يكتب الشاعر والكاتب المصري بصراحة وموضوعية موجعة عن مآلات الثورة المصرية وعن طبيعة القوى التي شاركت فيها أو ساندتها، وعن حالة الانكار أو العمى التي أدت إلى تعثرها، وتبديدها للشرعية الثورية، واستدراجها لمسارات غير قادرة على تحقيق أهدافها النبيلة في التغيير، ويرسم في الوقت نفسه سبيل الخلاص.

الإنكار ليس مجرد نهر في مصر!

ناصر فرغلي

كان آخر ما كتبت من مقالات في الفضاء العام قبل شهور من الآن، ثم تبعه بعض الشعر. كأن الأحداث لم تكن لتستثير تفاؤلا يدعمه المنطق ورؤية التحليل، فكان المهرب إلى تعبير شعري يستدعي بمعجزة اللغة معجزة الواقع. رغم ذلك، كان الشعر – كعادته – مستشرفا، غير بعيد عما آلت إليه الأمور، إن لم يكن مطابقا له:
مين عَ الحياد بس بحياده انْحاز
بالصمت للضلمة وأفتى جواز
روما وفؤادة تنحرق بالجاز
وِنيرونْ وعتريس سلطنة وإنشاد

قولي لروحِك إحنا مش ضالّين
مِتْوَصّيَة ارْواحنا بْوصايا الطين
مش محتاجين بابا وراسبوتين
ولا مرشدين من مكتب الإرشاد

بعد ذلك، ساد الصمت.

الثائرون نياما
هناك تعبير في الإنجليزية منسوب للكاتب الأمريكي الساخر مارك تواين – دون أن يثبت للنسب صحة بالمناسبة – يقول:
Denial is not just a river in Egypt (الإنكار ليس مجرد نهر في مصر!)
كنت أتأمل ما أعتبره حالة نموذجية من الإنكار والإنكار الجماعي تسود اللحظة المصرية المصيرية حين قفزت العبارة الإنجليزية من عمق الذاكرة إلى سطح الوعي، لتلقيني على قفاي من الضحك الشبيه بالبكا بعبارة المتنبي، ولا عجب أنه قالها في مصر أيضا! مارك تواين لم يكن يقصد مصر بعبارته – إن كان قالها – وإنما حديثه عن (الإنكار
DENIAL) استدعى الجناس مع كلمة (النيل THE NILE). وكأنه يقول: أيها العائش في حالة الإنكار، أفق! فأنا لا أحدثك عن نهر في مصر! لكن الزمن دار دورته لتنطبق العبارة بحذافيرها معنى ومبنى على الحالة المصرية، إذ أن الإنكار الآن بمفهومه السيكولوجي، نهر مصري بامتياز.

الإنكار، بحسب فرويد، آلية دفاع يلجأ إليها الفرد في مواجهة واقع يصعب قبوله فيعمد إلى إنكاره وكأنه غير موجود ولا واقع، كأن ينكر المدمن إدمانه، أو الأم موت ابنها، أو أن ينكر الثوري حقائق ثورته ومعطيات الواقع بعدها، كما سنرى. وللإنكار درجاته وأشكاله: من الإنكار التام للواقع المؤلم، إلى التهوين الذي هو اعتراف بالواقع مع إنكار خطورته، إلى الإسقاط الذي هو اعتراف بالواقع وبخطورته مع إنكار المسؤولية عنه. يقودك الإنكار، باعتباره عماءً اختياريا، إلى مأساة. تذكر اتهام أوديب الملك في مسرحية سوفوكليس لكريون بأنه قاتل أبيه الملك لايوس، وبأنه، تحديدا، أعمى. ثم اسمع معي حديث الحكيم الأعمى تريزياس إلى أوديب: «أنت تهزأ من عماي؟ دعني إذن أخبرك: إنك يا أوديب، بعينيك المبصرتين الغاليتين، أعمى عن رؤية الفساد الذي يكتنف عالمك.» أوديب الذي بدأ ملكا مظفرا أنقذ بلاده من لعنة الأحجية الأولى، يتحول شيئا فشيئا مع كل خطوة ينكر فيها ما اتضح أمامه من حقيقة أنه قتل أباه الملك وتزوج أمه، يتحول إلى طاغية. ليس مستغربا أبدا أنه يعاقب نفسه في النهاية. وعقابه، بالذات، أن يفقأ عينيه.

Might & Right (القوة والحق)
ما الذي نفشل في رؤيته والاعتراف به في مصر؟
نحن نفشل في الخروج من ثنائية ثوار/ فلول التي تخطاها الواقع إلى علاقات صراع أكثر تعددية وتعقيدا بين قوى الحق من جهة، وحقائق القوة من جهة أخرى. نفشل حتى، وننكر، الفرز الحقيقي لمكونات كل طرف من طرفي المعادلة. فما المعني بالحق؟ وما هي قواه؟ قبل أن ننتقل للتساؤل عن معنى القوة وما هي حقائقها. الحق هو الثورة. وأصحاب الحق هم من شاركوا في إسقاط النظام، أو محاولة إسقاط النظام التي نتج عنها على الأقل تصدعه وأيلولته للسقوط. أي نظرة موضوعية، وضع ماشئت من الخطوط تحت كلمة (موضوعية)، ستقودك إلى أربع قوى: قوة بدأت، وقوة لحقت، وقوة حسمت، وقوة ساندت. ولا بد أن تعترف – إلا إذا شئنا التمسك بحالة مركبة من إنكار الإنكار!- لا بد أن نعترف بشراكة هذه القوى المتباينة وأحقيتها في تمرير ما يتيسر من أجندتها في مصر ما بعد الثورة. وسأبدأ من النهاية:

