تنتصر هذه المقالة للحب كما يقول عنوانها، إذ يحاول الباحث المغربي فيها أن يسوق البراهين والإشارات الأدبية والفلسفية وحتى الأسطورية للانتصار للحب، والتأكيد على أهميته لحياة الفرد وعلى تعبيره عن واقع الجماعة معا. ويقدم لنا في سياحته تلك مجموعة من الدراسات المختلفة والتأملات التي تناولت الموضوع عبر التاريخ.

الانتصار للحب

مصطفى قمية

 «Cesser d’aimer ou d’être aimable est une mort insupportable»

 Voltaire                                                                                 

 «sois aimable et tu seras aimé»

                        Ovide                                     

 

إن اختيارك لموضوع ما لتبحث فيه قد يجعلك، منذ البداية، عرضة لانتقادات لاذعة. انتقادات يمكن أن تستمر معك على امتداد الطريق، مما قد يدفعك إلى التوقف في أي لحظة، وإلى إعادة النظر في اختيارك، خاصة إذا لم تكن إرادتك صلبة، وكانت قدرتك على التحدي يغشاها ضعف ووهن مزمنين. من النادر في هذه الحالة أن تجد من يقف في صفك، ويساندك إلى النهاية، دون قيد أو شرط. ستجد نفسك لا محالة سائرا في طريق غير مسلوك، وربما محفوف بالمخاطر. لكن الماشي الذي لا يرى أمامه أي طريق، لا يلزمه شيء غير أن يمشي قدما فحسب، والطريق، على حد قول الشاعر، ستشق طالما هو يمشي.

ويعتبر موضوع الحب أحد هذه المواضيع الشائكة. ذلك أن كل تناول له يثير الكثير من علامات التعجب والاستفهام. فعلى الرغم مما تعرضه وسائل الإعلام من أفلام ومسلسلات غرامية، تضيف، في كل مرة، ثنائيا جديدا إلى لائحة الثنائيات المعروفة، سواء أكانت واقعية كجميل وبثينة، أو ورقية كروميو وجولييت، أو أسطورية كتسلي وإسلي (الأمازيغيان)، فإن الحديث في هذا الموضوع ما زالت هناك خطوط حمراء تلفه من كل جانب، ولم يتحرر بعد من وضع "الطابو" Tabou، لاسيما داخل الأسرة. ولعل هذا ما يفسر، في جزء منه على الأقل، الإقبال الجماهيري الكبير على الأفلام والمسلسلات الغرامية، التي تميل بطبيعتها إلى إشباع حاجة الناس إلى الحب، المفتقد في حياتهم الواقعية. ومادام الأمر كذلك فهم يتماهون مع أبطال هذه الأفلام والمسلسلات ليعيشوه افتراضيا. وبقدر ازدياد حرمان الناس بقدر ما يزداد هروبهم إلى "الواقع الافتراضي" Réalité virtuelle، الذي أفرزته ثورة الإعلام والاتصال. ويلاحظ اليوم أن هذا الواقع الجديد آخذ في التوسع شيئا فشيئا على حساب الواقع المعاش vécu، لأنه يوفر لكل من يرتاده كل ما يفتقد إليه في حياته العادية. وهو ما يتجلى في الإقبال المتزايد على الانترنيت، التي أحدثت ما يمكن أن نطلق عليه "ثورة كوبرنيكية" في مجال العلاقات الاجتماعية.

من منا يملك الجرأة ليسأل أحد أبويه عن مشاعره تجاه الطرف الثاني، دون أن يضع في حسبانه أن أقل ما سيقال له، وعنه، أنه "قليل لحيا" (قليل الحياء)، رغم أننا نعرف أن الطفل الذي يعرف عمق المشاعر التي تجمع بين والديه، ينشأ في أمن وأمان، يجعلانه إنسانا متوازنا في حياته المستقبلية، سواء في علاقته بذاته، أو في علاقته بالآخرين. ما يجعل منه انسانا سعيدا. ومن منا يستطيع أن يطلع والديه على مكنونات صدره، بكل عفوية وتلقائية، ودون أي إحساس بالذنب وبالخوف معا. فأن تحب يعني، بشكل أو بأخر، أنك ارتكبت حماقة، يجب أن تحرص على أن تعيشها في سر، قدر ما تستطيع. أما إذا أفشي السر، والسر لا يكون سرا إلا لكي يفشى على حد تعبير ميشيل فوكو M.Foucault، فستعرض نفسك للعقاب لا محالة. عقاب قد يتوقف عند العنف اللفظي، وقد يمتد إلى العنف الجسدي، كما لو أن المعني/ة بالأمر قد ارتكب "جريمة". ونتيجة للوعي بهذا الوضع يلجأ المحب إلى إخفاء حقيقة مشاعره عن الآخرين ما أمكنه ذلك، متوسلا بالحيل، التي لا ينقطع له منها مدد.

