يستقرئ الباحث المغربي طبيعة البنية العميقة للعلاقة بين السلطة والدين في حكايات (ألف ليلة وليلة) بأشكالها المتعددة، وكيف أن هناك مجموعة متباينة، ولكنها متكاملة من العلاقات التي تربط بينهما في النص، تنتصر لجوهر الدين وليس للفهم الحرفي له، وتربط شرعية السلطة بموقفها الأخلاقي ومحافظتها على المال العام.

السلطة والدين في (ألف ليلة و ليلة)

أبو بكر الشرايبي

ترجمة: Mathias Hoorelbeke ماتياس هورلبيكا


من جملة المؤلفات التي صدرت مؤخرًا: "الدين والسلطة: مذهب جاك شيراك" أو "الدين والسلطة في العالم الروماني" أو "السلطة والدين في مصر القديمة" أو "السلطة والدين في المغرب" أو "جورج بوش بين السلطة والدين" أو "الدين والسلطة الشرعية" أو "الدين والسلطة والحرية" إلخ. موضوعنا مطروق بكثرة كما يظهر وصلته بحاضرنا وثيقة، فغالبًا ما يناقش من حيث متداول العلاقة بأحداث ملموسة ومحددة جدًّا من التاريخ قديمًا وحديثًا. فللدين والسلطة تأثير عميق، في الواقع، على حقوقنا وحرياتنا ونشاطاتنا. فما نصيب الحُلم والابتكار والتخييل من ذلك؟ كيف يعالج هذا الموضوع عندما يتمثل في المخيال القديم للمنطقة العربية في القرون الوسطى وهي منطقة – كما نعرف - فشا فيها الاستبداد والتزمّت المفرط؟ كيف يكون الأمر بدقّة أكثر في كتاب من قبيل (ألف ليلة وليلة) عندما يواجه هارون الرشيد مثلاً إمام مسجد؟ ما نوع العلاقة التي تقيمها تلك الحكايات بين الإسلام والسلطة؟

ليس كتاب (ألف ليلة وليلة) – في شكله الحالي – نصًّا متجانسًا. ويجدر أن نقسم مادته للغرض الذي يهمنا إلى ثلاث كتل: أولاها لا تتضمن إلا حكاية واحدة وهي القصة/ الإطار أي قصة شهرزاد بحد ذاتها. ثانيتها تضمّ أقدم القصص في (ألف ليلة وليلة) والحكايات المماثلة. أما الكتلة الثالثة فتحتوي على بقية المتن أي نوادر قصيرة وأمثال وروايات ملحمية. إن كانت السلطة موجودة بكثافة في الكتلة الأولى فنصيب الدين – على الأقل الدين كما نتصوره حاليًّا- ضئيل إذ ليس له وقع مباشر على مجرى الأحداث. فمن جهة، معظم العناصر التي تتألف منها حكاية شهرزاد غريبة عن العالم العربي، بل سابقة للإسلام. من جهة ثانية إذا اعتبرنا ، في تفاصيل السرد، خيارات البطلة وبشكل أخص خيارات الملكين الحاكمين فيتراءى أنها لا تنجم عن رد فعل إزاء إكراه ديني. بل المعتقد الواحد – والمتواري نسبيًّا – الذي نحسّ بوجوده من بين طيات النص، هو أن الملك الذي لا تعترف بسلطته امرأة (تخونه بالتالي) ليس أهلاً للحكم. وعلاقة ذلك بالإسلام طفيفة. علينا أن ننتظر حكاية شهرزاد الثانية أي القصص المنتمية إلى الكتلة الثانية وهي أحدث وأعمق تجذّرًا في الثقافة العربية ليبرز أمام أعيننا تفاعل واضح بين السلطة والدين.

الله والملك ضد الشياطين
تظهر مثل هذه الإشكالية أول ما تظهر في حكاية الصياد والعفريت إذ يطلق الصياد سراح عفريت حبسه سليمان في قمقم. لم حُبس وعوقب العفريت؟ لكفره. كيف تمكّن سليمان من ذلك؟ بفضل القدرة التي خوّله إياها الله لكونه ملكًا ونبيًّا. أول ما توحي به القصة فكرةٌ لا شك أنها قديمة جدا تشاركتها المسيحية واليهودية مفادها أن الله حينما يخضع له ملك الناس، قد يعطيه مقابلاً وعلامةً لشرعيته ما يحمي بها الناس من الشياطين. فالشياطين هي العدو ويجب أن يتعاون الدين والسلطة لحماية الناس منها. تتكرر نفس الفكرة في حكاية ابن الملك والغولة: يتوه أمير خرج للصيد، ويهيم على وجهه في مفازة. يلتقي بفتاة باكية تطلب منه أن يُركِبها مطيته وإلا ستموت عطشًا. يركبها الأمير غير أن الفتاة سرعان ما تستحيل إلى غول يريد أن ينهشه. يوجه الأمير دعوةً إلى الله ويختفي الغول.