القوة التي ساندت، هي المجتمع الدولي، الغربي خصوصا، الأمريكي تحديدا. فبعد ايام قليلة من التردد المعتاد، حسمت واشنطن موقفها مع التغيير وضد بقاء النظام. ليس أدل على ضلوع الولايات المتحدة في شأن الثورة المصرية من إحصائية تقول إن مجلس الأمن القومي الأمريكي برئاسة أوباما انعقد 21 مرة خلال 18 يوما هي عمر الحدث المصري في عنفوانه. ما عرفناه أثناء ذلك وبعده من شكوى مبارك لأصدقائه الإسرائيليين والعرب من الضغط الأمريكي، ومحاولات الرياض لتحويل وجهة واشنطن، وعودة سامي عنان من زيارته الأمريكية على عجل، إضافة لبيانات اتحاد أوروبا وعواصمه الرئيسية، و(الفرح) الدولي الذي شاهدناه يوم 11 و12 فبراير 2011، كل هذا يقطع بأن (العالم) ساهم وساند الثورة المصرية. ولا تبدو هنا مشكلة في توفية الحق الدولي الذي لا يطلب سوى الالتزام بالمعاهدات الدولية السابق إبرامها، وتجنب تغيير السياسة الخارجية بشكل حاد، وتفادي العودة للعداء مع إسرائيل. ومن الثابت الواضح أن قوى الثورة والتغيير الداخلية أعطت الضمانات والإشارات اللازمة لطمأنة المجتمع الدولي ومكافأته. تبقى إذن القوى الثلاث الأخرى في دائرة الحالة الإنكارية الإشكالية.

عتريس وراسبوتين
القوة الأولى، التي بدأت، هي تجمعات ما يعرف بالمعارضة الشبابية والوطنية والحقوقية، بما تضم من طيف علماني وسطي واسع يشارك فيه ليبراليون وقوميون ويساريون وغير مؤدلجين، تجمع بينهم أجندة حريات فضفاضة، ويفتقرون إلى التنظيم والقيادة. هذا الشريك الثوري فشل مرة بعد أخرى في أن يترجم حقه في الثورة إلى رقم انتخابي يصنع قوة مؤثرة، لكنه يظل صاحب حق لا يجب إغفاله. وكهامش مهم هنا، أتمنى على هؤلاء أن يهجروا سريعا يافطة (التيار الثالث) التي أراها تعبير استمرار أزمة، وليس حلا لها. من غير المعقول ولا المقبول أن تعرّف نفسك بهذه الدرجة من السلبية، أي أن تكون: لست الأول ولا الثاني، هكذا فقط! قل لي من أنت واصنع أجندتك وتنظيمك وقيادتك.

القوة الثانية، التي لحقت، هي قوة ما أسميه بثورة الإسلام السياسي. وقد أعطت بتنظيمها وقدرتها على الحشد زخما لا يمكن إنكاره للثورة المصرية، مما جعلها تصل إلى حد اللارجعة. وعلى اختلافي الشديد مع هذا التيار جملة وتفصيلا فإنني لا أستطيع سلبه حق الشراكة ولا إنكار هذا الحق. لكنني أنكر عليه وبكل حزم رغبته في أكل حقوق الآخرين، وفرض برنامجه المجتلب من خارج الزمن والسياق، غير القابل للأخذ والرد. إن كل إحياء هو بالضرورة موقف من الحياة باعتبارها جثة!

لم يكن مفاجئا بالنسبة لي أن أجد مرسي وشفيق يتصدران الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة، ويذهبان وحدهما إلى جولة الإعادة الحاسمة. ربما كان محزنا، ولكنه ليس مفاجئا. استعادة المشهد فيما قبل الخامس والعشرين من يناير 2011، تشير إلى خريطة سياسية يحتل أغلبها قوتان سياسيتان، لا ثالث لهما إلا في هامش ضيق يعلو صوته لكنه يظل غير مؤثر. أما القوتان فواحدة فوق الأرض وفي واجهة المشهد وهي الحزب الوطني كلافتة سياسية يصطف تحتها حيتان المال وسماسرته وعلاقاته ومصالحه وفساده وآلته الإعلامية ومنظروه وحواريوه، وتحميها قبضة أمنية بوزيرها وضباطها وأمنائها وبلطجييها. وقوة تحت الأرض إسميا، وفوقها عمليا، هي الإخوان المسلمون وتيار الإسلام السياسي بشبكة مالية وخدمية ونقابية ضخمة، ومن خلال 93 ألف مقر حزبي هي مجموع مساجد مصر بخطب جمعها وأحاديث ما بين العصر والمغرب والعشاء، وبرمضانها وتراويحها وقيامها، وانتصاراتها المدوية في المعارك الانتخابية من الدرجة الثانية والثالثة، ممثلة في النقابات واتحادات الطلبة، وفي المعارك غير الانتخابية ممثلة في نشر الحجاب واللحية، والسيطرة الفعلية على الأرض في مجتمعاتها العشوائية "النقية". لم يكن متصورا في حال الاحتكام المباشر للصندوق أن تخرج قوة ثالثة منتصرة، ولو حتى كانت ثورة، فالثورة لا تغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

الاجابة تونس
حين دعت القوى المدنية التي تعمل في مصر منذ بدايات الألفية إلى الخروج في يوم الثلاثاء 25 يناير الموافق الاحتفال السنوي بيوم الشرطة، كانت الأجندة مألوفة: احترام الحريات، الاحتجاج على ممارسات التعذيب، حقوق الإنسان، النزاهة في تطبيق الديمقراطية، رفض التوريث، الخ .. ولم تجد جماعة الإخوان ولا جماعات الإسلام السياسي كعادتها في هذه الأجندة ما يفتح شهيتها – خصوصا موضوع الحريات وحق التعبير اللذين تعتقد غالبا أنهما يحتاجان مزيدا من التقييد لا الإباحة!- فأعلنت عدم مشاركتها. لكن هرب الرئيس التونسي قلب الموازين، واصطنع سقفا مفاجئا بارتفاعه لا يمكن التنازل عنه. فمهما اجتهدنا في أدلجة الربيع العربي، محاولين استنباط قواعد فكرية لسيرورته، ستبقى هناك قاعدة سيكولوجية فجة لا ينبغي إغفالها، ألا وهي (النعرة). إذ أن كابوس (معايرة) شباب المصريين في الفضاء الافتراضي بتفوق التوانسة كان أمرا لا يمكن قبوله! وفي الوقت الذي أعلن فيه النظام أن (مصر غير تونس)، كان جمهور الفيسبوك وتويتر اللذين شكلا غرفة عمليات الثورة يتداول ما يلي: (بسم الله الرحمن الرحيم: الإجابة: تونس!).

