تصك هذه الدراسة في مراجعتها لسيرة ذاتية دالة على مرحلة ومناخ سياسي وثقافي مترع بالدلالات في المغرب، مصطلحا نحن في حاجة إلى ترسيخه بعد ما جرى في مصر، هو «العسكردينية» التي تربط بين العسف العسكري والديني معا، أو تحول الديني إلى عسكري، لكن السيرة التي يتناولها غنية بالرؤى والدلالات.

الأنا والتاريخ في «زمن الطلبة والعسكر»

أحمد بلخيري

«زمن الطلبة والعسكر»1، هذا هو عنوان سيرة ذاتية صدرت هذه السنة (2012) للدكتور محمد العمري. قبل التركيز على بعض الأحداث التي تضمنتها هذه السيرة الذاتية، تجدر الإشارة إلى العنوان والناشر. يتكون العنوان، كما هو واضح، من ثلاث كلمات. تتعلق كلمة الطلبة بالمجال التعليمي، وكلمة العسكر بالمؤسسة العسكرية. الأحداث المرتبطة بهذين المجالين في المغرب في السيرة الذاتية ترتبط بضمير المتكلم صاحب السيرة الذاتية من منطلق الفعل تارة، ومن منطلق المعايشة تارة أخرى. لذلك يمكن القول بأن هذه السيرة الذاتية "شهادة" مثقف مغربي غير مخزني انحاز وينحاز اليوم، عبر مقالاته الصحفية، إلى الحقيقة كما يراها دون تأويل للأحداث تأويلا يتماشى مع سلوك التملق والانتهازية، لاسيما فيما يتعلق بالأحداث السياسية التي عرفها المغرب خلال المدة الزمنية التي غطتها هذه السيرة والتي تحدث عنها السارد. وقد أدى صاحب السيرة الذاتية ضريبة تمسكه بالحقيقة كما يراها، وضريبة الحرص على الكرامة والحرية في واقع سبعينيات القرن العشرين في المغرب. واقع لم يكن يقيم وزنا لهذين المفهومين: الكرامة والحرية. بل كان يعلي من شأن الكذب، والتملق، والانبطاح، والاستعباد. أما الناشر فهو مركز محمد بن سعيد أيت أيدر. وهذا الأخير واحد من المقاومين المغاربة زمن الاستعمار وواحد من المناضلين المغاربة زمن الاستقلال إلى يومنا هذا.

وكان محمد العمري قد نشر كتابا عنوانه (البلاغة العربية أصولها وامتداداتها) (افريقيا الشرق الطبعة الثانية 2010). هذا الكتاب الأخير هو "في جانب كبير منه، إحدى ثمرات" (ص/211) ندوة جامعية. خصص الفصل الخامس من القسم الأول في الكتاب المذكور لـ"القراءة العربية للبلاغة اليونانية" حيث كانت تلخيصات وشروحات الفلاسفة المسلمين القدماء لشعرية أرسطو هي موضوع البحث. وصف محمد العمري كتاب "فن الشعر" لأرسطو، وتحدث عن الخلل في ترتيبه انطلاقا من ثلاثة فهارس واحد عربي واثنان فرنسيان. وكانت له استنتاجات وآراء في هذا المجال. وكنت قد أخضعت بدوري تلك الشروحات والتلخيصات للتحليل في كتابي (المصطلح المسرحي عند العرب). تختلف قراءتي عن قراءة محمد العمري. قرأها هو انطلاقا من البحث البلاغي، وقرأتها أنا انطلاقا من البحث المسرحي. لا أريد أن أخوض في مناقشة تفصيلية لما ورد في كتابه، فليس هذا هو المراد الآن. وكنت قد قرأت له أيضا كتابه القيم (الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية) الصادر عن منشورات دراسات سال سنة 1991؛ هذا علاوة على مقالات صحفية انتقادية تتعلق بالوضع المغربي العام.

الكتابان المشار إليهما سابقا كتابان أكاديميان، أما (زمن الطلبة والعسكر) فسيرة ذاتية. وتجدر الإشارة إلى أن هذه السيرة الذاتية مكونة من خمسة فصول، عناوينها بالترتيب هي: رحلة في زمن الانقلابات 1968-1972، الطريق إلى السجن المدني ، فضاءات القلم 1985-2005، المغارة، رعشة في فضاءات الموت. ترتبط الأحداث في كل هذه الفصول بالشخصية الساردة في النص، وهذا أمر عادي في السيرة الذاتية. إن الأحداث التي سردتها الشخصية الساردة تتطابق مع الأحداث التي عرفها الكاتب محمد العمري في حياته منظورا إليها من موقعه ومن وجهة نظره.

