يتناول الكاتب تمظهرات "الحرب" في النص الأسطوري ماقبل المنطق. ويرى أنها ترافقت مع الدين والعلم في سياق التاريخ، ويستبين تحولاتها منذ القرون الوسطى وفق معطيات جعلت لها "حقوق" وتسميات. كما ويتناول أثرها في انثربيولوجيا اللغة، فيوضح أن تاريخها ذكوري بامتياز.

الحرب: رأس المال وتخريب الكون

مصطفى القلعي

الموت رسالة زوس سيّد الآلهة إلى البشر:
الأسطورة فنّ عظيم مارسه الإنسان الأوّل لإدراك الكون من حوله. وكم كان المفكّر الميثيّ السوريّ فراس السوّاح محقّا حين سمّاها مغامرة العقل الأولى! فلقد كان الإنسان وحيداً في الوجود أعزل مفتقر إلى المعرفة. وكان عليه أن ينتج ما يتصالح به مع الأخطار المطبقة على وجوده. ولم تكن المخيّلة البشريّة قد أنتجت وسيلتيْ الإدراك الأخريين الدين والعلم اللتين أُنتِجتا في مرحلة متأخّرة، بعد أن ترهّلت رحلة الإنسان الوجوديّة، وبعد أن استنفذت الأسطورة طاقاتها التي كانت تتيح لها أن تمدّ الكائن بهدوئه واطمئنانه. وتوسّع له مخيّلته التي يقاوم بها الرعب. ولكم كانت الأساطير رحيمة بالكائن رحمة لم يوفّرها له الدين ولا العلم بعد ذلك!

فلقد كانت الأسطورة تمدّ المتوسّل بها بالإجابات التخييليّة المحلّقة عن أسئلته المحيّرة حيرة مضنية ممضّة. من ذلك أنّ الإنسان واجهه حدث الموت. فأقضّ وجوده. وكلّل بالسواد لياليه. فجاءت الأساطير الإغريقيّة. وحدّثت عن هرمز رسول الموت، إذ الموت، في الأسطورة الإغريقيّة، قرار سامٍ يتّخذه زيوس (زيوس سيّد الآلهة عند الإغريق هو جوبيتار عند الرومان). ويُعلم به هرمز رسول الموت. فيشرع في تنفيذه مباشرة بأن يحلّق نازلاً من قمّة جبل أولمب إلى الأرض مقام البشر المناكيد. ويبحث عن المُرسَل إليه لِيُمِيتَه. وحين يجده يحرص على ألاّ يؤلمه. بل إنّه إذا وجده منهمكا في عمل أو في لحظة حبّ أو سعادة تركه ينهيها. فلا يغدر به. ولا يحرمه من التمتّع بها. وإنّما ينتظره حتى يفرغ أو ينام. فيأتيه بلطف وتؤدة. ويعلمه بقرار زيوس. ويدعوه إلى مرافقته إلى عالم الأموات. فيصحبه طيراناً.

هكذا كان الكائن الإنسان يدرك حدث موته. لقد كان يعلم أنّ الموت يقين لا مفرّ منه. لذلك لم ير فائدة من إهدار طاقته في البحث عن سبل لتلافيه. ولكن إذا كان تلافيه في حكم المستحيل فإنّ تلافي الشعور بألمه أمر ممكن. فقال الكائن لذاته: أموت نعم. أمّا أن أتألّم.. فلا. فأنتج الأسطورة التي كانت به رحيمة. ومكّنته من إمكانيّة تمثلّ موته تمثّلاً كفيلاً بجعله يتجاوز الشعور بألمه وبجعله حدثا أليفًا سهلٌ قبوله، إذ لم يكن يعني سوى الانتقال من عالم إلى آخر؛ من عالم الأحياء إلى عالم الأموات. وهذا العالم لم يكن مخيفاً في الأسطورة. وإنّما كان يمثّل مغامرة عسيرة دونها الأهوال والمصاعب، يطمح إلى إنجازها الأبطال العظام حبًّا في ملاقاة أحبّتهم. فيبذلون قصارى جهودهم من أجل وُلوج أبوابه المواربة.

ولقد تمكّن البطل الإغريقيّ المغوار أوديسيوس بطل أوذيسة هوميروس من الإطلالة عليه أثناء رحلة تيهه الطويلة. وهناك رأى صديقه الحميم ورفيقه في السلاح البطل الفذّ أجاكس قائد الهيليّين العظيم الذي لم يكن زيوس عادلاً مع أمّته. فأرسل إليه هرمزَ لمّا كان جيشه في أشدّ الحاجة إليه أثناء منازلة الشرف الطرواديّة. وقد قضى أجاكس في ساحة الشرف العظمى؛ ساحة الحرب.

