ييقيم الكاتب التونسي نصه كدعوة لتأسيس خطاب نقد الثورة التونسيّة، وهو يتكئ على لغة تطال تخوم الأسى والغضب، وتحليل ما كان وما يمكن أن يكون من مصير لثورة الياسمين، بيد من ينهب القول السياسي، لصالح الجهات التي لم تكن مشاركة في البقاع والشوارع التونسية المنتفضة، ولكنها تسعى لقطف ثمارها.

الثورة والإيديولوجيا

نحو تأصيل خطاب نقديّ للثورة التونسيّة

مصطفى القلعي

هذا المقال دعوة لتأسيس خطاب نقد الثورة التونسيّة الذي تأخّر كثيرا والنخب عنه لاهية. وهو خطاب نطمح إلى أن يكون بعيدا عن لغة الاتّهام وليّ الذّراع واستعراض العضلات والمولاة العمياء والكره الأسود والشيطنة ولعب الأطفال والصبيانيّات السّائدة كلّها في المشهدين السياسيّ والإعلاميّ في تونس اليوم. وهي ليست من النّقد في شيء.

والإشكاليّة التي يطمح هذا المقال لمقاربتها هي إشكاليّة الثورة والإيديولوجيا. ولعلّ البحث في هذه المسألة يتطلّب مناقشة بعض المفاهيم المركزيّة كمفاهيم "الثورة" و"الفعل الثوريّ" و"المسار الثوريّ" و"الإصلاح" ونقد الثورة والثائرين(1) ووصف مسار الثورة قبل الانتخابات وبعدها ونقده. وهو ما سنحاول إثارته للنقاش على امتداد الأسطر القادمة. فلقد لاحظنا في الخطاب السياسيّ في تونس بعد الثورة التباسا بين ما هو ثوريّ وبين ما هو إصلاحيّ وبين ما هو انتقال ديمقراطيّ. وكثيرا ما يستعمل مصطلح الفعل الإصلاحيّ مرادفا للفعل الثوريّ. ومأتى الالتباس في نظري يعود إلى الإيديولوجيا.

الثورة والإيديولوجيا:
إنّ الثورة فعل مقدّس معناها قريب من معنى الطهارة في الأساطير والأديان. غير أنّها فعل اجتماعيّ وليست فعلا غيبيّا خارقا. وللثورة ظلال تلقيها على الفكر والدّين والاقتصاد والمجتمع. الفعل الثوريّ التطهيريّ لا يتمّ إلاّ بما يسمّى البناء الثوريّ. فالثورة فعل مثمر لا يتمّ بالتطهير وحده، وليست فعلا تخريبيّا وإن كان التخريب من هوامشها. غير أنّ ثمّة بخلا أو كسلا إيديولوجيّا متمثّلا في عجز البشريّة عن إنتاج إيديولوجيّات جديدة في هذا العصر الذي تلوّنه انتفاضات الشعوب العربيّة. وهو ما دفع شعوبنا إلى اجترار الإيديولوجيّات القديمة القائمة. لقد فضحت الثورة التونسيّة هذا الكسل الإيديولوجيّ. إنّ الثورة علامة على نشاط الشعوب وحراكها. والكسل الإيديولوجيّ علامة على تخاذل النّخب عن أداء دورها في التفكير.

منذ مساء 14 يناير/ جانفي أُدخِلت الثورة التونسيّة في ما يسمّى مرحلة البناء الثوريّ. وهي لحظة الوقوف أمام المنعطفات جميعها. وخلال هذه اللحظة وقفت الثورة التونسيّة وجها لوجه أمام الإيديولوجيا لتكتشف هذا الكسل الإيديولوجيّ الرّهيب الذي عليه الإنسانيّة. فقد كانت الثورات أهمّ منتِج للإيديولوجيا. وقد أضاعت الثورة التونسيّة هذه الميزة. فالثورة باعتبارها فعلا تطهيريّا تمتلك طاقة تدميريّة لأشكال النظام القائم ووجوهه ومؤسّساته. وبعد إنجاز فعل التطهير أو بدا لها أنّها أنجزته، هفت الثورة إلى فعل التأسيس فوجدت نفسها مهدّدة بالسّقوط في السلفيّة والقدامة.

ولابدّ من توضيح مفهومي السلفيّة والقدامة. فالسلفيّة مفهوم زمنيّ تاريخيّ. والقدامة مفهوم أقرب إلى النقد الأدبيّ والفنّي الجماليّ عموما. وهي تعني مظاهر التقليد في مستويات البنية والتركيب والتعبير التي تظهر في نصّ أدبيّ مّا أو في أثر فنيّ مّا. أمّا السلفيّة فمفهوم ألصق بالتصوّرات الذهنيّة الوجوديّة الفلسفيّة للزمان والتاريخ. وهي تعني محاولة إيقاف حركة التاريخ وسير الزّمان وإجبارهما (على افتراض أنّه يمكن ذلك) على التخلّف القهقرى لإعادة إنتاج نمط من الحياة الماضية في غير عصرها الذي نشأت فيه.