وقد يقسم الفصل الواحد إلى عناوين فرعية كما هو الشأن بالنسبة للفصل الثالث الذي يوجد فيه، فضلا عن ملحق، عنوانان فرعيان هما: "رفقة القلم" و"الطريق إلى البلاغة 1997-2005"؛ وكذلك الفصل الرابع الذي تضمن عنوانين رئيسيين هما: "لعنة المخطوطات" و"أشواك مجانية". كل عنوان من العنوانين اختزال مكثف ودال. دلالة كل واحد منهما على حدة تكمن في كونه يتضمن حكما يرتبط بمضمون الأحداث التي هو عتبة لها. ويوحي عنوان السيرة الذاتية: (زمن الطلبة والعسكر)، بأن الأحداث ستتمحور حول التعليم (الطلبة) والجيش (العسكر). يجمع الزمن العام بين الطلبة والعسكر في العنوان وكذلك في متن النص نفسه. بداية هذا الزمن العام كانت بين سنتي 1959 و1968 حيث كان السارد يتابع دراسته بمدينة تارودانت في "المعهد الإسلامي". وكما يدل عليه اسمه فالتعليم فيه مرتبط بالدين الإسلامي والثقافة الإسلامية. بعد التحاق السارد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس بدأت معالم ثقافة جديدة تتكون لديه. انطلاقا من هذه الثقافة الجديدة التي صاحبته، وقد تعمقت عنده مع توالي السنين، إلى حين كتابة هذه السيرة، نحت مصطلحا هو "العسكردينية".

ارتبطت كلمة العسكر في هذه السيرة الذاتية بمجالين مختلفين. المجال الأول يتعلق بما يمكن تسميته حراسة الدين، لهذا كانت أول كلمة في الفصل الأول هي "العسكردينية". وهي كلمة منحوتة من كلمتين كما هو واضح من التركيب. والعسكردينية تعني "عسكرة الدين" (ص/13) التي تعتبر "نمط حياة" عاشه السارد في المعهد الإسلامي بتارودانت (1959-1968) لما كان "طالبا". وسبب هذه التسمية هو أن عمل حراس الداخلية كان يشبه عمل "الشرطة الدينية في بعض البلاد الإسلامية" (ص/13). لقد كان السارد/ الكاتب "طالبا" داخليا في المعهد المذكور. لهذا وصف أجواء التعليم في هذا المعهد وفي داخليته. وإذا كانت كلمة انقلابات الموجودة في عنوان الفصل الأول قد جاءت في صيغة الجمع، فإن مضمونها لا يتعلق بالجانب العسكري فقط، بل يتعلق أيضا بالتحولات التي عرفتها الشخصية الساردة. وكان أول انقلاب مذكور في هذه السيرة الذاتية الانقلاب الذي أحدثه في ذهن السارد كتاب "دروس الفلسفة لطلاب الباكالوريا" في جزأين: الجزء الأول في الأخلاق والميتافيزيقا، والثاني في مناهج العلوم وعلم الاجتماع وعلم النفس، كانا من تأليف الأساتذة محمد عابد الجابري وأحمد السطاتي ومصطفى العمري. ثم تلاهما كتاب "في الفكر الإسلامي" (ص/19). في هذه المرحلة التعليمية كان الحفظ عن ظهر قلب والاستظهار.

بعد الحصول على الباكالوريا سرد السارد أحداثا من بينها حديث علال الفاسي عن الإنسية المغربية بدار مكوار. لكن المفارقة أن ابنه عبد الواحد الفاسي "لا يعرف العربية" (ص/27)، ولكنه يتحدث باللغة الفرنسية. هذه المفارقة شكلت صدمة للطلبة. أب وزعيم يدعو إلى التمسك بالإنسية المغربية وابنه يتلقى تعليما فرنسيا! ولم تفت السارد الإشارة إلى أولئك الذين يرتزقون بالدين. لذلك قال السارد "إن أسوأ أنواع الارتزاق، في نظري، هو الارتزاق بالدين، وأسوأ رجال الدين هم الأغبياء الذين يبوؤهم الحكام المستبدون المناصب العليا لاستعمالهم في تبرير تجاوزاتهم والتستر على نزواتهم وسوء خلقهم" (ص/29). هناك إذن رؤية فكرية انتقادية لأولئك الذين اعتبرهم السارد يرتزقون بالدين. هذه الرؤية الانتقادية هي التي جعلت السارد، لما كان أستاذا جامعيا بكلية الآداب بفاس، يصطدم مع زملاء له ينطلقون في تصورهم الفكري من الدين.

