في هذا العدد تعود مجلة "الكلمة" لعام 1923، وتحديداً لمجلة "الكرمة" الصادرة في ريو دي جانيرو، لتقتبس منها خطاباً لمحررتها النسوية سلوى سلامة، التي طوى النسيان والاجحاف ذكرها ومعرفتها في بلدها الأم سوريا.

الجامعة

سلوى سلامة

إعداد وتقديم أثير محمد علي

 

مقدمة
تعتبر سلوى سلامة، المولودة في مدينة حمص، من أهم الشخصيات النسوية السورية التي جاءت بعد "جيل مريانا النقاش" الحلبية، فهي تنتمي للجيل النسائي العربي الشاب، الذي نشط في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهو الجيل الذي تبلورت على يده الأفكار النسوية الكونية، ومن بين ناشطات تلك المرحلة نذكر: لبيبة هاشم، استير مويال، الدكتورة أنسطاس بركات، أسما سيور، مريم زكا، جوليا طعمة، ماري عجمي، وعفيفة كرم، وملك حفني ناصف من بين أخريات.

عملت سلوى سلامة في الحقل الثقافي والإعلامي، فشاركت منذ سنوات شبابها الأول كعضوة عاملة في هيئة تحرير مجلة "الحسناء" البيروتية، لصاحبها جرجي نقولا باز، وذلك منذ عام 1909، فحبرّت للمجلة مقالاتها الأدبية والنسوية، ونشرت فيها خطبها وقصائدها التي ألقتها في الحفلات والجمعيات الأدبية والخيرية المختلفة.

ولها قصيدة مشهورة بعنوان "فتاة الشرق"، جاء في مطلعها:

حملوها من الهموم ثقالاً* * *ودعوها في وهدةٍ من قتامِ

حرموها من الرقي مثالاً* * *منعوها عن خطوةٍ للأمامِ

تركوها تشكو هواناً وتعساً* * *في حشاها نار ذكت باضطرامِ

تذرف الدمعة انكساراً ويأساً* * *وتنادي على الحياة سلامي

 إلى أن تقول:

فهموها كنه الحياة لتدري* * *ما عليها من واجبات عظام

ساعدوها في نشر قول وفكر* * *سلّحوها بالعلم والاحتشام

خلوها كرامة واعتباراً* * * عاملوها برقة وابتسام

هي يا قوم تحسب الجهل عاراً* * *وترجي في المجد أبهى مقام

وفي عام 1911 شاركت في سجال شعري، فردّت بقصيدة عنوانها "من الوفي؟" على قصيدة شبلي الملاط المرتجلة كرد على قصيدة "النسيم العاشق" لالياس فياض، وذلك حين ألقاها هذا الأخير في حفلة جمعية "شمس البر" الخيرية. ورأت الشاعرة أن في قرن الملاط الخيانة ونكران الجميل بـ"الجنس الرقيق"، اجحافاً بحق المرأة، فخاطبته وهي تسرد شعراً قصة فتاة واعدت الحبيب المهاجر بالانتظار، وبقيت على العهد وفية، وحينما حان اللقاء، جاء الفتاة خبر زواج الشاب المنتظر، فانكفأت على نفسها، وهي التي أغضبت عائلتها بعدم قبول العرسان، وتقديم الحجج إلى أن مرّ الزمان. فجاء في مطلع قصيدتها:

أيها الشاعر المجيد المفاخر* * * بوفاءٍ "قد قل عند الحسان"

قد ظلمت الجنس الرقيق الشعائر* * *من يصون العهود في كل آن

ومدحت الجنس القوي غير ذاكر* * *نكث عهد الشبان في ذا الزمان

دونكم ذي حكاية فليناظر* * *من يشاء الجدال وليتبصر

لاحقاً تزوجت سلوى سلامة بالكاتب جورج ميخائيل أطلس، ورافقته إلى رحلة المهجر البرازيلية. وفي بلاد الغربة لم تنخرط في العمل في جريدة "الزهراوي"، أو في مجلة "الاتحاد العربي" اللتين أسسهما زوجها، بل فضلت أن تنفرد بمجلتها الخاصة "الكرمة"، والتي رأت النور عام 1914 في ريو دي جانيرو، وبقيت تصدر حتى عام 1925 على الأرجح، وهي مجلة وصفتها رئيسة تحريرها بـ"علمية تاريخية أدبية فكاهية انتقادية"، ومن بين الصفات السابقة لابد من التوضيح أن نعت المجلة بالـ"فكاهية" يقصد به في لغة تلك المرحلة ما يعرف بلغتنا المعاصرة بـ"سردية" أو "قصصية" أو "روائية" أو مسرحية"، أي أن المجلة وجهت عنايتها لنشر الأعمال السردية والمسرحية، وهي عادة درجت عليها العديد من المجلات الثقافية حينئذ، وذلك بنشر الأعمال الإبداعية كاملة أو على حلقات.