إدراك العالم بالحواسّ:
لقد أنهى الكائن الإنسان مرحلة الإدراك الأسطوريّ، بعد أن أنتج وسيلتيْ الإدراك الأخريين الدين والعلم، كما قلنا. ولكنّه أنتج معهما الحرب وقد تحوّلت من منازلة شرف وفتوّة إلى آليّة للغلبة والسرقة والنهب. وقبل إنتاج الدين والعلم، كان الكائن يدافع عن وجوده أو يهاجم ليعيش. ولم يكن يحارب. فالحرب منتوج بشريّ صرف لصيق بمرحلتي الإدراك الدينيّة والعلميّة. إنّ الحرب وليمة الموت الفاخرة يوزّع فيها القتلَ على البشر بسخاء. بالحرب خسر الكائن دفء الأسطورة وطمأنتها. ووجد نفسه من جديد أمام الموت صادماً عنيفاً مروّعاً. بالحرب تشكّلت هذه الجدليّة: لقد نمّى الكائن وسائل إدراكه فلم يربح، وإنّما عاد إليه الألم الذي كانت الأسطورة قد أنجدته منه.. عاد ليملأ وجوده أنيناً وتأوّها. وخسر مصالحته مع العالم إذ وجدنا الأرض تنزع رداءها الأخضر أو الأصفر أو الأبيض لترتدي ثوباً أحمر مكلّلا بالسواد تحت غيوم دخان الحرائق.

في الحرب تزول رائحة التراب حين تعمّها روائح احتراق اللحم البشريّ مشويّاً. الحرب تحرق الكون. وتلغي بعنف جماله. في الحرب تنبت للكائن الإنسان، المحافظ على كامل أناقته المتمنطق بربطة العنق المتزيّن بكلّ أوسمته ونياشينه، أنيابٌ ومخالب تقطر دماً قانياً. ولكنّه لا يلتحق، بذلك، بذوات الناب والمخلب من السبع والكواسر لأنّ هذه الأخيرة لا تقتل إلاّ لتعيش. أمّ الكائن الأنيق المتهندم بربطة العنق المبتسم لكاميرات التصوير فإنّه يقتل ليسرق وينهب ويفتكّ غالبا وليتلذّذ ويَطرب أحياناً.

بفعل فقدان الكائن حاسّة السمع وانحسار درجات إدراكه لتنحصر في الإدراك العينيّ كانت الحرب. لقد سادت الرؤية. وغابت الرؤيا. فانقاد الكائن طيّعاً إلى العين تخاتله وتغويه. إنّ العين ترى. فتُعجَب بما تراه. فتتمنّى امتلاك ذاك الذي أعجبها. فتحرّك البطن. وتثير في أعماق الكائن نزعة التملّك الكامنة فيه مختبئة. فينصاع للنزعة. ويطمع. فيوقد في العالم حرباً لاغتصاب ما بين يدي غيره. لقد اختزل الكائن في عينه وبطنه. فتدمّرت قيمه. وأطردت بقيّة الحواسّ. لقد جعلت الإنسان كائناً بطنيّا.

لقد ألْغتِ العينُ الأذنَ. فعمّ الشره. وتبلبلت لغات البشر. فصاروا يتكلّمون كثيراً حدّ الثرثرة. ويشاهدون أكثر. ولكن لا يسمع أحدهم الآخر. إنّه الصمم الكونيّ يسود. فيحترق العالم حروباً. تناقض آخر من تناقضات العالم نرصده: تيسّرت وسائل التخاطب. وأُتيحَت للجميع فقراء وميسورين. وتكاثرت الفضائيّات الإعلاميّة. والمفترض أن تحقّق هذه الوسائل الإبلاغَ والتواصل والوفاق والتفاهم الكونيّ. ولكن ما ساد كان عكس ذلك تماماً. فقد ساد سوء التفاهم والخلاف والصراع. والحرب ليست إلاّ دليلاً على ذلك ومظهراً مُفلِقاً من مظاهره. لقد راجت ثقافة الصورة فغاب التفاهم. وخلّفت في الكائنات حتميّة الحرب وألفة الرعب وتلقّي الألم قدراً لا خلاص منه. لقد اختزل الكائن حواسّه في العين. فدمّرت وجوده.