كان السارد فاعلا في أحداث في هذه السيرة الذاتية، وكان معايشا لبعضها. من تلك التي عايشها محاولة الانقلاب العسكري التي كانت يوم 10 يوليوز 1971 بالمغرب. ولأن الحدث مهم فقد تحدث السارد عن برنامجه في ذلك اليوم. لم يخف السارد حلمه وتطلعه، وحلم وتطلع الجماهير حسب قوله، لاسيما وأن "بلاغ الجيش جمع بين لفظين محبوبين، خطفهما من فم الماركسيين اللينينيين الحالمين: الشعب والثورة" (ص/37). وهو يرى أن "الكل كان يتمنى نهاية النظام المخزني القروسطي المتجبر، هذا ما كنا نحس به، وهذا ما ظهر من سلوك الجماهير التي خرجت إلى الشوارع تعبيرا عن فرحها في كثير من المدن" (ص/37). يبدو من خلال اللغة المستعملة، "النظام المخزني القروسطي المتجبر" و"تعبيرا عن فرحها" أن السارد يعلن عن موقفه وعن تطلعه يومئذ، ويفصح أيضا عن رد الفعل الشعبي تجاه هذا الحدث. ولذلك لم يكيف أو يفسر الحدث التاريخي حسب رغبات ومقاصد النظام. "لكن لا أحد كان يتوقع أن يكون ذلك من داخل دار المخزن، من اليد اليمنى التي يبطش بها. وما دام العسكريون يقولون إنها "ثورة لصالح الشعب" فهي ثورة محبذة ومشروعة." (ص/37).

 وضع السارد الحدث المذكور في سياقه التاريخي. لذلك قال بأنه "يكذب اليوم من يقول بأن القوة الحية في المغرب، بل أغلب الجماهير، لم تكن تتمنى التخلص من النظام المخزني العتيق بقضه وقضيضه، الكل كان يسعى من جهته مسابق للآخرين" (ص/37). لم يقل كل الشعب المغربي بل قال "القوة الحية" و"أغلب الجماهير". وهي لغة تفيد أن مصلحة "القوة غير الحية" وقليل من الجماهير كانت مرتبطة بالنظام. والمهم هنا هو تحرر الذاكرة من التفسير الرسمي للحدث المشار إليه. وقد قدم السارد نفسه بأنه كان ماركسيا حالما ومندفعا. حكم على نفسه بكونه حالما ومندفعا أثناء الكتابة وليس أثناء جريان الأحداث (ص/48)، إنه اليوم ليس ماركسيا. لهذا تحدث عن إحدى مفارقات المغرب قائلا: "ومن مفارقات المغرب الحديث أني سمعت بعض الطلبة، في السنوات الأخيرة من العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، يجترون ذلك الخطاب الطفولي الحالم - الذي صاغته ظروف 1965 الوطنية، و1968 العالمية - بعد كل المآسي التي جرها على الحركة الطلابية وعلى المسيرة النضالية في المغرب، وبعد دخول المغرب في عهد المصالحة والتناوب، وبعد أن تفرقت أحجار جدار برلين على المتاحف العالمية، مازالوا يحلمون بثورة ماركسية لينينية جذرية بعد أن أخفى الروس مومياء لينين" (ص/68).

