قراءة الناقد اللبناني تتناول نصا روائيا من تونس سبق أن قدمته مجلة "الكلمة" في أحد أعدادها السابقة، وهو نص ينسج متاهة سردية فيها فعل المخاض صيرورة لا تنتهي؛ ومن خلال مفهوم "السّوبر مستقبليّة الأدبيّة" بكل حمولاتها الفلسفية تعيد القراءة صياغة النص وفق هذا المفهوم، حيث لانهائية الحقائق وانفتاحه على المستقبل.

السّوبر مستقبليّة الأدبيّة

حسن عجمي

السّوبر مستقبليّة مذهب فلسفيّ يحلّل المفاهيم ويقدّم الحلول للمشاكل الفكريّة من خلال مفهوم المستقبل. فإذا نظرنا إلى أيّ شيء سنجده يفقد صفاته كلّها عبر الزّمن، لذا يبدو أن لا وجود لماهيات للأشياء. لكن في المقابل إذا لم توجد ماهيات للأشياء، إذن سيزول الفرق بين الأشياء، وهذا محال. فكأنّه توجد الماهيات وكأنّه لا توجد.

من هنا، تستنتج السّوبر مستقبليّة أنّ الماهيات قائمة في المستقبل فقط علما باْن المستقبل لا يتحقّق كليا في الحاضر والماضي وبذلك يظلّ مستقبلا. على هذا الأساس تعتبر السّوبر مستقبليّة أنّ المعاني أيضا تتشكّل في المستقبل. من هذا المنطلق نتمكّن من بناء السّوبر مستقبليّة الأدبيّة الّتي تقول إنّ النصّ يتكوّن في المستقبل، ولذا هو غير محدّد في الحاضر والماضي. باختصار، تدرس السوبر مستقبلية الأدبية النصّ على ضوء لا محدّديته وتشكّله في المستقبل. سنستعين بكتاب “سوسن الفينقا “ لمحمّد خريّف كنموذج لتطبيق السّوبر مستقبليّة الأدبيّة.
يبدأ محمّد خريّف كتابه قائلا انّه لا يقف ولا يبكي بل يسير على ورق فينسى بسطوره فاجعة الفينقا. سيرنا على الورق يدلّ على أنّنا حبر لا يحيا خارج الأوراق. لكنّ أوراق خريّف تتكاثر “في مخيّلةالتّراب” لذا أكّد في سياق كتابه اْنه يهتف من قبره(محمّد خريّف سوسن الفينقا. ص8).

عبارته “ اْهتف من قبري “ تشير إلى اْنّه حيّ وميّت في آن معا. ولكن من المستحيل أن يكون الفرد حيّا وميتّا في الوقت ذاته. إذن من غير المحدّد ما إذا كان الفرد حيّا أم ميتّا. حقيقة أنّ الأنا غير محدّدة تسيطر على النّصّ كلّه فتشكّله وتبنيه. هكذا تتمكّن السّوبر مستقبليّة الأدبيّة من دراسة النصّ الأدبيّ علما بأنّها تؤكّد أنّ النّصوص محكومة بمبدأ اللاّمحدّد.

يعبّر محمّد خريّف عن لا محدّدية الأنا بطرق مختلفة، فالنصّ الأدبيّ سعي نحو معرفة اللاّمحدّد وتحديده. لكن من المستحيل تحديد اللاّمحدّد علما بأنه غير محدّد. لذا لا ينتهي النصّ بل يستمرّ في توالد دواته ومعانيه. يقول”ينتصب الرّاوي قائما في المقبرة” (ص 7 ). هكذا من غير المحدّد ما إذا كنّا أحياء أو أمواتا. يضيف معبّرا عن لا محدّدية الأنا “أنا الآن في حالة بين بين (ص 8 )، “ولا اْخرج من بطن أمّي إلاّ بتأشيرة من ضابط الحالة المدنيّة علّه لا يوافق على مولود لا هو ذكر ولا أنثى ولا هو ميّت أو حيّ” (ص 37 )، “أتجدّد في كفني” (ص 73 )، “وأنا أسبح الآن في بركة انشطار لا أتبيّن فيها جنسي” (ص112- 113 )، “فاْنا لست أنا” (ص 118 )، واْنبت أنا بلا هويّة “ (ص 147 ). لا محدّدية الأنا هذه تؤدّي إلى لا محدّدية الجسد ولا محدّدية المكان، “ فلا أنا أنثى ولا أنا ذكر “ (ص82. ص117)، “ ما لك تهذي، اْاْنت في استديو التّصوير؟ أم في بطن أمّك ؟ “ (ص28 )، “ اْنحن في اْرض الحبس أم في غرفة الاستنساخ اليوميّ ؟ “ (ص81 )، و” اْاْنا في الحنجرة أم بين الفخذين ؟ لا اْحدّد موقعي “ (ص 147 ). هكذا لا محدّدية الأنا والجسد والمكان تبني النصّ الأدبيّ. فعلى أساس هذه اللاّمحدّدية يتكوّن نصّ محمّد خريّف وتنشاْ عباراته. من هنا، كتاب “سوسن الفينقا “ مثل واضح على كيف أنّ اللاّمحدّد يحكم النصّ الأدبيّ ويشكّله.  

