يفكك الناقد المغربي الرؤية الشعرية التي تشكل نص الإدريسي المنشور في العدد السابق من (الكلمة)، من حيث استثمار عناصر أسلوبيّة صوتيّة وصرفيّة ورمزيّة ودلاليّة وتناصيّة، ومن خلال توظيف التكرار والتوازي والتقابل والرمز والتناص لصياغة الوعي الشعري بقلق وجودي خلاق وفكر جمالي تشكيلي لمدينة الأنا الفاضلة.

رحلة في سديم لولبي

مقاربة إيقاع نص «آخر الكلام» للشاعر عبد اللطيف الإدريسي

عبد الناصر الفزازي

يستدرجنا الشاعر إلى مغاليق كونه الإبداعي المضيء بعتبات ثلاث تذيل النص هي: التاريخ للقصيدة ما بين (31. 12. 2009) و(01. 01، 2010)، ومكانياً بين بيزوس وروان، وسيريا، بالإعلان عن عبد اللطيف الإدريسي شاعراً مغربياً مقيماً بفرنسا. عتبات الـ"بين- بين" هذه تؤشر على إيقاع لفضاء الزماني والمكاني، بما قد يوحي إلى افتراض قلق الذات الشاعرة وضجرها واغترابها الثقافي، والإحساس بسطوة المكان وسلطة الزمان. والزمن هو أول ما يطالع المتلقي في العنوان "آخر الكلام"(1) معلناً بداية الكلام باعتباره علامة صوتية وجمالية، تكثف دلالات القصيدة في تيمة موحدة "زمن الخلق الشعري". لذلك أرجح أن يكون هو آخر ما خطه الشاعر أو استوحاه بعد أن نفذ الكلام. وهذه المقدمة الزمنية استشراف لموت محتمل للكلام، وعلامة تكشف عن توتر يجتاح الشاعر في مصارعة الوجود النفسي والاجتماعي والثقافي والفني، رغبة منه في تأسيس وعي شعري، يستقي من مادة (الكلام/ الصمت) مشروعية وجوده المعرفي ومن الصيرورة إيقاعه الجمالي - الوجودي.

لا يكتب الشاعر للتذكر والذكرى، ولا يتقصد النسيان والمحو بل هو يتراوح في برزخ بين المنزلتين. يبدو قلقاً في سديم لولبي، متحفزاً للإمساك بالجسد المبدع في لحظة انفلاته وتشظيه وانشطاره وصراعه وصيرورته الوجودية نحو غيابات العدم/ الوجود. لنقُل إنها سوداوية كالتي تجتاح الإنسان "هوة من الحزن. ألم يتعذر التواصل معه، يلتهمنا أحياناً وبشكل مستمر في غالب الأحيان، حتى يفقدنا طعم أي كلام أو فعل بل حتى طعم الحياة نفسها"(2). لكن السوداوية عند الشاعر خلاقة لأنه تفاعل معها ومن خلالها بقلق إبداعي، حارب سديمه اللولبي لانتشال ذاته من مدينة قاتلة وتشييد مدينته الفاضلة.