والظهور الثاني لثنائية الدين/ السلطة وتماماً كالأول يهدف إلى إبعاد الشياطين. إلاّ أنه يكشف أحدَ المخاطر التي تشكّلها تلك المخلوقات الشريرة على الإنسان، وهو خطر معروف جيداً في الفولكلور، هو أن تفترسه. وإذا كان التخلص من الغيلان والسعالي يتمّ عادةً في التراث الشعبي عن طريق الدهاء والحيلة دون اللجوء إلى الدين، فإن التشديد هنا هو على ربّ الكون الحقيقي الله. وتجدر الإشارة إلى أن حكايةً مماثلةً موجودةٌ في ثقافة مفعمة بالظاهرة الدينية أيضًا، وهي الثقافة اليهودية. نجدها في حكايات شعبية يهودية من أوربا الشرقية: يسير شاب على مَزلَجه في ليلة قارسة البرد، وفي الطريق يلتقي بعجوز تتوسل إليه أن يأخذها معه كي لا تموت من البرد. يأخذها الشاب إلا أن العجوز لا تلبث أن تستحيل إلى شيطان، فيدعو الشاب الله ويختفي الشيطان. بعبارة أخرى ليست هذه النقطة الدينية خاصة بالإسلام والسلطة التي تعنينا يتم الحصول عليها بتفويض إلهي.

إن قدرة الملك وشرعيته إزاء الرعية والله يمكن قياسها بقدرته على مواجهة أعمال"القوى الشريرة الغيبية". وربما لا يزال صالحًا هذا المبدأ الموجود في (ألف ليلة وليلة) وبشكل عامّ في عالم القرون الوسطى. قد مرّ بنا أن سليمان وهو يعتبر في الأقطار العربية أحدَ أقوى ملوك الأرض وكل الأزمنة، كان يتمتع بهذه القدرة ويعاقب الجنّ ويحبسهم في قماقم عليها خاتمه. وكأنما يتعلق الأمر باستدامة هذا المبدأ، فنجد لشخصية تعدّ أيضًا من أعظم ملوك الأرض: إسكندر الأكبر الذي اكتسى تدريجياً هالة دينية ذات طابع توحيدي. وإذا كانت كتب قصص أنبياء الإسلام تتردّد في تنزيله منزلة الأنبياء بالمعنى التامّ إلا أنها تراه قد تلقى نوعًا من التفويض الإلهي. كما أنها تلحّ على دوره ضد قوم يأجوج ومأجوج الذين كان من الممكن أن يؤدي هياجهم إلى تخريب العالم كله. بيد أنه، على غرار سليمان الذي حبس الجن الكفار، فإن الإسكندر حبسهم داخل سدًّ من حديد منيع. إن ترابط الدين والسلطة سيدفع هذه الأخيرة، إذا أحست أنها قادرة على السيطرة على العالم، إلى إقصاء كل ما قد يمثل تلك القوى الشيطانية.

لنعد إلى (ألف ليلة وليلة) وإلى أقدم نواة فيها وإلى القصص المماثلة. كما نعلم، فإن الخليفة هارون الرشيد هو أحد الرموز الكبرى للسلطة في (ألف ليلة وليلة). ما علاقته بالديني؟ في (ألف ليلة وليلة) ثلاث حكايات حبكاتها خاضعة لنفس البنية: تتلقى ثلاث أخوات أو ثلاثة إخوة ميراثًا ويفلس اثنان منهم. فيرجعان إلى ثالثهم الذي أنمى بحكمته ماله، فيبدي كَرَمًا كبيرًا إذ يقبل أن يقاسمهما ثروته. وبعد ذلك بقليل يبحر ثلاثتهم للاتجار ويحرز أحكمهم أرباحًا حسنة ثم يتزوج مما يثير حسد الاثنين الآخرين فيلقيان الزوجين في البحر. ولكن تتدخل جنية تنقذ الخيّر وتحول الأخوين الشريرين إلى كلبتين عقابًا لهما. تلك الحكايات الثلاث هي الشيخ والكلبتان (حكاية الشيخ الثاني)، والصبية والكلبتان (حكاية الصبية الأولى صاحبة البيت) ، وعبد الله وإخوته. وكلها صيغ مختلفة- تطول أو تقصر- لهذا الموضوع الأساسي. إن نصيب الدين والسلطة في أوجزها وربما أقدمها (الشيخ والكلبتان) ضئيل وسطحي، مختصر في عبارات جاهزة مبتذلة. فمعظم عمل "الضبط" تتولاه جنية تلعب دورًا إيجابيًّا بصفتها مؤمنة (فهذا الدور الوحيد الذي يقرّه النص للدين) إذ تقيم العدل معاقبةً الأخوين الشريرين محوّلةً إياهما إلى كلبتين إلى أجل مسمى (عشر سنين).