بما اْنّه من غير المحدّد ما هي الأنا والجسد والمكان، إذن من الطّبيعيّ أن تتّخذ الأنا الهويات كافة، وبذلك نصل إلى وحدة الوجود. فعندما تكون الذّات غير محدّدة، لن تختلف عن الكائنات الأخرى ممّا يؤدّي إلى قيام وحدة الوجود في متاهة لا محدّدية الكون، “اسمه علما يرفرف على جبهتي، تتكرّر نسخة في كل قبر من قبور القرية “ (ص7 )، “ويغيب وجهك في وجهي” (ص 73 )، “ أولد بكذبة الشّمس تطلع من الشّرق، أنا عائشة، الحسين، سارّة، ويلنسكي، ديانا، ولا نرتكبك في أخلاط الرّحم، لا تنس أسماءنا، ولا نحن نعرفها “ (ص121). لكن وحدة الوجود هذه لا تختلف حقّا عن لا محدّدية الأنا، “ لا اْعرف الآن بالضّبط، اْاْنا أخته أم أمّه أم عشيقته، ذلك لا يعنيني، كيف اْخرج مولوداً مشوّه السّطور، وقسمات الحروف “ (ص 154 ). الطّريق من لا محدّدية الأنا إلى وحدة الوجود هو ذاته الطريق من وحدة الوجود إلى لا محدّدية الأنا.
تعتبر السّوبر مستقبليّة أن الماهيات تتشكل في المستقبل،ولذا تدرس الظواهر من خلال المستقبل. وبما أنّ الماهيات قائمة في المستقبل فقط، إذن من غير المحدّد ما هي الأْشياء والظّواهر في الحاضر والماضي. هكذا نصل إلى السّوبر حداثة كونها تعتمد على اللاّمحدّد من اْجل الوصول إلى المعرفة. فرغم أن الكون غير محدّد من الممكن معرفته على ضوء لا محدّديته. هكذا ننطلق من لا محدّدية الحقائق إلى معرفتها التّي تتجلّى في كتاب “ سوسن الفينقا “ في صورة معرفة وحدة الوجود. فبدلا من أن يعمي اللاّمحدّد أبصارنا يجعلنا نرى بشكل أوضح حقيقة أن كل الأشياء واحدة. ولأنّنا في عالم اللاّمحدّد ووحدة وجوده نبقى في ولادة مستمرّة لا تنتهي كأنّنا حبر على ورق أو مجرّد ورق نكتب دواتنا من دون أن نصل إليها.
السؤال الذي لا بدّ من طرحه هو لماذا الأنا غير محدّدة ؟ نجد محمّد خريّف يصف أناه وذوات الآخرين على أنّها مجرّد أوراق أو حبر على ورق. يقول “وأنت ورقة على غير هدي” (ص.3). هكذا يشير محمّد خريّف إلى أن لا محدّدية حقيقتنا هي نتيجة حتميّة لحقيقة أنّنا ورق لا غير، والأوراق كافّة من الممكن أن تتّخذ أي ماهية وبذلك تفقد ماهيتها بالذّات. يضيف “ اْنتقل من دكتيلو إلى دكتيلو، اْتّهمك بالتّمرّد ،وأنا ورقة وأظلّ حروفا عالقة بالزّوائد. لأنّ الإنسان كائن ورقيّ بل لغة من حبر وورق تغدو أناه غير محدّدة. ونحن مجرّد كائنات ورقيّة، ولذا لا مفرّ من قيام وحدة الوجود وانتصارها فلا يوجد فارق بين الأشياء ما دامت أشكالا من حبر الكتابة. ولذا نحن كائنات افتراضية بل كل ما هو موجود هو كائن افتراضي..”في المكتبة الإلكترونية ويتحدّث الزّبانية بالشارات الضوئية بأمنية الانتقام يتساوى فيه الناس بالقردة (ص7). ولا تختلف لا محدّدية الذّوات عن حقيقة أنّنا ورق في انتظار الكتابة المؤجّلة دوما ونحن نتمرّغ على ورقة الفينقا في انتظار انتهاء مدّة التأجيل والتّصريح بالحكم اللاّنهائيّ ،أغوص في قشرة الورقة ولا تلدني ، فلن تشهد ولادتي ولن تقرأ ورق الفينقا ، أنا ورقة مفتّتة (ص157).