من المؤسف أن ذكرى ابنت حمص العدّية، عاصمة الثورة السورية، سلوى سلامة قد طواها النسيان، فلم تسجل لها الذاكرة السياسية البطرياركية المهيمنة أي سطر يشير لها في سيرة الحداثة السورية، فتركت لغبشة غبار الإهمال والنسيان في الأرشيفات العتيقة.

واليوم ومع تفتح الأمل على أفق الحرية، ومواجهة الذات في ربيع الثورات العربية، تبرز الحاجة لتفكيك الخطاب الذكوري والسرديات الكبرى، التي عنيت بالتأريخ لسلسلة ذكرية، عملت الطغم الحاكمة على تدريسها وتلقينها لأجيال وأجيال، بمعنى أنه حين يشار ببيان الإخلاص لتاريخ امرأة حمصية منسية، أعلت الصوت في خطابها عام 1923 ضد الاستعمار، فإننا نقوم بأول الخطو للانزياح عن السرديات الرسمية الكبرى، بترك فسحة من هواء ونور كي نعيد البهاء لتلك المرأة الجميلة وتاريخها المقاوم، فتعيش معنا زمناً نراكم فيه التاريخ آن ننظفه من غبار الهيمنة والرقابة والنسخ وأنفاس الذكورية.

ألقت سلوى سلامة خطابها "الجامعة"، مكثفة عبر عنوانه ضاحي معالم هوية وطنية، وقصدت به "الرابط" الذي يجمع أهل "المتحد السوري". فوقفت وراء منبر نادي "الاتحاد السوري" في إحدى حفلات مقره في ريو دي جانيرو، لتلقي كلمتها المفارقة للجامعة الدينية، والمقاربة لـ"سورية" تبرز كعقد وطني مكون لبلدها الأم سوريا.

وها نحن نترك لقارئ "الكلمة" مع مطلع العام الجديد، خطاب امرأة جديدة قارع الاستعمار البارحة، وكأنه يقارع الطغيان الحاكم في راهن الآن.

 

الجامعة
أيها المحفل الموقر:
للمرة الثانية أحصل على شرف الوقوف في لفيفكم الكريم في زيارتي هذه عاصمة الاتحاد.
على أنني في المرة الأولى سحتُ بين الأكواخ وجبت القصور وسرت في ضوضاء المدينة وتنقلت إلى هدوء القفار مفتشة على البنيان الحقيقي وساعية وراء السعادة. وقد سمعت أصوات الجلبة خارجة من المجتمع الإنساني المتضعضع الأركان ورأيت الدمعة جارية على خدِ الفرد البائس ولم أفقه ما وراء ستر مكنونات الكون بعين البصر المجردة. فتركت ما كان وخلوت إلى نفسي ساعة قبل أن آتي الليلة إلى هذا المقام الزاهر لأفتش عن ضالة هي منشودة الأدهار ووجهة المخلوقات.

أجل أيها السادة: جلست إلى مقعدي وانزويت في تأملاتي. رأيت بعين الفكر صور الأمم ممثلة على مسارح الأجيال حوادث الأولين، وسمعت أصوات الشكوى خارجة من قبور الراحلين. رأيت العروش متهدمة والتيجان متدحرجة والأبطال راجعة إلى الوراء. ورأيت الشعوب مستعبدة يخفض رأسها نير الإذلال.

رأيت المخلوق البائس ناحباً والفقير منقطعاً ورأيت ورأيت وما أدراكم ما رأيت؟

وأنى لي أن أصف لكم هول ما رأيت.

رأيت أبناء الأم الواحدة ورضيعي الثدي الواحد متفرقين متبددين على بعضهم حاقدين وفيما بينهم متخاصمين. ورأيت بنيان الشعوب متداعي الأركان وابن الإنسان يسعى إلى خراب ابن الإنسان. ورأيت المطامع والغايات وحب الذات كلها غيوم كثيفة تغطي أفق المجتمع البشري. فنظرت إليها بعين البصيرة والروح نظر الآسفة الحزينة وصمتُّ صمتاً طويلاً أمام تلك المشاهد ثم أغمضت عينيَّ عنها وعدت إلى رشدي لأرى ماهية الحقيقة المخفاة عن عين البشر والتي هي سر السعادة والبنيان.

لا الغنى ولا الحوانيت ولا العظمة ولا الجاه، لا القوة ولا المجد، لا الحسب ولا النسب، لا العلم ولا الفصاحة، كل تلك المواهب أو الأمجاد أو الكنوز لا تكفل في العالم حفظ نظام الكون فساعدوني بربكم لحلّ هذا المعمى وأرشدوني إلى ما يديم العالم ويصونه من الخراب.

وبينما أنا على تلك الحالة من مرارة الروح وألم النفس، سمعت صوت الساعة يصيح الثامنة فذكرت أن لدي في هذه الليلة أمنية بالاجتماع بمن أحترم وأود من كرام وكريمات الجالية، وبذكرى تلك الأمنية فطنت أن السهرة حافلة بأفراد يجتمعون تحت لواء الجامعة السورية، وسرعان ما تبددت غيوم صدري الكثيفة وانتعشت روحي إذ رأيت بصيص الأمل بإيجاد ما أنا ساعية إليه.

