يقدم ناقد المسرح المغربي المرموق هنا دراسة جديدة من حيث الرؤية والمنهج معا حول الممثل المغربي الذي رحل عن عالمنا مؤخرا، ينحت فيها لغة نقدية قادرة على فتح آفاق جديدة في التحليل والرؤية والتعامل مع الفعل المسرحي، ومع مفهوم الجسد العارض والمؤدى، وبلورة الصمت كلغة بالغة الفصاحة والقدرة على التوصيل.

مصطفى سلامات: مشهدية الصمت المسرحي

سالم اكويندي

1. سلالة التمثيل:

1.1 قليلا ما نستحضر الممثل في مناولاتنا واشتغالاتنا الدراسية والبحثية المتعلقة بالمسرح، لأن كل همنا يكون مركزا حول معنائية المسرح في شكله ومضمونه وبناء مكوناته كعرض وفرجة مرئية، رغم أن الممثل يشكل حضوره الدعامة الأساسية المحركة للأفكار والأراء المروجة فيه، والذي ينطوي غيابه عن هذا التناول النقدي والاهتمام البحثي، في حضور المؤلف أو المخرج أو هما معا في حالة الازدواج المؤلف المخرج، وكأنها شجرة السلالة والمالك الشرعي للفرجة المسرحية، والتي لا تكتسب شرعيتها إلا في حالة الأداء المسرحي وضمن منجزه المتحقق كعرض، وفي هذه الحالات القليلة في التناول لا تأتي تعيينية الممثل أو إعطاء نماذج منه في أدائه، بقدر ما يأتي تناوله كحمالة أفكار حول أهمية هذا الممثل مثلا: أنه آلة العرض، وأنه الوسيط في آلية العرض المسرحي ... بينما المطلوب في إعطائه حق قدره الإحالة عليه بالاسم والصفة وكنموذج تطبيقي لتأويل وتفسير البعد النظري في هذه المناولات النقدية. أن الكيف الذي ينال هذه السلالة المتخلقة في المسرح المغربي بالخصوص، بل والحاملة على عاتقها معاني هذه الدراسات والبحوث وتجليها كحضور مرئي متحرك إلى حد ملامستنا حسيا وتجريديا، تفترض أن تكون هي قطب رحى هذه المناولات والاشتغالات الدراسية، مما يعيد نتائجها لأصلها الذي هو الحضور المرئي للمسرح، والتي تعطينا نحن المتلقين معنى.

كما أن شفاهية العرض المسرحي والتي هي أصلها الشعبي هي ما يجعل التداعي مع معانيه في الفرجة، بالاضافة لحركيته التي هي جوهر المسرح سواء كانت حركية راقصة أو إيقاعية في موسيقاه وإنشاده كسينوغرافيا مؤطرة بهذه الحركة والفعالية في هذه الفرجة الشعبية التي تؤكد أن المسرح هو مسرح شعبي في الأصل والمفصل، وسلالة التمثيل هي نسغ عرقه الحيوي، وفي غير مثل هذا التناول ستستغرقنا عملية الدراسة في إنشاء خطابات حول المسرح وليس فيه، وفي عمومية ما توحي به إشاراته وإحالاته على مشهدية مسرحية غير مغربية ولا حتى عربية، وكأن ما يهمنا في هذه الدراسات والمناولات البحثية هو أن نعرف التقنيات والتجليات كما تتمظهر أمامنا على الورق، أما ما يتحقق منها فعليا وأمام أعيننا فلا يحرك فينا ساكنا، لأن هذه التقنيات والتدريب عليها لا يبقى منها شيء عندما يصبح الممثل فوق الخشبة، لأن مسارها (التقنيات والتدريبات) يكون قد انتهى، ولأن الأهم هو هذا التحقق والمنجز كشاهد إثبات على الحضور الفعلي والمؤكد لسلالة التمثيل في معمدان العرض المسرحي ... وهذا الغياب في نظرنا هو جور آخر يصيب هذه السلالة ومسكوت آخر عنها، يعيدنا إلى ما نحاول رصده في هذه مرثية الصمت والغياب والتي هي مرثية لهذه السلالة في حضور غيابها، كما هي حال مصطفى سلامات.

