هذه قراءة في ديوان شعري نشرته "الكلمة" في أحد أعدادها السابقة وهو الديوان الذي تزامن صدوره ورقيا ورقميا. قراءة نتعرف من خلالها على صور الشاعر وظلاله في ديوان مسكون بأسئلة الشعر وأفقه، وبترميم الذاكرة ومجازاتها، وبسيرة الذات والغيرية.

الشاعر وظلاله: قراءة في ديوان «أرمم ذاكرتي»

ميلود بنباقي

 

1. العبور إلى القصيدة.
أول ما يثير اهتمام قارئ ديوان: "أرمم ذاكرتي" لمحمد شاكر(1)، عناوين قصائده. فهي(العناوين) جمل اسمية أو فعلية تتفاوت من حيث الطول والقصر. لم يشذ عن هذه القاعدة سوى عنوانين اثنين (هما: فرجة وعناق) من بين أربعة وعشرين عنوانا /قصيدة هي مجموع قصائد الديوان. وهي، في مجملها، مقاطع من القصائد ذاتها. أو هي أسطر شعرية بوأها صاحبها مكانة أسمى من "زميلاتها" بأن جعلها مفاتيح وأبوابا ومعابر لقصائده. ولا تخفى العناية الكبيرة التي يوليها الشاعر لعناوينه، إذ ينتقيها بعين رسام نافذ البصر والبصيرة، وسمع موسيقي يزن الصوت بميزان الذهب: "أرسم عنواني في الجهات الأخرى من خلوات الروح، بزقزقة أليفة، وحفيف ريح".2))

2- بيان شعري.
لم يكتب محمد شاكر نظريات شعرية، ولم يصدر بيانات يفصح فيه عن منظوره للقصيدة. ولكنه حمل قصائده برؤية واضحة للشعر في ماهيته ووظيفته. فالشعر عنده، هو أحلام شاردة تحولت، بقدرة شاعر، إلى كلام. فهو الحلم وقد صار لغة، أو هو اللغة عندما تصبح حلما. "أنعش الكلام برائحة الأحلام".

والحلم رديف الحياة، يبررها ويمنحها معناها وجدواها ويصلح ما فسد منها. يؤازره الشعر في هذه المهمة الشاقة. "كم حرفا، يلزمني، نديا/ ورحب الحشاشة/ كي أرأب ما تكسر من لون الحياة".

لا حياة خارج دائرة الحلم، وبالنتيجة، لا حياة خارج مدار القصيدة. ويقودنا سؤال الحياة إلى نقيضها: الموت. هذا السؤال الوجودي العويص،  والورطة التي دوخت الأدمغة وأرهقت الفكر البشري. "لا شيء يصمد في وجه الموت

خارج مجرة الأحلام".

يقيم محمد شاكر علاقة جدلية بين الحياة والموت، بين الشعر والحياة، وبين الشعر والموت. كل طرف يكمل الآخر، بدل أن  يلغيه أو يمحوه كما قد يتوهم متوهم. إنه النقيض الضروري لنقيضه. "أغشاهما معا: قصيدتي/ وموتي...

من أجل الحياة/ والفطرة".

قد لا نفهم، للوهلة الأولى، هذا اللعب بالكلمات والمعاني، وهذا الجمع بين المتناقضات التي لا تجتمع في آن أو مكان. لكن الشعر يعلمنا فن المستحيل. فبعيدا عن النظرة الدينية  التي ترى أن الموت سفر من دنيا الناس الفانية إلى دار الخلد الباقية، يتبنى الشعر نظرة فلسفية للموت تراه مرادفا للحياة ومتمما لها.

يحضر الموت في قصائد الديوان مقرونا بالشعر والحلم. "كلما جئت الشعر، من شرفة الحلم(...) ينزف من غير دماء".  وهل كانت الحياة تستحق اسمها وقيمتها، لو لم يوجد نقيضها الموت؟  الجواب بدهي واضح: لا تستقيم الحياة ولا يصير لها معنى بغير الموت. ولا يلتبس الموت ويرتقي إلى مراتب الأساطير لو لم يقترن بالحياة. والشعر صديقهما معا.

