأخضر واليابس؛ ثورة مضادة تشتغل بقوة ليس لاستعادة ما فات وإنما لمعاقبة الذين خرجوا عن القطيع يطالبون بحريتهم وكرامتهم ونكاية بهم سوف يكثر التخريب والحرق وتعطيل الشؤون اليومية كما سيكثر القتل العشوائي ولن تجد الحكومات المؤقتة غير حظر التجول وإعلان البلاد حالة طوارىء دائمة والتونسي عين هنا وعين هناك، رأس هنا وآخر هناك لا يكف عن تسيير شؤون حياته، يخرج ليوفر رزقه ولا يكف عن مراقبة ما يحدث بينما يتم في الكواليس إعداد المطبخ السياسي لتشكيل مشهد سريالي باعتماد تقنية الحذف والالغاء والإخفاء والترميز وإعادة التركيب دون نسيان التصفيف والتصفيق ليكتمل في الأخير مشهد بلون واحد لا مكان فيه لرجل الشارع الذي خرج ويخرج دائماً ثورياً على عقلية المكيافيلي الذي سيظهر في تحليلات السياسي الماكر وحسابات السياسي التاجر بالجملة والتاجر بالتفصيل وهذيانات السياسي الغبي وتخريجات السياسي البراغماتي ووقاحة السياسي قليل الحياء.

وبين كل هؤلاء هناك من يعمل في صمت بوصية الشهداء.

كيف أنتم أيها الشهداء هناك؟ إنهم يزايدون بكم علينا هنا!

لقد اعتبروا الأمر منتهياً وكلهم يتحدثون عن ما بعد الثورة، فالإعلام منذ اليوم التالي لهروب بن علي أصبح يتحدث عن ما بعد الثورة بما يعني أن كل شيء انتهى وأن البلاد بخير الآن... هكذا يتعامل الإعلام التونسي مع الثورة ليس إيمانا باستكمال مهام الثورة أو استيعاباً لمراحلها وبالتالي احتفاء بنتائجها وإنما هي عبارة مدسوسة، الغاية منها النيل من نبل هذه الثورة التونسية وتشويهها بتحويلها لمجرد مطالب اجتماعية وسياسية عابرة يتم تنفيذها تدريجياً، في حين أنها إعلان عن استقلالية من كل تبعية واستعادة لحق وجود ضائع، وهذا الاستقلال إن كانت له نقطة بداية فليس له نقطة نهاية ولا يمكن أن يكتمل وليس هناك ثورة تنتهي إنها ديمومة مستمرة لا حاجز زمني لها وهي عراك يومي مع الواقع المتغير هذا الواقع الذي مازال يجذب إلى الخلف بكل الوسائل وللأسف تسانده القوى التي كانت في وقت ما معارضة وضد نظام بن علي.

هي سنة مضت فعلاً.. وأنجزت تونس رغم كل شيء انتخابات حقيقية بفضل هيئة مستقلة تستحق كل التقدير رغم أخطائها القاتلة، غير أنه من المهم معرفة هل إن الذين قاموا بالثورة هم أنفسهم من انتخبوا؟

هو سؤال لا بد من التوقف عنده بشراسة ولابد من البحث عن جواب طالما أن ما سيحدث تحت قبة المجلس التأسيسي هو ما سيقرر مصير تونس، وما يحدث فعلاً يشير إلى انقلاب على إرادة الناس الذين خرجوا منذ سنة وطردوا بن علي وطالبوا بمحاسبة رموز الفساد، هم الحراس الليليون للمقابر خرجوا الآن بهراواتهم ليحرسوا النهار ويعلنوا وصايتهم على العباد والبلاد والله ويستولوا على الهواء الحر.

حين خرج الناس في ديسمبر من السنة الماضية يكتسحون الشوارع كانوا يواجهون الرصاص والبوليس والموت من أجل حرياتهم وكرامتهم من أجل تنفس هواء نقي خال من التلوث السياسي واستعادة للإنسان فيهم ،غير أن ما يحدث الآن هو شكل جديد من أشكال الاستبداد دونما امتلاك لفنون إدارة شؤون الناس... لعله من الأكيد أن يتفهم المرء طبيعة المرحلة وأهمية إدراك تحولاتها والتغييرات الحاصلة، فكل ثورة لا يمكن أن تجني ثمارها في سنة أو سنتين بل لأكثر من عقود. لقد تطلب الأمر ما يقارب القرن لتستقر الأوضاع شيئاً ما في فرنسا بعد ثورة 1798، أما الثورة البلشفية فلم تدم أكثر من 80 سنة، والثورة الايرانية مازالت في تجاربها الأولى والكثير من المخاطر تتهددها، فإذا كان هذا هو حال الثورات الكبرى في تاريخ العالم، فكيف سيكون الحال بالنسبة لثورة تونس؟

الكل متسرع لإنهاء الأمر والمجلس التأسيسي في عجلة من أمره يريد دستوراً مهما كان الثمن وبأي شكل من الأشكال. والحال أن الناس تريد حياة كريمة فقط دونما مكر سياسي، فالتونسي اليوم لن يستسلم لأي نظام يعتمد التسلط والقهر، وهو ما يحدث الآن أمام مبنى المجلس التأسيسي من جديد لذلك ليث ثمة جديد نخبركم به أيها الشهداء سوى أن دماءكم مازالت تسيل فينا...

 

شتاء قفصة