1. 2 إذن حضور سلالة التمثيل، تفرضها طبيعة المسرح كحضور مرئي وما تفرضه حميمية اللقاء الإنساني من خلال المشاهدات التي تعطي معنى للمرئي كفرجة، والحميمية كاحتفال بالعارض الذي يؤدي بدينامية جسده كطاقة روحية وجسمانية ما يمتلئ به مما يكسب هذا اللقاء حيوية الحياة واستمرارها، وإلا ما اعتبر المسرح احتفالا بمعناه المقدس وكممارسة وحالة تعبدية، لأننا لا نحتفل إلا "مع الموتى وأرواحهم"، ومن هنا نستحضر مسرح القداس مع أرابال ومسرح الموت مع كانتور، لأنه من غير الحركة والصوت والصمت والايقاع لا يكون هناك احتفال ولا إيغال فيما يثيره من علاقة بين المتخيل والواقع، والعرض بمعنى الحاضر لا يكون إلا هنا والآن، أي ذلك الحاضر المستعاد من طقسية الماضي وإرثه في مرجعية الأسلاف وكأنهم ذلك الماضي المستعاد من طقوس العبور نحو الحياة وفي ما تعتبره الدراما الإجتماعية نوعا من مظاهر الشعائر الدينية في طقوس الجسد انطلاقا من الموت، والموت يأخذ معنى الحياة، بل "إن الموت هو الحياة، وقد اعتبر الإغريق الموت ذروة الحياة وقمة اكتمالها"، كما أن احتفالنا بالعارض الذي هو الممثل او المؤدي في مفهوم فن الأداء باعتباره آلية من آليات الأداء والعرض في "المسرح ما بعد الدرامي"، تعيد إلى ما أشار إليه لافونتين في إحدى حكاياته عن الموت، حيث قال: "إن الإنسان يخشى الموت لأنه يعلم أنه باطن في صميم حياته، فهو لا يموت لأنه يمرض أو يهرم أو يضعف بل لأنه يحيا"، فما بالك وأنا أحاول الآن أن أجعلك ترى في الحياة ما رأيت أنا فيها من أنها هي الموت.

كما أن الموت هو احد مفاتيح الحضارة المصرية العتيقة.

لهذا يكون احتفالنا مع الموتى، ومسرحنا مسرح هذا القداس الاحتفالي على حد تعبير فيرناندو أرابال، كما أن الموت هو الذي أعاد لبقايا الأشياء ما يجعلها في صلبه كما هو الشأن في مسرح الموت عند كانتور، كما أن هذا المعنى في احتفالنا مع الموتى هو ما أعطى للمسرح الحياة في اليومي عند جان جينييه، ومسرح الموت هو ما استحضره محمد تيمود في مسرح الصمت، أما محمد مسكين فقد أثبت مسرحا للشهادة من شذرات الحياة وتلاشيها أمام حياة أخرى هي الموت ذاته.

1. 3 هذا الإيقاع المتوالي والمتبادل بين الحياة/ الموت، والموت/ الحياة هو إيقاع يعيدنا إلى قانون الجدل، النفي ونفي النفي، كما أن المسرح في إحدى صيغه الملحمية يراوح بين هذا الإيقاع، بل إن الإيقاع هو ديدن الحركة والصمت، وكأنه التوازن الذي يعطي لمعنى الطقس قوته العبورية والانتقال من حال إلى حال، والإيقاع في المسرح لا يخلقه إلا الممثل في أدائه ودينامية حركته وبصوته حيث يحقق النص شفاهيته والتي هي شفاهية المسرح في طبيعته التداولية والتصاقا به كمسرح شعبي وهذا هو الأصل فيه كما أن الصمت في المسرح هو نقيض الكلام وتلفظاته في هذه الشفاهية، يعيد للأنفاس قوتها وللرؤية تركيز تأملها، حيث يفتح هذا الصمت أفقا للمعنى المتحصل في مزاوجة الأداء بالتمثيل بين "الأنا" المفرد و"الذات كحالة جماعية" من أجل هذا الحضور الذي لا يمكن التعبير عنه في المسرح، إلا بما تمثله الصورة، صورة جسد، جسد ينتشي بلذة حضوره ومرآويته في الآخر، الذي لن يكون إلا تلك الشخصية الدرامية التي هي آخره، وهذه النتيجة في علاقة المسرح بالتمثيل وانبنائه عليه ليست إلا الحقيقة التي تغيب عنا عندما لا نتحدث عن الممثل بشكل عاب.ر كما أن هذه النتيجة توقفنا على ما يجعل للحركة في المسرح من معنى، خاصة وأن محركها كفعل درامي هو نطق وصمت الممثل، أي ذلك الإيقاع المتوارى بين الحركة والصمت، وهذا ما سنعرض له في معنى الصمت عند المرحوم مصطفى سلامات.