بمعنى آخر، السلفيّة عمليّة إحيائيّة بكلّ ما يتضمّنه مصطلح "الإحياء" من دلالة على الخوارق والمعجزات التي لا يمكن أن يأتيها البشر. فالخطاب السلفيّ خطاب طوباويّ رسوليّ يضمر أملا في إنجاز أعمال خارقة ليست ممّا يمكن أن يأتيه أهل هذا الخطاب. إنّ السلفيّة منهج عكسيّ في الحياة انقلابيّ على شروط العقل وعلى مقولات الزمان والتاريخ. فلا أمل لهذا المنهج في الحياة. ولعلّ السلفيّة من علامات الكسل الإيديولوجيّ. فهي دليل على نضوب الإبداع والانكفاء المطمئنّ إلى تقليد السّلف وتمجيده تقليدا وتمجيدا دراميّين يطمحان عبثا إلى إحيائه.

هذا الكسل الإيديولوجيّ نفسه هو ما منع من أن تكون السّلطة مطلبا ثوريّا عند الثائرين التونسيّين. أو لنقل بأكثر وضوح إنّ الوصول إلى السّلطة لم يكن مطلبا من مطالب الثورة. ولنا أن نراجع شعارات الثورة التونسيّة لنكتشف أنّها خالية من التعبير عن الطموح إلى الحكم. فقد كان مدارها على الحقّ في التشغيل وفي الكرامة والحريّة قبل أن تبلغ ذروتها في المطالبة بإسقاط النظام السياسيّ القائم.

لابدّ من التذكير بأنّ حكم الشعوب يكون غالبا باسم أحد مسمّيات أربعة ينضاف إليها مسمّى من عندنا؛ باسم مسمّى الهويّة (الإيديولوجيا القوميّة) أو الدّين (الإيديولوجيا الإسلاميّة) أو رأس المال (الإيديولوجيا الليبراليّة) أو البروليتاريا (الإيديولوجيا الماركسيّة الاشتراكيّة) أو لاشيء (الإيديولوجيا الدستوريّة). هذه العائلات الإيديولوجيّة الكبرى لها اليوم في تونس تفريعات كثيرة جدّا. فهي رغم ثرائها لم تنجح في إشعال الثورة ولا في قيادتها ولا في تأطيرها. وحين انفجرت الثورة التونسيّة كانت الإيديولوجيا الحاكمة المطلوب رأسها من قبل الثورة والثائرين هي الإيديولوجيا الدستوريّة. وكان مكانها مشتهى من قبل الإيديولوجيّات الأربع الأخريات المنافسة.

ولو جاز لنا تصنيف الإيديولوجيّات القائمة اليوم في السّاحتين السياسيّة والفكريّة في تونس لوجدناها أصنافا باختلاف المعايير.

بمعيار الثوريّة: هما صنفان إثنان. الأوّل يجمع الإيديولوجيّات الثوريّة: هي التي ولدت من رحم الثورات بشكل صريح كالإيديولوجيا الليبراليّة (نشأت بالثورة على الحكم الملكي للويس 16 بفرنسا والثورة على التبعيّة المذلّة للقصر الملكيّ البريطانيّ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة) والإيديولوجيا الاشتراكيّة (نشأت بالثورة على الحكم القيصريّ في روسيا). وهما إيديولوجيّتان متعارضتان بل عدوّتان. فالأولى بورجوازيّة والثانية عمّاليّة. والصنف الثاني يضمّ الإيديولوجيّات غير الثوريّة: وهي التي نشأت بفعل عوامل أخرى غير العامل الثوريّ كالإيديولوجيا الدينيّة والإيديولوجيا القوميّة الهوويّة والإيديولوجيا الدستوريّة في تونس. وتنشأ عن هذه الإيديولوجيّات أنظمة سياسيّة مختلفة برلمانيّة أو رئاسيّة أو ملكيّة أو سلطانيّة أو جمهوريّة. وتشترك جميعها في ممارسة الاستبداد خيارا في حكم الشعوب في السياق العربيّ.