وتحدث عن الحي الجامعي والنقاشات الساخنة التي عرفتها الساحة الطلابية نهاية ستينيات القرن العشرين وبداية سبعينياته. كان اليسار يومئذ هو المسيطر على الساحة الطلابية، وكانت الماركسية ومفاهيمها منتشرة على نطاق واسع في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. أما الاتحاد العام لطلبة المغرب التابع لحزب الاستقلال فقد كان محاربا من قبل الاتحاد الوطني. تحدث أيضا السارد عن الظروف التي أدت إلى انعقاد المؤتمر الخامس عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، حيث كانت "بداية الصراع بين الاتحاديين والجبهة الماركسية". انتصر الماركسيون الذين "استولوا على الأجهزة المسيرة في فاس، وفي كثير من المدن المغربية" (ص/59). كان أفق السارد السياسي في تلك الأثناء ضيقا. فهو "واحد من المؤتمرين المتحمسين الذين لا يرون في أفق السياسة أبعد من أرنبة أنوفهم" (ص/59). خلال انعقاد المؤتمر المذكور في كلية العلوم بالرباط، وفي يوم 16 يوليوز 1972 بالضبط، اعترضت طائرات حربية "طريق الطائرة التي تحمل الملك من الخارج، لقد قصفت قبل ذلك مطار سلا." ص/62. وصف السارد حركة الشارع حسب ما عاينه هو نفسه كما قال. في هذا الصدد تم ذكر الجنود وسيارات الشرطة وساكني الفلات "وجلهم من الفرنسيين" (ص/62).

تحدث السارد/الطالب الجامعي محمد العمري عن بعض أساتذته الجامعيين ومنهم الشاعر المغربي أحمد المجاطي الذي كان يقوم بتدريس مادة هي الشعر الإسلامي. يبدو من خلال السرد أن أحمد المجاطي لم يكن متمكنا منها لأن اختصاصه هو الشعر الحديث. لهذا مر "بامتحان عسير، يبيض ويحمر طوال الموسم، قبل أن يتنفس الصعداء ويجلس لامتحاننا شفويا في آخر السنة" (ص/62). باغت الأستاذ الطالب، أي محمد العمري، بأن فتح أمامه ديوان محمود درويش فلم يدرك الطالب المشار إليه شيئا فيه. لكن مع ذلك لم ينتقم الأستاذ، هذا ما صرح به السارد/الطالب. هذا الأخير أشار إلى دور بعض الأساتذة المشارقة في تكوين الطلبة المغاربة ومنهم أمجد الطرابلسي وعزت حسن .. لكن أكثر الأساتذة بكلية الآداب بفاس (ظهر المهراز) كانوا "من الشبان المغاربة الذين مازالوا في بداية الطريق، في رحلة البحث عن أنفسهم" (ص/72). انتسب الطالب الجامعي/محمد العمري، كما قال، إلى "الجبهة الماركسية". وقد ذكر بأن الفضل في هذا يعود إلى أستاذ جامعي وصفه بالأصولي هو عبد السلام الهراس، الذي سيكون زميلا له في الكلية لاحقا وخصما ثقافيا وايديولوجيا. يتضح من خلال هذه السيرة الذاتية أن الرؤية الفكرية التي ينطلق منها السارد تختلف اختلافا واضحا عن الرؤية الأصولية. لهذا كشف عن الهشاشة المعرفية لأستاذين جامعيين ربط فكريهما بالرؤية الأصولية حسب رأيه. الأول هو عبد السلام الهراس المذكور، مع الإشارة "إلى ملابسات التحاقه بالكلية" ، والثاني هو الشاهد البوشيخي الذي فهم فهما سيئا معنى كلمة "مصطلح" حسب هذه السيرة الذاتية.

في كلية الآداب بفاس تم تكليف الأستاذ محمد الكتاني بتدريس الفكر الإسلامي، وقد كان حينئذ مشغولا بأطروحته الجامعية "الصراع بين القديم والجديد في الأدب الحديث" (ص/74)، فتعرف الطالب/ محمد العمري على محمد إقبال الذي لقب بكونه فيلسوفا إسلاميا. انبهر الطالب بذلك اللقب فاقتنى كتابه "تجديد الفكر الديني" فلم يجد "فيه ما يغري بالقراءة ربما بسبب سوء الترجمة، أو لضعف زادي المعرفي وقتها" (ص/74). في هذا السياق قال السارد أيضا: "ثم قرأت للشيخ الغزالي ومحمد عمارة وغازي التوبة وغيرهم كلاما لم يأخذ بلبي كما ستأخذ به كتب الفلسفة الوضعية وتطبيقاتها الماركسية" (ص/74). وبالمقابل، استعمل السارد جملا أشاد من خلالها ببعض أساتذته في الجامعة وعلى رأسهم أمجد الطرابلسي الذي اعتبره "منارة". لهذا أشار السارد إلى أنه أصر، أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، حين مناقشة أطروحة دكتوراه الدولة التي أعدها تحت إشراف محمد مفتاح، على ضرورة أن يكون أمجد الطرابلسي ضمن لجنة المناقشة. فتح أمجد الطرابلسي نافذتين للطلبة إحداهما تتعلق بالأدب الغربي، والثانية تتعلق بالنقد الأدبي العربي القديم.