1. 4 إن نوعية الصمت التي تفرضها طبيعة التمثيل (من التماثل والشبيه) الذي يقوم مصطفى سلامات بأدائه في كل الأدوار المسندة إليه، والذي يتأسس على مفهوم الجسد العارض والمؤدى، والعارض هنا يعني عرض حدث وأدائه بما يتقصده معنى فن الأداء، حيث يعتبر فن الأداء فنا أدائيا من أجل جمهور حاضر الآن وهنا. أي أن ما يحكم معناه هو هذا الحضور. حيث يمكن القيام به حتى بدون الاستناد على نص وفي حالة وجود هذا النص الدرامي، فإن  الأداء الصامت يعمل على استنطاق مبثوثه اللساني بدون تفعيل للغة الكلام أو النطق بها. كما أن معنى العارض يأتي احتفالا بالجسد المؤدي وليس الجسد التمثيلي، كما رأينا في معنى التمثيل المسرحي أو حتى الدرامي. لأن هذه الحالة المعروضة وغير ممثلة، يكون الممثل قد تلبس بها كشخصية ثانية، ولا تعبر عن "أنا" المفرد كما رأينا، بل بما قد توحي به "الذات "الحاضرة في التباسها بالآخر الذي تريد الانفتاح عليه من خلال هذا الحضور الذي لا يعلن عنه إلا هذا الصمت، فيما تشخصه الأطراف العليا من الجسد أي الرأس والعينان.

ورغم كل هذه الافتراضات المحتملة، فإن حالة العرض هاته تبقى ذات دلالة إيقاعية في سياق العرض ذاته، مما يعني أن وضعية "التمثيل" هاته تدعو إلى التحرر التام من جميع القيود الوضعية المعتادة للجسد فيزيائيا ونفسيا واجتماعيا. وهذه الحقيقة تجعلنا نقف على أن المسرح في تعريفه الأثير هو فن التجسيد، والتجسيد الذي يمثله مصطفى سلامات هو الصمت، أو ما يؤطره الصمت الراهن كما رأينا في نظراته الشاخصة. نلاحظ هنا أن معنى الشاخص كصفة مشتقة من الشخص أو التشخيص كمصدر، حيث يؤكد هذا المعنى دلالة أخرى لمفهوم القناع كمجاز الوجه أو الشخص، وبالتحديد عند اليونان- كما أن هذه الدلالة في اشتقاقات التمثيل/ التشبيه والتماثل والتشخيص والتجسيد تؤدي بنا إلى فهم جديد للجسد الثاني هذا باعتباره جسدا ثانيا أي أنه ذلك الجسد الجمالي على حد ما يقول رولان بارت. أي أنه علامة مفارقة تشير إلى الشخصية التي تريد أن تكونها أي شخصية درامية، ولهذا اعتبرنا أداء مصطفى سلامات التمثيلي والموسوم بالصمت هو الإيقاع الذي تنبني عليه العروض المسرحية التي يخطط لها الطيب الصديقي كعلامة مفارقة بين الحركة والرقص والإنشاد والغناء وكل مؤثثات العرض لديه. إذ تبقى بلا معنى في غياب مثل هذه الحركة.