بلى. يا سادتي أتيت لأتشرف بتحية الجامعة السورية. الجامعة التي أرى فيها الدواء الماحي ويلات الإنسانية والتي هي الجناح الظليل ينضوي تحت لوائها أفراد البشرية التعبة.

الجامعة التي أعني هي اتحاد الأفراد وتفاهمهم، هي الوقوف كتفاً إلى كتف وساعداً إلى ساعد وانضمام ذراع إلى ذراع واتحاد قلب إلى قلب.

الجامعة التي أعني هي جمع ما تفرق من كلمة الأمة، وإدغام الرأي الواحد بالآخر، فإن احتاج العالم إلى جامعة، فالسوري الذي هو بمفرده يفضل السوري بمجموعه يحتاج إلى جامعة تضمّ شتاته وترفع شأنه وتوجد التفاهم بين أفراده.

نعم يا سادة باجتماع الكلمة يرفع الذل عن الشعب المستعبد وترتقي الأمم الواهية الضعيفة. باجتماع الكلمة تحقن الدماء الأبرياء ولا تدك أسس العروش ولا تتدحرج التيجان بل باجتماع الكلمة وبوجود جامعة كأم رؤوم تسعى لانضمام الأفراد، وللتسوية بين بني العادات الواحدة والجنس الواحد وتقطع ألسنة الخصام في العالم وتوجد البنيان الحقيقي والسعادة الحقيقية.

نعم. نحتاج إلى جامعة في كلمتنا وعملنا، إلى جامعة في مبادئنا وآرائنا، إلى جامعة في موطننا وغربتنا.. نحتاج سادتي، ولو كان عندنا جامعة قومية منذ سنين لما احتل بلادنا السوى، ولما استبدّ الأجنبي بنا، ولما ذاق شهداؤنا المرّ في حتفهم على الخشبة.

ولو كان عندنا جامعة لما تفرقنا، ولما ضاقت بلادنا الواسعة بنا، وما كنا لجأنا إلى المهاجر، وتركنا أمنا سوريا تبكي، ولا تريد أن تتعزى لأن بنيها ليسوا بموجودين.

نحتاج إلى جامعة قومية وطنية عائلية عمرانية.

عندنا من الحنان والرقة ما نسود به على الآخرين وقد برهنا على ذلك بوفرة جمعياتنا الخيرية، واهتمامنا بالبائس من بني الإنسانية جمعاء في أوقات مختلفة، وعندنا من الإرادة ما به نتغلب على المصائب ووعورات الحياة، فقط ينقصنا أن نكون في مجموعنا مؤتلفين، ولأعمالنا رابطة قومية نظهر أمام الأجنبي مظهر الجسم الواحد واليد الواحدة والشكل الواحد.

وها الجامعة السورية اليوم ظهرت بهذا المظهر الجميل وقد عرف بها الأجنبي جامعة "الاتحاد العربي" في عاصمة البرازيل، ولجأ إليها كممثلة لأمة محسانة رقيقة العواطف، وها الليلة تفخر الجامعة بمناصريها ومنشطيها، وتبرهن للبرازيليين أن الكفّ السورية ما تعوَّدت القبض، وأن القلب السوري ما تعود الإغضاء عن شعورنا وأنّا:

وأنّا أناس لا توسط بيننا* * *لنا الصدر دون العالمين أو القبر

فما أجمل الجامعة في العالم، وأجمل منها أن تكون الجامعة سورية، وأكثر جمالاً من كل هذا أن تكون الجامعة في أرض تفرَّق فيها أبناء الأم الواحدة، فتعود بهم إلى لوائها وتجمعهم تحت ظلهِ، فتكون بذلك كواحة في صحراء يأوي إليها كل متعطش ظمآن.

فعلى رسلك أيتها الجامعة الجليلة. على رسلك يا من تؤلفين بنياناً لنا في دار تيهنا، وهنيئاً لأفراد يسيرون تحت مصباحك النير لهداية الآخرين، لتكوني بوقاً حياً يصرخ في الأمة بإحياء الوطنية وإجماع الكلمة، ولتكوني شمساً تخرق ظلمات التعصب والتفريق وجنة ينعم فيها اليهودي والدرزي والمسلم والمسيحي بغبطة الرفاق والتفاهم.

ولتنبعث منك روح الإصلاح والرقي.

فإلى الأمام. إلى الأمام. يا وجهة الأمل السوري ورفعة شأنه في عيون المضيفين البرازيليين.

لتحيا الجامعة السورية". لتحيا الرابطة القومية الوطنية. ولتحيا سوريا في المهجر. ولتحيا البرازيل!

 

)الكرمة، مج7، ج5، ريو دي جانيرو، تموز 1923)