إن الحب، الذي يحتفل بعيده في الرابع عشر فبراير من كل عام، يعد عندنا من الأسرار التي فيها ضربة العنق، لذلك لا يجب الإذاعة به، خارج زمرة الأصدقاء، بعض الأصدقاء على الأقل. أين نحن يا ترى من ذلك الأعرابي، الذي قيل له، ذات يوم، إن ابنه قد وقع في الحب، فقال: "أي بأس في ذلك، إنه إذا أحب نظف وظرف ولطف". فالحب قادر على الإتيان بالخوارق، إذ بوسعه أن يجعل العين الجمود من نبعها الصافي تهرق، والأفئدة الغلاظ تلين، والطباع الصعبة المراس تعتدل. فعلى الرغم من الانفتاح الكبير الذي عرفه المجتمع المغربي، فإن هذا الموضوع لم يتحرر بعد من قيود التقاليد، التي تمنع كل كلام فيه. فالحديث في هذا الموضوع يقفل عادة قبل أن يبدأ، وذلك بكلمات حادة لا تقبل النقاش من قبيل : "عيب" و"حشومة" (ليس من الحشمة) و"كلام خايب" (قبيح) .. وحتى "حرام"، رغم أن "ابن حزم" قد أوضح منذ قرون خلت أنه ليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة، لأن القلوب بيد الله، وأن هناك الكثير من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين قد سقطوا في حباله. ولعل إلقاء نظرة على محتويات الكتب المدرسية، وعلى الفن المغربي، وبالأخص التلفزيون والسينما، يبرز بوضوح مدى حاجتنا إلى الاهتمام بتنمية "الثروة العاطفية" Richesse sentimentale داخل أسرنا، والسهر على تثمينها، وعلى اقتسامها بالتساوي بين أفرادها، دون تمييز على أساس الجنس أو السن أو غيرهما. إننا نربط الحب، عادة، بشريحة اجتماعية محددة هي شريحة الشباب، لعوامل متعددة ترتبط أساسا بالتغيرات، التي تطرأ على الطفل عندما يصل إلى سن البلوغ، وذلك على المستوى البيولوجي، والمستوى السيكولوجي، والمستوى العقلي، حيث تظهر عنده في هذا السن، ولأول مرة في حياته، ميولات إلى الجنس الآخر.

إلا أننا بهذا الفعل، أي ربط الحب بالشباب، نقصي، بطريقة أو بأخرى، ارتباط الحب بالإنسان في مختلف مراحل حياته بدءا من الطفولة، ومرورا بالشباب، ووصولا إلى الشيخوخة. فأن تحب أحدا يعني القبول بأن تشيخ معه، على حد تعبير ألبرت كاموA. Camus. جمعتني ظروف بحث أكاديمي ميداني، ذات يوم، في إحدى دور العجزة، بامرأة سبعينية، ما زال الجمال متشبثا بكل ملمح من ملامحها، رافضا الرحيل عنه. جمال أضفى عليه مرور السنين مسحة ملائكية آسرة، لا يمكن غض الطرف عنها أبدا، لأنها لا تستأذنك، وإنما تقتحمك اقتحاما. جرنا الحديث إلى حياتها العاطفية، فباحت لي، كما لغيري من قبل ممن يعملون بتلك الدار، بأنها امرأة عاشقة، وأن حبها لزوجها المتوفى ما يزال نارا تعتلج في قلبها، وذؤابتها تستقر في رأسها. لم يكن ثمة شيء غير الحب يجمع بينها وبينه على امتداد سنوات طوال. كان حبا رائعا بكل المقاييس كما تصرح بذلك، بافتخار، وفي ألم، في الآن نفسه. الغريب في الأمر أن هذا الحب لم تعثر عليه، أو على الأرجح، لم تتعثر به، إلا رفقة زوجها الثاني، الذي ظلت معه إلى أن توفي، فاحتفظت بذكراه، رافضة بدء حياة جديدة كما حصل معها بعد نهاية زواجها الأول، وذلك على الرغم من أنه لم يستطع أن يهبها طفلا، فاكتفت بابنة وحيدة حبلت بها من زوجها السابق.

لم يتحدث العرب القدماء عن الحب فقط، وإنما عن الهوى والعشق والوجد والشغف والهيام والتتيم والصبابة والوله .. وغيرها من الأسماء التي تبلغ حسب ابن القيم الجوزية، صاحب "ذم الهوى"، إلى خمسين اسما، معتبرين أن الحب درجات. كلما ارتقى المحب من درجة إلى أخرى أمكن أن نطلق عليه اسم من الأسماء السالفة الذكر، لكنني لا أستطيع أن أحدد بالضبط الاسم المناسب، الذي يعبر، حقيقة، عما تحمله تلك المرأة- المنحدرة من مغرس طيب- من مشاعر جياشة، حتى وقد بلغت من الكبر عتيا، وصار جسدها النحيل تحت سلطان المرض. قد نقول إنها شاعرة أو مجنونة، لكن ما قيمة الحب إذا لم يجعلك شاعرا ومجنونا؟ فالحب، كما يرى مصطفى صادق الرافعي، ما هو إلا فكر الجمال وأثر عمله في النفس. ولهذا الجمال، حسب الرافعي دائما، ثلاث درجات: جمال تستحسنه، وجمال تعشقه وجمال تجن به جنونا. والمحب بجنونه هذا يكون فوق العقل والمعقول معا. إنه، باختصار شديد، يصير "مخلوقا غريبا". وذلك حال تلك المرأة العجوز، التي جرعها فقدان ذلك الزوج/الحبيب عصارة حنظل. ومنذ ذلك اليوم الأسود، وهي تبكيه. يكاد حنينها إليه - هي التي تقول عن نفسها "حنينة بزاف"- يخنقها بلا رحمة أو شفقة. إنها لا تعيش بروحها هي، وإنما بروحه هو، ولولا ذلك ما احتملت الحياة أبدا.