وبدءا من مقام الصمت الذي لولاه لما تأتى لهذه العروض أن تأخذ منحاها في شاعريتها وجماليتها كعروض مسرحية، أي أن ما يهندس له الطيب الصديقي في مسرحة مسرحه، لا ينفذ إلا بهذا الصمت المتأمل وكأنه استكمال للبناء الدراماتورجي في قراءة الطيب الصديقي لعروضه المسرحية. والأداء التمثيلي ( التماثلي) عند مصطفى سلامات هو ما يحمله جسد " الأنا" عنده ليصل للذات المتحققة كشخصية ثانية، أي تلك الشخصية الدرامية، حيث نلاحظ هذا التحول والتملك لدوره والذي يكون حاضرا في كل الأعمال الدرامية الأخرى التي قام بها مصطفى سلمات، سواء كعروض درامية مباشرة على خشبة المسرح أو غير مباشرة في دراما التليفزيون والسينما.

2. ممثل الصمت: أو مصطفى سلامات المثيل للطيب الصديقي

آثرت في هذه المرثية في رحيلك يا مصطفى، أن أخصك بما كان امتيازا لك كممثل كبير، سواء على خشبة المسرح كما عرفتك عن قرب، أو في أدائك لأدوارك في دراما التليفزيون أو السينما... هذا الامتياز يا مصطفى يختصرك في الصمت. لا أقصد في هذا التخصيص التمثيل الصامت، رغم أنه مشمول بهذا الامتياز، بل أقصد التعبير الصامت، هكذا أراك الآن فيما أطبق عليك الصمت المريب كامتداد لما منحت إياه من قدرة تعبيرية وطاقة جسمانية في ما لا يتحمل من كل هذا الصمت، حيث جعلت الصمت معبرا عما تضمره في دواخلك، والذي قلما نجده عند الممثلين الآخرين، إلا بما وسم به ممثل راحل آخر هو محمد تيمد (محمد الراجي التيجاني).

والصمت في التمثيل (من التماثل) لا يعني إلا ذلك الوجوم الساكن في الجسد، وكأن الجسد هنا هو لباس لهذه الروح التواقة للانعتاق والتعبير بالرقص عن مكنونها المقدس بروحانية تكريسا لهذا الوجد الذي لا يعبر عنه إلا توسلا إبتهالا وكأنها الصلاة المقامة في قداس الروح. وأهم ما يجسد الجسد في تكريسه هذا وفي تعبيريته الممسوحة هو ما يمثله الرأس، وعندما نعود للتمثيل فإن أهم ما نستحضره هما العينان عينان تشخص بهما هذا الصمت الذي لا يتحقق إلا من أجل الرؤية، بل من أجل ما يحمله معنى التشخيص، أي ذلك الفعل المقابل لمعنى التمثيل –التعيين- تمثيل لما يشبه صمت الكلام، صمت الكلام الذي يعني في وقفتك ما يحدد زاوية التموقع وكأنك تهم بقول شيء ما، ولا تقوله رغم انفتاح شفتيك، بما يوحي أن هناك كلاما ينحبس انحباس المتحسر حسرة من لا يجد قدرة إلا فيما تعبر عنه عيناه وكأنك تقول: إن ما يرى أبلغ مما يقال، وتبدأ العينان في اتمام سرد هذا المحكي المتخفي في كتمان الكلام، حكي ما يرى بثاقب نظرك، وكأنك أنت وحدك من يرى ما لا يرى؟ لكن ماذا ترى؟

أفق ينفتح سؤاله ليسع مجال انتصاب جسدك، سماقة تحولت الآن بتحول هذا الانتصاب إلى حالة اسجاء في غفلة منا، إلى حد الامتداد في هذا الأفق وإلى حد الإلتصاق بالأرض والتلاشي في نقطة كانت هنا تحدد موقعك على هذا الأديم الذي أعادك إليه، حالة توحي بالإنمحاء الذي كنت تتماهى فيه من خلال لعب أدوارك الدرامية، ألم تكن شخصية قوية في هذا الأداء اللعبي؟ ألم تكن عارضا محتفيا بصمت جسده؟ والآن ها أنت معروضا يتباهى باحتفال جسده. أقول الإنمحاء لا المحو ... المحو فعل عدواني تمارسه النفوس الشريرة، وهذه النفوس هي الفعل الشيطاني المتلبس بمن اعتاد عليه في حياته ليكون هو وحده ولا مكان للآخر معه، أما أنت فتنمحي لتفسح المجال للآخر أن يعلن عن ذاته لأنك يا مصطفى قد حققت ذاتك في هذا الآخر الذي كنته في إزدواجية بين الأنا المفرد والذات الجمعية، وبحميمية ما تخلقه أجواء الصمت في المسرح، لأنك بصمتك كنت تمثل جوهر المسرح وتقوم به، أما نفوس المحو فلا تمارس إلا ما تلتقطه من فتات إلا المسرح لتتكلم عنه، صورة أخرى لمعنى سؤال الأفق في امتداده السطحي لمخلوق تحت المجهر.