في الروايتين الأخريين اللتين هما أحدث نشأة تظهر محافل رمزية للدين والسلطة لأن المقصود هنا ترسيخ الحكاية في عالم يحكمه الله ويسوسه خليفته. ذلك أن الجني وإن كان مؤمنًا لا يصلح لضبط أمور الناس والقضاء بينهم. يتدخل الله - في جزء أضيف لاحقًا - ليعاقب ملكًا عابدًا للنار ويحيله هو ورعيتَه (إلا واحدًا من أبنائه كان قد أسلم) إلى حجارة. أما الخليفة هارون الرشيد فيتدخل في آخر القصة لأن الجن في تينك الروايتين أصبح قضاؤهم بين الناس غير منصف ويتّصفون بالشطط (أصبح مسخهم إلى كلب حكماً مؤبداً) والقساوة (يُجلد الكلبان كل يوم) فيأمرهم هارون الرشيد الذي يعترف الجنّ بقدرته عليهم بصفته خليفةً أن يعيدوا الكلبين إلى شكلهما الأول. ويطيعه الجن. كما نرى ما يدينه النص بوضوح ليس هو هذا التفصيل أو ذاك في تطبيق الإسلام، بل مبادئ عامة، وخاصة عدم الإيمان بإله واحد. هذا الجزء من (ألف ليلة وليلة) مفتوح لكل الأديان التوحيدية. ومن حيث السلطة ليس همّ الخليفة أن يطبق نقطة خاصة بالدين الإسلامي، بل أن يفرض نفسه، على غرار سليمان وإسكندر، ومن خلال التفويض الإلهي، أنه حامي الناس الأخير من مخلوقات الظلام المحدقة بهم.

تقاس شرعية السلطة السياسية وقوتها من منظور ديني - كما أسلفنا ولا يزال صحيحًا في ما يتعلق بالرشيد – بمقياس قدرته على أن يوسع هيمنته باسم الله إلى ما يتعدى نطاق البشر وأن يدحر القوى الشيطانية.

مسألة الخمر
السؤال المطروح الآن بالنسبة إلى هذا الجزء من (ألف ليلة وليلة) – وهو أقدم الأجزاء وأكثرها خصوصية – هو التالي: ما هو ردّ فعل السلطة التي يجسّدها الخليفة هارون الرشيد على أسئلة خاصة بالإسلام ؟ لدينا قصتان تقدّمان شهادتين قيّمتين عن هذه المسألة. هما قصة «أنيس الجليس» وقصة «النايم اليقظان». إن بطل حكاية أنيس الجليس شابّ وسيم هو نور الدين الذي يتوفّر على الشباب واللامبالاة وجمال وكرم كبيرين وحرية التصرف في كل الأشياء الأخرى. إنه يغوي جارية كانت ستهدى لوالي البصرة. ثم بعد موت أبيه يبذر الميراث الجمّ الذي تلقاه في لذاته مغدقًا العطاء على كل سائل يأتيه. وبعد ذلك يشبع وزيرًا شريرًا ضربًا.