ورغم قسوة الحقيقة، فهي مازالت تنتظر عودته، والكحل ما زال يتجمل بعينيها كما كان على الدوام، غير مصدقة أنه رحل ولن يعود أبدا، مثلها مثل تلك المرأة التي كان "بدر شاكر السياب" يدعوها للرحيل بعدما رحل النهار في حين ما يزال البحر لا يرغب في مد يده الطويلة لفك أزرار الغموض عن مصير حبيبها الغائب. انتابتني في ذلك الصباح مشاعر لا عهد لي بها، جعلتني أقضي بقية اليوم في سعادة عارمة، اجتاحتني في لحظات، كأن شيئا لا حدود لعظمته قد حصل. معلوم أن كل أدم يبحث عن حواءه، في ذات الوقت الذي تبحث فيه كل حواء عن أدمها. وتلك المرأة على ما يبدو وفقت في العثور على أدمها، على نصفها الثاني، فسعدت به زمنا طويلا، ثم عادت لتحزن عليه زمنا أطول، فكتب لها بذلك أن تعيش عمر الحب كاملا. إن الحديث عن "النصف الثاني" يجرنا إلى الحديث عن أسطورة أفلاطون Platon حول ذلك "الكائن الخنثى" Androgyne، الذي فعلت عوامل الذكورة والأنوثة فعلها فيه، فثار على الآلهة، التي لم تتحمل جبروته، فاشتكته إلى إلهها الأكبر زوس Zeus، الذي قام بشطره إلى نصفين، رجل وامرأة، من أجل إضعاف قوته. ومنذ ذلك الحين، صار كل طرف من الطرفين يبحث عن الطرف الثاني، إلى أن يقدر لهما أن يلتقيا. وحينما يتأتى لهما ذلك يتحدان، بل ينصهران في بعضهما البعض، حيث يستحيلان كائنا واحدا، شبيها بذلك الكائن الأول، الذي انحدرا منه. أليس هذا بالضبط ما تعنيه في العربية كلمة "زوج" وفي الفرنسية كلمة "Un couple

نفس المعنى يعبر عنه "ابن عربي"، "الشيخ الأكبر"، كما يطلق عليه في الأدبيات الصوفية، في إحدى قصائده، التي يصف فيها حبه لابنة شيخه بمكة، التي حباها الله بصفات جعلت منها يتيمة دهرها. يقول "ابن عربي" في لحظة فراقه لها في إحدى قصائد ديوانه "ترجمان الأشواق":
إِذا ما اِلتَقَينا لِلوَداعِ حَسِبتَنا لَدى الضَمِّ وَالتَعنيقِ حَرفاً مُشَدَّدا
غير أن الحب لا يمكن اختزاله فقط في علاقة معينة تربط بين رجل وامرأة، وإنما يطلق أيضا، على علاقات أخرى، ليس بالضرورة أن يكون طرفاها رجل وامرأة. فبالعودة إلى الفلسفة اليونانية يمكننا أن نتحدث أن أشكال متعددة من الحب، يمكن عرضها كالآتي: Philia وEros Philantropia وApagé و Stoge . في الوقت الراهن يكاد المرء أن يؤمن بأن الحب بكل أشكاله، وخاصة الحب الرومانسي، لا يوجد سوى في الكتب، وعلى شاشة التلفاز والسينما، وليس له في الواقع المعاش مبرك جمل.

صحيح أن هذا الاعتقاد خاطئ، لكن هناك، دون ريب، الكثيرين ممن يتصورون الأمر بهذا الشكل، خاصة بعدما أفرغ الحب من مضمونه الإنساني النبيل، وأختزل في بعده الجسدي المحض، رغم أن هذا البعد الأخير لا يمكن بأي حال من الأحوال استبعاده كما يؤكد على ذلك "الطاهر لبيب". ومعروف أن سيجموند فرويد S. Freud يذهب في هذ الصدد إلى أبعد من ذلك، إذ يعتبر الحب ليس شيئا أخر غير "تسام" (أو "إعلاء") للغريزة الجنسية، علما أن هناك بحوث أثبتت أن هناك مائتان وسبعة وثلاثين سببا يجعلان الإنسان يقبل على ممارسة الجنس منها أسباب جسدية، وأخرى ترتبط بالوصول إلى هدف معين (كلفت انتباه الشريك مثلا)، وثالثة عاطفية، ورابعة تنتج عن الشعور باللاأمن العاطفي والخضوع لرغبة الطرف الثاني. اختزال الحب في الرغبة الجنسية لا يقبل به الجميع، خاصة مع تقدم العلم، حيث بين "أرثور أرون" أن المناطق الدماغية التي تستثار عندما يشاهد المحب صورة محبوبه لا تغطي إلا جزئيا المناطق المرتبطة بالإثارة الجنسية. وتقترح الأنثربولوجية "هيلين فيشر" التمييز بين ثلاث أشكال من الحب: الرغبة الجنسية، والتعلق، والحب. "إدجار موران" من جهته يرى أنه لا يمكننا أن نختزل الحب في الليبيدو ولا في كونه إحساس خاص، وإنما هو عبارة عن مركب "كيميائي" له سماته الخاصة، التي تختلف عن سمات مكوناته. ويلاحظ أن الحب عندنا يوجد في وضع مأزوم، لا يحسد عليه، حتى عند مثقفينا، حيث كرهه البعض (طه عدنان في ديوانه الأخير)، واعتزله البعض (ماجدة الرومي في أغنيتها الشهيرة "اعتزلت الغرام")، وأسس البعض حزبا لمحاربته بالنسيان (أحلام مستغانمي في كتابها نسيان كوم)، ووعد البعض بتقديم استقالته من جمهوريته، دون أن يتذكر أنه استقال إلى غاية اليوم الذي نشبت فيه المنية مخالبها في صدره (نزار قباني في قصيدته محاولات لقتل امرأة لا تقتل).