وهكذا نلاحظ أن الشموخ لا يكون إلا للأعلى، وأنت تجعله امتدادا لما تسعه الأرض في انبساطها من شساعة جسد يتدثر بأديم الأرض، أي أن هذا الجسد يعيدنا إلى حقيقة أنه لباس الروح، هذا هو جسدك، حيث تسترجع الطبيعة عناصرها الأولى، ألسنا من تراب وإليه نعود؟ انمحاء لباس الروح/ الجسد، لمعاودة الالتقاء بأحد العناصر الطبيعية التي نسجت هذا الجسد، جسد الممثل بما هو جسد ثقافي، يحاول اعلان جماله في تجليه الجميل، وها أنت "مصطفى" لهذه الغاية، وكان إيقاع صمتك هو الإيقاع الذي جعلك مركزا لإيقاع العرض المسرحي الذي كنت دائما تعيد إنتاجه، أليس معنى العرض هو إعادة الحضور؟ حضور لمسرحة الجسد واختراق صمته. إن صمتك يا مصطفى لا يعني أنك "لا تتكلم"، تمثيلا تتكلم انتشاء بفرح الروح التي تلبسه وتسكنه. لكن الآن صارت هناك فيما وراء دراما الكلام.

3. الإنمحاء والمحو:

إن الحضور الجسدي لمصطفى سلامات، هو حضور له أهميته في عروض مسرح الطيب الصديقي منذ سنة 1965، هذا المسرحي الذي مسرح جسده قبل أن يُمسرح مسرحه ويرصعه بدرر الصمت والكلام، والصمت عنده، عندما يكون الشاغل لديه، هو إعطاء امتلاء للعين الرائية، إلى حد المسخرة والتضخيم، وكأن معنى الرؤية في مسرحه المرئي هو هذا الإظهار الزائد لتأكيد أن المسرح أصلا هو أن ترى لا أن تسمع، تضخيم آت مما يجعل الجسد احتفالا وكرنفالا، امتاحا من موروثنا في الثقافة الشعبية وعودة به إليها، لهذا يحضر الجسد بقوة في عروض مسرح الطيب الصديقي وبشكل غروتيسكي، لأن الضخامة والمسخرة والاطناب في الإبدال والتعديل في معجم تلفظاته المسرحية هي مقياس لما تزخر به الذاكرة الشعبية وتستدعيه لإثبات هوية هذا المسرح، كما أن التمثيل عنده ينبع من دواعي هذا الاستدعاء والتداعي في لغة كلام لا تقول أي شيء، بعد أن قالت ما يكفي عن هذا الشيء، وهنا يحضر الإنمحاء بما هو الذوبان في الإصغاء للصمت ولما يمكن أن يقوله، والتمثيل بهذا المعنى هو بحث عن الهوية، ألم ينهج الطيب الصديقي في تكوينه الأكاديمي في ما يضمره الوجدان الشعبي، أليس هذا الانمحاء هو نقطة الارتكاز للعودة لمنابع الفرجة المسرحية الشعبية المتمثلة في التقاليد والعادات، وهذه إحدى نصائح أساتذته، ولكي يصل الطيب الصديقي لهذه الغاية، كان عليه أن يؤسس لمسرح الصمت، الصمت المؤسس على النسيان حتى لا يقع الاجترار، أي ما يعني الرجوع لكل ما هو جسدي بما أنه مسرح حركي رائن في صمته، انمحاء في الذات الجمعية بعيدا عن منطق المحو العدواني والمنفرد في أناه.

