يستدعي الشاعر المصري صور الحياة في استعاراتها المتعددة، وفي تقاطعها مع ذات تحافظ على أصالتها في مواجهة هذا التشظي، وهو ما جعلها ذاتا لا تقدر على تلمس العيش مادامت الحياة نفسها أمست أشبه بالاستحالة.

أركولوجيا

سالم أبو شبانة

صيفٌ مفقوءُ العينِ

أجلسُ تحت الشجرةِ، أغنّي نفسَ الأغنيةِ القديمةِ عن الحنينِ، وأنا أمدُّ يديَّ أمامَ النهارِ. صائدُ يمامٍ وحيدٍ، أتجوّلُ في الخرائبِ وبين الأشجارِ؛ لعلّي أفلحُُُ في شحذِ الهواءِ تحت قامةِ الصحراءِ، أدّعي أنَّ البحرَ صديقي؛ يشعرُني بالكآبةِ دومًا؛ ربّما لم أحبّه إلا بعدما علّمني ( زوربا ) أنّ الحياةَ: بحرٌ، رمالٌ، ونساءٌ؛ لكنني رجلٌ بلا ماضٍ ولا صيتٍ، يتجوّلُ بين الخرائبِ أو يجلسُ كصيفٍ مفقوءَ العينِ في ظلِّ النهارِ الطويلِ.

 

 

أنامُ محتقنًا بي

أنامُ محتقنًا بي. والأيامُ التي تركلُ ظهري ولن تمهلني كثيرًا، أكابدُ النهارَ وأنا أتذوّقُ الأغنيةَ على عَجلٍ. أقولُ لنفسي: لما علىّ التوغلُ في المتاهةِِ، بلا يدٍ تسندُ عثرتي؟ أعلىَّ أن أغرسَ يديَّ في قذارةِ الحياةِ، بلا صرخةٍ فوق الجسرِ؟ حجراتٌ نضبتْ على عجلٍ، والهواءُ الراكدُ: حيواتٌ ميّتةٌ، بقايا الكلامِ، وفاكهةٌ عطنةٌ. ماذا أفعلُ؛ لأجرفَ كلَّ الممراتِ الطويلةِ من النسيانِ، ورقِ الجرائدِ، الكتبِ القديمةِ، وصخبِ الأطفالِ؟!

 

 

أركولوجيا

مسافرٌ بلا قرارٍ، ولا بيتٍ يدومُ؛ يتنفسُ بالكادِ سنواتٍ قليلةً؛ ثمّ يسقطُ. كلُّ عِرقٍ صادمٌ: الأجدادُ خرافةٌ عشتُ في ظلّها زمنًا، سطوةُ الأبِ الغاشمةُ. ماذا عنّي الآن؟ مشيتُ كلّ السنواتِ؛ ولم أنظرْ ورائي مرةً؛ بأفكارٍ تطيشُ في الفراغِ المُسَمَّى صحراءَ، في نفسي التى ارتجلتُها؛ لأرضيَ فضولَ الأهلِ عن الطّاعةِ. نخلةٌ في الشرقِ البعيدِ ملفّعةً بالضبابِ؛ صنعتني على مَهلٍ، فوضي الدروبِ وضعتني بأوّلِ الكلامِ وفتنةِ الكتبِ. السنواتُ ضربتني خلسةً، وتسربتْ ماءً بين أصابعي. لستُ أوّلَ البدوِ ولا آخرَ الممسوسين؛ بلهجاتٍ تحتَ جِلْدي أعبرُ متاهةَ الحياةِ: بسيطاً، عجولاً وخافتاً كصفيرِ قطارٍ بعيدٍ. فتشتُ جيوبي لعلَّ محارًا عَلِقَ بها من حياتي السابقةِ. يا ربي. كيف نَمَتْ هذه الحياةُ طحلبًا حولَ البئرِ العظيمةِ؟ ولم أجذبْ العالمَ من أذنيه كبعيرٍ مخطومٍ؛ بعير!.. كأنني كنتُ يومًا تاجرَ نوقٍ أو راعي أبلٍ؛ أضعُ في كلّ بلدٍ بذرةً، أزورها كلّما سَنَحتْ فرصةٌ. أبصُّ للحيطانِ العاليةِ والقبابِ الشاهقةِ في المدن مبهورَ الأنفاسِ؛ لكنّي لا أعلقُ بها خوفَ الفتنةِ والفقدِ. كلما رمتني امرأةٌ بشهوةٍ زادَ العطشُ والهيامُ؛ وبكيتُ كلَّ منْ مررنَ بي وتركنَ في جسدي ندوبًا. هذا عن البيتِ. فماذا عن البدويِّ ورعبِ التكنولوجيا. الحياةُ راكدةٌ هنا؛ إنْ كانَ ثمّةَ حياة!... 

 

شاعر مصري