يرى الكاتب والناقد المغربي من خلال تفكيك الهوية، وتشظي المحكي، واختلاقيّة الذاكرة في المكون السيرذاتي لرواية غالب هلسا، أن بنية النص لا تخلو من إمكانات التخييل، مما يولد الشك في الرؤية الوضعية الاختزالية، التي تقرن جنس السيرة الذاتية بالوثائقية والمرجعية. ويفتح النص على احتمالات قرائية وتأويلية أوسع.

جدل السيرذاتي والتخييلي

تفكيك النموذج في «ثلاثة وجوه لبغداد» لغالب هالسا

محمد بوعزة

نستعمل مفهوم التخييل في هذه القراءة بمعنيين. أولاً: بمعنى عام يستمد دلالته من مفهوم الأخيلة، بوصفها آلية لإنتاج صور وتداعيات تضفي على الوقائع قيماً وجماليات جديدة. يحيل التخييل، في هذا المعنى الأولي، على عمليات الحلم والتذكر والاستيهام والاستشراف. فالأخيلة تتخيل وتغني إدراكنا للعالم بالصور الجديدة التي تبتكرها أو تحلم بها أو تستشرفها. ومن ثمة فإن فعل الأخيلة لا يقتصر على مستوى الصور والأشكال، وإنما يؤثر أيضا على مستوى الإدراك، حيث يمثل أحد عوامل الإبداع والتجديد والتطور.

وهذا ما يؤكد الجانب الإنتاجي والتوليدي للأخيلة التي لا تقتصر على التذكر والمحاكاة، بل على انتقاء المعطيات وإعادة تنظيمها في تركيب جديد يمنحها شكلاً مغايراً وبالتالي معنى جيداً والانتقاء والتركيب. هذه العمليات البنائية التي تتزامن فيها أفعال التذكر والانتقاء والتركيب هي التي تحدد الجانب الإبداعي التوليدي في فعل التخيل. لذلك يكون الرهان الاستراتيجي للتخيل هو توسيع أفق الإدراك، وبالتالي تجديد المجرى العادي للحياة، بما يضخه من صور وتخيلات منبثقة من رحم المألوف. ولعل هذه العلاقة بين التخييل والواقع هي التي جعلت "روبرت شولز" يؤسس شعريته للتخييل على أساس مبدأ العلاقة الإحتمالية بين العالم التخييلي وعالم التجربة. فهو يقول: "إن عالما تخييلياً يمكن أن يكون أفضل من عالم التجربة أو أسوأ منه أومساوياً له(1).

في المفهوم الثاني نستعمل مفهوم التخييل بالمعنى الاصطلاحي في النظرية الروائية والسرديات، حيث نقصد به مظاهر الفعل السردي الذي تبني به الرواية خطابها السردي، سواء على مستوى الحكاية (مستوى الأحداث)، أو على مستوى الخطاب (كيفية تقديم الأحداث). في هذا المستوى الإصطلاحي سوف نتساءل: كيف يتعامل نص (ثلاثة وجوه لبغداد)(2) مع مكوناته السردية، بما تتضمنه من شخصيات ومحكيات وخطاب. وما هي الأنظمة السردية التي يشتغل وفق منطقها، وتخصص شعريته وأفق تجنسه؟

لذلك سوف يتركز اهتمام هذا البحث على المفهوم الاصطلاحي، لأنه يتقاطع بشكل جوهري مع موضوع الإشكالية، التي تحاول أن ترصد علاقة السيرذاتي بالتخييلي في ثلاثة وجوه لبغداد.

منهجياً لتفادي أي التباس بخصوص هذه الإشكالية (السيرذاتي والتخييلي) قد يفضي إلى محاكمة التخييلي على قاعدة المطابقة مع المرجعي (السير ذاتي)، نؤكد بأن إستراتيجية هذه القراءة تنطلق من التمييز بين ما يسميه جاب لينتفلت بمقتضيات السرد الأدبي، أي اعتمادنا هذه الإستراتيجية لا يلغي استراتيجية الكاتب، بوصفه صوتاً سردياً يحضر في النص إلى جانب أصوات الشخصيات. ذلك أن أهمية هذه الإستراتيجية التمييزية تتجلى في كونها تراعي الطابع التخييلي لأي نص أدبي، لأنها تحدد لكل عنصر من محافل السرد وظيفته وحدوده. ومن هذا المنظور، فإن كان فيليب لوجون يعتبر السيرة الذاتية نوعاً مرجعياً genre référentiel - حين يعرفها بأنها "حكي استعاري نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية، وبصفة خاصة على تاريخ شخصيته"- فإننا نرى أن السيرة الذاتية كنمط من الكتابة الأدبية لا تخلو من إمكانيات التخييل، كما توضح لنا في تحليل نص "أوراق " لعبد الله العروي في الفصل السابق.