إن ما يمثله مصطفى سلامات في صمته هو ضبط إيقاع العرض المسرحي فيما اعتمده الطيب الصديقي من عروض مسرحية كانت كلها تنبني على هذا الإيقاع الذي أصبح يمتلكه سلامات في ما يميز أداءه في التمثيل، وكأن سلامات هو المثيل للطيب الصديقي أداء جسديا في "التعبير الجمالي لدى الإنسان" لأنه موسيقاه وغناؤه ورقصه: بما يحقق به حضور ذاته في هذه الأعمال المسرحية والدرامية، مادام الإيقاع نشأ في بدئه من نبضات القلب عند الإنسان، والذي ينمو ويتطور من خلال ما يحيط به في الطبيعة من إيقاعات، حيث يشاكل الإنسان هذه الإيقاعات بما يملكه من طاقة جسدية، يحكمها الانسجام والتناسب والتناغم والحركة والمرونة، وبهذا التشاكل، أوجد الإنسان مجالا للتعبير الجمالي بالحركة عن مشاعره. وبتوالي وتعاقب الحضارات نشأ علم الجمال الحركي، وهكذا صار الإنسان وبما يمثله كمركز للكون وخلاصة له. إذ صار يختزن في جسده وصوته بما يبدعه من نغم الإيقاعات الكونية للطاقة.

لقد امتلك مصطفى سلامات كل هذا في تمثيله الصامت، حيث كان صمته لغة الجسد بديلا عن اللغة المنطوقة. الرأس بالأساس كمنطقة بارزة ومشرئبه بعينين تنطقان بما تستطلع به الأفق. لتعيد سرد ما استعصى في لغة الكلام. بهذا الأفق كان مصطفى سلامات ممثلا في أعمال الطيب الصديقي المسرحية، ومع غيره من المخرجين في الأعمال الدرامية غير المباشرة في التلفيزيون والسينما، إلا أن الطيب الصديقي هو الذي هيأ له السبل لتفجير طاقته الجسدية: حركات ورقصا وانشادا، وكأنه يطرز الجسد الماثل في تشخيصات مصطفى سلامات، الذي نعتبره في هذا التوجه ممثل الانمحاء لا المحو. وفي غير ما تحدده تقنية جسده، بما هي تقنية لغة هذا الجسد الذي وسمناه بالصمت كصنو للانمحاء، صمت ناطق بما لم تستطع البوح به لغة الكلام.

إن اختيار أداء الأدوار البسيطة في ظاهرها لكنها عميقة في بنيتها، عند سلامات أو حتى عندما لا يكون هو الذي انتقاها، بل أوكلت إليه، فإنها لا تعني إلا التفكير في ما يقوم عليه العرض المسرحي من تجاذب بين صب الكلام وصمت الحركة وإيماءاتها. خاصة ما يلعب دورا في الأداء الفني الصامت أو الإيمائي، وهنا مكمن قوة هذه الأدوار وتميزها في اعطاء شحنته الدرامية وقوة إيقاعه بين زمن العرض ذاته كمتخيل وزمن الواقع المثبت بمضمراته، هذا التوازن في الأداء الفني للعرض المسرحي لا يملكه إلا ممثل ذو حنكة وتجربة وقدرة التحمل الواعي، بأن التمثيل هو استحضار هذا الوعي، ولنا في سجل التمثيل المغربي ما يشهد على مثل هذه القوة، حيث نستحضر هنا سعيد عفيفي ومحمد الحبشي وعبد الرحيم اسحاق، وحوري الحسين، مصطفى تاه تاه، محمد تيمود، محمد الكغاط، محمد بسطاوي، عبد اللطيف الشلخة، محمد التسولي، عبد اللطيف خمولي عبد العاطي المباركي، سعيد باجه. ولكل ممثل من هؤلاء ميزته وقوة وعيه الجمالي في صياغة أساليب التمثيل في المسرح المغربي. وهذه القائمة من الأسماء لا تلغي الممثلات اللواتي كانت لهن من الجرأة والقوة ما يجعلهن في هذه المصاف ومنهن: نعيمة المشرقي، ثريا جبران، الشعيبية العذراوي ولطيفة أحرار التي لها ما يجعلها جديرة بأن تقدم في عرضها الأخير بما يليق بممثلة تحسن فن الأداء الجسدي استحضارا لما يمكن أن نعرفه في عروض المسرح ما بعد الدرامي، أو ما ينعت كذلك بمسرح ما بعد الحداثة. وهي تجربة تعيدنا لما قررناه في مخصوص هذه الدراسة عن جسد الممثل في المسرح المغربي.