إن الابتعاد عن الحب ابتعاد عن الحياة، وارتماء في عوالم لا لون يكسوها غير لون الظلام، ولا رائحة تفوح منها غير رائحة الدخان. عوالم مضطربة باستمرار، وآيلة للانهيار في كل لحظة وحين. الشعور بالتواجد في هذه العوالم من الممكن أن يصيب صاحبه باليأس، ويدفعه إلى فقدان الأمل في الحياة برمتها، ويجعل منه إنسانا فظا، غليظ القلب على نفسه قبل أن يكون كذلك مع الآخرين. مما يجعله، في نهاية المطاف، مهيأ، أكثر من غيره، للإقدام على أشياء لا يمكن أن يفعلها إنسان سوي، كالإقدام على الانتحار مثلا، إما بشكل فوري أو بشكل بطيء. لا قيمة للحياة إذا لم تحب ولم تكن محبوبا. فكما لا حب دون حياة لا حياة دون حب. حياة دون حب لا يمكننا، في الأصل، أن نسميها حياة. إنها الموت بعينها، بل إنها شيء أقسى من الموت ذاتها. وحتى إذا جاز أن نسميها موتا، فهي موت لا تحتمل على حد تعبير "فولتير".

إن الدنيا خلقت للذين يحبون كما جاء ذلك على لسان "جبران خليل جبران". ومن ابتلاه الله بالحب جعل حياته سعيدة، ومن رحمه من الحب كدر معيشته وأغرقه في هموم الحياة، لأن هم الحب وهم الحياة لا يمكن أن يلتقيان في طبع الإنسان، من منطلق أن حضور أحد هذين الهمين يجعل الأخر يحتجب بالضرورة، كما يؤكد على ذلك "مصطفى صادق الرافعي". إن الحب أسمى شيء في الوجود، بل إن الصوفيين يعدونه معراجهم إلى العالم العلوي، عالم الذات الإلهية. وفي الواقع كثيرة هي الأقوال والقصائد الصوفية التي تتغنى بهذا الحب، وتشهد على المكانة السامية التي يوليه إياها من يمكن أن نسميهم ب"أتباع القلب"، ومنهم "ابن عربي"، صاحب البيت الشعري الشهير:
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
ومنهم أيضا سلطان العشاق "عمر ابن الفارض"، الذي يقول في إحدى قصائده:
إن الغرام هو الحياة فمت به صبا فحقك أن تموت وتعذرا
بيد أن الصوفيين لا يعتبرون الإنسان هو الكائن الوحيد، الذي يعشق النور الإلهي، ويسعى، ما وسعه السعي، إلى الفناء به، وفيه، وإنما يعتبرون أن كل المخلوقات تشاركه في ذلك، فحتى الذرة تحمل قلبا حسب "العفيف التلمساني"، الذي يقول في إحدى قصائده:
سبيت الورى حسنا وأنت محجـب فكيف بمن يهواك إن زالت الحجب
وأصبحت معشوق القلوب بأسرها ولا ذرة في الكون إلا ولها قلــب

لقد نظم الصوفيون قصائدهم للتغني ب"الحب الإلهي"، إلا أننا لا نعدم لديهم قصائد نظموها في الغزل، لوصف المحبوبة الآدمية، وللإشادة بخصائصها وخصالها، التي تجعل منها وحيدة نوعها. وفي بعض القصائد نجد الحب الالهي يلتقي مع الحب الإنساني، ويختلط به، ويتمازج معه امتزاجا، حيث يحل كل من اللاهوت والناسوت في بعضهما البعض، علما بأن "القارئ أبو محمد" لا يفصل في كتابه "مصارع العشاق" بين عشاق الله، أي المتصوفة، وبين عشاق البشر، لأنهم جميعا عاشقون، أضف إلى ذلك إن حب النساء، كما يقول "ابن عربي"، عشق إلهي وميراث نبوي. إن الحب هو الذي يجعل الحياة مديدة، أكثر بكثير مما يعيش الإنسان عادة. فعمر كل شيء، مهما طال، يظل في النهاية محدودا، إلا عمر الحب فهو غير محدود. ففي رأي "شكسبير" ليس الحب أضحوكة الزمان، وإنما رغم الخطوب فهو يدوم حتى حافة القيامة. كنت مسافرا، ذات يوم، في تجاه ما فوجدتني، بلا وعي تقريبا، أخربش على هامش الجريدة " البقاء لله وبعده للحب".