ليس الانتظار حالة بل رحلة ومعراج،فالحياة بحث عن ولادتها ، والموت لا يأتي للأموات أصلا. كتاب “سوسن الفينقا” بحث متواصل عن المعاني. فالأنا تسعى إلى تحديد ذاتها ولا تنجح ، والفينقا (رمز صيرورة الموت والحياة واتّحادهما) تبحث عن حقيقتها ولا تصل. “ولست سوى شارات ضوئيّة تلتحم على جبهاتك وأنت تلاحق مني على شاشتك، أنا الفينقا (ص8). فالفينقا عنوان اللاّ محدّد ومتنه ،” تظلّ مشغولا باسم مولودة تسمّى الفينقا، تراها حين تراها أمامك ، ولا تسجلها في دفتر ولادة أو وفاة (ص12). ولأنّ الفينقا غير محدّدة نبحث عنها دوما ، “ نبحث معا في معجم الاستنساخ عن مدلول لا يتكرّر في ورق (ص18). ولأنّنا لا نصل إلى ماهيتها كونها غير محدّدة إذن” الفينقا ورق”(ص19) يشتدّ بياضه كلّما زدناه بياضا. ولكون الفينقا أسطورة اللاّمحدّد وقلبه النّابض لن نتوقّع سوى أنّ “ الفينقا وسواس رجيم”(ص28) و”سجن في أفق التائهة”(ص30). الفينقا متاهة الوجود وحيرته لأنّها تزاوج بين الحياة والموت وبذلك هي استحالة لكنّها استحالة قائمة. لذا تتّخذ الفينقا صفة الكذب والموت المستمرّ.”اسمّي كذبي ورقا للفينقا(ص40)و”يذبحني ورقي” (ص41). على هذا الأساس الفينقا تفضح الإنسان “أتعرى بورق الفينقا”(ص41). في الفينقا ذاتها تكمن جدليّة الحياة والموت “لن أولد إلاّ في رحم الفينقا وتجيء أحاديث الفينقا بعد غد ورقا يندثر” (ص42).. ومن هنا “لن نخرج من قبر الولادة (ص40). ولأنّنا حبر على ورق حيث تتساوى الحياة والموت”وأنا حبر من نطفة الزّيت امسخ في الدقيقة الواحدة آلاف المرات” (ص89) سوف يظل لغزا (ص89). استحالة القراءة ليست سوى استحالة الولادة “فلن تشهد ولادتي ولن تقرأ ورق الفينقا “ (ص97) أتكاثر في الصّباح لغوا...و احسب صورتي فلا يبقى بين أصابعي سوى لطخ من كربون الانتظار (ص114 ). بما أنّنا في حالة بين الموت والحياة فلا موت ولا حياة نحن في انتظار لا ينتهي لأنّنا في بحث مستحيل عن تحديد اللاّمحدّد. لذا نبقى سجناء الانتظار “انتظر يوم ولادتي احمل رحم أمّي تحملني منايا إلى وطن لا اعرفه لأني لمّا اهجر هذا الرّحم “(ص130-131). نحن سجناء الولادة سجناء تيه الانتظار “انطلق نطفة تيه أجول في سوق الرّحم (144) و”أتورّط في تيه الانتظار”(ص146).
بما اْنّه من غير المحدّد من هو الإنسان، وبما أنّ الإنسان لا يحيا من دون هويّة وماهية، إذن لن يتشكّل الإنسان سوى في المستقبل. يؤكّد محمّد خريّف في كتابه على هذا حين يقول “أولد غدا “ (ص.65). فالكتاب عبارة عن عبور نحو المستقبل من اْجل الاقتراب من محدّدية الوجود ومعانيه. ولاْنّ المستقبل لا يتحقّق دفعة واحدة في الحاضر والماضي، إذن سوف يستمر البحث عن ماهية الكون والإنسان ولن يتوقّف. “ ما له يخيفني هذا الورق، الأفضل ألاّ اْروي قصّته الآن “ (ص. 3). لذا تستمرّ ولادة الكلمات على الورق فيتشكّل الكتاب كسفر نحو الحقائق المستترة في الزّمن المستقبليّ الّذي لا يأتي إلاّ خلسة ليختفي بوضوح مؤلم. “ كيف أولد وأنا اْتحدّث عن نفسي؟ (ص 51). هكذا يؤكّد محمّد خريّف على استحالة الولادة. وبما أنّ الولادة مستحيلة، إذن يتكوّن الفرد في المستقبل فقط علما باْن المستقبل يظلّ قائما في المستقبل، وبذلك تبقى الولادة منتظرة الولادة.

أخيرا، لقد تتبّعنا نشوء نصّ “سوسن الفينقا“ وكيفيّة تشكّله على ضوء لا محدّدية الحقائق والوجود، مما جعل نصّ محمّد خريّف كامنا في معانيه المستقبليّة. فرأينا كيف من الممكن للسّوبر مستقبليّة الأدبيّة أن تعالج النصّ الأدبيّ وتعيد صياغته فلسفيّا.

 
ناقد مفكّر من لبنان