يتناول الناقد المغربي المرموق هنا رواية «يوم خذلتني الفراشات» للأردني زياد أحمد محافظة، ويرى أنها تقع على تخوم السياسة والتاريخ وسبر أغوار النفس البشرية، ضمن تشكيل نصي يفعّل السرد والمساءلة، ويحتوي على عناصر تخييلية تضفي عليه مسحة شعرية حاكت بسخرية أجواء السلطة البطريركية.

الراوي «المستبد» بلا اسم أفعاله تفضحه

محمد برادة

لعل «يوم خذلتني الفراشات» (دار الفارابي) للأردني زياد أحمد محافظة، هي روايته الأولى التي تفاجئنا بنضجها ورؤيتها ذات الدلالات الموحية. يأتينا النص على لسان راو أو سارد يفضل ألا يذكر اسمه، مكتفياً بذكر اسمِ منذر الفاتح الذي هو بمثابة قرينه أو ضميره المتربص بأخطائه، الحريص على نقاء سلوكه. بعدما بلغ الستين من عمره واقترب من القبر، يستعيد السارد مسار حياته منذ الطفولة إلى أن أصبح رئيس حكومة في نظام استبدادي يصطنع واجهات ديموقراطية مزيفة، ويحتكم إلى أواليات صارمة لاستدامة السلطة وتأبيدها ضمن دائرة تتقن حماية مصالح الاستغلال والقوى المتحالفة معه، لكن الكاتب يوحي أكثر مما يصرح، ويشخص السلوكات والمواقف قبل أن يفضح.

يستعيد السارد مراحل حياته، إذاً، منذ كان يعيش مع والديه في أحد الأحياء المتوسطة (لا يذكر المدينة ولا القطر)، وكان له أصدقاء في المدرسة والحي، وأبوه هو مثله الأعلى لأنه مناضل صلب في أحد الأحزاب الإصلاحية المعارضة، تعرض للاعتقال والإقامة الإجبارية لأنه أصر على التمسك بمبادئه حتى بعد أن تخلى زعيم الحزب عنها مقابل امتيازات منحت له. وظل الأب يردد على مسامع ابنه: «في بلادنا هذه، لكي تصبح الأقوى والأثرى والأبرز، عليك ببساطة أن تكون الأسوأ. مفارقة عجيبة لم أعِ مغزاها لليوم: كيف تعيش في وطن يكون فيه الانحدار طريقك الأمثل للصعود؟» ص47.

استطاع السارد أن ينجح في دراسته الجامعية، إلا أن أبواب العمل أغلقت في وجهه بسبب مناهضة والده السلطة القائمة. لكنه تمكن في الأخير من العمل في المجلس الثقافي البريطاني، وهناك التقى سوسن الخرساء ابنة أحد جنرالات النظام الحاكم. اتقدت المشاعر بينهما، غير أن انقلاباً عسكرياً اضطر الجنرال وأسرته إلى الهرب خارج البلاد، فتوارت قصة الحب الوحيدة في حياة السارد. مع قيام النظام الجديد، قرر رئيس الوزراء الأمجد بن رماح أن يعيد الاعتبار الى المناضلين والقادة الذين اضطهدوا في العهد السابق، تقرباً إلى الشعب وبحثاً عن دثار وطني، «ثوري»، يضفي الشرعية.

في هذا السياق، اتصل أنطوان مستشار الرئيس بالسارد ليدعوه إلى إلقاء كلمة نيابة عن والده الذي وافته المنية. وكانت فرصة نادرة للسارد، أظهر فيها مواهبه الخطابية والسياسية وحظي بإعجاب رئيس الوزراء الذي عرض عليه العمل في ديوانه... كان هذا المنعطف نقطة انطلاقِ السارد لكي يشق طريقه نحو السلطة، مستثمراً تراث والده النضالي، ومستفيداً من شبابه وثقافته؛ وسرعان ما لفت الأنظار فاتصل به مسؤولون من وزارة الخارجية الأميركية مقترحين عليه إقامة تكوينية تتقصد إعداد البديل في مجال من سيتعاقبون على الحكم. وفي الأثناء، قدمه أنطوان المستشار إلى شيرين الجميلة، المتحكمة في المجتمع المخملي وسهراته الماجنة والمتصلة بردهات الحكم والاستخبارات. هو أيضاً نوع من «التكوين» الضروري لمن سيتقلدون الحكم المصنوع في الغرف السرية. يقول السارد عن هذه التجربة: «...لكن ما أعلمه هو أنني انغمست في هذا العالم الموحل الذي أصبحت أسميه عالم شيرين. عالم يختصر كل ما في هذا الوطن من مآس وتناقضات. تمرغت في طينه أكثر، تعرفت إلى النساء يمنحن متعة غير التي اعتادها الرجال، ورجال لا يستطيعون التمييز حتى بين أبسط الأشياء (...) أرى الوطن وقد أصبح مجرد ساق، يدور بكؤوس لامِعة على أناس لا يرون فيه أكثر من نادل» ص182.