بعد استرجاع أجواء الجامعة عبر ذاكرة السارد/ الطالب، انتقل السارد/ الأستاذ إلى أجواء التدريس بإحدى ثانويات المغرب موجودة في مدينة صغيرة تدعى الفقيه بنصالح. في هذه الثانوية قام السارد بالتدريس حيث كانت البداية في الموسم الدراسي 1972/1973، وفيها أيضا التقى السارد بالشاعر المغربي عبد الله راجع. استرجع السارد أحداثا ترتبط بهذه المرحلة، سارد مقتنع بعلمية الماركسية وبحتمية الثورة زمن الوقائع، أما في زمن الكتابة فاعتبر الماركسية "لوثة" (ص/95)، وهو تحول فكري واضح. وقد اعتبر السارد تدريس مادتي التربية الوطنية والتربية الإسلامية عقوبة لهذا النوع من الأساتذة، إنهم ماركسيون. والتربيتان معا "محسوبتان على المخزن والأصولية ومشبعتان بأوهامهما" (ص/93). قدم السارد تدريس مادة التربية الإسلامية بطريقة ساخرة، لأنها كانت "منشغلة بتعداد ريش جبريل: في كل جناح سبعمائة ألف ريشة، وفي كل ريشة سبعمائة ألف رغبة ...الخ" (ص/93). ثم علق على تدريس المادتين معا قائلا: "لكأن هناك أشخاصا أذكياء ذكاء خبيثا يتعمدون "بهدلة" الوطن والدين، أو أشخاصا أغبياء كانوا يعتقدون أنهم "يقطرون السم" للجيل الجديد من الأساتذة والتلاميذ الثائرين على الوضع" (ص/93). استهدفت التربيتان معا، حسب السارد، "تخريب عقول الأجيال الصاعدة و"تعبيدها"" (ص/94).

تحايل الأستاذ الماركسي لكي لا يدرس المادتين معا لأنهما معا مبرمجتان خدمة لأهداف غير معرفية. وفي سياق عمله التربوي ذكر السارد أحداثا ووقائع تتعلق بالإدارة وبالخصوص المدير، الذي كان يعتبر المؤسسة التعليمية مؤسسته والأستاذ أحد "أعوانه"، والمفتش، والنائب الإقليمي. ذكرت في هذه السيرة الذاتية أحداث تبين سلطوية هؤلاء الموظفين الإداريين. سلطوية يستمدونها من المواقع الإدارية ومن السياق العام بالمغرب حينئذ. ولذلك كان لابد من اصطدام السارد، ومن هم على شاكلته، بهذا النوع من الموظفين. وعليه، فلا غرابة أن تكون آخر مقابلة له "مع مفتش الثانوي بصفر لمثله" (ص/152). هذا رغم أنه أستاذ باحث ناقش رسالته الجامعية في نهاية الموسم الدراسي 1980/1981. ومن أسلحة الموظفين الإداريين، الذين هم من هذا النوع، سلاح الوشاية، وقد كان السارد ضحية لها. هذا إضافة إلى خلق المشاكل دون مراعاة للكفاءة والمردودية، لاسيما بالنسبة للأساتذة ذوي الأفق العلمي والثقافي البعيد عن المراقبة الإدارية (كشف الكاتب التونسي حسونة المصباحي في رواية "الآخرون" عن هذه الممارسة الإدارية في المجال التعليمي التونسي في سبعينيات القرن العشرين أيضا). لكل ذلك، وغيره من التفاصيل الموجودة في هذه السيرة الذاتية، فهم الكاتبالسارد "لماذا لا يزيد تعليمنا إلا تقهقرا وترديا" (ص/149).