ذلك أنه ما إن نلج تجربة الكتابة، حتى نتورط في شراك التخييل، باعتبار الكتابة ملتقى علامات متعددة، تمزج بين الذاتي والموضوعي، بين اليومي والتاريخي، بين الحلمي والمعيش. وتسلك طريقتنا في التحليل مسارين: في المسار الأول سوف نرصد المؤشرات السيرذاتية (الاوتوبيوغرافية) التي يبرزها النص، وفي المسار الثاني سنتقدم إلى محاولة معرفة هذه العناصر الأوتوبيوغرافية في أفق تشييد روائية النص. ومن ثمة سيكون المدخل إلى محاولة الإجابة عن الأسئلة المطروحة أعلاه، ومن خلال تشخيص المكونات السيرذاتية في النص، واستقصائها كقرائن متمظهرة داخل مسارات الحكي: في مقدمة هذه المؤشرات ما يسميه فيليب لوجون بتطابق الاسم identité de nom، وهو الإحالة على الاسم الكامل للمؤلف غالب هلسا بوصفه شخصاً واقعياً. فالشخصية الرئيسية في النص تحمل الاسم الكامل للمؤلف، وحسب لوجون فإن هذا الميثاق الاسمي هو الشرط الأساسي في السيرة الذاتية، ذلك أنه يحيل على أبرز قضية تخصص حدّ الجنس الأتوبيوغرافي: وهي تماهي المؤلف والسارد والشخصية من خلال تطابق الاسم. في هذا الإطار يتخذ نص ثلاثة وجوه لبغداد الدرجة الثالثة في التصنيف الأتوبيوغرافي لفليب لوجون، وهي درجة الشخصية التي لها اسم المؤلف نفسه. بعد درجة الشخصية التي يختلف اسمها عن المؤلف، ودرجة الشخصية التي لا اسم لها. استعمال ضمير المتكلم المفرد "أنا" الذي يهيمن على أكثر من نصف النص (من الصفحة 79 إلى الصفحة 199، أي 120 صفحة من أصل 199). ومن شأن هذه الهيمنة لهذا الضمير على المحكي أن ترسخ التماهي بين المؤلف والسارد والشخصية. الإشارة إلى بعض الأعمال الروائية للكاتب غالب هلسا مثل رواية (السؤال)، و(زنوج وبدو وفلاحون). الإشارة إلى بعض التجارب المعروفة في سيرة الكاتب مثل تجربة الاعتقال في مصر وترحيله إلى العراق.

وليست هذه القرائن المذكورة بمفردها هي التي تؤكد استدعاء النص المكونات الأتوبيوغرافية، بل نجد في متواليات الحكي ما يؤكد هذا الاستلهام السيرذاتي. ومن ذلك: استحضار التاريخ الاجتماعي والسياسي خاصة للعراق عبر الإشارات المباشرة إلى عبد الكريم قاسم، وثورة 1962، ومرحلة الحوار 1978، والاغتيالات في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، والإشارة إلى المؤسسات الحكومية وإلى بعض شعاراتها. إلا أننا ننبه أنه لا ينبغي الانسياق وراء هذه الإشارة المباشرة، التي كثيراً ما تغري بالمقارنة بين الرواية والتاريخ أو بين التخييل والواقع. ولعل انسياق بعض النقاد وراء هذه المعطيات السيرذاتية المباشرة هو الذي أوقعهم في شرك المطابقة البسيطة بين نص ثلاثة وجوه لبغداد وحياة الكاتب غالب هلسا(3). والجدير بالملاحظة أن هذه المؤشرات السيرذاتية في مستواها الأولي، لا تخلو من الالتباس على مستوى تحديد ميثاق النص: فالنص من جهة يأتي حاملاً لعلامة "رواية" كإحالة مباشرة على انتمائه إلى الجنس الروائي، ومن جهة ثانية فإن النص يلتزم بالميثاق الأتوبيوغرافي، حيث يحيل على الاسم الكامل للمؤلف، إضافة إلى الإحالة على بعض أعماله الروائية. إن هذا التوتر في مستوى ميثاق النص، ومن منظور التلقي يحدث ارتباكاً للقارئ. وهو ما يؤكد أيضاً أن النص يتعمد هذا الالتباس الأجناسي لغايات فنية تتصل بجمالية التوتر والخلخلة والتداخل الأجناسي. فكيف إذن يتم الانتقال من السيرذاتي إلى الروائي.