قرأت فيما بعد أن الحب لا يدوم أكثر من ثلاث سنوات: سنة الولع، تليها سنة العطف، ثم سنة الملل. لذا على "الزوج" أن يفترق، أو ينتحر، أو ينجب أطفالا، لكي يستمر. غير أن البحوث تؤكد أن الزواج الذي عمر عشر سنوات فأكثر يكون كل طرف فيه عاشق للطرف الأخر، ومرتبط به أكثر. مما يجعل الحديث عن "الحب المستديم" في هذه الحالة أمرا ممكنا كما تؤكد على ذلك "أشيل فينبرغ". أضف إلى ذلك ثبت أن تعبير المحب، كتابة، عن كل ما يخالج صدره من أحاسيس تجاه محبوبه، تجعل هذا الحب أكثر قوة وأكثر ديمومة، كما يؤكد ذلك "جون فرانسوا دورتيي". والرجوع إلى تاريخ الأدب العربي يتبين أن كل قصص الحب المعروفة ارتبطت بقول الشعر. فالحب، حسب "سوفوكليس"، يجعل الناس شعراء. إن الحب الخالد ليس بالضرورة مجرد أسطورة. من الممكن أن يكون واقعا. وهناك بحوث تؤكد على إمكانية التنبؤ بالعمر المتوقع لحب وليد، بناءا على مؤشرات مختلفة، نستطيع من خلالها أن نحدد هل سيستمر هذا الحب أم أنه محكوم عليه بالتوقف والاضمحلال.

وبالرجوع إلى المعتقدات المسيحية يتبين أن الله هو المحبة ذاتها وأن المحبة هي الله ذاته. مما يعني أنه قديم قدم الوجود. فوجوده سابق على وجود المحبين ذاتهم، كما أنه لا ينقضي بانقضاء أجلهم، وإنما يظل حيا حتى بعد رحيلهم، يقول "جميل بثينة" في هذا الصدد:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ومن بعد ما كنا نطافا وفي المهد
فزاد كلما زدنا فأصبح نـاميــا وليس إذا متنا بمنتقـض العــهــد
ولكنه باق على كل حالــــــة وزائرنا في ظلمة القبر واللحد

ورغم أن المجتمع المعاصر قد طغت فيه قيم الرأسمالية في صورتها البشعة، التي لا تعطي أهمية إلا للأشياء التي يمكن إخضاعها لقانون السوق، الذي يتكلف بتحديد أهميتها، حتى وإن لم تكن لها أي أهمية تذكر، ومن تم يحدد قيمتها (النقدية طبعا)، فإن الحب "استطاع" أن ينفلت من قيود هذا المنطق، لأن لديه منطقه الخاص به، الذي لا يعلم عنه دعاة قانون السوق شيئا. إن إخضاع الحب لنظام السوق، القائم على العرض والطلب، يزيفه ويشوهه، لأننا في هذه الحالة سنحب من سيعطي، مقابل حبنا له، أكثر من غيره. سيكون هاجسنا الوحيد عندئذ هو "هامش الربح"، الذي كلما كبر كلما رغبنا في المزيد، كما يقتضي ذلك قانون السوق، وبالتالي قد نقضي حياتنا كلها دون أن يستقر قرارنا على شخص يمكننا أن "نحبه" فعلا. إذا حصل هذا، ذات يوم، فإنه يجدر بنا عندئذ أن نطلق على تلك المشاعر، التي تراودنا أي اسم شئنا إلا اسم الحب. فهذا الاسم لا يليق بهذا الوضع، ومن تم ينبغي أن نتركه جانبا.

إن ما يثير إعجابي في الحب أنه غير قابل للبيع والشراء، رغم المحاولات، التي ترمي إلى جعله سلعة، مثل باقي السلع، التي يمكن المتاجرة بها، بكل سهولة ويسر. وهو ما يبدو جليا في الوصلات الإشهارية على وجه الخصوص، التي أضحت تتواجد في كل مكان، يمكن أن يوجد فيه الإنسان، محاولة بكل ما أوتيت من إمكانيات، وبشتى الوسائل، إقناعه بحقيقة "الزيف" الذي تعرضه عليه، وتعيد عرضه باستمرار، دون ككل أو ملل. إن في محاولة تتجير Commercialisation الحب تبخيس لقيمته، وجهل بحقيقته. وهي محاولة جعلت الحب يختلط بالجنس، بل ويتماهى معه، إلى درجة أنه بات كل واحد منهما يحيل، بشكل آلي تقريبا، على الآخر. وفي الواقع يمكننا أن نمتلك جسد امرأة بالمال، بكل سهولة ويسر، لكن من المستحيل أن نملك قلبها بنفس الوسيلة، مهما كان حجم المبلغ، الذي يمكن أن ندفعه لها. ربما يمكن عد الحب الشيء الوحيد، الذي لا يخضع لنظام الأخذ والعطاء، لأنه ببساطة عطاء دون أخذ. عطاء دون حدود. عطاء دون حساب، حيث كلما أعطيت فكرت في المزيد من العطاء. فلو فكر أحدنا فيما سيأخذه لو أحب أحدا لامتنع عن الحب أصلا. لكن ماذا يمكن للمحب أن يعطي لمن يحب؟

