القاصة المغربية تكتب المشاعر التي تنتاب الراوية بينما تستعد للذهاب لحفل التخرج. ومعايشتها لذكريات سنوات الدراسة وما ينتظرها في المستقبل. مفترق طرق تواجهه الراوية وتحاول ألا تدفن رأسها في الرمل.

حفل آخر السنة

رجاء البقالي

أتطلع إلى وجهي وهندامي في المرآة كما لم أفعل من قبل أبدا. وهذا الماثل أمامي، كأنه توأمي في عز الغربة والوحدة. أبحث عن شيء في هاتين العينين، أصطدم بهما في عيني. أطوقني بربطة عنق سوداء، بخطوط بيضاء وحمراء، انتشلتها من بين أكوام تملأ المكان. تتوه الأصابع، تتلوى ربطة العنق كما الثعبان المطوق لفريسته. تستهويني المتاهة. أستعجل نشوة الفوز. أمطط عنقي إلى أعلى. أسحب رأسي قليلا إلى الوراء... تلاحق عيني ربطة العنق تطمئن على البياض. أجتاز إحدى متاهات هذا الصباح...

حفل التخرج بعد ساعتين. أستدير إلى السرير. أهوي عليه. تقفز المشاهد إلي. تتسرب عبر شقوق النافذة التي قلما أفتحها، تطل على المدرسة التي قضيت بها أربع سنوات،أدرس العلوم الإقتصادية، محاصرا بين جدارين لغرفة من ثمانية أمتار، الجدار الثالث، تحتله النافذة، وقطرات المطر تراقص صدى أجراس الكنائس العائمة في ظلمة الصقيع والضباب، في مدينة لا تشرق في سمائها إلا شمس العلم.

والجدار الرابع، أستند إلى ثلثه، حيث قاعدة السرير، والباقي يتقاسمه الباب والمغسلة.

أراني أجلس بين الجالسين، أترقب دوري في استلام شهادة التخرج. ينادى علي. متبسما، أصعد المنصة. أستلم. أصافح، وتصفيق يصحبني إلى مقعدي من جديد في الصفوف الأمامية.

أرمي ببصري إلى يميني. أتورط في متاهة عد الخطوط والبقع الشاحبة المتسربة من فتحات النافذة الضيقة، يعكسها ضوء المصباح الخافت على الجدار، حيث السرير الضيق يئن من ثقل الفكر والجسد.

****

لم تجد أمي عناء في إيقاظي في ذلك الصباح المشرق. قفزت من السرير عند أول نداء، تحفني هالة من نورين: الشمس وأمي. ألبستني أحسن الثياب. غمرتني بدعاء. مسحت على شعري بيد ندية. سرت طاقة نورانية في ثنايا الجسد الفتي. نزلت المائة درجة، أحسبها عشرة.

وجدتني وأقراني في قاعة الدرس، تزهو بالأحمر و الأصفر والأبيض... بالونات تتدلى من شريط الكهرباء، تحيط بالمصباح اليتيم العالق في الوسط تداعبها نسيمات بحرية منعشة، تختال بمعانقة ربيع يولي، لإطلالة صيف خجولة... وفرح يزور المكان، فلا حساب ولا إملاء، فقط، مرح وشقاوة يجربان الإفلات من قبضة مدرسة متجهمة، لم يعلق برؤوسنا الصغيرة إلا درس واحد من دروسها: انتظار الأمر بالكلام أو الأمر بالصمت. على المقاعد تسمرنا، نهمس بأنشودة أو نكتة. نختنق ضحكا. ننكمش. تختنق الضحكات في الصدور. عنادل توقع وصلات من ترنيمة الصباح، ونحن نراوح المكان، عيوننا على مكتب المدرسة، كسي بالأخضر، رصت عليه أطباق حلوى، ومشروبات غازية بكل الألوان... حوله تتنطط بنات الفصل المدللات، بينهن بنت المدرسة الآتية من فضاء غير الفضاء، ومن زمن غير الزمن،٠ فكم مرة سمعننا المدرسة تتحدث مع أخريات عن التعليم الخاص، الذي يثقل ظهر صغيرتها بالكتب الكثيرة المستورد أغلبها، وعن حافلة النقل المدرسية ومواعيدها الصارمة... يتباهين بفساتين وردية وبيضاء، وشعور مصففة لامعة، كأنها صحاري من السواد، بثت فوقها روؤس حيوانات أو ورود من البلاستيك، بألوان فاقعة، لم نكن نرى مثلها إلا على روؤس بطلات الكارتون، وكلام لم نفهم إلا قليله: عبارات بلغات أجنبية، مفاتيحها في حصص الدروس الخصوصية... ضحكاتهن الطليقة طبقت الفضاء المكتوم...أيديهن لم تتوان عن التقاط حبات الحلوى يغذقنها على بنت المدرسة طمعا في رضاها، ورضا أمها، التي انقشعت أساريرها فحظينا برؤية أعمق أضراسها. مشهد، لم نصفق له، نحن الذين لم نصطف... لم نكن على مقاس توقعات المدرسة ومعاييرها... و نختم السنة كما بدأناها، متفرجين على مباح علينا محرم... نبلع الريق والكلمات، نتطلع إلى أمر واحد: استلام كل واحد منا نصيبه من الحلوى ومن المشروبات الغازية.

