يقول الباحث: ككردي أتذكر حلبجة ذاك الجرح النازف دوماً، وكسوري أتذكر حماة وحمص والحولة اليوم، أتذكر أرتال الشهداء الصغار مستلقين على الأرض الباردة في زمهرير الأسى، أتذكر كانسان صبرا وشاتيلا حين حاصرت قوات الاحتلال مخيم اللاجئين ومنعت الدخول إليه إلا لقطعان القتل.

طقوس الموت في الحولة!

شمدين شمدين

للموت طقوس ومراسيم، وللجسد حكايات تتلوها مزامير الهواء، محترقاً في عمق البحر، أو منثوراً ذرات هباء في صمت الصرخة، لا نواح هذا الصباح، لا بكاء، لا صياح يخترق الشفاه، ألم دهشة، واستكانة تعجب، وتساقط صور حبيبة، أين المارون فوق ضفة الحزن الأسود؟ أين المتأبطون وثيقة الخنوع؟ أين الباحثون عن منابع الدم؟ والحاملون على صدورهم ختم الإنسانية؟ هل شلت الألسن وتجمدت الجذوع؟ هل مات الضمير؟ بساط الأجساد الفتية يطغى على كل الصور وكل المشاهد، الصخب يتلوى في دهاليز الكوابيس المزعجة، لكنه يأبى أن يحرك نبض الخارجين، تراسيم الموت على ظهورهم العارية، ورجفة العيون المغمضة عن نداء غوث في سواقي الفجيعة، لم توقظ ملوك القرار من نومهم الاختياري العميق في قصورهم البهية، ولم تأت إلا باستنكار وتنديد وبعضا من الوعيد، والتسويف العصري المعتاد: سنعمل..سنفعل..ولا من منقذ أو نجدة.

للموت رائحة تأتي من جهة الشمال، رائحة بطعم البطولة، بطعم الصبر على فقدان العون من يد الشرفاء، رائحة تفتح للسؤال ألف باب وباب، وتضيع في أزقة البؤساء والمعدمين وخائبي الحظ، الموت هاهنا في الحولة أسطورة يطرز فصولها الصغار المناضلون، ليفرشوا بساط أجسادهم الغضة، معبراً لعشاق الحرية، هي المأساة نفسها تتكرر كل يوم، لكنها اليوم لا تشبه غيرها، هي لا تشبه إلا حلبجة، أي مصادفة أن يقترن الحاء بكل هذا الوجع، بكل هذه التفاصيل المتشعبة من بؤر الموت الغامض، نفس الصور والبشاعة نفسها، أطفال صغار سكنوا حضن أمهاتهم هرباً من موت قادم، أو أملاً في شمس تشرق ذات هدوء، لكن المدافع لم تترك للنوم فراشاً، والرصاص فاض على جداول التنهيدة، والشعر المسرح لطفلة صغيرة تهاوى فجأة غريباً في لحد البلدة الأحمر.

ككردي أتذكر حلبجة ذاك الجرح النازف دوماً، أتذكر أقداماً مزق الجليد عروقها في هجرة المليون نفس، وكسوري أتذكر حماة وحمص والحولة اليوم، أتذكر أرتال الشهداء الصغار مستلقين على الأرض الباردة في زمهرير الأسى، أتذكر كإنسان صبرا وشاتيلا حين حاصرت قوات الاحتلال مخيم اللاجئين ومنعت الدخول إليه إلا لقطعان الموت والقتل بدم بارد، من ثمانينات القرن الماضي إلى تفاصيل الرعب في حولة حمص، أنظمة تتشابه في استخدام العنف سلاحاً لتحقيق أهداف سياسية، وتتبع في سبيل ذلك كل ما تملك من موالين ومرتزقة وبعض من عصابات الإجرام الذين لا يهمهم دم طفل أو شيخ أو امرأة حامل، فكل شيء لديهم مبرر في سبيل هدفهم الأسمى: البقاء أو الفناء مقتدين بمقولة الغاية تبرر الوسيلة، لكن الوسيلة اليوم مجازر بشعة، وحكايات رعب مفجعة، عبرات ألم خانقة، وتهجير وترحيل وتسفير عن مأوى الهوى وسكنى الأحبة.

القامة التي لم تنحنِ إلا لبارئها، تنحني اليوم إجلالاً لقامات الشرف، أطفال الحرية في الحولة الذين سطروا بأجسادهم الفتية طريق الكرامة الطويل، نعم هم وإخوانهم بدؤوها بصرخة وكلمة، ورفض للظلم والتسلط والفساد والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية، بدؤوها وما زالوا مستمرين في كتابة فصول الملحمة، من أجلنا نحن الصامتين منذ عقود، نحن الساكتين كأصنام لا روح فيها، نحن الذين ما زلنا نعيش خوف الفناء وشبح التعذيب، لأجلنا ولأجل أن ينتشلوا أجسادنا من جمد وعفن السنين، زنروا الأرصفة ببساط حلمهم العظيم.

لا ذنب لهم غير انهم أرادوا! لا ذنب لهم غير انهم رفضوا! لا ذنب لهم غير انهم طالبوا! صاحوا! هتفوا! هي العقلية ذاتها لأنظمة الشرق المستبدة، لا مكان فيها للإرادة، لا مكان فيها للصراخ، لا مكان فيها لقول لا، لأكثر من سنة تتساقط أجساد الأبرياء في قافلة تروى عنها الحكايات، واليوم تكتمل الحكاية بمجزرة تتبادل فيها الأطراف التهم، ليرمي كل طرف ذنب اغتصاب ضحكة البراءة في مرمى الطرف الآخر، وليضيع حلم أطفالنا بين مخالب المحاور والدول الصغرى والعظمى، الصديقة والعدوة، والمتحالفة مع الشيطان.

هل سينتظر العالم عشر سنين حتى يتحرك مثلما فعل في العراق بعد غزو الكويت حين زاد في الدمار دماراً؟ هل سينتظر حتى يباد ثلث الشعب السوري في حرب طائفية بغيضة؟ حتى يبدأ بالعمل الجاد لإرغام الجميع على ترك الأبرياء يعبرون عن وجعهم وألمهم على فقد القريب والحبيب، دون خوف من مدفع جبار أو رصاصة حاقد أثم، أو سكين من يد جبان؟

على العالم أن يضع حداً وبأسرع وقت للغة المجازر والقتل اليومي، ويرغم كافة الأطراف على الجلوس للانتقال إلى وضع آمن، تتحقق فيه حرية الشعب بكافة شرائحه، ويعيش فيه الأطفال بأمان بعيداً عن مناظر القتل والعذاب والجثث المرمية في الطرقات.

إن بضعة آلاف من القتلى في أميركا في أحداث الحادي عشر من أيلول، جعلت أميركا تحرك العالم بأجمعه، لتخوض حربين وتستولي على دولتين وتنشر أساطيلها في كل مكان، لكن منظر الأطفال المغدورين واكثر من ثلاثة عشر ألف ضحية في سورية لم تحرك دمعة في عين مسؤول أممي أو عربي أو حتى معارض فصيح.

الصراخ لم يعد ينفع والكلام لم يعد ذا معنى، و يبدو إننا سننتظر مجازر رهيبة بالجملة، اكثر فظاعة ودموية من مجزرة الحولة، وربما سننتظر ضياع وطن اسمه سوريا قبل أن يلتفت إلى مأساة السوريين شريف أو حر في العالم، أو يساند الشعب المناضل الأبي صاحب ضمير حي، في صراعه المرير لنيل الحرية والكرامة المسلوبة.