وحش طوروس
في قصته القصيرة (وحش طوروس)، وقد حولها فيما بعد إلى مسرحية واقتبستها السينما والدراما في مصر أكثر من مرة، يروي التركي عزيز نيسين في كوميديا سوداء تحولات مواطن بسيط ضعيف بسبب شبه في الملامح دفع أهل مدينته بل جيرانه ومعارفه وزوجته وولديه إلى إعلانه مجرما خطيرا يشبه عندنا (خُط الصعيد): (صدق السيد نوري أنه وحش. كان ينظر إلى المرآة الكبيرة في الصالون فيخاف من نفسه. كان يريد أن يهرب من واقعه فشخصية الوحش استهوته بشكل مثير. وصار عندما يقف أمام المرآة يصرخ كالوحش من وقت لآخر .. ويصدر اصواتا غريبة .. ويحاول تسلق الجدران .. حتى أنه بدأ يقرض الأخشاب).

تلقف العالم، المأزوم برأسماليته المأزومة وإيديولوجيا نهاية الإيديولوجيا، ونهاية التاريخ، تلقف الحدث المصري باعتباره عودة التاريخ إلى الحياة، وعودة الإيمان بالقدرة على التغيير. وأنشأ أوباما وكاميرون وساركوزي وبيرلسكوني يقولون في مديح الشباب المصري (الليبرالي). واللافت أن معارضي هؤلاء ونظامهم برمته كتشومسكي وسلافوي جيجك ومايكل مور واليسار الجديد الذي يبحث عن جديده ومناهضي العولمة، كل هؤلاء نافسوا النظم في أحقية نسب الربيع المصري. وارتفعت لافتات التحرير- وماتزال- في احتجاجات الـ سيتي أوف لندن وفي الوول ستريت! هكذا وُلد وحش طوروس، وهتفنا في مصر اسم الله عليه اسم الله عليه، ولم يجرؤ أحد أن يقول له إنه ليس عتريس، لأن روحه المنتشية كانت ستجيب: بل 30 عتريس في بعض! وكلما تزايدت الهزائم والانتكاسات التي يلحقها واقع مادي صارم وجارح ومنطقي بجسد الثورة، بحث هذا الجسد عن حوائط أسمك ينطحها برأسه في فعل أشبه بالانتحار.

الثورة المضادة والثورة الأخرى، وبينهما الثورة
أدبيات الثورات الكلاسيكية اعتادت أن تقدم لنا ثنائية في شكل يشبه القانون الفيزيقي: لكل ثورة هناك ثورة مضادة. لكن هذا القانون استُخدم، ولا يزال، في تزييف الحالة المصرية، والتعمية على طرف مموه في المعادلة هو الثورة الأخرى. الثورة الأخرى لا شأن لها بك ولا بمطالبك، إنها تمتلك أجندتها الخاصة، وهي قوة أصيلة منظمة وجزء من التركيبة التي تريد أنت التخلص منها بالتحديد. فمجتمع الاستقطاب بين استبداد الرأسمال المسنود بالدولة وقواها الناعمة والخشنة، وبين استبداد التسيس الديني المسنود بالمال النفطي وعقائد السمع والطاعة وصكوك الغفران، وصفقات المقايضة عليك مع الدولة الرخوة، هذا المجتمع برمته هو عدو الثورة، وإن حاول فصيل منه الإيهام بغير ذلك لهدف مرحلي. فاجأت الثورة نفسها، كما فاجأت الجميع، بشعار (الشعب يريد إسقاط النظام). كما فاجأت الإخوان المسلمين والسلفيين بأن الشعار الذي وافق هواهم فجأة ينطلق من حناجر آلاف بل عشرات الآلاف عوضا عن بضع مئات هم الوجوه المعتادة في فعاليات النخبة الهامشية. حينها امتلأت ميادين التحرير، وتوالت الأحداث التي انتهت بتضحية معتادة من النظام - بمعناه العميق- برموزه. لكن الثورة الأخرى كانت قد أصبحت واقعا لا يمكن إنكاره.

سأزعم أن الثورة الأخرى مكون بنيوي ورئيسي في كل ربيع عربي، بل حتى إسلامي، بدءا من إيران وصولا إلى مصر، ومرورا بتونس. في النموذج الإيراني كانت الحركات الليبرالية واليسارية والعلمانية عموما سباقة ثم شريكة للمعارضة الدينية لحكم الشاه. حين اشتعلت الأحداث في إيران بدءا من عام 1977 – مصحوبة بضغط أمريكي من إدارة كارتر من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان- كان الليبرالي مهدي بازرجان في الطليعة. نفى الخميني قبيل نجاح الثورة وفي أيامها الأولى سعيه لتطبيق ولاية الفقيه، وما أن تمكن له الأمر حتى كتب الدستور على أساس شيعي 100%. كان الرئيس (الثوري) الأول أبو الحسن بني صدر سياسيا علمانيا قريبا من اليسار، وكان مصيره العزل والمنفى. وليس عجيبا أن يكون الرئيس التونسي الأول بعد الثورة من نفس النوعية ومصاحبا لأغلبية أصولية في البرلمان، في انتظار ما سيكون. ولن أستغرب إذا أصبحت كتب القراءة أو التاريخ للصف السادس الابتدائي في عام 2015 تتحدث عن (ثورة يناير 2011 الإسلامية)!