في الواقع لا يستطيع أن يعطيه شيئا على وجه التحديد. فالحب، كما يقول "جاك لاكان" J. Lacan، هو شيء لا نملكه ونمنحه لشخص لا يحتاج إليه. فمن نحبه لا يحتاج بالضرورة إلى حبنا. حياته لا تتوقف على حبنا له. إذ من الممكن أن يستمر في الحياة من دوننا، حتى وإن كان يبادلنا نفس الشعور، وليس نحن من يحبه فقط. ولو كنا نملك الحب مثلما نملك باقي الأشياء لمنحناه لشخص نختاره بمحض إرادتنا. ومتى تبين لنا أنه لا يستحقه نسترجعه منه، ونمنحه لشخص أخر نراه أهلا له. وبذلك نوفر على أنفسنا الكثير من الدموع والعذاب. والواقع أننا نحب أشخاصا لا نتدخل في اختيارهم، لأن الحب بطبعه أعمى، ويجعلنا عميانا، فكما يقول المثل العربي القديم: "الهوى شريك العمى".

في الفن اليوناني القديم كان إله الحب، المعروف باسم Eros، يصور كفتى جميل الملامح، أو كطفل مجنح، وأحيانا كان يصور معصوب العينين في إشارة إلى عمى الحب. وتروي الأساطير اليونانية أن أم هذا الإيروس هي الفاقة، ومن ثم فهو محكوم عليه أن يعيش في فقر، دائما وأبدا، حتى إنه لا يتوفر على ملابس يستر بها جسده العاري. فالفقر هو كل ما ورثه عن أمه، أما عن أبيه فلم يرث شيئا أخر عدا الحيل، مادام أبوه هو الحيلة ذاتها. وباستخدامه لهذه الحيل يوقع الإنسان في شباكه، قبل أن يحكم قبضته عليه، وينسج حباله حوله ببراعة العنكبوت. فلا يملك المسكين إلا الاستسلام له، لأن هذا هو الخيار الوحيد الذي يجده أمامه. أما إذا حاول الإفلات، فهو لا يفعل، في الواقع، شيئا أخر غير توريط نفسه أكثر فأكثر، لا غير. وإذا لم يكن عنكبوتا كان فارسا مقداما، سهامه الحادة لا تخطئ هدفها أبدا. ولا تصيب مكانا آخر غير المقتل. وعندما تسقط "الضحية" تبدأ حياة جديدة بفصول جديدة. فصول غير الفصول التقليدية المعروفة. فصول تترادف حينا، وتتداخل حينا آخر، مما يجعل "الضحية" تعاني آلاما مبرحة، خصوصا إذا هي لم تستطع أن تكيف نفسها مع تقلباتها السريعة والمفاجئة.

فصل التضحية، وفصل الوفاء، وفصل الحنين، وفصل العتاب، وفصل الفراق، وفصل الهجر، وفصل الخيانة ... تلك هي فصول جمهورية الحب. أما رياحها فهي إما رياح السعادة أو ريح الشقاء، وهي تتخلل كل الفصول، ومتقلبة الاتجاه على الدوام. في حين أن سماءها تبتسم تارة، وتمطر ماءا زلالا تارة أخرى، وفي الكثير من الأحيان يزينها قوس قزح بألوانه الزاهية. لهذا لا يمكن أن نتصور الحب جنة، كما لا يمكن أن نتصوره جحيما، بل يمكن القول إنه منطقة توجد بينهما، وإن كان، على ما يبدو، أقرب إلى النار منه إلى الجنة، بل إن من غرائب الحب أن يجعل صاحبه يتعذب حتى وهو يتفيأ ظلال الجنة، يقول "البحتري":
وجنة حسن عذبتنا بحسنها وما خلت أنا بالجنان نعذب

في الحقيقة لا وجود لحب لا يعبث بصاحبه عبثا بين أن يورده الجنة حينا، ويورده النار حينا أخر. إن كل محب محكوم عليه أن يظل متأرجحا بينهما، فلا هو بمحسوب على أصحاب الجنة ولا هو بمحسوب على أصحاب النار. لم أورد كلمة "الضحية" عبثا، وإنما بسبب أن المحبين غالبا ما يقدمون أنفسهم باعتبارهم ضحايا الحب، مادام يوردهم المصاعب، ويقحمهم المتالف، ويزج بهم في المجهول، حيث لا طريق للعودة. فهو يكوي صدورهم بالجمر، ويجعل لياليهم حالكة، يستغيثون من ظلامها دون أن يغيثهم أحد، لأن لا أحد يسمعهم ببساطة. ليال طويلة يقضونها في ألم وعزلة، دون عزاء، ودون أمل في الشفاء يلوح في الأفق، وليس لهم والله إلا الصبر.