تمر الدقائق سنوات. يجف الريق. تخرس الألسن. يؤ خذ السمع والبصر بالخشبة وبطلاتها. ويأتي الأمر أخيرا، تلفظه المدرسة وعلكة من فمها: تتقاسمنا البنات صفوفا أربعة، أيادي سفلى، لتتوج آخر صبيحة في المدرسة ببصمة مخزية، لحفل أدينا ثمنه، ولم نظفر منه إلا برشفة مشروب وحبتي حلوى. منتصف النهار، يأتي الأمر. نغادر، عيوننا على المشهد الأخير: بطلات الخشبة، ينفردن بالتهام ماتبقى أو دسه في الجيوب وحقائب اليد.

ننطلق في المنحدر الظليل، تصحبنا بقية من عنادل، تشدو لفرحنا بلمسة حنان، تحيينا بعد إماتة، ولقمة تنسينا شماتة صبيحة جائعة ظمئة: حفل آخر السنة.

****

أحس بجوع شديد. أنقلب إلى البراد المتقزم القابع إلى يساري... بقايا حليب وجبنة... إلى السرير. أغرق في الحفرة التي نحتتها سنون الغربة و الملل.

أسحب الغطاء على هذا الشيئ الملتف على نفسه كما الحلزون الهارب من لمسة متطفلة. ليتني أعرف كيف ينام الحلزون !... أطمع في غفوة أسترجع بها قليلا من اليقظة، بعد ليلة بئيسة قضيتها مشدودا إلى هذا السرير اللعين، عالقا في شباك الزمن... تتوهني شطحات الذاكرة و ألاعيبها، يتقاذفني الماضي والآتي... كثلة رخوة أنا، لا املك إلا التلاشي في سراديب اللاوعي و متاهات المقبل... أي مشروع أنا؟! تضيق بي الأبعاد الأربعة. يخنقني المكان. أعترف بعجزي عن ملاحقة زمن بلا محطات...

الحفل الختامي على بعد ساعة ونصف، وأنا أستعطفني في لحيظة أفلت بها من قبضة زمكانية لاترحم... ولكن، كم هي مغامرة هذه اللحيظة لو حظيت بها !... فقد تأخذني نومة، يعبث بي اللاوعي، يلبسني أقنعة وأدوارا، يورطني في متاهة فك رموزها، وأنا المتخبط في فخ اليقظة، العاجز وعيي عن لملمة تداعيات الذاكرة، يكاد لا يتبين ملامح الحاضر في صحراء الزمن، حيث لا علامات دالة و فاصلة.

نظن أننا قطعنا مسافات، وأننا على وشك الوصول... ندفن رؤوسنا في الرمال هروبا من حاضر يجثم عليه ما فات وما سيأتي.

لا، لن أغامر بإغفاءة، فأفيق مذعورا، ذعر الرضيع الذي استل من ثدي الأم فجأة، فأسلم الروح والجسد للصراخ.