تفكيك الهوية:
رأينا كيف أن العناصر السيرذاتية في حد ذاتها لا تخلو من عناصر التوتر والالتباس والتشويش. ويتأكد هذا الالتباس أكثر على مستوى بناء الشخصية "غالب". يظهر الالتباس أولاً على صعيد الضمير النحوي. إذ الملاحظ أن النص في الفصلين الأول والثاني يعتمد الضمير الغائب الذي يحكي عن " غالب"، في حين يوظف المحكي في الفصل الأخير ضمير المتكلم. بل إننا نجد هذا اللعب بالضمير في الفصل الواحد، حيث نجد مثلاً في المحكي بضمير الغائب فقرات يتكلم فيها "غالب"، فينفتح المحكي على الضمير المتكلم وما يقتضيه من تغير في الرؤية والصيغة الخطابية والتشخيص اللغوي. وفي المحكي بضمير المتكلم نجد "غالب" في بعض الفقرات يوظف ضمير المخاطب. إن هذا التحول في الضمير يعمل باتجاه تشتيت وتشظية الشخصية، حيث يرسي مسافة اختلاف بين الذات والموضوع، بين الرؤية والإطار، بحيث أن "ضمير المتكلم في موقع تسيده هو في الآن ذاته، مكان غيابه، مكان إعادة حضوره أو تقديمه(4)". إن ما يتشظى هنا ليس فقط صورة الذات، بل تمتد مفاعيل التشظي لتطول موقع السرد، الذي يعيد تقديم الحكاية بشكل متقطع ومفكك، في المسافة الملتبسة بين الحلم والواقع، بين التذكر والاستيهام. وفي هذا العالم من التمفصلات المزدوجة " لا يمكن أن تكون هنالك تلك المباشرة والفورية التي يتسم بها منظور بصري، ولا تلك التجليات وجها لوجه في مرآة الطبيعة"(5).

وهو ما يتأكد أيضاً على مستوى اسم الشخصية، التي تتعتم هويتها وتتحلل في ازدواجية الاسم: فـ"غالب" بالنسبة لنفسه هو "غالب" لكنه "عباس" بالنسبة للشخصيات الأخرى. إن "غالب" بوصفه شخصية وسارداً، يتميز – من هذه الوجهة- بـ"طابع المفارقة" بتعبير أدورنو(6) الذي يرى أن السارد الحديث يحرص على تشييد مسافة جمالية في علاقته بالقارئ. وإذا كانت تلك المسافة ثابتة في الرواية التقليدية، فإنها في الرواية المعاصرة تتحرك وتتباين مثل أوضاع الكاميرا. وتتأكد المفارقة أيضا على مستوى كينونة "غالب"، حيث يعاني انفصاماً حاداً بين الواقع والحلم، بين الوعي والرغبة، بين الماضي والحاضر، بين "ليلى" و"سهام". وتأخذ هذه المفارقة بعداً درامياً، إذا عرفنا أنه طيلة مسارات الحكي ينوجد في حالة بين الحلم واليقظة، وفي دوامة الكوابيس والاستيهامات، بحيث لا يعرف هو ولا نعرف نحن في كثير من المشاهد إن كان في حالة حلم أو يقظة، وعي أو لاوعي.

إن هذه المسافة الجمالية التي تبرز عبر تفكيك الهوية، في مستوى الضمير النحوي ومستوى الوعي والكينونة، تعتبر إحدى الآليات الأساسية والأكثر فعالية لتكسير التلاحم المصطنع والوحدة المنولوجية للشخصية التي تميز جنس السيرة الذاتية. من هذه الزاوية تبدو شخصية "غالب" غير مكتملة بتعبير "باختين": شخصية تعاني من توتر حاد في وعيها وذاتها، تقع في شراك الازدواج، وهو ما يجعلها على مسافة ملتبسة من المجتمع تتسم بالتعارض. بل إن هذا التوتر مع الآخر يمس علاقتها بأقرب الناس إليها، "ليلى". إذ تظل علاقته بـ"ليلى" ملتبسة، تتشكل في المسافة الملتبسة للوهم والاستيهام، الحلم والواقع. ننتهي من قراءة الرواية ونحن لا نعرف "ليلى" من "سهام". إننا نلاحظ أن التباساً ما مقصوداً يتم الحرص عليه من طرف الكاتب في تشخيصه لعلاقة "غالب" بـ"ليلى". وإذا ما حاولنا التدقيق في ملابسات هذه العلاقة، نكتشف أن علاقته بها تأخذ شكل البحث عن شيء كان يتملكه ثم فقده. فـ"ليلى" تتجلى عبر منظار المتخيل بالنسبة لشخصية "غالب" كنقطة ضوء مشعة في ليل كوابيسه السوداء. وعبر هذه الدلالات والإيحاءات العميقة ينحو تشفير النص لشخصية "ليلى" منحى رمزياً، على نحو ما يبرز من المقطع التالي:

"كان الصوت (صوت ليلى) رقيقاً، حزيناً، مفعماً بالبكاء. كان نوعاً من البكاء الداخلي. الرقة والحنان، اللذان ينبعثان منه، قادمان من الماضي البعيد، يعيدان إلى الحياة تنويمة الطفل، إيقاع البكائيات، صوت الحادي يتخلل ليل القرية من مسافر يعبر أطرافها، حاد وحيد، خائف، وسط ظلمة ثقيلة، مشحونة بالرعب... وابتسامة ملتبسة لامرأة في كهف معزول، تصيب الصبي بالدوار. وتوالت الصور الثابتة، كأنما صور فوتوغرافية. ما تكاد تبدو حتى تثير معها انفعالات قديمة، منسية: جبال الأردن الشرقية، الغور، البحر الميت ونهر الأردن، الحصادون ولاقطات السنابل، وترفع اللقطة وجهها، العين الصارمة، المحدقة، البذيئة الإيماء لفتاة شبقة أم عين بيضاء"(ص76). في هذه الصورة تفقد "ليلى" بوصفها امرأة أثرها الواقعي، وتغدو رمزاً يتفاعل مع الرموز الحاضرة في هذا المقطع: الحادي، الكهف، الإيقاع البكائي، اللاقطات، الماء، الغروب، لتأسيس صورة أسطورية حيث اللحظة البدئية والطقوسية للمرأة باعتبارها منبعاً أصلياً للحنان، وملاذاً للاحتماء من رعب الوجود، إنها النور (ابتسامتها) الذي ينبثق في سطوة الظلمة، والتدفق الذي يحرر الذاكرة من النسيان... إذ تنفتح ذكرى "ليلى" على زمن الطفولة، وعبر هذا الانفتاح تتوالد المشاهد المنسية، ويستعيد "غالب" مذكراته في زمن يستمر في اغتيال كينونته وتقزيمها. بانبعاث صورة "ليلى" يدشن التخييل مجازات التصوير، ويختفي المرجعي في الصور الرمزية للمرأة/ الرمز، خاصة أن استعادة "غالب" لصور "ليلى" تجري في سياق المتخيل، عبر الأحلام وأحلام اليقظة" وكأنه لم يعد مرتبطاً بالواقع الروائي، بل بشظايا متذرية لذلك الواقع، تتمثل لا في الأشياء، ولكن في الكلمات التي تؤثث فضاء النص باعتباره (حلماً مركباً) للاستيهامات التي تدور حول (ليلى)"(7).

نخلص إذن إلى أن تجربة الذات (غالب) بفعل خضوعها لإستراتيجية تفكيك الهوية، تنتهك إطار التمثيل بوصفه وعي التطابق القائم في السيرة الذاتية، حيث يعاد تقديم الذات على مسافة استطيقية تعمق الفجوة بين المرجعي والتخييلي، بحيث لا يتعلق الأمر بمشكلة الكينونة الأنطلوجية (التطابق)، بل بمشكلة الإستراتيجية الإستطيقية الخاصة بموقع التشخيص الأدبي والثقافي. فغالب بوصفه شخصية روائية، بفعل جدل هذه الاستراتيجية، شخصية متشظية، تتشظى في صيرورة الحلم والحقيقة، وبالتالي تنفلت من إطار المنولوجية الأتوبيوغرافية.