يضطر نور الدين، بعد إفلاسه، إلى الفرار ويلجأ مع أنيس الجليس الجميلة إلى بغداد وفي هذه المدينة يحدث الحدث الذي يهمنا. يستضيف شيخ معروف بتقواه الشابين الفارين في قصر للخليفة كان يحرسه. وتفتنه آداب نور الدين وأنيس الجليس وجمالهما وظرفهما فيطعمهما ويأتيهما بخمر رغم تحفظاته (المسكرات محرمة في الإسلام كما أوضح لهما) فتدور الكأس ويبدأ في الشرب هو أيضًا ولا يلبثون أن يسكروا. عند هبوط الليل يشعلون كل شموع الغرفة التي هم فيها ويستقطب الضوء انتباه الخليفة هارون الرشيد ويغضب لأن الدخول إلى قصره ممنوع دون إذنه. يدعو جعفر وزيره الذي يزعم أن الحارس الشيخ المتدين كان قد استأذنه في إقامة حفلة دينية. فيقرر الخليفة أن يذهب إلى هناك ويشهد عزف الفتاة على العود ويفتن ولا ينزعج من هذه الحفلة التي علاقتها بالخمر أوضح منها بالدين، وبالعكس ينضمّ إليهم متنكرًا في زيّ صياد. ويشترك في الحفلة بنشاط. تنتهي القصة بأن يعاقَب وزير البصرة الشرير ويضم الشابين إلى حاشيته.

كما نلاحظ فالخليفة الذي كان راضيًا عن إقامة حفلة دينية يقبل على السواء أن تقام حفلة سكر وغناء في قصره. بعبارة أخرى الأهم في العلاقة بين الدين والسلطة ليس احترام التفاصيل والطقوس، فالإسلام الذي تتبناه السلطة في (ألف ليلة وليلة) دين لا إكراه فيه. وبطبيعة الحال توجد أخلاق ومبادئ لا بد من مراعاتها. إلا أن أهم المبادئ كما أسلفنا مشتركة بين الأديان التوحيدية وتخص أولاً الإيمان بإله واحد. أما الأخلاق وقواعد السلوك المعروضة فتندرج في الإسلام لا بوصفه طقسًا فرديًا بل بوصفه مجموعةً اجتماعيةً وحضارة وثقافة: من يعاقَب في القصة؟ الشاب الذي تناول الخمر؟ الشيخ المتدين الذي قرر أن يشرب أيضًا؟ كلا. يأمر الخليفة بإعدام رجل بخيل حسود منافق كذاب. الخصلة التي يطالب بها هارون الرشيد ممثل السلطة والدين هي طيبة النفس، التي تتجلى في النصوص القديمة من خلال الجود بأوسع معنى للكلمة، أي القدرة على التخلي عن مِلْك أو حق لصالح الآخر. ما يدعو كتاب (ألف ليلة وليلة) إلى تحريمه باسم الإسلام هو بالأحرى النفاق والبخل أكثر من غيرهما.

في حكاية «النايم اليقظان» نجد أن الهجوم على التشبث بالطقوس والتزمت أعنف. من غير أن نخوض في تفاصيل الحكاية لنكتفِ بالإشارة إلى أن الخليفة يرضى بأن يُجلد إمام مسجد وأربعة شيوخ لأنهم يضايقون شاباً ظريفاً يسكن بجوار المسجد يهوى الخمر والموسيقى. وخرج مناد برفقة الإمام والشيوخ الأربعة ليعلن في الناس أن هذا جزاء من يتحشرون في شؤون الجيران ويضايقونهم، ويمنعونهم من الشرب والأكل مثلما يشاؤون. "إمسك الأربعة مشايخ والإمام واضرب كل واحد منهم أربعمائة سوط وركّبْهم على الدوابّ مقلوب ودر بهم المدينة جميعها وأبعدهم إلى محل غير هذه المدينة وأَمَرَ المنادي ينادي عليهم هذا جزاء وأقل جزاء من يكثر كلامه ويشوّش جيرانه وينقص عليهم لذتهم وأكلهم وشربهم"(1) فرسالة القصة واضحة في منتهى الوضوح.

ضد احتكار السلطة للأموال
تتكون الكتلة الثالثة في ألف ليلة وليلة من قصص قصيرة (لنضع جانبًا الروايتين الملحميتين عمر النعمان وعجيب وغريب والمجموعتين المستقلتين سندباد الحكيم وجليعاد وشماس وخرافات الحيوانات). تلك القصص القصيرة التي تبدو على شكل أخبار (تكثر مقبوليتها أو تقلّ) مأخوذة في الغالب من الأدب العربي الكلاسيكي، فمعظم ما سندرسه هنا يَرِد أيضًا في عيون الحكايات لابن الجوزي (ت 1200م) وهي مجموعة من القصص الدينية ذات طبع صوفي في الغالب. المفيد أنها تقيم ضربًا جديدًا من العلاقة بين السلطة والدين بطريقة نقدية تمسّ حتى الخليفة هارون الرشيد. إن اللحظة الأهم التي تربط بين المؤقت والخالد، هي لحظة الموت وهي أيضاً اللحظة التي يُرَدّ فيها الإنسان إلى طبيعته الأولى وإلى ضعفه وإلى أنه سيموت، على خلاف الإله الذي لا يموت. في ألف ليلة وليلة عدة نوادر عن هذا الموضوع: مثلاً، عندما يأتي ملاك الموت ليقبض روح إنسان وبل روح ممثل للسلطة الدنيوية أي روح مَلِك. ما يحدث عندئذ؟