أصبح السارد رئيساً للحكومة في ظل النظام الذي كان أبوه يعارضه، واستطاع أن يكشف عن مواهبه في الإدارة والمناورة والتناغم مع مصالح وميول الدول الأجنبية المؤثرة في المنطقة... وكان لا بد للسارد من أن يستكمل شروط وضعه الاعتباري كرئيس للحكومة، فتزوج وأنجب من دون أن يقطع صلته بإغراءات المجتمع المخملي وشلّة شيرين الحارسة لتفاصيل اللعبة. وحين تعرف الى غادة الملحقة بديوان وزير الخارجية، وجد فيها المرأة الملائمة لحياته الصاخبة المملوءة بالأسفار واللقاءات السياسية، فأراد أن يتخذها زوجة ثانية، لكن زوجته الأولى رفضت، وكان هو قد خطا نحو منحدر العمر وغزاه المرض، وسرعان ما دلف إلى القبر متوجاً بنعي رسمي يمتدح خادم السلطة والوطن!

الراوي والقرين

ما يسترعي الانتباه في البناء السردي في «يوم خذلتني الفراشات» هو أن السارد يستحضر من حين الى آخر، منذر الفاتح الذي يضطلع بدور القرين المنتقد لمواقف السارد الانتهازية: «أعلم أن حالة من الفوضى ستنتابني حين أستحضره. نار تدبّ في مسام الجلد تشعله؛ لكنه حريق علي إيقاده وقبوله» ص26. وهذا الحضور المقلق للقرين هو ما جعل السارد يطلق رصاصتين على منذر، ليتخلص من انتقاداته ويؤكد في الآن نفسه الموت الرمزي لتلك الروح الطفولية الشغوف بالمعرفة والمعجبة بصلابة الأب المناضل الرافض.

على رغم أن مشاهد او فضاءات «يوم خذلتني الفراشات» تستوحي الواقع السياسي والاجتماعي في الأقطار العربية، فإن تشكيل النص يحتوي على عناصر تخييلية تضفي عليه مسحة شعرية وإيقاعاً يحاكي بسخرية أجواء السلطة البطريركية المتعلقة بالفخفخة والأبهة. ويعمد السرد أيضاً إلى تكسير التوالي الزمني وتوظيف الاسترجاع والاستطراد، وإدماج حوارات السارد مع قرينه؛ وكلها سمات تبرز التعقيد الذي يطبع رجل السلطة، فلا يبدو مجرد شخص فاقد للشعور، متكالب وجشِع. على العكس، يبدو السارد طوال حياته موزعاً بين قيم الطهارة والنقاء وقيم الانتهاز والاستمتاع. وهو صراع يتكشف من خلال الحوار المستمر مع القرين.

على مستوى الدلالة، تقدم «يوم خذلتني الفراشات» نموذجاً لرجل السلطة والتحايل عليها في الأقطار العربية بعد الاستقلالات: هناك استخدام لكل الوسائل في سبيل حماية المصالح الخاصة ومصالح المجموعة المغتصبة للسلطة من طريق تزييف القيم والشعارات والاستناد إلى الدعم الخارجي المتواطئ مع الاستبداد.

من هذا المنظور، تكون الرواية تجسيداً للدولة المفرغة من روحها ورسالتها لأنها لا تمثل المجتمع المدني وتعوق إقرار الديموقراطية... لكن ميزة هذه الرواية هي أن الكاتب يتوسل بمحكيات وأحداث ملتصقة بنماذج بشرية تعيش التاريخ من زاوية تخصيصية، فلا نحس أنها أفكار مسقطة على الشخصيات. من هنا، جاز القول بأن «يوم خذلتني الفراشات» تقع على تخوم السياسة والتاريخ وسبر أغوار النفس البشرية. بعبارة ثانية، هي تمت بصلة إلى السياسة لأنها تقدم أنموذجاً للعبةِ الوصول إلى السلطة والتحايل للحفاظ عليها، كما هو الحال في البلدان العربية «المحصنة» ضد الديموقراطية؛ وهي تمت إلى التاريخ لأنها تؤرخ على طريقتها لهذه الفترة من حياة المجتمعات العربية. مِن ثم جاز القول إن «يوم خذلتني الفراشات» تضطلع بملء ذلك الصمت الذي يتحدث عنه المؤرخ الفرنسي الشهير ميشليه (1798-1874) عندما يقول: «علينا أن نحمِل صمت التاريخ على الكلام، أي تلك اللحظات المهولة التي يكف فيها عن القول، والتي هي بالضبط لحظاته الأكثر مأسوية».

على هذا النحو، تكون رواية «يوم خذلتني الفراشات» قد استأنفت الكلام من حيث صمت تاريخ الأنظمة الاستبدادية العربية، واستطاعت أن تقدم نوعاً من التفسير لتلك الظاهرة المأسوية التي عطلت مسار مجتمعاتنا وأسكنتها ظلمات ليل بهيم. من هنا ندرك لماذا لم تقتصر شخصيات الرواية وفضاءاتها على بلد عربي بِعينِه، وإنما اتجهت إلى نسج قماش سردي يوظف الخصائص الملتصقة بظاهرة الحكم الفردي المرتدي أقنعة مزيفة، مضللة، تنطبق على مجموع الأنظمة العربية. غير أن الرواية استطاعت أن تخرج من التجريد إلى التجسيد عبر تخصيص تجربة السارد الذي أصبح رئيس حكومة باستفادته من تلك الوصفة الجاهزة التي تكرست داخل أنظمة سياسية تلتقي، على رغم اختلاف التفاصيل، في إنتاج بنية لتوارث السلطة واستبعاد الشعب.

إن «يوم خذلتني الفراشات» رواية لافتة، وصاحبها زياد أحمد محافظة يمتلك قدرة على السرد والتعبير والمساءلة، وهي خصائص تجعلنا نتطلع بثقة إلى رواياته المقبلة.

 

عن صحيفة "الحياة"