إنها سيرة سلالة التمثيل في المسرح المغربي، مسرح المشائين في قداس هذا الاحتفال الجسدي العارض والمفارق لمعنى الجسد الجمالي والأنثربولوجي في مفارقات فن الأداء إلا الحاضر، أو إعادة الحاضر كلحظة مستعادة من عمق الأصول الإنسانية لبدئية الخلق ونشأته الأولى. وكأن خشبة المسرح هي ذلك الرحم الذي تخلقت فيه هذه الأمشاج ليكون هذا الجسد المنبثق من شهقة طين في سلالة تعيدنا لما كناه في عماء الكون. وهنا يحضر معنى التراجيديا في مفهومها الكلاسيكي العابثة بها أقدار الآلهة وسحر أساطيرها، أليس التمثيل بما هو بحث عن الهوية يمثل نوعا من الهوس؟ إن هذا المعنى للتراجيديا هو الذي أعلن عن موته ومنذ القرن السادس عشر. عندما أصبح لهذه التراجيديا تعدد دلالي، يؤشر لما أضحت عليه مصائر الإنسان، والتي توكل لما عرفه من تحول في حياته. وبذلك تحول وعيه بذاته، كذات في فرداتها وتستغرب في حالات استلابها، مما تحول معه الصراع في شكله العمودي الآلهة/ الإنسان، إلى شكله الأفقي إنسان/ إنسان، وهكذا تعددت هذه التراجيديات، إذ نمثل لذلك بما يعرف في العصر الإليزابيثي بتراجيديات شكسبير. وهو تحول لا يعني الابتعاد عن منابع الإنسان الأولى وعودته إلى الأساطير في شكلها القديم أو الحديث، حيث تمثل عودتها ذلك العود الأبدي لأسطورة الأصل، ومنها ما نلاحظه في معنى التكرار الذي لا يعني إلا هذه العودة، وهنا يصير التمثيل بما هو تقليد ونسخ للحياة أو حتى لما ينبغي أن تكون عليه هذه الحياة، نوعا من الأداء مما يعرف بمسح الحداثة وما بعد الحداثة، مع توالي هذه التحولات والانتقالات التي هي تحولات في الوعي والوعي الجمالي بالأخص. الشيء الذي جعلنا لا نتحدث عن بناء تراجيدي لعروض الطيب الصديقي، بقدر ما نتحدث عن عرض لحالات ومواقف درامية، وبما يناسب تحول الشخصية التراجيدية في هذه العروض إلى شخصيات درامية، وهو ما وجدنا مصطفى سلامات ينغمس فيه، ويعطيه دلالات جديدة في مسرح لا يمكن إلا أن نقول عنه أنه كذلك مسرح جديد، وهذا التكرار في الأداء الفني يتواصل في عروض المسرح المغربي، من أجل استعادة مرجعيته الثقافية من الماضي في التقاليد والعادات التي ندب الطيب الصديقي نفسه للبحث فيها.

إن صمت تمثيل مصطفى سلامات، يفهم بمعنى الانمحاء الذي أشرنا إليه من أجل إلغاء إزدواجية الأنا بالآخر، لأن هاته "الأنا" قد تكون هي الآخر نفسه، ألا تعني الشخصية الدرامية في المسرح انمحاء الشخصية للأنا من خلال تحقيق حضورها في الآخر شخصية أو جمهورا، ومعنى الحضور في المسرح وتحققه كفرجة مرئية ليس إلا وجودا للعرض الذي يأخذ فيه معنى الأداء الفني دلالته بحضور هذا الآخر، وإذ نعود مرة أخرى لتأكيد أن العرض لا يعني إلا الحاضر، الحاضر بوعيه الجمالي نزوحا من عمقه الثقافي بمعنى من معاني الجسد الأنثربولوجي هذه المرة، نقصد وهنا تحضر مضاعفة المشهدية المسرحية في مسرحة هذا الجسد في أداء مصطفى سلامات، كممثل مشاء مع المشائين الذين سبقوه، ويعمل الطيب الصديقي باختياراته للتدليل عليهم في شخصية البوهالي أحد أقطاب أولاد سيدي هدي (الزاوية التيجانية)، وسيدي عبد الرحمان المجذوب، بمؤخذاته على عصره واثبات مكانة، معنى السياحة الدينية والتي بدأها محي الدين بن عربي في فتوحاته.