 من الممكن أن يصبروا. لكن كل صبر هو صبر إلى حين. أما إذا طال فقد يوصل صاحبه إلى الهلاك. وفي هذه الحالة يموت "شهيدا"، خصوصا إذا كان هذا الحب عفيفا وعاش طي الكتمان، فكما جاء في الحديث الشريف: " من أحب فعف فكتم فمات فهو شهيد". وحتى إذا هو لم يهلك، فإنه سيجن لا محالة، يقول "عبد الله بن المعتز" في هذا الصدد:
بي جنون الهوى وما بي جنون وجنون الهوى جنون الجنون

وحتى إذا هو لم يجن فإنه لابد له من أن يشيخ قبل الأوان. وهذا أهون مصائب الحب، يقول "جميل بثينة" في هذا الصدد:
وأنت كلؤلؤة المرزبان بماء شبابك لم تعــصري
قريبان مربعنا واحـــد فكيف كبرت ولم تكبـري
أكيد أن مثل هذه الأمور تناولها الكتاب منذ القدم، ومن زوايا نظر مختلفة، ووضعوا مؤلفات ضخمة في هذا الشأن، والأمثلة على ذلك كثيرة، نخص بالذكر "ابن حزم" في كتابه الشهير "طوق الحمامة"، الذي يسهب في الحديث عن الحب من حيث ماهيته وأصوله، وأعراضه، وصفاته، وآفاته...إلخ. وهو كتاب مهما تعددت الكتابات عنه فهي لا تغني عن قراءته. وإنه ليستحق كل الاهتمام بالنظر إلى لغته المسبوكة سبكا جذابا، وإلى مضامينه الإنسانية البعيدة الأغوار. بيد أن هناك باحثون آخرون اختاروا أن يطرقوا سبلا أخرى، وأن يفتحوا أفاقا جديدة لهذا الموضوع، مثل "سيناك مونكو" C.Moncault، صاحب كتاب "تاريخ الحب"، الذي حاول فيه أن يتتبع (على حد ما جاء في مقدمته التي وضعها له محمد الرحموني في ترجمته له إلى العربية) تاريخ الحب في أوروبا، اعتمادا على تاريخها الحضاري. وقد كان مونكو يهدف من وراء ذلك إلى إبراز العلاقة الجدلية بين الحب من جهة، وبين ما عرفته هذه القارة من تحولات على المستوى السياسي والديني والاجتماعي والأدبي من جهة أخرى.

كما أن هناك الكثير من البحوث والدراسات السيكولوجية والسوسيولوجية التي تناولت هذا الموضوع من جانب مدى مساهمته في خلق اللامساواة Inégalité بين الناس. فعادة يرى المحبان أن لقاءهما تم عن طريق الصدفة، ويميلان إلى الاعتقاد أن قصتهما فريدة من نوعها، وغريبة في شكلها، بل ومعجزة. والحال أن الحب كسائر المشاعر الأخرى لديه قوانينه الخاصة التي يمكن لعلم النفس ولعلم الاجتماع الكشف عن حقيقتها، وكيفية عملها. إن حياتنا العاطفية ليست حياة اعتباطية، وإنما لها قوانينها الخاصة، وهو ما سعى حتى الفلاسفة إلى تبيانه، نذكر على سبيل المثال "ماكس شيلر" في كتابه " طبيعة التعاطف وشكله مساهمة في دراسة قوانين الحياة العاطفية". لذا يمكن القول إن الواقع أقل رومانسية مما نعتقد كما يؤكد على ذلك "دورتيي". إننا لسنا غير متساويين أمام المرض والموت فقط، وإنما أمام الحب أيضا. فالجمال يلعب دورا هاما في خلق اللامساواة ليس في "سوق الحب" Le marché de l’amour فقط، وإنما في "سوق العمل" أيضا. وفي جميع الحالات ليس الحب وليد الصدفة، وإنما ينبني، في الواقع، على وجود "توافق" بين الطرفين على المستوى الجسدي والنفسي والاجتماعي.

وقد انتهى "الطاهر لبيب" في بحثه عن حقيقة الشعر العذري العربي إلى ربط ظهور هذا النوع من الشعر في بعض قبائل الجزيرة العربية خلال القرن السابع الميلادي بالواقع السوسيواقتصادي الذي كانت تعيشه تلك القبائل في ذلك العصر. فهذا الشعر، الذي لم يكن عذريا تماما أبدا، ليس في حقيقة أمره إلا انعكاس لذلك الواقع لا غير. من جهتهم لم ينأى العلماء بأنفسهم عن الخوض في هذا الموضوع، وإنما شاركوا الأدباء والفنانين والفلاسفة وغيرهم في الاهتمام به. وفي هذا الإطار ثبت علميا أن هناك هرمونات تتحكم في الحب، وهي: Ocytocine وvasopressine و.sérotonine جعل هذا الأمر منظورنا إلى الحب يتغير، وتصورنا عنه يختلف عما كان عليه من قبل، إذ لم نعد ننظر إليه باعتباره شيئا "مجردا" Abstrait، وإنما باعتباره "واقعا ملموسا" Concret. وقد أثبتت البحوث أن هناك تأثير كبير للحب الأبوي L’amour parental ، وبالأخص حب الأم، على فزيولوجية الطفل ونفسيته، باعتباره يتدخل بشكل حاسم في تحدد بيوكيمياء دماغه. فالرضيع الذي لا تجمعه بأمه روابط عاطفية قوية لا تنمو خلاياه العصبية بشكل صحيح، مما يؤثر بشكل سلبي على طريقة تفكيره، وعلى إحساسه، وعلى تصرفه عندما يصير ناضجا. ومن تم يتحدد مدى إقباله على الحياة أو نفوره منها، كما جاء ذلك في قراءة فاليري كولان-سيمار V.Colin-Simard لكتاب "أرتر جانوف" "بيولوجيا الحب".