يروض محمد شاكر الموت وينتصر عليه، فيبطل سطوته وفجائيته بأن يجعله فعلا إراديا، يختاره صاحبه عن طواعية وطيب خاطر. ينزع عنه غموضه وقدسيته، ويزج به في دائرة اليومي، فيصبح طقسا أليفا مثل الشرب والأكل والنوم. " ربما أطوي شريط العمر/ على فصل العزلة/ ثم أنام".

وبما أنه كذلك، فإن الإقلاع عنه ممكن أيضا، والعودة منه، "العودة من شرفات الغيب"،  ليست مستحيلة.  إذ يمكن أن يتحرر الميت من كفنه، أو بياضه المطلق، ويحل ضيفا على سرير الصمت. فما الموت إلا نوم"في دفاتر الوقت".

لا يحضر الموت في الديوان باعتباره صمتا نهائيا ومطلقا، أو غيبة أبدية. ولا تحضر الجثة بنتانتها وعفونتها وتحللها المادي. إذ تغادر كفنها وهي تضوع عطرا، وتتهادى مقبلة وهي في كامل زينتها، لا تزهد في الحناء وخرائط الحب.

3- ترميم الذاكرة.
تحضر الذاكرة في الديوان حضورا لافتا. تقفز إلى غلافه الخارجي وتحمل عنوانه مقرونة بفعل يشي بوهنها وترديها. فهي ذاكرة متداعية، رثة، مرهقة، في حاجة إلى ترميم علها تؤوب إلى سيرتها الأولى كحافظ للأحداث  وخزان شخصي للتجارب. وفي تدهورها المريع ذاك، تصبح بيضاء، مشلولة. فيعوضها النسيان (نقيضها)، ويأخذ مكانها "يذكرني النسيان". وعليه (النسيان) يعتمد الشاعر لعله يؤمم بعضا منه" في سديم المقبل، على شكل أحلام برية".

يتمادى النسيان ويستفحل، فإذا بلغ المحطة الأخيرة من مسار متعرج وصعب، المحطة التي ليس لها ما بعدها، تلك التي يدعوها محمد شاكر: "الهزيع الأخير من النسيان"، انشطرت ذاته التائهة، وأنكر بعضها البعض الآخر. فيصبح اثنين في واحد، أو واحد في اثنين، على حد تعبير محمود درويش. آنذاك، يلتمس خلاصه في الرجوع إلى عمر "غزير الحنان". إلى طفولة هاربة، صافية، يعوض بها خراب روحه.

وهن الذاكرة يعني وهن ذات صاحبها. إذ الذاكرة هي الذات نفسها. أو "هي سند الهوية" الشخصية. وعندما يفقد الإنسان ذاكرته، فإنه يخسر ذاته، لأن الإنسان "ليس إلا كيانا من الذكريات(...) تحدده في كل ما يوجد عليه". (كاستيت.ب. ترجمة حميد سلاسي، مجلة علامات، ع: 4، 1995).

ترميم الذاكرة المتداعية ليس أمرا سهلا. فالمواد الخام الضرورية لهذا الترميم نادرة جدا وغالية الثمن، وعملية الترميم نفسها شاقة وعسيرة. ترميمها يتطلب " صحوة الروح، ونزف الجروح، وقش الكلام".

يستمر وهن الذاكرة ويتفاقم، فتظهر على الذات مضاعفات أخرى. فعوض أن تنشطر، كما سلف، تصير هباء، تصير لا شيء. "كأني لا أحد". تلك قمة المأساة البشرية، يعجز معها الشعر "كلامي"، عن أداء مهمته في الإفصاح عن الذات وإعلاء "بهاء الروح". تتهاوى قلاع الذات الشاعرة أمام غزو السهو والنسيان. يتسيدان منطقة الشاعر وينتهكان حدوده وأسلاكه الشائكة، أو يتقمصانه " صرت سهوا". فتختفي العلامات المشرقة في ذاته، ويمحو بعضه بعضه، ويهوي إلى درك خال من الرموز، حيث لا حبر ولا أوراق ولا ألوان، لا إبداع ولا شعر، أي لا حياة تماما.