ادونيس وسوريا والثورة الاسلامية
في مقالات الشاعر السوري أدونيس التي أثارت الجدل، رصد للـ "ثورة التي تخرج من المسجد". لكن الخلاف مع المثقف السوري الكبير هو خلاف في التصور وفي الموقف معا. فالتصور عاجز عن رؤية التيار المدني في الثورة السورية، والموقف قاصر عن دعم هذا التيار واستنهاضه وحشده ليكون مؤثرا في مآلات الأمور. إنه ببساطة يطالب التيار المدني بالعودة إلى البيت والاكتفاء بالفرجة. وهي رؤية تنتابها هستيريا الرهاب الإسلامي، وتعيد إنتاجها بما يخدم النظام الاستبدادي المجرم. ليس المطلوب من (الثورة) أن تفسح المجال للـ (الثورة الأخرى)، ولا أن تنقلب على ذاتها لتطلب العفو من (الثورة المضادة) على طريقة (إحنا آسفين يا ريس). المطلوب من الثورة أن تميز نفسها، وأن تعرف حجم نواتها الصلبة الحقيقي، وألا يكون المكسب الميداني في أي لحظة على حساب مبادئها، وألا تستسلم لليأس.

الخيال وخيال الظل
لم تُستهلك كلمة في خطاب ثورة يناير وأدبياتها مثل كلمة (الخيال). لكن هذا الخيال لم يفصح لنا قط عن محتواه، ولا عن طبيعة المتخيَّل. أصبح التلويح بمفهوم الخيال تعويضا عن غياب الأجندا، وعن إنكار الواقع دون تقديم تصور لواقع بديل. بل أصبح الخيال – الحر بطبيعته ومفهومه – أسير المكان واللقطة الفوتوغرافية الثابتة: كعكة التحرير البشرية، مع تحول تدريجي من الصورة إلى الظل. أصبح أقرب إلى (خيال الظل). في الديمقراطيات الغربية، حيث الخيارات المبدئية محسومة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، تصبح المعارضة (ظلاًّ) للحكومة. وفي هذا الظل توجد برامج ظل ووزراء ظل وحكومة ظل، في لعبة كراسي موسيقية نصفها فقط تحت دائرة الضوء. هذا لأن الخيال هناك صنع أحلاما، والأحلام وجدت لها مواطئ أقدام على الأرض. ليس غريبا أن تُسمى أمريكا مثلا (أرض الأحلام)! رغم ذلك، فإن أزمة الخيال ليست أزمة عربية بالمعنى الحصري، بل هي أزمة الثورة بالمعنى المطلق في هذه اللحظة الإنسانية. أشرت في مقال سابق إلى النقد الموجه لحركات الغضب الغربية ممثلة في (احتلوا وول ستريت) وأخواتها. يقولون لهم: "ماذا دهاكم! ترفعون لافتات ميدان التحرير بينما ميدان التحرير يطالب بما تملكونه أنتم فعلا من ديمقراطية وحريات فردية وضمان اجتماعي الخ." لم يرد أحد الرد الشافي، لكن الغضب واقع لا يمكن إنكاره، واقع يتحرق إلى خطوة ما، لكن الخيال لم يصل إليها بعد.

يفرق فيلسوف اليسار الفرنسي اللامع ألان باديو بين (حدث) حقيقي وآخر زائف، وذلك بالنظر إلى العالم الواقعي بعد حدوث الحدث والتساؤل: هل تغير شيء؟ الحدث الحقيقي هو الذي يترك أثره العميق في العالم/ الواقع بعد حدوثه. وفي تطبيق ذلك على مفهوم (الثورة) يعتبر باديو أن ثورة الروس عام 1917 حدث حقيقي، إذ أن جدل النفي، ونفي النفي، أسفر عن القضاء على واقع برجوازي واستبداله بدولة البروليتاريا. لكن باديو – كما يرصد جيجك محقا – ينظر إلى 1917 كحدث ثوري كلاسيكي في عالم هو الآخر تحكمه علاقات كلاسيكية. ثوار يناير المصري بتمسكهم بثنائية تشبه ثنائية بروليتاريا/ برجوازية، هي هنا ثنائية ثوار/ فلول، سقطوا في تصور كلاسيكي للثورة، في عالم غير كلاسيكي بالمرة، عالم يمكن أن يصبح فيه الشيء نقيضه المنطقي – أو يمتزج به إلى حد التماهي – دون معوقات حقيقية. ألا يشعر أحد بالتناقض الداخلي لثورة (كلاسيكية) ترفع (الخيال) شعارا لها؟

اللحية وذيل الحصان
في غيبة جسد حقيقي للخيال لم تستطع قوى الثورة في مصر أن ترى الرابط بينها وبين ما يدور شمال المتوسط وعبر المحيط، وبالتالي لم ينتج الخيال تجربة للإنسان، ولم يصل حتى إلى تخوم أزمته المعولمة. هكذا لم يجد المجتمع حلما يحتكم إليه، فاحتكم للكابوس. فأنت تصطف (هنا) خوفا من (هناك)، ومع (هذا) خوفا من (ذاك). وفي الحالين وقفت الثورة بين خيارين غريبين في حقيقة الأمر ويقدمان نفسيهما وكأن لا ثالث لهما: اللحية وذيل الحصان. لحية النموذج الديني الذي يستدعي الحقيقة من مكان آخر في التاريخ دون أي إدراك لنسبيتها ولا أزماتها الداخلية، وذيل حصان الناشط الليبرالي الذي يستنسخ حقيقة ما، من مكان آخر في الجغرافيا، دون إدراك أنها حقيقة تتداعى في بيئتها، وأنها تعاني. وفي هذا السيناريو غير المركب المتناقض مع الواقع المعقد، اختُصرت الجدليات في ثنائية ثوار/ فلول، وفي طرفي الثنائية ثمة مغالطة كبرى. فالثوار يختلط فيهم الرجعي بالتقدمي والديني بالدنيوي واليساري باليميني والليبرالي بالمحافظ بالقومي الخ .. دون فرز للبشر ناهيك عن تقديم مشهد سلوكي مختلف، أو أخلاقية اعتراف وتطهر، أو فن يتجاوز تفاهة الجرافيتي وعابريته، سواء على حيطان الشوارع أو حيطان أغاني الراب، أو رؤية ثورية للتاريخ، أو تحليل للواقع وأزماته يتجاوز مونولوجات مذيعي التوك شو وصحافة الأعمدة، حتى صارت الثورة نفسها فقرات تتخللها الإعلانات، في مفارقة مضحكة، وكأن ثقافة الاستهلاك ليست جزءا من النظام الذي يجب أن يسقط.