انتقل السارد/ الأستاذ للتدريس بإحدى ثانويات الدار البيضاء (ثانوية مصطفى المعاني). إن مزاولة السارد لعمله المهني بمدينة الدار البيضاء جعله في قلب الحدث الذي عرفته الدار البيضاء يوم 20 يونيو 1981 المتمثل في ما يمكن اعتباره انتفاضة شعبية بسبب الرفع من سعر الخبز. لهذا وصف السارد هذا الحدث مستعملا ضمير نحن حيث كان رفقة صديقين له، وهم جميعا حالمون بالثورة. لكن هذا الحدث بالذات كشف لهؤلاء الماركسيين "الشعبويين"، حسب وصفه، مدى سذاجة حديثهم عن "طيبوبة الطبقات الشعبية واستعدادها للخير" (ص/155). والخير، حسب السياق، هو الثورة. وبعد التحاق السارد بكلية الآداب بفاس باعتباره أستاذا وصف كذلك الأحداث التي عرفتها مدينة فاس يومي 14-15 دجنبر 1990. لقد لعلع الرصاص مرة أخرى، رصاص النظام المصوب نحو المتظاهرين المحتجين . ثم ذكر الأحداث التي عرفتها مدن الناضور والحسيمة وتطوان في الشمال ومراكش في الجنوب سنة 1984. لكنه تعرف على هذه الأحداث الأخيرة من خلال "أبناء منطقة الشمال من طلبة كلية الآداب، ومن خلال رد فعل الدولة الذي جسده الخطاب الملكي المنفعل الذي هدد "أوباش" الريف مذكرا إياهم بما فعل بهم لما كان ولي العهد أثناء انتفاضة 1985" (ص/162). استعمل السارد كلمة "أوباش" بين مزدوجتين. وهذا له دلالته.

كان عنوان الفصل الثالث من هذه السيرة الذاتية هو "فضاءات القلم 1985-2005". تحدث فيه السارد بإسهاب عن ظروف ميلاد مجلة دراسات أدبية ولسانية" في منتصف ثمانينيات القرن العشرين من قبل مجموعة من الأساتذة الذين كانوا يدرسون بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس. وهم ينتمون إلى شعبتي اللغة العربية واللغة الفرنسية. ظهرت هذه المجلة بعد منع عدد من المجلات المغربية سنة 1984 منها مجلة "الثقافة الجديدة" التي كان يديرها محمد بنيس. "وكانت قيدومة المجلات الثقافية أقلام قد توقفت سنة 1983 إثر اختلاف السبل بين القائمين عليها بسبب انفصال مجموعة "الطليعة" عن الاتحاد الاشتراكي" ص/196). سبب توقف هذه المجلة إذن يتعلق بالاختلاف السياسي بين الذين كانوا يتولون تسييرها. أما سبب توقف المجلات الأخرى، ومنها "الثقافة الجديدة ، فعزاه الكاتب إلى السلطة مجسدة في وزير الداخلية ادريس البصري.

في إطار تأسيس مجلة جديدة، ذكر السارد كيفية تبلور مشروع مجلة "دراسات أدبية ولسانية" التي تحولت إلى "دراسات سيميائية أدبية لسانية". وتوجد في هذه السيرة الذاتية أحكام دونها الكاتب في سيرته تتعلق بأصحاب هذا المشروع وهم أساتذة جامعيون . كما تحدث عن ظروف التوزيع، والمراقبة الأمنية للمجلة. وهنا ذكر السارد أن السلطة الأمنية استدعته للتحقيق معه بعد ما بلغها "من طريق فاعل خير، من أن الأمر يتعلق بمجموعة ماركسية. من بقايا "إلى الأمام" السرية، تتستر وراء العلم والثقافة" (ص/208). كما تحدث السارد أيضا عن انفتاح المجلة على السيميائيات، العلم الجديد وقتذاك، وكان محمد مفتاح في طليعة المشتغلين به. لهذا قصده محمد العمري، كاتب السيرة الذاتية، وحميد لحمداني لاستفساره عن هذا العلم الجديد بعد أن توسع مشروع المجلة ليشمل السيميائيات فصار اسمها "دراسات سيميائية أدبية لسانية". وتجدر الإشارة إلى أن هناك تفاصيل مهمة تتعلق بالمجلة المذكورة في هذه السيرة الذاتية ، منها الاختلاف الذي نشأ بين الأساتذة الذين كانوا يتولون أمورها.

وقد كان للمجلة المذكورة دور مهم في الثقافة المغربية، وذلك بفضل رصانة المواد التي تضمنتها. يكفي أن يعود المتتبع إلى الأعداد التي صدرت منها حتى يتأكد من ذلك، ومنها العدد الرابع الذي صدر شتاء 1990 ، وقد تضمن حوارا مع الشاعر المغربي محمد السرغيني، ودراسة لحميد لحميداني بعنوان "المنهج الموضوعاتي في النقد الأدبي أصوله واتجاهاته"، ودراسة لمحمد العمري، كاتب هذه السيرة الذاتية، بعنوان تفاعل الصوت والدلالة في البنية الايقاعية للشعر التمفصل الدلالي والتقطيع النظمي". كانت مواده رصينة لأن الحريصين والساهرين عليها كانوا أساتذة باحثين تحركهم الرغبة العلمية دون تعالم، أو ادعاء العلم، ودون تحجر كما تم بيان ذلك في هذه السيرة الذاتية.