تشظي المحكي:
يتوزع المحكي في النص على مستويات حكائية متباينة من حيث الأنساق والبنيات، ويمكن أن نميز في هذه المستويات بين المحكي الواقعي والمحكي الحلمي والميتا حكي. يرتبط المحكي الواقعي بالمؤشرات المباشرة، التي تحيل على أحداث ذات إيحاء مرجعي، تتعلق بما هو سياسي واجتماعي ومعيش، ويتم سردها وفق نسق الخطية. في حين يتميز المحكي الحلمي بانتهاكه لنظام الخطية، ويحكي بإستراتيجيته المزدوجة عن مناطق اللاوعي والمكبوت. والملاحظ أن محكي الحلم في النص تهيمن عليه صورة الكوابيس السوداء، وهو ما يعمق بلاغة الغرابة على حساب بلاغة الألفة، حيث يلجأ هذا المحكي إلى استقطاب عناصر الغرابة والشذوذ والنزوع نحو ما هو عجائبي وخارق. فالمشهد الأخير مثلاً في النص، مشهد العاصفة، يبدو أقرب إلى يوم القيامة، حيث تبعث شخصيات النص في أوضاع تتميز بالشذوذ والغرابة، وكأننا إزاء لوحة سريالية، تفقد فيها الأشكال عناصرها وتتداخل مولدة أشكالا مشوهة. في هذا المشهد يتم انتهاك المسافة بين الحلم والواقع، بالانتقال من الواقع إلى الحلم أو العكس. وفي مشهد الحديقة – مثلاً- لا نعرف من هي المرأة التي كان يخاطبها "غالب"، وهل كان في حالة صحو، أم أن هذا المشهد هو من استيهامات أحلام اليقظة. هكذا يوفر محكي الحلم للرواية دينامية داخلية تقوم على الترميز، تحد من أثر الأطروحي المباشر، وبالتالي يصبح المحكي الحلمي عنصر تفجير لنظام الخطية في المحكي الواقعي.

بالمقابل يجسد الميتاحكي ازدواج هوية النص بين الاستطيقي وبين السيميائي، عبر إستراتيجية اللعب على الحكاية وعلى وعي الكتابة، حيث يتفكك يقين الحكاية عبر استنطاق ومساءلة ضرورة الكتابة والتشكيك في إمكانيتها بوصفها مبدأ لتعيين الهوية أو المرجع، حيث يؤكد السارد على تجربة الكتابة بوصفها أفقاً للتخيل، بحيث لا نعود إزاء مشكلة الحقيقة، بل إزاء معضلة الكتابة: "وما زالت أمامي عقبتان: الأولى الكتابة بمنطق حلم اليقظة، والثانية أن يصبح مشروع الكتابة كله حلم يقظة"(ص88). يجسد هذا الوعي مشكلة الكتابة بوصفها أداء بالمفهوم السيميائي وليست مجرد تمثيل انعكاسي. هذا الأداء ينبغي فهمه بمثابة محو لمنظور التطابق الخاص بالسيرة الذاتية. إن الوعي السيميائي للسارد لفعل التمثيل في الكتابة باعتباره مشروع حلم يقظة، "يبطل افتراضات الشفافية الخاصة بالمحاكاة التي تدعم المشروع الواقعي"(8). إنه على وعي دائم بالفرق بين منطق الواقع ومنطق الكتابة. وما يضفي على الحكي ضرباً من الالتباس والإرباك هو فعل أدائه في فضاء غير محسوم هو فضاء الكتابة بمنطق الحلم. وتتمثل قوة هذا المنطق عبر إستراتيجية مكثفة من الازدواج، تتأسس على حالة من التخطي والانزياح عن الواقع. إن القوة الشعرية لمنطق الحلم تتمثل في توريط الحكاية في سياق الغرابة. فالسارد غالباً ما ينجز السرد في حالات قصوى للكينونة، الأرق والفوضى، تسم في آن معاً كل من إمكانية الوعي واللاوعي، الحلم والحقيقة، الحضور والغياب، وهو ما يخلق فضاء بينيا للحكاية، موزعاً بين الغرابة والألفة، بين الكاوس والنظام، بين العمى والبصيرة. هكذا انطلاقاً من منطق الكتابة الذي يغطي المعمار البنائي للحكي، أمكن تجاوز البعد الخطي للوقائع، الذي نقل "النص من مستوى السيري والسير ذاتي، إلى مستوى المتخيل والرمزي، ليس في إطار الحلم – النص وحده... ولكن أيضاً، وفي الدرجة الأولى في إطار النص–الحلم(9)".

إلى جانب هذا المستوى الحكائي من إستراتيجية الحكي الذي يقوم على آلية التشعب، يبرز في النص مستوى آخر لتشظي الحكي يتمثل في نسق التضمين، حيث يلجأ السارد إلى تضمين بعض المحكيات الصغرى. وأهمها:
حكاية مدير المكتبة وغيرته على الفتيات: تطبع النص بطابع المرح والسخرية والمفارقة.
حكاية رجال السلطة ومطاردتهم للنساء: تكشف عن الوجه القمعي للسلطة.
حكاية القديس مارجيورس: تضفي طابعاً أسطورياً على النص، وطابعاً تشكيلياً حيث تتحول اللوحة الى حكاية عن الأطفال والتنين، تتميز بالحركية وعناصر الغرابة والشذوذ.
حكاية الفئران المقتولة على الطريق: تعمق إيقاع القتل والموت والتعذيب في النص.
حكاية البراص والحشرات المقتولة في بيت "غالب": تعمق، بدورها، طقس الرعب والقتل والدم في هذا البيت الذي يتميز بطابع التوحش والفوضى والبدائية.