هو الماء، وحده القادر على انتشالي من جنون محقق. أقفز إلى الحويض. أفتح الصنبور يمينا. ينزل الماء صقيعا على كفي، وعلى المرآة تسخر مني ربطة عنقي: لقد نسيت أن أحلق وجهي.

شفرة منهكة، وذقن يقطر أحمر. حذرا أغسل وجهي، فالبياض أمامي يحذرني من أي تهور أضغط بيمناي على الجرح، وباليسرى أجر أسفل فوطة مسجاة على قاعدة السرير، أمرره على وجهي الحليق.

أبتسم، تخبرني المرآة. إلى السرير، أستوي على حافته يقظا. يظلم بصري في سواد الجذار أمامي ، حيث اللوح الخشبي كأنه لم ينعم بأبيض أبدا... كدت أنسى الورق والقلم، فهل أتذكر اللوح والطبشور؟؟؟

****

ما زلت أذكر يوم حظيت بحاسوب، بعد محاولات أمي المريرة في إقناع أبي. كنت في العاشرة من عمري حين ابتلعتني العوالم الإفتراضية. كنت أسمع دقات قلبي وأنا أحرك البطل في اتجاهات مختلفة بحثا عن الأعداء المفترضين.

أناملي لا تجيد سوى الرقص على لوحة المفاتيح،

أشيح ببصري عن خطي الرديء...

أمضي والحاسوب، بلا خطو، نجوب الأكوان

والأخبار والمعارف...

يأخذني السواد. أتوه بين وجوه بلا ملامح. تتقاذفني الأماكن، الأزقة المسكونة بكايات التهريب والمخدرات، تسلمها حلكة الليل للصوص وسكارى و...

أسافر بعيدا، عبر حكايات أمي العجائبية، نلتحف الليل سكنا. عشقت الليل موطنا. ألفت حصونه وقلاعه... أطوي النهارات، وساعات الدرس الرتيبة، أطارد والأبطال أشرار الحكايا،بحثا عن الكنز المفقود، أو الأميرة المسحورة.

****

أرمق الساعة تطوق معصمي. هناك على بعد أمتار من هذه الإقامة الجامعية، تتأهب الإدارة والأساتذة لمنح شهادات علمية للمتخرجين. هويتي على وشك استقبال قادم جديد، فهل يضيف الحبر والورق إلى هذه الهوية؟ يتجاذبني المستقبل والذكرى. تسكنني الطفولة، تشرق حين يظلم أفقي، فكيف تظلم وأنا أعبر إلى عهد جديد؟ شهادة علمية بتوقيع غربي،عمل بأجر مغر و سكن مستو على جدر حقيقية !...

كيف تتوهني شطحات الذاكرة، تقتلع وعيي من لحظة خلتها فاصلة في سفر الوجود؟...

اهتزاز مريد لهاتفي المحمول، يخرق سكون الأشياء، يقلب مسار الوعي. وجلا، أهوي عليه بكفي أكتم نفسه. إنها هي تلك الفرنسية المهووسة بعبق تاريخ مختلف، لا تمل من تذوق خلطاته الغرائبية...

لا أملك إلا الضجر وحاسة ذوق معطلة....

أعشق ما لم يكشف عنه بعد..

وهل يرضى شهريار الملول عن غير شهرزاد العطاء؟!

نصف ساعة على الحفل الختامي. أترنح إلى الخزانة. أسحب السترة السوداء من غطائها البلاستيكي الذي لازمها منذ شرائها من سنة كاملة،

أمددها على مؤخرة السرير. أطمئن على الحذاء، ألمحه تحت المكتب أسفل النافذة،وعلى يميني، يعلق بصري بما تبقى من بقع وخطوط شاحبة، يبدو أنها غيرت مواقعها على الجدار.

يستهويني العد: واحد، إثنان، ثلاثة،أرببععع، خم...

أفيق لا أذكر كيف نمت. الغرفة مستسلمة لنور المصباح، فلا أثر للنهار على الجدار. أخلصني من ربطة العنق، ومن نفس أحسه يخرق صدري:

غدا أو بعد غد، أسحب شهادة التخرج من إدارة المدرسة.

أسدل جفني. تحلق بي الأنوار، أراقص صفحات من رواية الخلود: أمي.

 

 الأحد 25 دجنبر 2011