يوميات الشاعر المصري مفعمة بالسواد، صور يائسة من اليومي. لذلك لا تتكلف اللغة ولا تحتاج الذات إلا أن تعلن بوحها الذي لا سبيل للسكوت عنه، كي تشرك القارئ في مرارة "واقع" ما تتشابه صوره على امتداد هذه الجغرافيا العربية.

يوميات

محمود فرغلي

(1)
كِيلو متر أوْ أكثرْ،
وقَميصِي لَم يعرفْ طَعمَ المِكواةْ،
وحذائي مفتوحُ الفمِّ تماماً،
والشنطةُ مثقلةٌ بالكتبِ، وبالأدواتِ،
وبالخوفْ
كيلو متر أوْ أكثرْ
كانَ طريقِي بينَ حقولِ القمحِ وأفنانِ الكافورِ،
ورائحةِ الصبحِ النَّديانْ
ضحكاتٌ رائقةٌ تَصَّاعدُ،
طوبٌ يُركلُ،
أحذيةٌ تتمزقْ.
عرباتٌ مارقةٌ تَلعنُ لهوَ الأطفالْ،
ورفاقٌ في السيارات العجلى كم وعدوا أمثَالي بالضربِ عَلى مَلأٍ
في الطابورْ.
لَكنَّا لم نشبعْ أبدا من ركلِ الطوب على الطرقاتْ.
مَن يخبرُ أخواني ممن ركنوا لوداعةِ إسفنج السيارات
أن الكيلو المتر الواحدَ لا يكفي
لتمدد فرحٍ
بين الحزنينْ.

(2)
وأنا السائرُ في أرضٍ حَمئةْ،
لي مِن خُوص النخلِ
       غطاءٌ للرأسِ،
ومن بالي الأقمشةِ
مزادةْ.
قطعةُ جُبنٍ،
وقليلٌ من ملحٍ،
ورغيفٌ شمسيٍ 
                   تسكنهُ بيضةْ.
وحدي ألجُ غباراً لا يرحمُني،
وحدي أشعرُ بالغُصّةْ
وحدي أحمل فأسَ العمرِ المكدودِ على كتفي،
وأذوبْ
والخولي يشحذ ألسنةً ساخرةً تهزأ بِي:
أبنُ الظلِ
قليلا ما ترحمهُ الشمسُ
فصدقتُ،
ألهبني بعصاه
فنهنهتُ
لكنَّ عصا أمي كانت
تمتدُ كثعبانٍ
يمنعني العودةْ.

(3)
في الفجر تماما
كان أبي
يوقظني
فأقوم على عجلٍ
أغسل وبظاهر كفي غمضَ العينين
أحكُ
أحكُ
بكلتا كفيَّ أُهارش جسدي،
أسلمه كفي
وأسيرُ
أمام الجامع في الظلمةْ
أتحسس ثمراتِ السدرِ المنثورِ
وأملأ من جمع يديَّ جيوبي
أجمع سدرا مختلطا بأديم الأرض،
ومعجونا بالطين
وآكل في نهم صبياني
ولا آبهُ لنصحته
أن أبقي للأخوة بعض الثمرات
حين كبرتُ وفكرت بألا آخذ غير نصيبي
كانت أجملُ شجرات السدر 
                       اقتلعت 
                              كان أبي قد مات.

(4)
نخلاتُ العمدة خلف البيت
كانت مسرحنا
وأخي دأبَ يمثِّلُ،
يُخرجُ
ويسمي النخلَ بأسماء محالْ،
نخلات العمدة كانت تعرفني
فأنا من أرهقها ضرباً وصعودا مختلساً،
وأنا أحدُ جنود معاركها المحتدمةِ
أحد الفرسان اللائي رفعوا من عسب النخل سيوفا
وعلوا خيلا،
ركضوا من حوليها
أدخلَ فيها البهجة
في أزمنة من جنة.
نخلات العمدة تشكو اليومَ الوحدةْ
دون أنينٍ
ترفع قامتها وسط بنايات عاليةٍ
كمصاب بالسلِّ
وتشحذ أنفاساً بائسةً
دونَ مُعين.

(5)
ببعضِ الخُردْ
أشتري طبلة ً
وعروسا ً
ببعضِ الخردْ
أشتري مشطًها
وحصاناُ لها
ثم أمضي إلى ليلةِ العرسِ
في السرّ أبني بها
قبلما أن يراني أحد ْ

(6)
لطبليةٍ زغردَ القمحُ من فوقها
كنتُ آوي
إلى جدةٍ
لستُ أعرفُ ما إسمُها
ثم أسربُ عكس الذي تسربُ
فأبقي لها الطين َ
أرمي لها القمحَ
تضحكُ منّي
وتقرصني
في يدّي
فأجري ويحلو لي المهربُ
وبعد قليل من العمر أرجعُ
ألمحها أُسندتْ للنوى والشجنْ
فأحزن حزنا شفيفا
وأهتفُ:
يا ليت قمحاً سربنا
على ظهرِها ما عُجنْ

(7)
نخلةٌ في الطريقِ إلى الميتينَ
تلوّحُ لي من بعيدٍ
فأرمحُ
ألقطُ من ساقطِ التمر ِ
ما لا أشارك ٌفيه أحدْ
حين يسكرني طعمُه
لا أبالي بعينيّ أمي
ولا بالسواِد الذي طالها للأبد.

شاعر مصري