زمان يحضر بما أوتي من قوة في العملية الفنية التي تمهد بتوقيعها من كانوا هنا من سلاطين المجاذيب في رحلة الصمت مع البساط في مرصعاته بالحب وجنان الشيبة. وأن نشم شيبه أو نرى الجنان مجلببين بسراويل الفيل حتى ولو كانت فولة هي التي تحكي في سرديات هذا الجس،د رغما عن سحر اليهود وحتى سحر المسلمين، مادام سحر المسرح وابداعاته الفنية في هذا يجسد عيّ الحاضر في عرض جسدي صامت، وكأنها علامة تكرارية في موصولية هذا الوعي الجمالي، من أجل عقله واعتقاله في درامات تحتفي بذاتها في هذا العرض/ الحاضر، لتنثر حكمتها وتعطي لصنعة التمثيل معنى الوعي. لأننا لا نمثل إلا بما نعيه ونعرفه، حيث تكون المعرفة هنا وعيا وامتلاكا لزمام هذه الآلية الدوارة، والتي لم تكن إلا آلية مستعادة كفعل درامي أصبح مخزونا في الوجدان الشعبي، أي عودة لأصل المسرح في جذوره الشفاهية الشعبية، والجسد في ماديته الفيزيقية، لا يعني في رقصه وحركته إلا هسيس الروح المنتشية بمحبسها، الجسد. وهكذا تولد صمتها أريجا لهذه الريح المتولدة حركة، تعبيرا عن جوهرها الذي هو المرح، لأنها هي أيضا (الحركة) جوهره.

4. مشهد مسرح الموت: عود على بدء

إن هذا العود للبدء من جديد، يضعنا أمام مفارقة الموت الحياة، الموت من أجل أن نحيا، يبدأ المشهد المسرحي وهو مشهد قرباني عندما قدم كل من قابيل وهابيل قربانيهما لله، فقبل القربان الحيواني على القربان النباتي، وبدأ الصراع، أي الحركة باعتبار أن الصراع هو عنصر الأساسي في الفعل الدرامي، وهكذا جاءت الموت قتلا، لأن مبدأ الموت كان منطويا بالأساس على معنى القربان، بما يعني أن القربان هو طقس من شعائر الدراما الاجتماعية، وهي دراما تأسست على طقوس العبور، العبور من حالة الموت إلى الحياة، من فن الإفناء إلى الإعمار، من المحو إلى الانمحاء، أي تجديد للنظام الثقافي بالأضحية البديل وعندما يحل القربان، ويصبح قربانا مباركا يبدأ تكريس الله تكريسا تعبديا أي إعادة طقس العبور إلى استقرار، والجسد حاضر في كل هذه التكريسات التي لا تعني إلا عودة الحياة من الموت، وفي مشهدية القتل: قتل قابيل لهابيل تحضر الجثة أي الجسد المسجى في رقدته الأخيرة، لكن الموت في حد ذاته لا يخيف، بل الخوف يتولد من لقاء الجنة هكذا في العراء، أي ضرورة إكمال شعائر طقس العبور في هذه الدراما الاجتماعية بالدفن وهو إكرام وتكريس آخر للجسد، وفي هذه المشهدية الممسرحة يأتي الممثل الأول منذ بدء الحقيقة ليعلمنا طقس الدفن وإكرام الجسد، كحركات جسدية يشخصها أمامنا، عفوا أمام قابيل الغراب، هذا الطائر المتشح بالسواد يعرف كيف يحتفي بجسد أخيه الميت، ومن هنا يبدأ مسرح الموت ومسرح الحياة.