يخلق انهيار الذاكرة فوضى في الزمن الداخلي، الزمن الفردي. فيصبح الحاضر نسيانا يمارس لعبة الإخفاء والإظهار" يذكرني نسياني، وأغفل عن نسياني". ويصير المستقبل بحارا لا شطآن لها ولا مرافئ، والماضي شتاتا "يتحلل في الأبهاء". يشتعل البياض، ويتضاءل الأمل  وتضعف الأيام ويستحيل المعنى، وتنحسر الرؤيا وترتبك الروح. يفقد المكان بهجته ويربض اليأس على مرمى بصر.

تغيب الذاكرة، فلا يجدي قرع أبوابها، ولا يجدي استعطافها. لكن الشعر يظل وفيا لصاحبه. ينهض من رماده، إذ رق قلبه وأشفق على صاحبه. يقارع النسيان المهيمن على ذات الشاعر ويحوله إلى حروف على الورق.

4- الشاعر وظلاله: ثنائية الأنا والآخر.
يحفل الديوان بالكثير من الصور التي تجلي ثنائية الأنا والآخر. يأخذ الآخر مواقع وأبعادا عديدة لا يشبه بعضها بعضا، حتى أن الشاعر يقع في أسر أشباهه، لا يتحرر منهم إلا عندما يتداركه صحوه. أو هو يتجزأ قطعا متنافرة تفك ارتباطها به وتتحرر منه، فتنكره "هنا بعضي، يكاد يجهلني".

في أحيان يصير الشاعر اثنين " كأني عثرت بي"، أو تنقسم ذاته إلى خارج وداخل. داخل يتخذه مسكنا ليتاخم حريته، وخارج غامض يربيه مثل أي كائن حي، مثل طير أو شجر أو حديقة.

وفي أحيان أخر، يتعدد "لعلي أتعدد". قد يكون هذا التعدد وجوها في مرايا "أتشرذم أكثر في المرايا"، أو وجها في صورة قديمة تضرب بجذورها عميقا في الطفولة. ولعل الشاعر، وهو في حرجه الخامس أو السادس، يتعدد في صورة الطفل أكثر. طفل متعدد بدوره، إذ هو ألف طفل. أحيانا "يتقمص صورة الحلم" وهو "يشاكس ما تبقى من عناد الهرم". وأحيانا يقف" على ناصية الدرب القريب". وأحيانا يتحول إلى بلسم لداء الشيخوخة العضال، يشعل العظام ويبث الطراوة في الكلام ويحرر الروح "من أسر الحطام". طفل ضحوك، لعوب، "لا يأبه بالكهولة".

كلما أوغل الشاعر في تأمل طفولته البعيدة، وهو في حضرة الكهولة أو الشيخوخة، كلما أغرق في التعدد، وتعمقت لديه جدلية الأنا والآخر. تتعدد ذاته بتعدد مراحل العمر، وبتعدد الصور في ألبوم الذكريات، وبتعدد الوجوه المتناثرة والمتنافرة على صفحات المرايا. فلا يدري أي الوجوه يختار، ولا إلى أي منها ينتسب.

5- لغة الإيقاع ، إيقاع اللغة.
تخلق قصائد الديوان إيقاعها الخاص بعناية ودربة، فيأتي سلسا "على هيأة النشيد". وكلما غاص القارئ في الديوان وتنقل بين الأبيات والسطور، كلما نسج علاقة حميمة وربط صداقة قوية مع ذلك الإيقاع الذي يغدو "زقزقة أليفة وحفيف ريح". إيقاع يحرص على التقفية من غير تكلف " أمشي إلى التقفية"، وعلى انتقاء الكلمات من معجم شعري يؤلف موسيقاه الخاصة بسلاسة ويبث "نغما في أوردة الحرف". ثم ما تلبث القصائد أن تتحول إلى أجواق تصخب بالغناء. "تكرس الغناء / في حنجرة القصيد/ حين تخرس الأجواق".