هذا الفصل، وكذلك بقية الفصول، توجد به عناوين فرعية. ومنها "اختطاف" حيث كشف السارد عن صراع ثقافي بين مجموعة محافظة ("على مصالحها" ص217) من الأستاذة من جهة، هؤلاء الأساتذة وصفهم السارد بالرجعيين "المقنعين بالدين" ( ص/218)، والحداثيين من جهة أخرى. يتعلق الاختطاف هنا بمشروع ثقافي، هو ندوة تحليل الخطاب، أنجزته الكلية ولا يتعلق بالمجلة السابقة الذكر. وكلمة اختطاف تختزل في ذاتها حدة الصراع بين الطرفين. لم يغفل السارد بعض إخفاقاته. ومنها إخفاقه في الانتخابات الجماعية في مقاطعة ليراك بفاس حيث ترشح "ضمن لوائح الاتحاد الاشتراكي" (ص/219). لكنه كتب في هذه السيرة الذاتية أنه حمد الله على ذلك السقوط لأنه أرجعه إلى كتبه. ومنها أيضا إخفاقه في رئاسة فرع اتحاد كتاب المغرب بفاس. وكان خصمه ومنافسه في تولي تلك الرئاسة هو زميله في المهنة ورفيقه في الحزب والسياسة أنور المرتجي، فهما معا اتحاديان. الإخفاقان معا يتعلقان بالمجال السياسي وإن كان للثاني مظهر ثقافي. لذلك يمكن القول، بناء على تعبيره وهو "لعبت مرة خارج ملعبي" (ص/219) أن المجال السياسي الصرف ليس هو ملعبه. إنه مثقف وباحث قبل أن يكون سياسيا.

تحت عنوان (زمن الطلبة والعسكر) كتبت العبارة التي تدل على التعيين النوعي أو الجنسي هي: "سيرة ذاتية". لهذا كان ضمير المتكلم هو الذي سرد الأحداث، وهو الذي قدمها وقام بتأويل بعضها واتخذ موقفا تجاهها انطلاقا من رؤيته. لقد قدم ضمير المتكلم حقائقه، أو ما يعتبره حقائق، اعتمادا على الذاكرة. أحداث تتعلق بالماضي أي بالتاريخ، منها ما يتعلق بالتاريخ السياسي للمغرب خلال المدة الزمنية التي شملتها هذه السيرة الذاتية؛ ومنها ما يتعلق بتاريخ ضمير المتكلم نفسه؛ ومنها ما يتعلق بتاريخ كلية الآداب ظهر المهراز بفاس؛ ومنها ما يتعلق بالتاريخ الثقافي المغربي؛ ومنها ما يتعلق بالبيروقراطية، والفساد الإداري ومنه التوظيفات المشبوهة في الجامعة " ومنح التفرغات والمنح غير المفيدة لمن لا ينتج " (ص/292)، والانتهازية. تم تقديم هذه الأحداث من منظور ضمير المتكلم حيث استعادت الأنا تلك الأحداث، بعد أن صارت ملكا للتاريخ، زمن الكتابة وليس زمن الوقائع، فكانت هذه السيرة الذاتية: (زمن الطلبة والعسكر)، التي يبدو واضحا من خلالها أن الذاكرة متحررة فيها من التفسير الرسمي للأحداث. هذا التفسير الأخير تعكسه ردود أفعال السلطة. من الأدلة العديدة التي تدل على ذلك التحرر قول السارد بعد الإشارة إلى الإضراب العام الذي خاضته نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل سنة 1979: "كان الإضراب نوعا من استرجاع النفس النضالي وحفظ الوجود بعد الحوادث المزلزلة التي عرفها النصف الأول من السبعينيات: انقلابان عسكريان (1972، 1971) وثورة مسلحة (1973) أعقبتها محاكمات زائفة (1974-1976)، وقمع أعمى، ومصادرة للحريات." (ص/104). لقد تم تقديم، عن طريق الوصف أحيانا، أحداث سياسية مغربية عرفها المغرب في العقود الأخيرة. كان ذلك التقديم من منظور مغاير تماما لمنظور السلطة. إنه منظور المثقف المتشبع بقيم الحداثة.

