يتناول الباحث الجزائري هنا جهود الباحث الجزائري المرموق في تعريب المصطلح النقدي الغربي وتوطئته للتعامل النقدي العربي، ويركز مجال تناوله على المصطلحات السيميائية والبنيوية الحديثة التي شغف بها النقد العربي الحديث، وعانى من ارتباكات ملحوظة في ترجمتها أو نحت معادلات عربية لها.

المصطلح النّقدي عند عبد الملك مرتاض

المصطلح السيميائي أنموذجا

عبد السلام مرسلي

اجتهادات الناقد "عبد الملك مرتاض" في توليد المصطلح وتأصيله: إنّ الاهتمام الكبير الّذي أولاه النّاقد "عبد الملك مرتاض" للتّأصيل المعرفي والتّحديث المنهجي، أولاه كذلك للمصطلح من حيث توليده وتأصيله وتبييئه، إيمانا منه أنّ هذا المصطلح ما هو إلاّ « صورة مكثفة للعلاقة القائمة بين اللّسانيات والنّقد، لا سيما المصطلح السّيميائي بوجه خاص»(1)، والّذي يشكّل نواة المنهج ومفتاحه، ولا يستقيم إلاّ به، من هذا نجد "مرتاض" يواجه إشكالية المصطلح، بوعي كبير، وهو يحاول تأصيله وضبطه ومراجعته ضمن خطابه النّقدي. من هنا يتعيّن علينا البحث في هذه الإشكالية، من منطلق السؤال التالي: - كيف تعامل "مرتاض" مع المصطلح السّيميائي في خطابه النّقدي؟.

 ممّا هو معلوم أنّ السّيميائيّة حفلت بكثير من المصطلحات: شكلّت في مجملها مفاتيح تُعين النّاقد على تحليل النّصوص الأدبية، وقد وصلت إلى خطابنا النّقدي عن طريق التّرجمة والتّعريب، وأصبح لا مناص من تناولها في المقاربة النّقديّة، فتلقفها النّقاد بفهم تارة وبسوء فهم تارة أخرى، ممّا أدى إلى تباين أشكال الخطاب الواحد، والّتي أفضت إلى تعدّد مفاهيم المصطلح الواحد. كما هو الحال بالنسبة لمصطلح "السّيميائيّة" الّتي تُرجم إلى أكثر من 36 ترجمة عربية في مواجهة مصطلحين أجنبيين هما: (السيميائية Sémiotique، والسيميولوجيا Sémiologie)، لتصبح المعادلة إذن 2=36 (2)  ومصطلح الشعرية Poétique الّذي تُرجم إلى أكثر من عشر ترجمات عربية(3) وفي وسط هذا الرّكام الّذي لا طائل منه والّذي مرّده طغيان الجهود الفردانية على الجمعانية، وكذا تباين المدارس الغربيّة الّتي نهل منها هؤلاء، وفي ظل الانغلاق على الذّات، وضعف التنسيق، كانت أزمة المصطلح الّتي أدّت إلى وقوع عدد غير من الباحثين في مزالق نقديّة، ونتيجة لذلك، وبغية التّغلب على هذه الإشكالية، راح "مرتاض" يتعامل مع المصطلح بحذر شديد، إدراكا منه خطورة الانزلاق في تناوله التّناول الخطأ سواء من حيث ترجمته أم تعريبه، فحرص على تجذ يره وتأصيله وضبطه ومراجعته كلّما كان ذلك ضروريا، من هذا تعامل مع المصطلح «بكلّ ما أوتي من ثروة لغوية هائلة تمتد قواعدها إلى التّراث العربي القديم وبلاغته وموروثه الأدبي الزاخر، ويخوض في تفرّعاته محكوما بالحدود العامة التي حدّدها البلاغيون والنّقاد القدماء»(4) مستثمرا المعطى الفيلولوجي العربي في توليد المصطلح من اشتقاق ونحت وتعريب وإحياء« أو كما هو في المعاجم اللّسانياتية الغربيّة»(5)، ومحاولة منه التّميز والتّفرد وسعيا منه إكساب مشروعه النّقدي الشّرعيّة العلميّة اصطنع حقلين مصطلحين أساسين: أحدهما تراثي(بلاغي قديم) وفيه تعامل مع المصطلحات التي اغترفها منه تعاملا حياديا، وقد بدت فيه سمة الوفاء لدلالة المصطلح واضحة ضمن مرجعيته الثّقافيّة العربيّة القديمة كما تناوُلها يبدو واضحا في القاموس البلاغي القديم، بيد أنّ تعامله مع الحقل الثّاني- الألسني الحديث-كان مختلفا« بين الوفاء للمرجع والحياد عن المدلول الأصلي والتّوسع فيه وإسقاطه على المرجعية العربيّة التّراثية»(6). والمتتبّع لطريقة تعامل "مرتاض" مع المصطلح يدرك أنّه يستخدم مصطلحات في أعمال ثم لا يقبل بها في أخرى تحت جملة من المبرّرات يستدعيها طرحه المنهجيّ، ولعلّ مصطلح "الهيرومينوطيقا" "Herméneutique" خير نموذج استخدمه بصورته الغربيّة كفرع من فروع السّيميائيّة في بعض دراساته، ثم ما لبث أن اقترح مصطلح "التّأويليّة" بدلا منه، مبررا اقتراحه هذا كون مصطلح " الهيرومينوطيقا" «من أقبح ما يمكن أن ينطقه الناطق باللغة العربية»(7)، وأنّ هذا المصطلح في أصله لا صلة له بالنّص الأدبي، فهو حسب ما يلاحظه "قريماس" «كان للنّصوص الفلسفيّة والدّينيّة»(8).