سنفحص هذ الحكايات من الأقل إلى الأكثر تعقيدًا. أولها قصة ملاك الموت والملك المستبد: "يَمْثُل رجل غريب فجأة بين يدي ملك يغضب من دخوله عليه من غير إذن، ويهم بطرده، إلا أنه يخبره أنه ملاك الموت فيستمهله الملِك حتى يستغفر ربه ويرد الثروات التي سلبها إلى أصحابها. غير أن الملاك يرفض ويقبض روحه (إلى جهنم حسب هامش النص). طرحتُ على نفسي سؤالاً: لماذا يعطي الله ملاك الموت شكلاً بشريًا عندما يبعث به، أَيْ شكل مخلوق كالملِك؟ هل يوجد من بين البشر في الحقيقة من يشبه الملك؟ لا. فالملك يرى نفسه أعلى رتبةً من باقي الناس (لا يُدْخَل عليه إلا بإذن منه) فبالتالي كل انسان يَمْثُلُ بين يدي الملك فهو أَدْنى منه: هذا بحد ذاته تجاوز وتزداد المأساة شدةً عندما لا يكون الشخص الماثل أمام الملك أدنى منه بل أعلى وأقوى. من هنا تتراءى طبيعة الملِك الحقيقية: إنما هو بشر كسائر البشر غير أنه قد يخطئ، ويَعُدّ نفسه فوق غيره بقليل، ويستأثر بالأموال.

أما الخبر الثاني فأَصْرَحُ، وعنوانه ملاك الموت والملك الغني: يقيم ملك من الملوك في قصر فخم ابتناه لنفسه وكدّس فيه ثروات لا تحصى. ويجلس إلى مائدته ليتناول من المأكولات اللذيذة التي طُبِخَتْ له. حينئذ يدق بابه رجل رث الهيئة كالمتسول، يطلب الملك حالاً، فإذا هو ملاك الموت جاء ليقبض روحه. هنا يُنْحي الملكُ باللائمة على ثرواته التي صرفته عن التزود لآخرته، ولكن الذهب والفضة بمعجزة إلهية يتكلمان ويردان عليه ويتبرآنِ منه، إذ كانت يده فيهما مطلقة والمسؤول الوحيد هو الذي امتنع عن الصدقة ومقاسمة أمواله ودفع البؤس عن المعدمين. فيذهب ملاك الموت بالملك قبل أن يمد يده إلى طعامه. وجهة النظر هنا نفس وجهة القصة السابقة، ولكن على مستوى المسرحة، كل شيء مشدد كما أن فكرة أخرى تضاف وهي أن المال ليس إلا آلة، وأنه لا ينفع إلا في أيدي المحتاجين. ومن هنا الدعوة إلى عدم تكديس المال بل مقاسمته. هنا أيضًا يحسب الملك أن أمامه مخلوقًا أضعف منه بل أضعفَ البشر أي متسولاً، ثم يظهر أن المتسول ليس فقط نِدّاً للملك، بل أعظم منه. طبعًا الهدف أن يقيم التواضع وربما الفقر مقام فضيلة كبرى.

أما الحكاية الثالث تحت عنوان ملاك الموت والملك المتكبر والناسك فهي على نفس المنوال غير أنها تضيف إلى جانب الشخصية السلبية شخصية إيجابية: الناسك. ذلك أن ملكاً من الملوك يلبس أفخر ملابسه ويسرّج فرسه بطقم من ذهب مزين بجواهر وحجارة كريمة، ويخرج في موكب عظيم وجيش عرمرم. يخال نفسه من القوة بحيث أنه لا يلقي نظرة واحدة إلى من حوله ويسوّل له الشيطان أن "لا يوجد في العالم مثلي" فيتقدم إليه رجل يلبس أسمالاً ويسلم عليه ولا يرد الملك. فيمسك الرجل زمام الفرس ويوقفه قسرًا، وينبئه أنه ملاك الموت. وعبثًا يستمهله الملك. ثم يذهب ملاك الموت إلى ناسك ويسلم عليه، ويردّ له الناسك سلامه. وعندما يدرك أن الزائر ملاك الموت يقول له إنه مستعد للموت حالاً. ولكن الملاك يقول له إنه أُمِرَ بألا يأخذه إلا في الحال والوقت اللذين يريدهما. فيطلب الناسك من الملاك أن يقبض روحه وهو يسجد مصليًا، فيطيعه الملاك ويموت كما شاء.
يبرز الخبر شعور الملك بالفوقية وهو الذي يجمع الثروات ويذهب به العُجب إلى أن يرفض رد السلام على رجل فقير الهيئة. فإذا الرجل أعظم منه شأنًا. بالمقابل فالناسك الزاهد في متاع الدنيا والخالي من غناء ظاهر، يقبل الموت راضيًا، ويكسب بذلك سلطة على الملاك، ويملي عليه مشيئته.