وإذا كانت المسارات الحكايئة الكبرى تساهم في تنويع بنيات وأنساق المحكي، وإنشاء نوع من الهجنة التخييلية وتفكيك الخطية على مستوى الكرونولوجية السردية، فإن المحكيات الصغرى تساهم على المستوى الدلالي في تدعيم النسق الرمزي للنص. ذلك أن المحكيات الصغرى تخترق النص عمودياً، وتشتغل بمثابة استبدال رمزي لبعض المسارات وتقدم صوراً استعارية استشرافية لما سيحدث، خاصة على المدار الدلالي الذي يكرس إيقاع الرعب والموت وطقس السوداوية والكوابيس. ولذلك فهي على مستوى المنطق الحكائي تمثل مسارات منفلتة من سلطة الحكاية المركزية، بمعنى أنها لا ترتبط بها عضوياً أو سببياً، ولكنها تربتط بها على مستوى الرمز والصورة والدلالة، بحكم علاقاتها الاستعارية.

اختلاقية الذاكرة:
لاحظنا في بنية المحكي سمة التشظي والتفكك بسبب تعرض هذه البنية لعمليات من التفكيك والخرق ممثلة في آليات التشعب والتضمين. كما أن الطبيعة الهجينة لنسق المتخيل (الواقعي، الغرائبي، الميتاروائي)، تدعم مسارات الانزياح والخرق، بما تتيحه من إمكانات الانتقال من مسار إلى آخر، ومن أفق إلى آخر. فكل انتقال يمثل تدشينا لمسار جديد يستدعي تغييرات في المنظور والرؤية والإيقاع وفي لغة الحكي. هذه التغيرات، بطبيعة الحال، تكرس مبدأ الانزياح والخرق في بنية المحكي، وتوفر جدلية داخلية للرواية تقوم على التفاعل بين المسارات الكبرى والمحكيات الصغرى والصور الاستعارية الجزئية. تتضاعف هذه الاستطيقا الدينامية على صعيد السرد الاستعادي، حكي الذاكرة، حيث تأخذ بلاغة الخرق والتجاوز طابعاً بارزاً في انتهاك قانون الخطية، سواء على مستوى زمنية السرد بما تدشنه من مفارقات زمنية، أو على مستوى المتخيل الحكائي بما تطرحه من سياقات تخييلية غرائبية تشوش على انسجام فعل الذاكرة ووضوحه في استعادة الأحداث، بما يضع المروي في مواجهة حكي استعادي مشوش، يفتقد لمبادئ الانسجام والترابط، وبالتالي يسوغ له التشكيك في صحة وحقيقة ما ترويه ذاكرة النص المشوشة والمتشظية، خاصة وأن السارد يستعيد من موقع الجرح الوجودي والاغتراب والعمى، أي من موقع ذاكرة جريحة وليس ذاكرة منتصرة. فالأمر يتعلق في النهاية بحكاية فقدان وخسارة وليس بحكاية ظافرة ومنتصرة.

على صعيد خلخلة المنطق الحكائي، تنبثق المفارقات الزمنية من اقتحام نسق الاسترجاع لخطية الحكي في مشاهد عديدة من النص. من هذه المشاهد: استرجاع تجربة الزنزانة(ص5) واسترجاع تجربة السجن(من ص15 الى ص25). ويتكرر مشهد استرجاع تجربة السجن أكثر من مرة، حيث يتحول إلى كابوس أسود يطارد كينونة السارد، بما يجعله دائما في حالة مأزق وجودي عرضة لزمنية متشظية بين الحلم والحقيقة، بين الاستيهام والواقع، أي في حالة ازدواج مدمرة. إلى جانب السرد الاستعادي، يقتحم نمط آخر من السرد نسق الخطية السردية، مولداً انبثاقات ومفارقات جديدة تنتهك منطق الكلية، هو السرد الاستباقي، حيث يفخخ السارد أفق انتظار المروي بتدشين أفق استباقات Prolepses، يحكي عن المستقبل بواسطة الاستشراف بشكل يتميز بالتكثيف والترميز. مثال ذلك، الاستباق(ص27) الذي يتصور فيه "غالب" ويتخيل مبنى وزارة الثقافة والإعلام قبل أن يصل إليه. كما أن الفصل الثاني الخاص بالحفلة يمكن اعتباره استباقاً. ففي هذه الحفلة التي دعي إليها البطل يجهل القارئ أي شيء عن علاقة "غالب" بـ"ليلى" و"سهام"، ولن تكتمل الصورة الخاصة بهاتين الفتاتين وعلاقتهما بشخصية "غالب" إلا في الفصل الأخير. وفي إطار مفهوم الانشطار المرآوي، يمكن اعتبار أحلام الكوابيس بما تؤسس من إيقاع سوداوي استباقاً وإنذاراً بالفاجعة التي تنتهي بها الرواية. فمحكي الكوابيس يمثل حالة قصوى لما يؤول إليه مصير "غالب" من تفكك وضياع. كما أن صور الفئران المقتولة على الطريق تمثل صوراً استعارية مكثفة لصور التعذيب والقمع في السجن. إنه الوجه الآخر للسلطة، وجه البشاعة اللاعقلانية.