هذا ونشير إلى أن التطورات المتلاحقة التي تشهدها البيولوجيا أضحت تهدد مستقبل الحب، حيث يبدو أنه سيصبح ذات يوم شيئا ينتمي إلى الماضي، باعتبار أن عصر الرومانسية، كما يقول "محمد شاهين"، قد بلغ نهايته، مع بزوغ عصر الاستنساخ. غير أن الحديث عن الأساس البيولوجي للحب لا يعني أن الأمر يتعلق بقدرية لا محيد عنها. إن الحب رغم أساسه البيولوجي هذا، يمكن تعليمه وتعلمه. فهو على حد تعبير " ادجار موران" "فن" مثلما أن العيش فن. ويمكن للفلسفة أن تلعب دورا هاما في تعليمه. لقد نظر الفلاسفة منذ القديم إلى الحب باعتباره أحد الأسس التي تضمن استقرار الكون واستمراريته. فهو يربط بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والآلهة، وبين الإنسان وأشياء الكون، وحتى بين هذه الأشياء أيضا. ونظرا لوعيهم بحقيقته هذه فقد خصه الفلاسفة باهتمام كبير، بدءا من هيروقليدس Héraclite، الذي يرى أن مهمة الفلسفة الأولى، كما يؤكد ذلك "مجاهد محمد مجاهد"، هي البحث عن الأرض المشتركة، أرض العقل، أرض الحب، التي يجب إشعال فتيل الحرب من أجلها،، ومرورا بـ"أفلاطون" platon الذي يرى أن الحب يقود النفوس إلى الحقائق الكبرى، ووصولا إلى "مارتن هايدجر" M . Heidegger، الذي يتحدث عن الفلسفة ليس باعتبارها "محبة الحكمة"، وإنما باعتبارها "الحكمة في المحبة". وبناءا على قولة سقراط Socrate الشهيرة "اعرف نفسك بنفسك"، يتبين أن مهمة الفلسفة هي معرفة الذات. وهذه المعرفة ليست يسيرة المنال بطبيعة الحال، كما قد يبدو، لأنها تتطلب مجموعة من الشروط. وهي تستحق كل العناء لأنها تعد، في نهاية المطاف، " الطريق الملكي" ليحب الإنسان ذاته، بشكل صادق وصحيح. وعندما يستطيع الإنسان معرفة ذاته يمكنه ببساطة أن يعرف باقي الأشياء، ومن تم محبتها، لأن الإنسان بطبعه لا يعادي ما يعرفه، وإنما هو، باستلهام مقولة "علي بن أبي طالب"، يعادي ما يجهله. وعلى هذا الأساس يمكننا القول، دون أن نخشى اعتراضا، إن الفلسفة تربينا على المحبة، لأنها، وهذه هي حقيقة أمرها، تتأسس على الانتصار للحب أولا وأخيرا وأبدا.

 

أســتاذ الـفـلـســـفة وباحث في علم الاجتماع- الدار البيضاء-المغرب

 mostafa-kamia@live.fr

 

 

المراجع:
*ابن حزم، طوق الحمامة في الألفة والآلاف، دار الكتب العلمية، بيروت، 2003.

*الرافعي(مصطفى صادق)، رسائل الأحزان في فلسفة الجمال والحب، دار الكتب العلمية، بيروت، 2006.

 *مونكو (سيناك)، تاريخ الحب، ترجمة محمد الرحموني، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، أبو ظبي، 2010.

 *لبيب (الطاهر)، سوسيولوجيا الغزل العربي الحب العذري نموذجا، ترجمة مصطفى المسناوي، دار الطليعة، بيروت، 1987.

*هيرقليدس، جدل الحب والحرب، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، مركز الإنماء الحضاري، حلب، ودار المحبة، دمشق، 2009.

*شاهين(محمد عبد الحميد)، الاستنساخ نهاية عصر الرومانسية، مجلة عالم الفكر،العدد 2، المجلد 35، أكتوبر- ديسمبر 2006.

 

*Colin-Simard(Valérie), L’amour sculpte notre cerveau, Psychologies, juin 2001.

*Weinberg(Achille), l’amour ne dure pas que trois ans, sciences Humaines, cercle psy, coll d’articles web, pub 23/08/2011.

*Dortier(Jean-François), Ecrire son amour le rend plus fort, Sciences Humains, N 176, nov 2007.

*Dortier(Jean-François), La tyrannie de la beauté, Sciences Humaines, N195, Juillet 2008.

*Dortier(Jean-François), Cerveau les aires de l’amour, Sciences Humaines, N 171, Mai 2006.

*Dortier(Jean-François), Qu’est ce que l’amour ?, Sciences Humaines, N 174,Aout 2006.

*Marmion( Jean-François), 237 raisons de faire l’amour, Sciences Humaines, N187, Nov 2007.