يقدم خبر رابع تحت عنوان صاحب السحاب صورةً لما ينبغي أن يكون عليه ملك طيب (أي لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الدين والسلطة). باختصار يمتثل ملك لضرورات الحكم، ويرتدي من اللباس ما يقتضيه مقامه، ويستقبل زواره في قصره، ولكن حالما يفرغ من أمور الدولة يعود إلى الكوخ الذي يسكنه، ويلبس أبسط الملابس، ويعمل بيديه مع زوجته لكسب رزقه. فيتمتع إذن بقدرة عظيمة لأن له بصيرة فريدة وإذا دعا الله استجاب له. بعبارة أخرى يتحقق الوفاق التام بين الدين والسلطة (أي النموذج الطوباوي المعروض في هذا الجزء من ألف ليلة وليلة) عندما لا يعمل أصحاب الدولة لإثراء أنفسهم ويميلون إلى الزهد في متاع الدنيا. فالإسلام الذي تدعى السلطة إلى تبنيه (وما زال يتمثل في الإيمان بإله واحد) يتجسد أيضًا لا في أداء طقوس خاصة بالإسلامن بل في الامتثال لقواعد أخلاقية تتسم بحداثة ملحوظة، وتوجد بتواتر في أدب القرون الوسطى، والتي هي ذات راهنية إلى الآن، مثل الإدارة الدقيقة النزيهة للأموال العامة.

في النهاية، ما الذي صار مع الخليفة الرمزي لألف ليلة وليلة، هارون الرشيد؟ إن الرشيد على غرار الإسكندر في مواضع أخرى لا يتّصف بالصفات المطلوبة. بالعكس، فالقصة التي تصوره تحت عنوان هارون الرشيد وابنه المتعبد متشائمة. فالعلاقة فيها عاصفة بين الممثل الرسمي للسلطة الرشيد وأحد أبنائه الذي اختار أن يهجر الترف وأن يرتدي ملابس متواضعة وأن يكسب قوته بيديه (مثل الملك الطيب في القصة السابقة) وأن يكرس لله باقي وقته. فذات يوم ينحي الرشيد على ابنه باللائمة، قائلاً إنه يخجله بتصرفه هذا وهو أمير. فيغادر الابن أباه نهائيًا بعد أن أثبت أنه يحظى - بنعمة الله - بقدرة أعظم من قدرة أبيه ثم يموت بعد ذلك بقليل. وطبعًا لن يستطيع الابن - وهنا يكمن تشاؤم الحكاية - أن يمارس السلطة وهو، في الواقع، المستحق لها الوحيد.

الخاتمة
تتجلى العلاقة بين السلطة والإسلام من خلال ثلاثة مظاهر:
- اشتراك السلطة مع الدين بوصفهما حصناً ضدّ القوى الشيطانية
- اهتمام الإسلام الذي تتبناه السلطة بالفضائل الأخلاقية الكبرى للأفراد (مثل طيبة القلب أو الكرم) أكثر من اهتمامه بالمسائل الطقسية فيتحلى إذن بتسامح أكبر خصوصًا في ما يتعلق ببعض المحرمات مثل شرب الخمر.
- يقتضي الدين سلطة حقيقية مع احتمال أن يعاقبها بشدّة حتى توزّع بعدل وإنصاف الأموال العمومية ولا تستخدمها من اجل الإثراء الشخصي.
وفي الأخير، نردّد مرة أخرى، أنه منذ ظهور ألف ليلة وليلة وإلى اليوم، تظلّ المسائل المطروحة هنا هي دائماً ذات طابع راهن.

 

هامش:

(1)  Habicht, IV, 154