أضف إلى ذلك كشفه عمن يرى أنهم اتخذوا "البحث العلمي" قناعا في كلية الآداب ظهر المهراز بفاس. شكل هؤلاء "مدرسة" لها تلاميذ. في هذا الصدد ذكر كلاما موضوعا بين مزدوجتين لأحد الأساتذة بالكلية قدم ملفا من أجل الترقية. هذا الكلام هو "ما كنت أظن أن الترقية ستكون بالبحث العلمي". علق السارد على هذا الكلام قائلا: "وكيف يتحقق البحث العلمي وقد كان منازعنا يشرف على ست وسبعين رسالة وأطروحة مرة واحدة، وفي نفس الوقت، والثاني على بضعة وأربعين، ضدا على القانون والمنطق، ويناقش عددا آخر خلال السنة الواحدة، مما يتعدى طاقة البشر. هذا فضلا عن الإشراف والمناقشة خارج التخصص. من الطريف أنهم طالبوا مرة، في اجتماع لمجلس الكلية، بتقديم تعويض مادي عن الإشراف، فما كان مني إلا أن طالبت بمحاكمة من يشرف خارج تخصصه بنفس الفصول التي يحاكم بها طبيب الجهاز الهضمي الذي يجري جراحة على العيون" (ص/278).

عنوان الفصل الأخير، وهو الخامس، من هذه السيرة الذاتية هو "رعشة في فضاءات الموت". وقد خصصه السارد لمرض التهاب الكبد C الذي أصيب به. وهنا قدم معلومات طبية ووصفا لإجراءات العلاج وحالته النفسية والجسدية. في هذا الإطار قال السارد: "دخلت العلاج بوزن الفيل وخرجت منه بوزن الديك، فقدت ثمانية وعشرين كيلوغراما في أقل من ستة أشهر" (ص/311). لكن في النهاية كان الشفاء، "غاب الفيروس الكبدي" (ص/318). وحتى وهو يتحدث عن حالة خاصة به لم تغب عنه حاسته النقدية، إذ قدم نماذج من المرضى الذين يقعون ضحية المشعوذين. أضف إلى ذلك قوله إن "من عاهات المغرب أن المسؤولين، من أعلاها إلى أسفلها، يحولون حقوق الناس إلى إكراميات وهبات وصدقات، لتكون اليد العليا خيرا من اليد السفلى، أو إلى رشاوى من أجل ضمان الولاء وانتظار خدمات مقابلة. ولذلك تجد المواطن المغربي، وهو يتقدم لاستخلاص حق من حقوقه معقوف القامة منحني الهامة، يستعير لغة المتسولين: الله يرحم والديك .. الله يجازيك بخير ..." (ص315).

لم يقتصر السارد على انتقاد بل وفضح خصومه الثقافيين والإيديولوجيين في هذه السيرة الذاتية، ولكنه انتقد أيضا منتسبين للحزب السياسي الذي ينتمي إليه، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. الأول ذكره بالاسم هو الأستاذ أنور المرتجي؛ والثاني لم يذكره بالاسم لأن سلوكه، حسب هذه السيرة الذاتية، يدل على مفارقة وانتهازية واضحتين. وربما بسبب تينك لم يذكره بالاسم. علق السارد على الأستاذ بشعبة اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب بفاس الاتحادي وعضو في المجلس البلدي بمدينة فاس حينئذ ، الذي لم يذكر اسمه،قائلا: "هكذا بعض الناس: يبيعون القرد ويضحكون على من اشتراه " (ص/293). هذه سيرة ذاتية تتميز بلغتها الفصيحة والرصينة. كما تتميز بكشفها عن أحداث ووقائع مهمة، منها تلك المتعلقة بالكلية والصراع بين الأساتذة فيها، وعقلية المكلفين بتسيير الإدارة التربوية، وبعض الأحداث السياسية المغربية. وهي بدون شك إضافة نوعية للأدب المغربي المعاصر.

 

الهوامش:
1- محمد العمري، زمن الطلبة والعسكر،نشر مركز محمد بنسعيد أيت ايدر،مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب،ط/1، 2012. وله أيضا " أشواق درعية العودة إلى الحارة " وقد نشرت سنة 2003.