تاريخ الحرب:
الحرب صراع مسلّح تتبادل أثناءه مجموعة من الدول أو الشعوب أو القوميّات أو العرقيّات أو الديانات القتلَ في معارك دمويّة واسعة النطاق. ولا تنتهي إلاّ بفرض المنتصر غلبته على خصمه المهزوم. وإذا دارت الحرب بين جماعات أو عرقيّات أو تيّارات أو أحزاب أو أطراف داخل كيان دولة واحدة سُمّيت حرباً أهليّة. والغاية من إيقاد الحرب الإخضاع والسيطرة على الضعفاء واستعباد الإنسان الإنسانَ وقهره واستغلاله ونشر الرّعب قديماً.

ولقد ظهرت الحرب في تاريخ البشريّة منذ أن بدأت تتشكّل بُنى مجموعات بشريّة مستقلّة تنظّمها قوى مسلّحة. وتقودها جيوش شعبيّة أو نظاميّة تتمتّع بأزياء تمييزيّة وبتنظيم ذاتيّ وبتمويل مستقلّ وبإدارة خاصّة. ولقد نمت ظاهرة الحرب بفعل التحويرات التي طرأت على المجتمعات وبفعل تسارع نموّ التقنيات والأسلحة من الحجر والعصا إلى النبل إلى السيف والخنجر والترس إلى المنجنيق والحصن إلى حين اكتشاف البارود كارثة البشريّة العظمى.

ولقد عرف الاجتماع البشريّ تحوّلات كبيرة طالت أنماط إنتاج الثروة وتوزيعها على مرّ العصور. ونمط الإنتاج هو المحدّد دائماً للنقص الذي يدفع إلى سدّه بطريقة ما. والحرب كانت إحدى وسائل سدّ النقص الاقتصاديّ في المجتمعات ذات الحاجة. ففي نمط الإنتاج الزراعيّ كان النقص في الماء أو الغذاء أو الذي تتسبّب فيه حالات الجفاف والتصحّر وغيرها من الكوارث الطبيعيّة دافعاً رئيسيّا لإشعال الحروب بين الجماعات البشريّة المتجاورة.

كما أنّ نشر دين أو إيديولوجيا أو مذهب كان من أسباب إيقاد الحروب منذ القدم. وفي نمط الإنتاج الرأسماليّ يمثّل الرّبح سبب الحرب الرئيسيّ. فلا يرضي رأس المال إلاّ مراكمة الأرباح وسرقة خيرات الشعوب وافتكاك اللقمة من أفواه الأطفال والجياع وإن كان ثمن ذلك أنهاراً من الدماء تغرق العالم. وفي نمط الإنتاج الإمبرياليّ كان التوسّع سبب الحرب... إلخ.

ومنذ العصور الوسطى، بدأت الحرب تتقنّن تدريجيّا حتى ظهر ما يسمّى مفهوم حقوق الحرب التي تمثّل، اليوم، موضوع جملة من موادّ منظومة الحقوق العالميّة. ثمّ ظهرت تسميات ومفاهيم أخرى للحرب كاسم الحرب العادلة والحرب النظاميّة والحرب المقدّسة والحرب القذرة وحرب التحرير وغيرها.

الحرب ذكورة:
إنّ المدخل اللسانيّ يمكّن الداخل منه من الانتباه إلى أنّ تاريخ الحرب قد يكون هو نفسه تاريخ الذكورة. فالمعركة أنثى فيها يمارس الذكور كلّ أفعالهم التي يرونها كفيلة بإثبات ذكورتهم: استدراج، مراودة، تربّص، تغرير، تطويق، محاصرة، إشعال، تذويب، اغتصاب، احتلال، دخول، ولوج، هجوم، ضرب، طعن، قذف، إفراغ، أسر، استخدام، استعباد، سبي...إلخ.

هذه الألفاظ وغيرها في اللسان العربيّ وفي بقيّة الألسنة اشتقّتها اللغة استجابة لحاجة الكائن إلى التعبير عن حالة الحرب وعن موضوعاتها ومشاهدها وآليّاتها ومخطّطاتها ومخلّفاتها في الأرض والبحر والسماء وما بينها من بشر وشجر وزرع وضرع وطير وسيل ونهر وجدول. ولقد امتلأ بها معجم اللغات جميعاً قديماً وحديثاً. فراجت. واستقرّت في الألسنة. واشتدّ تداولها حتى اكتسبت ألفة بين مستعملي لغة الكلام في التخاطب والتواصل.