أما الفلول، فقد اصبح لقبا يطلق على أشخاص، سواء كانوا مائة أو مليونا، دون النظر إلى طبيعة العلاقات التي أنتجتهم، وشبكة المصالح التي تقف وراءهم والتي يمكن وصفها بأنها تمسك الوطن في قبضتها من الأماكن الحساسة. وبمعنى من المعاني فإن كلنا فلول. أقصد بقدر انخراطنا في علاقات الإنتاج، وتورطنا في الحياة ضمن منظومات أخلاقية أعلت من شأن الصياعة والبلطجة والإسفاف والتنافس غير الشريف والإنتاجية المتدنية وعدم الإتقان وتقديس المكسب واحتقار العمل، وامتهان الطفولة، وخداع القانون ... وكل هذا لم يكن موضوعا في أي خطاب للثورة! انحصر كل مفهوم للتطهر في سجن فلان أو حتى إعدامه، دون إدراك أن هذه الإجراءات من المفترض أنها جزء من ممارسات النظام، أي نظام، حفاظا على نفسه وعلى بقائه أولا. أما الثورة .. فشيء آخر.

في كل تراجيديا هناك خطأ
القوة الثالثة، التي حسمت، هي المؤسسة العسكرية. سمه انقلابا، سمه إصلاحا، سمه ما شئت، لكن إسهام العسكر في إنهاء حكم مبارك وحزبه ومراكز قوته حقيقة واقعة. ولك أن تتخيل سيناريوهين آخرين للأحداث كي تتضح الرؤيا: أن تنزل القوات المسلحة في صف مبارك والأمن على الطريقة السورية تحت شعار حماية الشرعية. أو ألا تنزل القوات المسلحة إطلاقا وتفسح الطريق للأمن المتواطئ مع البلطجية بأموال دولة الفساد لإنهاء ماكان سيعرف بعدها بانتفاضة قندهار! ارتكب العسكر أخطاء كارثية كثيرة، خصوصا في مواجهات الشوارع التي أوصلنا إليها عجزهم عن الخطاب السياسي. هذه حقيقة لكنها لا تلغي الحقيقة الأخرى، وهي أنهم ضمن القوى التي أحدثت التغيير. إنني أفهم الآن مقولتهم الشهيرة، التي كرروها مرارا وكان آخرها في بيان منذ أيام: (نقف على مسافة واحدة من الجميع). أعتقد أنهم يقصدون تماما أن يقولوا: نحن شركاء في الثورة .. زينا زيكم! وهم فعلا زينا زيهم، حتى في الأخطاء الكارثية. فمن ينكر أن القوى جميعها أساءت الحركة والتخطيط؟

من زاوية نظر الثورة ومعسكرها، وعلى مستوى الممارسة الواقعية والأداء والحركة لا الفكر والفكرة، فإننا أمام وضع تراجيدي: مباراة نهائية بين ثورة الفلول المضادة وثورة الإسلاميين الأخرى، فيما نتحصل نحن على تذاكر المتفرجين. كأي تراجيديا كلاسيكية لا بد أنها تحتوي على خطأ ما، والحال هنا ليس استثناء.
الخطأ الأول: هو أنك لم تر عناصر المعادلة الثلاثية مبكرا، وعشت طويلا في وهم ثورة/ فلول.
الخطأ الثاني: أنك لم تدرك تبعا لما سبق، أنك أقلية سلمية، وأنك بحاجة لتحالف ما.
الخطأ الأكبر: وهنا لا بد من التفصيل، إذ أن الخطأ مزدوج. كان الحليف المنطقي لقوى شباب الثورة هو الجيش، تماما كما كان الحليف المنطقي للجيش هو شباب الثورة. طرف يحمل فكرا مدنيا بشكل عام ويرى أنه أقلية بين قوى سياسية تقليدية ورجعية متنمرة، كان يحتاج إلى دبابة في ظهره تحميه، وتدفع بأجندته إلى الأمام. وطرف يحتاج إلى وجه مدني ذي شرعية – وهل هناك أقوى من شرعية الثورة؟ – يتحرك من خلاله للحفاظ على الطابع المدني للدولة ومن ثم على كيانه كمؤسسة. هذا هو التحالف المنطقي.
لكن الطرفين معا ارتكبا الخطأ الأكبر بالتورط في العداء بدلا من التحالف. بين القوى الثلاث على الساحة بعد 11 فبراير 2011 لم يكن النظام المتداعي حليفا منطقيا للجيش. فالأخير تخلى عن الأول وتركه يتصدع ولو كان ليحالفه لفعلها منذ اللحظة الأولى مغامرا بل مقامرا بكيانه الكامل عارفا بحظوظه الضئيلة الكارثية في ضوء الحماس الدولي لثورة الشباب. خيارات ليبيا ومن بعدها سوريا كما نرى الآن أبلغ حجة ضد اصطفاف الجيش مع النظام المستبد، فيما خيار الجيش التونسي يقدم الوجه الآخر. قوى الإسلام السياسي بدورها لم تكن في أي وقت خيارا مفضلا، أو حتى ممكنا للجيش كحليف. التناقض قديم وبنيوي. تناقض بين مفهوم الجهاد والحرب. الأول واجب وفرض، فيما الثاني شر يحسن تجنبه، والعسكريون في كل الدنيا هم أقل الناس رغبة في خوض الحروب. هو أيضا التناقض بين النصر والشهادة. فالعقيدة العسكرية لا تعترف سوى بالنصر ولا تخوض حروبا من أجل الشهادة، بينما يستوي الحسنيان في عقيدة الدين. كانت الحروب الصليبية آخر الحروب (المقدسة) الكبيرة في الغرب، ومن حينها انتقل ولاء الجيوش تدريجيا ثم نهائيا للسلطة المدنية. الإسلامي على العكس قد يجد في كل يوم سببا للجهاد، والجيش المشبع بقيم انضباط علماني ليس مستعدا لتلبية ما قد يعتبره نزوات. لننظر مثلا إلى (بلاغة) الخطاب الجهادي في السياسة الإيرانية، وكيف تضع الجيش الإيراني الآن على حافة الكارثة، وكيف وضعته سابقا في محرقة الحرب العراقية. يعلم الجيش المصري جيدا أن اختراقه هو وجهاز الأمن بعناصر شابة إخوانية وسلفية وارد جدا ضمن فكر التمكين الإسلامي، والصدام حول هذه النقطة آت لا محالة.