اللغة الشعرية، من منظور هذا الديوان، كائن حي أنقذته القصيدة من موته المحقق، وضخت دما في عروقه وأوردته. وهي لغة تنأى بنفسها عن لغة التقرير المباشرة والوصف السطحي، وتستعيض عن التصريح بالتلميح، مجترحة صورا مبتكرة يتجاور فيها الواقعي بالخيالي وبالأسطوري والرمزي، فيصير الطفل وارفا كأي ظل ذات ظهيرة قائظة، والعصر "يجلس على كرسي دوار"...

هذه اللغة الشعرية المكثفة، الموجزة، تجعل المستحيل ممكن الحدوث، كأن يستقيل المرء من هرمه وشيخوخته، وكأن  "يترجل النبض" ويصبح الحلم قميصا.

6- سيرة الذات والغير.
يقرع محمد شاكر ذاكرته، ويستعطف أصداء عمر كي يكتب في هذا الديوان سيرته، مذ كان طفلا يسهر في الصورة إلى أن أصبح في حرجه الخامس. هي سيرته الفكرية والوجدانية والشعرية وقد تملكه "رعب الزمان" ولم يعد له وقت كاف. اكتسحته عزلته، وضاقت به الصحراء، فآوى إلى ذكرياته يقلبها ويبحث فيها عن أمن وسلام. فتأتيه امرأته "الغافية"، تلك التي كان سفر تكوينه على يديها. سكنت جهاته الأربع، وملكت ماضيه وحاضره. هذه المرأة هي الحاضرة في الديوان، لكنها غائبة في اللحظة والمكان. وبما أنها كذلك، فقد كان حديثه عنها رثاء، أكثر منه غزلا أو شعر حب.

"ها امرأتي تركض، بيضاء/ إلى غدائرها الغميسة في لون الغياب".

وفي رثائها يرثي نفسه، وقد أصبح رجلا " على مشارف القنوط" مبحرا "في لجة الحرف" بلا أشرعة أو مراسي. وفي ذلك الرثاء يكتب سيرته وسيرتها. وبين السيرتين يكتب سيرة القصيدة. ذلك الكائن الغامض الذي يأتي من حيث لا يدري: من عبارة قرأها "ويل لمن خرابه في الداخل"، أو من ألق الماء والأمواج، أو من وحي شارع أنهكه الوقوف، أو موت سقاء، أو صورة على جدار...

تتقاطع سيرة الشاعر مع سير غيره ممن عاشرهم وأثثوا في يوم ما أوقاته ولحظاته. إبراهيم السقاء، شاعر بصيغة المجهول... أو مع سير أمكنة أليفة لديه: "شارع إلى أقصى الوقوف"، الدرب القريب أو البعيد، "صحراء لا ترسو على زهر".

7- عود على بدء.
هذا الديوان أرهقني، بنفس القدر الذي أمتعني به. تلك هي الخلاصة التي ترسخت لدي بعد أيام قضيتها في حضرته وملكوته. إذ هو يحفل بمادة دسمة لا تهضم بسهولة، ولا تدرك بمجرد قراءة عابرة سريعة. ولا عجب في ذلك، فمحمد شاكر لم يصدر هذا الديوان إلا بعدما بلغ من الشعر عتيا، وقد أسس لنفسه أسلوبا خاصا في الكتابة الشعرية بعد مراس طويل مع القصيدة.

عوالم محمد شاكر الشعرية تقوم على دعامات أساسية يوليها بالغ العناية : لغة رصينة، فصيحة، موحية، متجددة. وإيقاع واضح عذب، وصور مبتكرة، ومعاني تخلق الدهشة في نفس قارئها، وموضوعات تلامس هموم النفس والوجدان الإنسانين وتجاور هموم الناس البسطاء والمهمشين.

 

هامشان:

1-    أرمم ذاكرتي، محمد شاكر، اتحاد كتاب المغرب: فرع الرشيدية، ط الأولى 2011

2-    ما بين مزدوجتين مقتبس من الديوان.