في البدء كانت الكلمة وكان الشاعر وجنياته والبيداء أما في "آخر الكلام" فنجد كوناً شعرياً سديمياً تتفاعل فيه ثلاث مكونات متداخلة في نسق: (المدينة، والكلام، والتبعات). التبعات تلاحق الشاعر لإروائه بطاقة الخلق الشعري، أو هجره وتركه منذوراً للموت حتى النزع الاخير في مدينة الجليد. ولا يمكن تمثل هذا الفضاء وتذوقه إلا من خلال إيقاعية الوعي الشعري جمالياً وقيمياً ووجودياً. ما من شك أن الإيقاع ليس تكراراً آلياً لحركات وسكنات وتفعيلات أو بحور شعرية يمكن جدولتها إحصائياً وتفريغها كمياً بل هو "الفاعلية الإيجابية في تطويع الوجود في الزمان الموضوعي ورده إلى الذاتية"(3) إنه تشكيل زماني وصيرورة وجودية ورؤيا جمالية ذات قصدية وتعتبر اللغة مجال إيقاعية الوعي الشعري التي تتأسس على عناصر أسلوبية وفنية متفاعلة ومندمجة أهمها:
1- التكرار: أنتج إيقاعاً داخلياً تجسد في تكرار الصوت كـ(ر) في (مبعثراً حروفاً من حبر) أو (ن) في (أنانية أناي) أو تكرار دوال كـ(التبعات، الماء، دجية) وكذا تكرار تركيب كالعلاقة الحالية (وأنا أقرأ، وأنا أرافق) أو لا النافية (لا وزن ولا قافية ولا معاريج ولا بروج) أو تكرار دلالي في (وأنا أرافق تبعاتي إلى مثواهن الأخير).. ينتج التكرار تجنيساً صوتياً وتلاحقاً مطرداً لأنفاس ودفقات شعرية كالرجع أو الصدى الذي يؤدي دور اللازمة في الغناء أو شعر النياحة والندب أو صوت الجوقة في المسرح التمثيلي أو الأوبرالي.
2- التوازي: مثل (غنائي وأنغامه = شعري وأوزانه) وازى بين السطرين صرفياً من حيث الإفراد والجمع ومعجمياً بالدلالة على الفن وتركيبياً بالعطف على المعطوف عليه. وكذلك في: (مثل مدينتي الفاضلة الافتراضية = مثل أنانية أناي الافتراضية) وغيرها من النماذج العديدة. ولعل اجتماع التوازي والتكرار الصوتي والتركيبي ضاعف من ترسيخ دلالات تأكيد سلطة الايقاع الداخلي مبرزاً الوعي في حركته الجمالية والتخيلية.
3- البياض: يلجأ العقل النقدي أحياناً إلى إحصاء الأسطر السوداء هروباً من حصر البياض الذي له حضور كيفي ووظيفة استنهاض الحس، وتنغيم النص، وإغنائه بإيقاع بصري-معجمي-دلالي، فهو يشكل معطى بصرياً من خلال تفريغ الفضاء عند نهاية كل مقطع أي قبل البدء باللازمة (وأنا أرافق تبعاتي إلى مثواهن الأخير) أو ذاك المحيط بفضاء المكتوب أو المفترض بين النقط لوقف تلاحق الأسطر السوداء وإتاحة لحظة لاستراحة المتلقي ومعايشة الحركة ويكفي أن نشير إلى الانزياح على المستوى الكاليغرافي، مثل تغريب الدال (هناك) وتهجيره عن موقعه الاعتيادي:
(وتبعاتي طوال اليوم
هناك في الظلمة).

كما يتجلى البياض على مستوى الصوت كإسقاط التاء في (يساقط) في آخر النص وتعويضها بتشديد السين دلالة على تأكيد السقوط. والمعجم في دوال كـ(الثلج، الجليد، نهار، أضواء،أنوار..) ولكن التركيب يجعله متجاوزاً مفهومه الحرفي المتداول ويفتحه على دلالات وإيحاءات ورموز نصية لا يمكن تمثل شعريتها إلا من خلال مقابلات ضدية حركية دالة.

4- التقابل: يبدو الشاعر لاعباً بالكلمات المتوزعة بناء على زمن إيقاعي معجمي ودلالي قائم على حقلين دالين متقابلين: البياض/ السواد، وهو تعارض خادع لأن توظيفهما في سياق تركيبي ودلالي ونسق تداولي يفضي إلى دلالة البياض على السواد والعكس صحيح مثل:
(أسامر نهار المدينة الحالك من دجية ليلي
في دجية ليلي
لدجية نهاري)

إذ لم يعد البياض دالاً على الطهر والصفاء والنور والمقدس بل أضحى علامة على الموت الجليدي في نهار المدينة الحالك. وهذا التحول يلون القصيدة بلون وجودي يمحو الحدود المنطقية ويفتحها على كون لا يفتأ يتكرر ويتنامى ليشكل إيقاعاً حلقياً لولبياً:
(راسماً هكذا حلقة مفرغة وثقوباً سوداء)
لأن النص ابتدأ وانتهى بسقوط آخر الكلام وتأكيد تيمة السقوط حيث الصقيع (يطوق) التبعات وطفحت المدينة في (سديم لولبي)، مغلقاً بذلك الذات الشاعرة في كهف أسطوري، تتراءى لها الهوة المفارقة بين المدينة اليباب:
(صمت بارد كان يخرق المدينة)
والمدينة المثال:
(وصارت كل أقوالي الموروثة والمتواترة
الفكرة العظمى الافتراضية
مثل مدينتي الفاضلة الافتراضية)

إن المقابلات بين العناصر المعجمية تنصهر في إيقاع حركي يتجادل فيه الصمت/ الصخب، ليل/ نهار، النوم/ اليقظة، ولادة/ موت.. الخ. وهذا الإيقاع الجدلي ليس سوى قلق وتوتر انفعالي يتذبذب مراوحاً بين نداء الروح المائي الخلاق وجليد المدينة القاحلة.