إذا أضفنا قوة رابعة للقوى الثلاث التي تحدثنا عنها: الثورة والثورة الإسلامية والثورة المضادة، وكانت هذه القوة هي الجيش فسنختار عنوانا لبرنامجها نسميه: الإصلاح. فانظر إذن أي قوتين بمفهومهما أقرب إحداهما من الأخرى وسط هذا الرباعي؟ هل الإصلاح والثورة المضادة المهزومة سيئة السمعة؟ لا. هل الإصلاح والثورة الإسلامية التي تنطوي على استبدادها الخاص وتعارضها البنيوي مع دعم الجيش للدولة المدنية؟ لا. لكنك ستجد بين الإصلاح والثورة من الوشائج والقرابات الكثير. في فقرة سابقة أشرت إلى أجندة الاحتجاج المعدة في منتصف يناير 2011 والتي خرج بها الشباب في 25 منه، وهي عبارة عن مطالب (إصلاحية) في حقيقة الأمر!
رغم كل هذه الأسباب التي كان منطقيا أن تدفع الجيش تجاه حليفه المنطقي العادل أي شباب الثورة، أعلن المجلس العسكري إعلانا كارثيا بأنه يقف على مسافة واحدة من الجميع. وكان هذا خطأ كبيرا.
من جهتهم، لم ير شباب الثورة في إعلان المسافة الواحدة دعوة مبطنة أو بابا مواربا للاقتراب. اعتصموا بافكار مشوشة عن النقاء الثوري واغتروا بمليونيات هم ليسوا فيها أكثر من عشرة بالمائة بلا تنظيم بلا قيادة. وكانت الفرصة قد فاتت على تكوين مجلس قيادة ثورة، وعلى اقتحام ماسبيرو ومخاطبة الناس مباشرة وإحراج الجيش ذاته، وعلى تكوين حرس ثوري الخ ... أي أن التحالف مع الجيش كان هو الخيار المنطقي الوحيد الباقي، فتم تفويته.

حدث هذا بينما أدرك آخرون دعوة المسافة الواحدة وبدءوا يقتربون ويساومون ويفاوضون. وتحرك الجيش مع الجميع من القوى التقليدية والأحزاب البالية والإخوان ورموز النظام السابق. وحين تنبه المجلس العسكري للفجوة التي تتسع بينه وبين الثورة، فأطلق رسالة أكثر وضوحا، وعلى لسان المشير طنطاوي نفسه في خطاب الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لثورة يناير، قائلا: «يا شبابَ مصر .. إن مصرَ تُناديكُمْ، فأنتم عُدتُها وعُتادُها وأنتُم من فجَّرتُم ثورتَها، وأدعُوكم إلى تأسيسِ كيانٍ حزبي له دورٌ سياسي يتطلعُ إليه الشعبْ، وأن المجلسَ الأعلى للقواتِ المسلحةْ، يؤكدُ على دعمهِ الكاملِ لكم في هذا المجالْ، حتى تَتمكنُوا من مُمَارسةِ الدور السياسي الذي نتَمناهُ لكم.» حين أتت هذه الرسالة لم ينتبه إليها أحد، خصوصا من كانت موجهة إليهم، فقد كانوا مشغولين في الشارع بالهتاف: يسقط يسقط حكم العسكر.

افهم الإنسان لكي تفهم القرد
في سياقين مختلفين كان عبد الناصر حاضرا في أحداث السنة الأخيرة. في سياق الربط بين حكم العسكر ودولة يوليو التي يجب أن تسقط، وفي سياق الانتقاص من مرشح الرئاسة حمدين صباحي على أساس أنه (ناصري). هذه المصادرة على التاريخ يجب على الأقل أن تخضع لشيء من المراجعة النقدية. فاستخدام التاريخ لتفسير الحاضر، أو استخدام تصور ما لما جرى عام 1954 من أجل الإيحاء بأنه يتكرر في 2012 ويفسره، هو قلب مغرض لمعادلة التاريخ وسيرورته. يقول ماركس:"إن فهمنا للصفة التشريحية للإنسان، يساعدنا على فهم الصفة التشريحية للقرد." أي أن الحاضر يفسر الماضي وليس العكس. يجب – بروح نقدية – أن نحاول فهم أحداث 54 في ضوء مآلات الأمور في 2012. إنني أتصور أن نتائج الهرولة لصناديق الاقتراع في مارس ثم نوفمبر 2011 ومايو ثم يونيو 2012، هذه النتائج بالتحديد هي ما يبرر خيارات عبد الناصر في 54. من المعقول جدا أن نتصور أن قوى ما قبل 52 ممثلة في باشوات الإقطاع ونخبة المال والأحزاب من جهة، ومن أخرى جماعة الإخوان المسلمين، كانت ستخرج منتصرة في غزوة الصناديق التي لم تحدث في 54. ما الذي كان ليمنع انتخابات إعادة بين علي باشا ماهر مثلا أو مصطفى النحاس وبين عبد القادر عودة أو حسن الهضيبي، وبعدها (إحنا آسفين يا فاروق!).