كما نجده يصطنع مصطلحات أخرى كمصطلح " الحيز"(9)  بدل "الفضاء"، ومصطلح "المماثل"(10) بدل "الاقونة". أمّا مصطلح " التفكيكية"(11) "Déconstruction" فهو يستعيض به بمصطلح "التشريحية"(12) تارة، و"التفويضية"(13)  تارة أخرى. وهذا الصنيع الذي قام به "عبد الملك مرتاض"، يكاد يكون شبه متواتر في كتاباته الأخيرة، وعلى وجه الخصوص تلك الّتي يحاول فيها المؤالفة بين السّيميائيّة والتّفكيكية، مصطنعا منهجه المركّب، متجاوزا أحادية المنهج. فمن خلال اصطناعه للمصطلحات البديلة في سياق اجتهاده الفردي نلفيه يخالف جلّ النّقاد العرب، ومردّ ذلك- في نظرنا- هو شدّة تحصيله اللّغوي من التّراث، والّذي يشكّل بحقّ المعين المصطلحي الزّاخر الّذي لا ينضب؛ إذ بواسطته « توصّل "عبد الملك مرتاض" إلى نتيجة وصف من خلالها الحداثة الغربيّة بالقصور في المصطلحات والفقر، لأنّها تتكدّس وتتعدّد في التّراث النّقدي العربي»(14)، وبهذا التخريج يحاول« تأكيد شرعية التّراث في ضوء الحاضر؛ أي أحقيّة المصطلح التّراثي وأسبقيّته على النظريّة الغربيّة»(15).

بيد أنّ هذا الاجتهاد الفردي الّذي يصبّ في وعاء منفرد- وهو مأخذ ينسحب على غالبية النّقاد- يدعونا إلى مراجعة جميع المصطلحات النّقديّة الموجودة، وإعادة النّظر فيها بغية تصحيحها وتطويرها، حتى نتفادى تلك الفوضى المصطلحية التي تشهدها السّاحة النّقدية العربيّة الحديثة، ونضمن بذلك تنسيقا عربيا جماعيا موّحدا على الصّعيد الإقليمي والعربي، نوحّد من خلاله المصطلحات في شكل قاموس مصطلحاتي عربي؛ لأنّ فوضى المصطلحات، اضطرابها حينا، وغموضها أحيانا أخرى، تترك الخطاب النّقدي السّيميائي غارقا في قلب الأزمة المصطلحية، وهي أزمة تولّدت- كما نعلم- من جرّاء تباين ترجمة المصطلحات، ومن اختلاف مشارب النّقاد الثّقافيّة والفكريّة، وكذا من تلك المصطلحات البديلة المصطنعة والّتي تفتقر إلى الدّقة، والّتي تعكس- أي هذه الفوضى- في النهاية أزمة النّقد الحداثي وما بعد الحداثي، وكذا الوضع المتأزّم الّذي يعيشه النّاقد والقارئ على حدّ سواء؛ لأنّ اختلال المنظومة المصطلحية في خطابنا النّقدي السّيميائي تجعله يدخل في عملية تحدّ مع قارئه، ممّا قد يؤدي إلى عزوف هذا الأخير عن مسايرة هذا الخطاب.

وصفوة القول، أنّ اهتمام "مرتاض" بالمصطلح من خلال ترجمته، وتعريبه، واصطناعه، كان الغرض منه التّغلب على إشكالية المصطلح من جهة، ومحاولة التّأسيس لمشروع نقدي جزائري ينهض على ما حبل به التّراث النّقدي البلاغي، وعلى ما استجد في السّاحة النّقديّة الغربيّة من نظريات.

 

باحث أكاديمي من الجزائر

 

مكتبة البحث:

1- بوخاتم، مولاي علي : الدّرس السّيميائي المغاربي، دراسة وصفية نقدية إحصائية في نموذجي عبد الملك مرتاض، ومحمد مفتاح، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2005.