ولعلّه من أسباب رواج هذا المعجم الذكوريّ أنّ الحرب المؤنّث يأتيها الذكور في الغالب الأعمّ تاريخيّا. فهم الفاعلون فيها. وهي المفعول بها وفيها تماماً كما في الفعل الجنسيّ السالب الذي يكون فيه الذكر هو الفاعل. وتكون الأنثى المفعول في جسدها والمفعول برغبتها وبلذّتها. ويكون الذكور، أثناء الحرب، في بدايتها وفي عمقها وفي نهايتها. فهم المخطّطون والمدبّرون والمنفّذون والطاعنون والقاذفون والضاربون والنّاصبون أفخاخ اصطياد الكائنات الآدميّة لقتلها أو تعذيبها أو أسرها وتثمينها واستبدالها ومقايضتها بمثيلتها أو بالمال أو بالمتاع. أمّا الإناث فلا يكنّ إلاّ في نهايتها سبايا تتقاذفها أفرشة الآسرين. أو يكنّ في الحريم ضمن ما ملكت اليمين ممّا أُحِلّ وما لم يُحَلَّ. وبهنّ يكتمل احتفال الذكور بالفوز بلذّة الطعن والضرب والنصب.

ولابدّ من الإشارة إلى أنّ أنثروبولوجيا اللغة لا تُمِدّنا بما يشبع رغبتنا في معرفة الجواب عن السؤالين الملحّين التاليين: أيّ المعجمين أسبق في الوجود؛ معجم الحرب أم معجم الذكورة؟ أيّهما استعار من الآخر ألفاظه؟ لكنّ المهمّ أن نلاحظ أنّ هذا المعجم الذكوريّ الحربيّ تسلّل إلى بقيّة معاجم اللغة وسجلاّتها. ووجد لنفسه فيها مستقرّا. وملأت هي به خاناتها الفارغة. فنجده رائجا في سجلّ اللغة العاميّ المتداول مثلما نجده في سجلّ الخطاب الرياضيّ والإعلاميّ وفي سجلّ الخطاب الإبداعيّ والسياسيّ والدينيّ وحتى في السجلّ التربويّ. ألهذا السبب جفّت القرائح وتقلّص الإبداع وعمّ العنف كلّ ميادين الحياة؟ هل هذا ما يفسّر عنف السلطة والمؤسّسة؟ ماذا لو كان التاريخ أموميّا مؤنّثا؟ هل كانت ستكون الحرب؟ ولو كانت هل كانت لتكون بهذه الضراوة؟

الحرب فعل وجود:
كثيراً ما اتّصل إنتاج المعنى الشعريّ بالحرب في الثقافة العربيّة. ففي الشعر العربيّ القديم، كانت الحرب مجالاً واسعاً وجدت فيه الغرضيّة تاريخيّاً مورداً خصيباً من موارد شعريّتها. ولن نطيل في هذا العنصر. نشير فقط إلى أنّ الحرب في الشعر العربيّ القديم قبل الإسلام كانت أدخل في غرض الفخر بالذات أو بالنسب قبل أن تستفيد منها بقيّة الأغراض فيما بعد. وغرض الفخر نراه فعلاً وجوديّاً خلافا للرأي السائد. فمن التبسيط الطفوليّ أن يروّج النقد العربيّ القديم والمعاصر مفهوماً للفخر مفاده أنّ الشاعر المفتخر هو كائن متباهٍ بخيلائه ووسامته مفاخر بقوّته وقيمه وأصله ونسبه. إنّ الناس، اليوم، لا يقبلون سلوك التباهي والخيلاء في كلّ المجتمعات. فكيف بهم منذ مئات السنين؟

إنّ الفخر فعل وجوديّ مقاوِم للعدم. فالمتأمّل في الشعر العربيّ قبل الإسلام يلاحظ فيه وعياً دراميّاً بخطر التلاشي الفرديّ والجماعيّ في الزمان والمكان. فليس للعربيّ أثر (trace) في المكان. إنّه كائن مترحّل متنقّل لا يقرّ له قرار، لم يفكّر في تأسيس العمارة . ولم تنشأ في معجمه مفردات الإقامة والسكن والقرار والاستقرار. ولذلك كان اسمه مهدّدا بالزوال إذ لا دليل بعده عليه.

فكان الشعر خطاباً جماليّاً مقاوماً لهذا الخطر. وكان الفخر في الشعر نوعاً من المواساة للذات الواعية بهول النسيان. إنّه نوع من تثبيت المكان الخالي من العلامات في الزمان الدائر السائر. إنّه خوف دراميّ من سطوة التاريخ الذي لا يحفل إلاّ بالخاصّة. أمّا العرب فلم يكونوا من الخاصّة بل من العامّة بل من البدو الذين تقتفي الريح آثارهم. وتمحو ذكراهم. لهذا نعدّ معاني الحرب في الفخر بالذات أو بالجماعة فعلاً وجوديّاً. ففي الحرب تعداد لمآثر الذات المهدّدة بالإزالة. إنّها خطاب تحدّ موجّه إلى الزمان مفاده: كيف ترضى أيّها الزمان الجاحد الصارم الماضي بحزم وعزم أن تلغي أسماء أبطال الحرب والشعر هؤلاء؟