وما ينبغي التوكيد عليه على صعيد خلخلة الذاكرة، أن السرد الاستعادي يتم في سياق هذه الزمنية المدمرة، أي في سياق استطيقا الكارثة، موسوماً بتشظيات الهذيان والكوابيس. وبالتالي يتدفق في سياق انشطاري واستيهامي بدون منطق خطي. مزيج هجين ومتشظي من اختلاطات ذاكرة مسكونة بأشباح الماضي (تجربة السجن والاعتقال السياسي) واختلاقات أحلام اليقظة، وأوهام كينونة تعيش في حالة مطاردة، "كانت تلك المشاهد تندغم في التحلل والخلط الذي يدهم التذكر، وأحلام اليقظة في اللحظات الفاصلة بين النوم واليقظة". وهكذا لا يتعلق الأمر بذاكرة مؤرخ توثق وتفحص في صحة ما ترويه، بل بخيال روائي يخلق فضاء نصياً يتمفصل على حدود النظام والفوضى، الواقع والحلم، حيث تتشكل النمذجة المرجعية للسرد الاستعادي ليس كعلامات إحالية، بل في التباس العلامة، أي في شفرة الازدواج، التي تدمج المرجع في سياق النص عبر اشتغال علامات نصية ونمذجات داخلية أخرى (الحلم، الغرابة، التشعب، المفارقة). هذه التحويلات التي يجريها النص تؤكد على انزياح الذاكرة، سواء على مستوى الطريقة التي تبنى بها الاستراتيجية السردية (التشظي) أو تقديم صورة السارد (التفكيك) أوتحيين الذاكرة (الازدواج) وهو ما أتاح للنص تجاوز خطية السرد الاستعادي، عبر دينامية الوظيفة التحويلية للسرد، وبالتالي تحقيق المنعطف التحويلي النوعي على صعيد هوية النص، الذي انتقل بالنص من السيرة إلى مستوى المتخيل ليس في إطار الذاكرة/ النص وحدها، ولكن في إطار النص/ الذاكرة. بمعنى آخر ليس فقط في إطار مرجعية النص (المرجع والذاكرة) ولكن بالأساس في إطار النص/ المرجعية، الذي تستمد منه العلامات شكلها ومنطقها وفق هندسة اقتصاد نصي متبادل ينتظم بنيات النص وأنساقه ومساراته.

تنهض إذن استراتيجية "ثلاثة وجوه لبغداد" على مفارقة استلهام أعراف السيرة الذاتية وتدميرها في الآن نفسه، بما في ذلك أعراف تمثيل الذات، والانتهاك القصدي لنسق الخطية، بفعل تحويلات عمليات التفكيك والتشظي والمفارقة، وهو ما جعل الحكاية منذ البداية ملتبسة ذاتياً: واقعية وغرائبية، تنتفي فيها المسافة بين الواقع والحلم. لقد كانت رغبة السارد/ الكاتب هي الوصول بهذه المفارقة إلى مشروع كتابة بمنطق أحلام اليقظة. وما يعمق هذه القصدية وجود وعي ذاتي (نصي ونظري) يتعلق بالكتابة والسرد والذاكرة والحلم. فالكتابة بالنسبة للروائي تظل مثل أحلام اليقظة مشروخة بمنطق الازدواجية، فلا معنى لأن تختزل الكتابة إلى شفافية مرجع مباشر أو علامة إحالية. فما تفعله الكتابة هو تجريد تلك العلاقة من طبيعيتها وفوريتها وشفافيتها.