5- الرمز: أشير إلى أنه يشتغل كعلامة متحركة ودينامية في نسق رمزي وكون أسطوري من تجلياته الماء والمدينة والتبعات والكلام والسديم.. ولكني سأنتقي رمزين مؤشرين على جدلية الذات/المدينة هما:

ا- التبعة: ورد في معجم لسان العرب لابن منظور "التبعةُ: جِنِّيَّة تتبع الإِنسان"، فالتبعات بهذا المعنى قوة فاعلة في الإنسان العربي وإبداعه الشعري باعتبارهن ملهمات الشعر من ماء عبقر -عند كل العرب- إلا الشاعر أبا النجم العجلي الذي افتخر بشيطانه الذكر:
(إني وكل شاعر من البشر* * *شيطانه انثى وشيطاني ذكر)

وقد وظفها الشاعر- هنا- بصيغة جمع الإناث في سياقات متباينة، فهن النسخة الملازمة لصنم المدينة هذا الفضاء القاتل بغرابته وغربته والخانق للسكن والاستقرار والتواصل الإنساني:
(نزت المدينة بخاراً يابسا
ألبس تبعاتي ضباباً كثيفا
صعب علي مخارج الحروف والرسوم)
والتبعات ملهمات الشاعر، باعتباره ظلاً لها، بماء الشعر لتشييد مملكته الجمالية الفاضلة:
(وأنا أتابع تبعاتي إلى مثواهن الأخير
لما بدأ أخر الكلام يتساقط مبعثرا
حروفاً
من حبر قاتم)

وهن يحضرن بوجه مركب من دالين متفاعلين متصارعين: الموت/ الحياة، يجلي بنية جنسية مشروخة، وجسد متعال يرغب في تلطيخ المدينة بماء الحروف مثل طفل عنيد لاعب بالمداد. فالتبعات أشباح مدينة السديم إذ تطارد الشاعر، وتلاحقه لتعدمه، وتقتل القصيدة، كما لو أننا أمام حلم منفتح على تأويل فرويدي للذهان الاضطهادي، حيث يحس الإنسان بأنه مطارد بتبعات الشر، في موجات حلقية من الاكتئاب تجرف الأنا بعيداً عن نبع مفقود إلى الأبد. هكذا تعيش الذات مشدوخة بدافع فقدان شيء ما في الطفولة: الأمومة. ربما أو مجرد حركة منفلتة أو لون مفتوح أو ابتسامة طبيعية أو لا شيء، ولا أمل في استعادة هذا "اللاشيء" المفقود إلا بالكتابة والكلام ومزيد من الآلام. وسواء اعتبرنا التبعات نسخة أو ظلاً أو شيطاناً أو قناعاً أو قريناً فإنها لا تبعد عن كونها صورة رمزية كشفت ذاتا قلقة متحركة بكلام متأرجح "بين-بين" تتداخل فيه الذاكرة الطفولية والخيال الأسطوري في سديم لولبي كاسح.

ب- الماء: رمز الحياة كما في كل الثقافات والأديان. وهذا ما تؤكده القصيدة:
(اكتشفت عقرهن الخالد
كعقر الماء الجامد
إذ لا ربيع ولا أزهار فوق الجليد)
له تمظهرات متعددة ومتنوعة مثل (حبر، ملطخاً، نبع، قاحلاً، ندف الثلج، ربيع، أزهار، قاحلاً، نزت، أحياء..) ولعل دورة الماء من البخار إلى الضباب إلى الماء إلى الجليد، يجلي رحلة الماء ودورته المأساوية من النبع إلى اليباب، ومن الشعر إلى النثر، ومن الوجود إلى العدم. لقد كان الشاعر الجاهلي يواجه البيداء والأوابد والأبد فلا يجد غير البيت الشعري سكنا، أما الشاعر -هنا والآن- فيواجه كثافة سكن وسكان دون بيت روحي أو شعري أو تواصل إنساني أو قيمة أو معنى، ومما لا شك فيه أن لماء الجليد دلالات جنسية واضحة من خلال مؤشرات دالة معجمياً (عقيمة، عقر..) وتركيبياً ودلالياً في:
(وعرفت عند إحياء الماء كيف تموت الأحياء
وكيف أمسى شعري قاحلاً
وتبعاتي طوال اليوم
هناك في الظلمة
في زهو وخيلاء
يطربن لإيقاعات دفّ مجلجل أخرس
تولّدت عنها أشعاري العقيمة)
والماء مرآة للعاشق المتوحد في صورته النرسيسية الشعرية المائية. إنه والتبعات يخفيان نسقاً رمزياً جنسياً ملتبساً حيث الذات مغتربة في سديم لولبي بين المدينة الجليدية النثرية وبين المدينة الفاضلة الشعرية.