2- زرال، صلاح الدين : أزمة قراءة التّراث العربي، مجلة النّقد والدّراسات الأدبية واللّغوية، جامعة سيدي بلعباس، الجزائر، ع1، 1426هـ/2005.

3- مرتاض، عبد الملك: شعرية القصيدة قصيدة القراءة، تحليل مركب القصيدة "أشمان يمانية"، دار المنتخب العربي، بيروت، لبنان، ط.1، 1414هـ،1994.

4- مرتاض، عبد الملك : بنية الخطاب الشعري، دراسة تحليلية لقصيدة أشجان يمنية، دار الحداثة،لبنان،بيروت،ط1،1986.

5- مرتاض، عبد الملك : أ – ي، دراسة سيميائيّة تفكيكيّة،لقصيدة "أين ليلاي" لمحمد العيد، ديوان المطبوعات الجامعية،الجزائر، 1992.

6- مرتاض، عبد الملك :في نظرية النّقد، متابعة لأهم المدارس النّقدية المعاصرة ورصد لنظرياتها، دار هومة للطّباعة والنّشر والتّوزيع، الجزائر، 2002.

7- مرتاض، عبد الملك : التأويلية بين المقدس والمدنس،مجلة عالم الفكر،ع 1،المجلد.29، الكويت، 2000.

8- وغليسي، يوسف : مناهج النقد الأدبي، جسور للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1، 1428هـ، 2007 م.

9- حمودة، عبد العزيز : المرايا المقعرة، نحو نظرية نقدية عربية، عالم المعرفة، الكويت، ع272، أغسطس 2001.

10- عقاق، قادة : هاجس التأصيل النقدي لدى "عبد الملك مرتاض" بين وعي التراث وطموح الحداثة، مجلة نزوى، سلطنة عمان، ع38، أبريل، 2004.

هوامش

 (1) بوخاتم، مولاي علي: الدرس السيميائي المغاربي (دراسة وصفية نقدية إحصائية في نموذجي عبد الملك مرتاض، ومحمد مفتاح )، ديوان المطبوعات الجزائرية، الجزائر، 2005، ص: 121. - من المصطلحات النماذج في الحقل السيميائي نجد: السمة، السيميائية (السيمائية)، الأيقونة (الاقونة)، الخطاب، التناص، التشاكل، الشعرية، التفكيكية (التقويضية)، القراءة، قراءة القراءة، التأويلية، نقد النقد، الكتابة.

(2) ينظر: وغليسي، يوسف: مناهج النّقد الأدبي، جسور للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1، 1428ھ، 2007، ص: 108.

(3) ينظر: حمودة، عبد العزيز: المرايا المقعرة (نحو نظرية نقدية عربية)، عالم المعرفة، الكويت،ع272، أغسطس 2001، ص: 91.

(4) بوخاتم، مولاي علي : الدرس السيميائي المغاربي، ص: 121.

(5) المرجع نفسه، ص: 121.

(6) عقاق، قادة : مقال هاجس التأصيل النقدي لدى عبد الملك مرتاض بين وعي التراث وطموح الحداثة، مجلة نزوى، سلطنة عمان، ع38، أبريل، 2004، ص : 276.

(7) مرتاض، عبد الملك : التأويلية بين المقدس والمدنس، مجلة عالم الفكر،ع 1،المجلد.29، الكويت، 2000ص: 263.

(8) مرتاض، عبد الملك: (أ،ي) دراسة سيميائيّة تفكيكيّة،لقصيدة "أين ليلاي" لمحمد العيد، ديوان المطبوعات الجامعية،الجزائر، 1992، ص: 93.

(9) المرجع نفسه، ص:101.

(10) مرتاض، عبد الملك :شعرية القصيدة قصيدة القراءة، تحليل مركب القصيدة "أشمان يمانية"، دار المنتخب العربي، بيروت، لبنان، ط.1، 1414هـ،1994، ص: 234.

(11) مرتاض، عبد الملك : (أ، ي)، ص: 21-22.

(12) مرتاض، عبد الملك : بنية الخطاب الشعري، دراسة تحليلية لقصيدة أشجان يمنية، دار الحداثة،لبنان،بيروت،ط1،1986، ص :3.

(13) مرتاض، عبد الملك : في نظرية النّقد، متابعة لأهم المدارس النّقدية المعاصرة ورصد لنظرياتها، دار هومة للطّباعة والنّشر والتّوزيع، الجزائر، 2002، ص : 86.

(14) بوخاتم، مولاي علي : الدرس السيميائي المغاربي، ص: 157.

(15) زرال، صلاح الدّين : أزمة قراءة التّراث العربي، مجلة النّقد والدراسات الأدبية واللغوية، دورية تصدرها كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة بلعباس، الجزائر، ع1، 1426 ھ / 2005م، ص : 36.