فالوعي النصي الانعكاسي يشتغل بإستراتيجية مزدوجة، من جهة تكوينية تمثيل الحكاية، ومن جهة انشطارية تفكيك فعل التمثيل، بوضعه موضع تفكير، وهو ما يجرد الحكاية من أساسها الأنطلوجي، بحيث يصبح الإشكال ابستيمولوجيا يتعلق بـ"كيف نحكي؟" و"كيف نعرف الماضي؟". وهذا التوتر الحدودي هو الذي يميز ازدواجية فعل التمثيل، فلا يمكن لفعل السرد أن يفصل "الوقائع" عن شكل تقديمها، أي عن الخطاب، ولا عن منظور تفسيرها، أي عن الوعي النصي، الميتاروائي. ومعنى ذلك أن" الوقائع" يتم صياغتها بواسطة أفعال السرد، التي تضفي عليها شكلاً ومعنى، وفي نفس الوقت تستنطق هذا البناء، بما يجعل محتوى الشكل موضع تنسيب وتجاذب. بمعنى أن السارد يروي وفي نفس الوقت يفكك ما يرويه، وبالتالي تظل حقيقة ما يرويه موضع تفكيك وشك. وعبر هذا الازدواج ينفلت الوضع الأنطلوجي للحكاية من النظام التراتبي المتضمن في الاستقطاب الثنائي الضدي بين الواقعي والخيالي.

يتبين من تحليل هذه المكونات الشكلية أن نص ثلاثة وجوه لبغداد، رغم استناده في تكونه ودلالاته على عناصر سيرذاتية، يستمد تقنياته وأدوات اشتغاله من جنس الرواية. ويتضح ذلك على مستوى الشكل، حيث تتحرر الشخصية الرئيسية من إسار الوحدة المنولوجية، وتتفكك الى صورمتشظية في ماكينة الازدواج، تدعو القارىء الى لملمة شظايا في محاولة لبناء إطار يحتوي ازدواجيتها. كما يتضح ذلك من خلال استفادة بنية المحكي من إمكانات السرد التي يوفرها السجل الروائي من حيث تنويع بنيات المحكي واستثمار المفارقات الزمنية باللجوء الى تقنيات الاسترجاع والاستباق والتقديم والتأخير والحذف والتعديل في تنضيد الاسترجاعات. بل إن ثلاثة وجوه لبغداد تكشف عن وعي نصي محايث، عندما توظف الميتانص، وهو ما يعمق منظورها الانعكاسي الذاتي المزدوج، وهو وعي يراهن على كتابة جديدة، تحدوها الرغبة في أن يتحول مشروع الكتابة الى حلم يقظة.هكذا يندرج المكون السيرذاتي في أفق تشييد روائية النص وتخييليته.

غير أن المغزى العميق الذي يمكن أن نستخلصه من هذا الاستثمار للمكون السيرذاتي في رواية ثلاثة وجوه لبغداد هو أن السيرة الذاتية، كجنس أدبي، لا تخلو من إمكانات التخيل والاختلاق. كما أن هذا الاستثمار الانتهاكي يجعلنا نشكك في الرؤية الوضعية الاختزالية، التي تقرن جنس السيرة الذاتية بالوثائقية والمرجعية، وتسلبها كل حق في التخيل والأدبية. إن السيرة الذاتية – حسب هذا النص ـ لهي مكون أساسي يمكن أن يدعم النسق التخييلي للرواية في حالة استلهامها استلهاماً خلاقاً، يتوسل سياسات الازدواج التي تورط هذه الأشكال السيرية في الفعل التهجيني للباروديا وما يفرزه من توتر حدودي ينحرف بالتمثيل نحو هوامش الانزياح والاختلاف والغرابة.

 

الهامش

(1)- Robert Scholes: «Les modes et la fiction» in théorie des genres, SEVIL 1986, P:81.

(2) غالب هلسا: ثلاثة وجوه لبغداد(المغرب: منشورات نجمة،1992).

(3) هذا النوع من القراءة الإسقاطية نجده في الملف المخصص لغالب هلسا، مجلة الآداب، بيروت، العدد2، 1993.

(4) هومي. ك. بابا: موقع الثقافة، ترجمة ثائر ديب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت،ط1، 2006، ص:108.

(5) نفسه، ص:112.

(6) تيودور أدرنو: وضعية السارد في الرواية المعاصرة، ترجمة محمد برادة، مجلة فصول، القاهرة، عدد2، 1993، ص94.

(7) أحمد اليبوري: دينامية النص الروائي، منشورات اتحاد كتاب المغرب،ط1، الرباط1993، ص:58.

(8) ليندا هتشيون: سياسة ما بعد الحداثية، ترجمة حيدر حاج اسماعيل، المنظمة العربية للترجمة 2009، ص:127.

(9) أحمد اليبوري: دينامية النص الروائي، ص:59.