يتأجج الصراع إذن، بين هوية الأنا الشاعرية ونثرية المدينة متجسداً في السطر الواحد دلالياً ورمزياً كما في التوتر بين الجملة الشاعرية:
(أحسست شعري جزيرة من ثلج)
برمزيتها العالية وباستعارتها البليغة التي يموت بها الشاعر، وبين الجملة الثانية بشرحها ومنطقها السببي والتعليمي:
(شلت عن الحركة لانعدام الماء)
وكذلك في:
(عندما يجمد الماء
يصبح قاتلاً)

ويتمظهر أيضاً في الصورة الرمزية التي يتقابل فيها ماء الحروف والمدينة المنثورة في مستهل القصيدة:
(صمت بارد كان يخرق المدينة
وأنا أرافق تبعاتي إلى مثواهن الأخير
لما بدأ آخر الكلام يتساقط مبعثراً
حروفاً من حبر قاتم
يلطخ فضاءها)

كأنما الشاعر يتذرع بآلية من آليات الدفاع عن الذات رافعاً نثرية الأسلوب/ الحروف لمصارعة نثرية المدينة. وما نثرية القصيدة إلا احتجاجاً إنسانياً وطفولياً وجمالياً على "تفتت الأرض من تحت أقدامنا"(4) كما قال الشاعر أحمد المجاطي. نخلص إلى كون الأثر الأدبي "قصيدة–نثر" لا هي بشعر خالص ولا نثر مطلق بل هي "بين–بين".(5) وهذه البينية هي التي تجعله هارباً في اللغة الماكرة وعصياً على التصنيف المنطقي، لأنه نوع أفرزته أمواج نار القلق في وجود صارت فيه الأنا نسبية في كون نسبي. إن الوعي الشعري الشقي في جهاده نحو القبض على الزمن المفقود، لا يتحرك في البياض المطلق بل يشكل إيقاعه بين لغة نثرية كاليابسة وبين كلام شعري كالنهر. تدفق يستمد معينه ويحفر مجراه عبر نصوص الآخر من خلال التناص، فاتحاً امتداده الإيقاعي على إمكانات المتلقي المفترض.

6- التناص: ينتسج النص إيقاعه اللولبي انطلاقاً من حركة الشاعر الارتدادية بين الذاكرة الطفولية والخيال الحر بروح مرحة/ قلقة في عملية هدم/ بناء متواصلة تسعى إلى استثمار نصوص العالم ولا نصوصه. وهذا السفر في عوالم الغيب والشهادة إنما هو حفر في أدغال الذات، لبعث ماء الإبداع. وبالرغم من نحت الشاعر لإيقاعه الخاص في كل نص، فإن هذا الإيقاع لا يأخذ تدفقه ومجراه إلا بالتواصل مع المتلقي، الذي يلونه بألوان شتى، ويفتحه على قراءات ممكنة ومحتملة. وهذه القصيدة تتناص مع أصوات شعرية ونثرية معاصرة وتراثية، خاصة تلك التي عزفت على نفس التيمة: القلق/ الاكتئاب. فمنذ العصر الرومانسي إلى الآن، زخرت الثقافات الإنسانية بأسماء لها سلطة رمزية قوية، سواء في الإبداع أو الفكر الفلسفي ومنهم الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا F.PESSOA(6) الذي يمكن اعتباره، مجازاً، من تبعات "آخر الكلام" لأنه بصم النص بعدوى الضجر من المدينة، والاحتفاء بالطبيعة ببساطة الإنسان البدائي، وعفوية الطفل البريء، وبأسلوبه الحكائي أيضاً، وذلك من خلال قناع بيسوا المتنكر هو الآخر خلف قناع ألبرتو كاييرو، في قصيدته "راعي القطيع"(7). وأورد هنا نماذج نصية لهذا التناص القصود، من خلال انتقاء تراكيب تناظر النصين المتتاليين:
عبد اللطيف الإدريسي في "آخر الكلام":
- (احرس قطيع البرتغالي/ الذي لم يحرس قطيعاً)
- (مختلطاً بآخر شعاع يلوي هناك عند المغيب)
- (قرأت قصائده الأزلية/ نقشت صور روابيها الحضرية بالأسود على جدران المدينة النائمة حد الديجور).
- وتبعاتي طوال اليوم/ هناك في الظلمة/ في زهو وخيلاء/ يطربن لإيقاعات دف مجلجل أخرس.