من العجيب أننا نتحدث الآن عن نموذج تركي، دون أن نتأمل كيف كان هذا النموذج التركي في الخمسينيات مثلا! ولا أدري كيف يتقبل الناس مقولة (الجمهورية الثانية) والدعوة لإسقاط دولة يوليو، بينما دولة يوليو سقطت فعلا في 5 يونيو 67، وتنحى قائدها علنا أمام الملايين، وانتحر رجلها الثاني قائد الجيوش؟! ولا أدري كيف أننا لا ندرك أن شرعية أخرى ولدت في 73 ثم في كامب ديفيد 79، سواء للجيش أو لنخبة المال المسيس المتحالفة مع وضع عالمي معطياته جديدة تماما؟!
ولا أدري كيف نستدعي ممارسات الدولة الأمنية المقيتة في عهد عبد الناصر دون محاولة فهمها في إطار مراحل ما بعد الثورات؟! من الثورة الفرنسية وصولا للإيرانية مرورا باستقلال أمريكا وحربها الأهلية ثم ثورة البلاشفة الخ ... في كل مرة كان القمع خيارا أول، وفي كل مرة تخطت الأمور خطوط الحرب الأهلية الحمراء وقُتل مئات الآلاف وسجن مثلهم وأعدم مثلهم، وليست ثورة يوليو استثناء في الحقيقة إلا في أن عدد ضحاياها أقل بما لايقارن! أذكر هنا مثالا واحدا على استغلال العداء غير المبرر لتراث عبد الناصر في تفويت الفرص الذهبية لدفع أجندة الثورة. التعمية المتعمدة من كل التيارات على وجود قانون بالفعل يعفينا من ترشح رموز النظام السابق، هو قانون الغدر الصادر بداية الخمسينيات. تركنا هذا القانون، القائم، غير المشكوك في دستوريته، وركضنا وراء تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية، هذا التعديل المعروف إعلاميا بقانون العزل، ففاتنا الوقت، وأصدرنا قانونا مشكوكا في دستوريته، كل هذا حتى نهرب من شبح عبد الناصر.

على هذه الأرض ما يستحق الحياة
هذه هي قوى الحق الأربع التي لا يمكننا إنكارها، الثلاث الداخلية منها حين تخطينا مرحلة الثورة اصطدمت بواقع يعبر عن حقائق القوة.
أول حقيقة هي أن هناك قوة داخلية رابعة موجودة ونشطة وذات تأثير تجلت بوضوح من خلال الاستحقاقات الانتخابية المتوالية. تلك هي جماعات المصالح والنفوذ المالي الموروثة من العهد السابق، والجماهير المرتبطة بها، ولا بد من أن يكون لهؤلاء صوت ما ودور ما في الواقع الآني وفي المستقبل القريب.

الحقيقة الثانية هي أننا تجاوزنا مرحلة الثورة وانتقلنا في غفلة منا إلى مرحلة الاحتكام للصندوق والصوت الانتخابي من جهة، والاحتكام للقانون من جهة أخرى. أي أننا انتقلنا من الشرعية الثورية إلى الشرعية الديمقراطية والدستورية، ولا يمكن الجمع بين الشرعيتين، كما لا يجتمع قلبان في جوف. ولا يجب أن يلوم الثوريون والإسلاميون سوى أنفسهم في إهدار الشرعية الثورية، دون حسم جريء بتكوين مجلس قيادة ثورة، وتشكيل حرس ثوري ولوغير مسلح، والسيطرة على مبنى التلفزيون،  وإذاعة بيان رقم واحد، وإملاء تكليفات للقوات المسلحة تحملها مسؤوليات محددة في إطار من الاحترام! لا تلوموا سوى أنفسكم.

الحقيقة الثالثة هي أن موازين القوة متوزعة بشكل لا يحسم الأمر لفصيل دون آخر، ولا حتى من خلال تحالفات تضع ثلاثة أطراف في مواجهة الطرف الرابع. جرّب .. فلن تجد بين الأطراف الأربعة إلا من يقبل طرفا ويرفض اثنين. يذكّرني التيار الثوري الأول، بما يضمه من كتاب ومثقفين يتسابقون في حالة الإنكار المرضي الشعبوي التي يعيشون فيها إلى الدعوة لمؤازرة الإخوان ضد العسكر، والعودة للميدان الخ .. يذكرونني بأمثولة ضربها الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك عن حالة الإنكار. يحكي جيجك عن صديق فقد زوجته التي ماتت بالسرطان. توقعوا انهياره في حزن مدمر لكنهم فوجئوا به متماسكا و(موضوعيا) حين زاروه، وكان يمرر يده في فرو القطة الجالسة على ساقيه، ويحدثهم عن أحواله بهدوء وحيادية. بعد عدة شهور نُقل الرجل إلى المصحة في حالة انهيار عصبي شديد. وبالسؤال عرفوا أن القطة دهستها سيارة. تلك كانت قطة زوجته!

يبحث العائش في الإنكار عن مرتكزات تعينه على المضي في الوهم وإنكار الواقع. من هذه المرتكزات أن يكون لك FETISH، وهي كلمة عسيرة على الترجمة، لنقل مؤقتا (أفيونة) أو (وثن) أو طقس سري. (الميدان) هو أفيونة الثوري التي يلجأ لها لتعينه على الاطمئنان إلى ذاته، في مواجهة واقع لا يريد أن يعترف به، لا يريد أن يعرفه. الميدان هو قطة الثورة التي تحمل الدفء. الميدان ليس الثورة، هو فقط أثر أقدامها الذي انطبع على الأرض قبل أن تذهب بعيدا، وللثوري إذا شاء أن يتعبده كأثر كف المسيح الطفل في جبال المنيا، فذاك شأنه.