تدخل الحرب ضمن منظومة القيم التي تنتظم حياة العرب قبل الإسلام. ففيها يتمّ اختبار قيمة الفتوّة في الفتى. من ذلك اتّصالها بقيمة الدفاع عن العرض. قال طرفة في دائيّته الشهيرة المعلّقة:
وإِنْ يَقْذِفُوا بالقَذْعِ عِرْضَكَ أَسْقِهِمْ* * * *بِكَأْسِ حِياضِ المَوْتِ قَبْلَ التَهَدُّدِ

ومنها اتّصالها بقيمة المجد الذي يدفع صاحبه إلى الحرب دفاعا عنه. نقرأ في معلّقة الشاعر الأمير الشابّ عمرو بن كلثوم النونيّة ما يفيد هذا المعنى. قال:
ورِثْنا المَجْدَ وقد عَلِمَتْ مَعَدّ* * * *نُطاعِنُ دونَه حتى يبينا

ومن معانيها التعلّق بقيمة الإباء ورفض الانصياع للذلّ والمهانة مهما كان مصدرهما. قال الشاعر الأمير الشابّ أيضا مخاطبا ملك الحِيرة عمرو بن هند الذي حاول أن يستخدم أمّه جارية عنده:
بِأَيِّ مَشيئَةٍ عمْرَو بنَ هِنْدٍ* * * *نَكونُ لِقَيْلكُـمْ فيها قَطِينا
بِأَيِّ مَشيئَةٍ عَمرَو بنَ هِنْدٍ* * * *تُطِيعُ بِنا الوُشاةَ وتَزْدَرينا
تَهَدَّدْنـا وَأَوْعِدْنَا رُوَيْدًا* * * *متى كُنّا لأمِّكَ مَقْتَوينـا
فَإِنَّ قَناتَنَا يا عمرُو أَعْيَتْ* * * *على الأعداء قبلَكَ أن تلِينَا
كما اتّصلت الحرب بقيمة التعفّف عن حصد الغنائم حين يهبّ الناس لجمعها. فالشاعر الفارس يُقبل على مهالك الحرب. ويدبر عن مغانمها إذ المجد غايته لا المال ولا المتاع ولا الثراء وإن كان ذا حاجة وتقتير. قال عنترة في ميميّته المعلّقة في هذا المعنى:
هَلاَّ سَأَلْتِ الخَيلَ يا ابنةَ مالِكٍ* * * *إِنْ كُنتِ جاهِلَةً بما لم تعلمي
يُخْبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الوَقيعَةَ أَنّنِي* * * *أَغْشَى الوَغَى وَأَعِفُّ عِنْدَ المَغْنَمِ
ولم تغب عن الشعر العربيّ القديم الحرب باعتبارها فعلاً كريها معادياً للوجود يأكل حيوات الناس ويهدر أعمارهم بددا. وقد قال الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى في ميميّته المعلّقة قولاً بليغاً بما خبره من أمورها ومن أمور الدنيا وأهلها. فقد رأى أنّ الحرب خصيبة سرعان ما تلقط اللقاح. وهي ولاّدة تنتج حرباً فحربا. قال حكيم الشعراء:
وما الحَربُ إلاَّ ما عَلِمتُمْ وذُقْتُمْ* * * *وما هو عنها بالحديث المرجّمِ
متى تبعثُوها تبعثوها ذميمـةً* * * *وَتَضْرَ إذا ضَرّيْتُموها فَتَضْرَمِ
فَتَعْرُككُم عَرْكَ الرّحى بِثِفالِها* * * *وتَلْقَحْ كِشافًا ثُمّ تُنْتَجْ فَتُتْئِـمِ
فَتُنْتِجْ لَكُمْ غِـلْمانَ أَشْأَمَ كُلّهم* * * *كَحَمْرِ عادٍ ثُمَّ تُرْضِعُ فَتَفْطَمِ
فَتُغْلِلْ لَكُمْ ما لا تُغِلُّ لأَهلِها* * * *قُرًى بالعِراقِ مِنْ قَـفِيزٍ ودِرهمِ
لكنّ رأس المال يوقدها اليوم خساراتٍ فادحة للكائنات في كلّ زاوية من زوايا الوجود. إنّها وليدته. ولا يعيش إلاّ بها وفيها. وهو ربيب الوجود. فلا عاش رأس المال. وعاش الوجود.. عاش.

 

كاتب من تونس

mustapha.kalii@yahoo.fr