فيرناندو بيسوا في "راعي القطيع":
- لم أرع قطعاناً قط/ لكن يبدو أني رعيتها

- راعي قطيع أنا/ والقطيع هو أفكاري/ وأفكاري كلها أحاسيس
- أغدو حزيناً مثل غروب الشمس
- الحياة في المدن أصغر من الحياة/ هنا في منزلي بأعلى الرابية
- مبتهجة خواطري/ مثل جلبة أجراس/ فيما وراء منحنى الطريق

لاشك أن النص يبني رؤيته الإيقاعية الجمالية من خلال التناص الذي هو لحظة قلق لولبية يجادل فيها الشاعر كيفاً كثيفاً من أشعار الشعراء يحتل فيه فيرناندو بيسوا بؤرة الرؤيا الشعرية. وما نص راعي القطيع إلا قناعاً لمحو المدينة التي تخنق الإبداع وتهشم الانسجام الجنسي المفترض وتعدم الوجود الذاتي، وهي أيضا صنم لا فكاك منه إلا بالاحتماء بهوية الأنا رغم هشاشتها اللزجة. إن الشاعر يعي تماماً أن المدينة ليست (هناك) بل هاته التي تسكنه وترحل معه وفيه وتصحو في نومه تبعات وكوابيس وتسلب منه شعره ووجوده لذا فهي المكان الذي أضحى دهراً وتراجيديا.. وبما أنها تسبب له الضجر فلأنه موجود يفكر بإحساسه ويحس بأفكاره. مترنحاً كالمركب الثمل المرح بين المدينة السفلى مدينة الجرذان وبين الطبيعة - الأصل الذي لا أصل له -. إن التناص هنا ليس تكراراً واستنساخاً لبيسوا بل هو في العمق قتل للراعي وتمرد على حراسة قطيعه وتأكيد على حياة الأنا وسعادتها التي لا تكون إلا بالتفاعل مع الموت وعرضه وتجاوز مدينة الطاعون النثرية والعروج إلى المدينة الفاضلة الطبيعية. هي رحلة شبيهة إلى حد ما برحلة أوديب إذ كان عليه أن يقتل الراعي - الأب الرمزي - ويفك طلسم شارات الكهان والأنبياء) ويواجه مدينة الجرذان والطاعون رغم السديم/ العمى ليحق الحقيقة: السعادة والخير والجمال. وربما يرتد النص إلى أسطورة أخرى غائرة في سديم آخر أعمق غوراً سيكتشف الإنسان ألواحها ذات فضاء.

هكذا يشكل النص إيقاعية رؤيا شعرية تستثمر نسقاً صوتياً وصرفياً وتركيبياً ورمزياً ودلالياً وتناصياً بعناصر أسلوبية منها التكرار والتوازي والتقابل والرمز والتناص. لصياغة الوعي الشعري بقلق وجودي خلاق وفكر حسي جمالي – تشكيلي لمدينة الأنا الفاضلة حيث الجسد فضاء طفولي، وطبيعة طبيعية وشعر أبيض وخيال حر وانسجام جنسي، بلا أي سديم لولبي.

 

عبد الناصر الفزازي، ناقد وباحث من المغرب، الدار البيضاء، 2012.

 

الهوامش:

1- آخر الكلام، عبد اللطيف الإدريسي، مجلة الكلمة، عدد 59 مارس 2012. (ملاحظة: كل ما ورد بين قوسين ينتمي الى قصيدة "آخر الكلام").
2-Les abimes de l’âme - entretien avec J. KRISTEVA - hors-série N8 - 2005/ p.24
3- جماليات الشعر العربي، دراسة في فلسفة الجمال في الوعي الشعري الجاهلي، د. هلال الجهاد،
مركز دراسات الوحدة العربية، ط1،2007، بيروت، ص18.
4- الشعر العربي الحديث، ندوة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2009، ص69.
5- ظاهرة الشعر الحديث، أحمد المجاطي، شركة المدارس، ط2، 2002، الدار البيضاء، المغرب، ص:104.
6- Fernando PESSOA (1888/1935) شاعر برتغالي، عاش طفلاً يتيم الأب في جنوب إفريقيا، ومراهقاً في إنجلترا، ليعود إلى موطنه منعزلاً ومريضاً إلى حين موته. كتب بأسماء مستعارة عديدة أهمها Alberto CAERO شاعر الطبيعة.
7- راعي القطيع، بيسوا، ترجمة: المهدي أخريف، مجلة نزوى،ع35، يوليو 2003.