أما إذا أردنا أن نفيق من مرض الإنكار، وأن نرتب للمستقبل بما يتفق مع قوى الحق وحقائق القوة ومعطيات الواقع، فلا بديل سوى شراكة في السلطات وتقاسم في المكاسب والوضعيات، وإني لأراها ممكنة:

-         التيار الوطني الثوري وأعتقد أن حقه وحقيقته يؤهلانه للاضطلاع بالدور الأكبر في صياغة الدستور. وهو أمر ممكن بعيدا عن الانتخاب المباشر، ومُرضٍ لهذا الفصيل الذي كانت مطالبه الأصلية في 25 يناير مطالب دستورية في حقيقتها، سوى مطلب العدالة الاجتماعية الذي رفع شعارا غامضا قاصرا عن نقد البنية الاقتصادية للنظام البائد، رغم كونها الحاضنة التي نما فيها فساده واستبداده. الاضطلاع بالمسؤولية الأكبر في صياغة الدستور لن يتحقق سوى بالإعلان الدستوري المكمل الذي يرفضه هذا التيار دون تفكير ولا تأمل. فاختيار لجنة تأسيسية ذات ثقل معرفي وغير أسيرة لمفاهيم الإسلام السياسي أمر مستحيل حاليا عن طريق الانتخاب أو السلطات المنتَخبة. والحل هو أن يختارها المجلس العسكري مستعينا بمستشاريه ثم يُستفتى على تشكيلها الشعب مباشرة من أجل إضفاء مزيد من الشرعية.

-         الإسلام السياسي ومكاسبه العمل العلني ومنصب الرئاسة وأكثرية – أتمناها دون أغلبية – في التشريع وأهم منه المراقبة. وهذا يكفي، جدًا! وليتذكر هذا الفصيل أنه وعد بعدم الترشح إلا على ثلث مقاعد البرلمان المنحل، وأخلف. ووعد بعدم ترشيح رئيس، وأخلف. واحتج وقتها بأنه رشح رئيسا كضمانة للسلطة في حال حل البرلمان. وها هو الرئيس في القصر، فهل يلتزمون الآن بوعدهم الأول؟

-         كيانات ما قبل 25 يناير وجماعات مصالحها: نقل تعريفها إلى خارج دائرة الفلول وإعادة استيعابها في الجسد الوطني ومن خلال تمثيل برلماني، مع عدم التعامل انتقاميا مع مصالحها المالية.

-         المؤسسة العسكرية: وهي في الحقيقة لا تطلب الكثير إذا التزمت بانتقالية ووقتية الإعلان الدستوري المكمل، وتعهدت بأن تطبّق بنفسها على نفسها معايير تطهير وإصلاح تُعلم بها المجتمع المدني لكن دون تدخل منه، في مقابل أن تظل لها استقلالية دستورية نسبية يمكن أن نقبلها لاعتبارين: اعتبار أنها ضلع من أضلاع الثورة ولها فيها حقوق، واعتبار أن الزمن طويل، وما لا يُدرك كله اليوم قد يُدرك غدا!

الصورة ليست قاتمة تماما. بل إن فيها كثيرا مما يبعث على الأمل والتفاؤل، شريطة ان تقترن الحركة بعقلانية ومنهجية كانتا مفتقدتين على مدار أكثر من عام. كانت أمنيتي أن تطول المرحلة الانتقالية، وأن يستمر الأفق المفتوح الذي لازم حالة الفوضى في إنتاج مزيد من الوعي، وفي تحطيم مزيد من الأصنام والتابوهات. لم أكن في أي وقت في حال خشية من أن يستحوذ العسكر على الحكم، لا ثقة فيهم وإنما ثقة في أنهم حلقة اضعف في التركيبة الماثلة.
جاءت نتيجة الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة لتؤكد حدسي. فالخلخلة التي أحدثتها فوضى الانتقال، وتكثيف الجدل السياسي المفتوح – على علاته – في الشارع المصري، أديا إلى نتيجة باهرة حققها المرشح حمدين صباحي، وبدرجة أقل كما وكيفا المرشح عبد المنعم أبو الفتوح. ومن المهم الآن أن ألا ندع عودة الشرعية الديمقراطية تغتال أفق الحوار، وهو تحد ليس بالسهل. ولست مع من يلوم حمدين وأبو الفتوح بسبب (الشخصنة) التي نتج عنها تفتت الأصوات. وذلك لسبب بسيط هو أن الشخصنة ذاتها اضعفت من فرص المعسكرين الآخرين: فالتيار الإسلامي السياسي قدم عدة مرشحين ولم يلتف حول واحد فقط، ولا أدري كيف كان الحال ليكون بالنسبة لمرشحي الثورة الإسلامية لو أن حازم أبو اسماعيل لم يستبعد. وقوى النظام السابق قدمت عددا من المرشحين دون أن تحتشد خلف واحد منهم فقط. ولا أدري هنا أيضا كيف كانوا ليتوزعوا الأصوات لو كان بين المرشحين عمر سليمان المستبعد. الشخصنة داء مصري.

قد يكون هذا خارطة طريق لمن يريد أن يعيش في الحقيقة، حقيقة تخص الجميع ولا تخصه وحده. فـ(العائش في الحقيقة) التي لا يعرفها غيره، قد يؤدي بحسن نواياه إلى تدمير ذاته وتدمير بلد وتدمير إمبراطورية، كما فعل إخناتون الثوري الحالم بالحب والسلام في رواية نجيب محفوظ. إخناتون محفوظ هو الآخر شخصية أوديبية بامتياز سواء في إحداثيات علاقاته، أو في إنكاره، أو في مصيره التراجيدي. يكتب محفوظ واصفا إخناتون على لسان أبيه أمنحتب: «لا أعرف مجنونا اعترف بجنونه أبدا.»
ويكتب على لسان الكاهن توتو: «
لو ان الذي خلف امنحتب الثالث على عرشه عدو من الحيثيين لما استطاع ان يفعل بنا اكثر مما فعل المارق اللعين.» أما إخناتون نفسه الذي قضى نحبه وحيدا في مدينته المهجورة، فكان يقول بإصرار حتى اللحظة الأخيرة: "لن يخذلني إلهي أبدا."

 

شاعر وكاتب مصري يقيم في لندن