بمعيار ممارسة الحكم أو الاستيلاء عليه: كلّ الإيديولوجيّات مورست السّلطة باسمها في أنظمة مختلفة من كليانيّة توتاليتاريّة (النظام الشيوعي الاشتراكيّ في الاتّحاد السوفييتي أو النظام القوميّ النّازي في ألمانيا) إلى ملكيّة أو جمهوريّة بالمعنى العربيّ خاصّة إلى ديمقراطية تعدّديّة (الولايات المتّحدة الأمريكيّة وفرنسا وسكاندينافيا وإنجلترا وغيرها).

بمعيار الاستمرار في الحكم والزوال عنه: صنفان: إيديولوجيّات زالت أو في طريقها إلى الزوال أو زال عنها الحكم: الإيديولوجيّات القوميّة والإيديولوجيا الدستوريّة (في تونس على الأقلّ)، وأخرى مازالت سائدة: الليبراليّة والاشتراكيّة والدينيّة(3).

بمعيار التفوّق الحضاريّ: صنفان: الأوّل: إيديولوجيّات متفوّقة حضاريّا أو أنتجت أنظمة وأمما متفوّقة: الليبراليّة والاشتراكيّة التي وإن لم تعد حاكمة في روسيا فقد خلّفت أمّة قويّة منافسة للغرب كلّه. والثاني: إيديولوجيّات تابعة حضاريّا: الإيديولوجيا الدينيّة والقوميّة (في البلاد العربيّة) والدستوريّة.

بالمعيار الزمنيّ: الإيديولوجيا الدينيّة أقدم من القوميّة أقدم من الليبراليّة أقدم من الاشتراكيّة أقدم من الدستوريّة.

وباعتماد هذا المعيار الزمنيّ تعدّ الإيديولوجيّات الموصوفة هنا سلفيّة جميعها، باعتبار أنّ لكلّ منها سلفا صالحا ترغب في إحيائه والاتّكاء على بركاته في بناء تونس الجديدة. فكيف لإحدى الإيديولوجيّات القديمة أن تبني مجتمعا ثوريّا جديدا؟ ألا يخلق ذلك خلطا منهجيّا في سير التّاريخ؟ أعني أنّ التاريخ لا يسير إلاّ إلى الأمام؛ فهل يبنى التاريخ بإيديولوجيّات رجعيّة تسبّب نكوص المجتمع إلى الوراء؟ أم هذا هو قدرنا نحن أبناء الشعوب المعاصرة إذ أغلق باب إبداع الإيديولوجيا كما أغلقت أبواب النبوّات والأديان؟

من هذا المدخل الإيديولوجيّ، هل يجوز لنا أن نعدّ وصول الإسلاميّين إلى السّلطة نكوصا للمشروع التحديثيّ العربيّ المتعثّر أصلا لأنّ المشروع الإسلاميّ مشروع سلفيّ رجعيّ من حيث الماهية فيما الثورة إنجاز تقدّميّ يهفو إلى التجاوز وبناء آفاق جديدة للحياة؟

2. نقد الثورة والثائرين:
ماذا لو استمرّت الثورة إلى ما بعد 14 يناير/ جانفي؟ ماذا لو لم يكتف الثائرون بشارع بورقيبة وتقدّموا نحو قصر قرطاج وأجّلوا الاحتفال قليلا؟ كانوا سيقبضون على الحاكم. وكانوا سيشرعون في إبداع إيديولوجيّتهم الخاصّة. إنّ حال الثورة التونسيّة مع الرئيس الهارب كحال من مات له ميّت ولم يدفنه. فالدّفن يطفئ الجراح. وحال الرّئيس الهارب كحال أبطال أفلام المافيا الذين يخفون طائرة الهيليكوبتار للحظات الأخيرة. وعندما يقتل الجميع بعضهم بعضا يدوّي صوتها قادما.

لقد أوقفت الثورة التونسيّة قبل أن تخلق إيديولوجيّتها الخاصّة كالليبراليّة التي ولدت من رحم الثورتين الأمريكيّة (1776) والفرنسيّة (1789) والاشتراكيّة سليلة الثورة البلشفيّة (1907). لقد أضاع الشعب التونسيّ فرصة تاريخيّة لإبداع إيديولوجيا جديدة شأنه شأن الشعوب التي ثارت قبله ضدّ حكّامها وليس ضدّ الغزاة والمحتلّين. ضياع هذه الفرصة هو ما أنعش الإيديولوجيّات القائمة والنّائمة في السّاحة السياسيّة التونسيّة باستثناء الإيديولوجيا الدستوريّة المطرودة، والتي سيكون لنا حولها حديث بعد حين. وطمعت جميعها في كرسيّ السّلطة. لقد توقّفت الثورة التونسيّة في الأمتار الأخيرة وشرعت في الاحتفال بالنّجاح قبل إنجاز مهمّتها التاريخيّة حتى لكأنّ همّها كان نفسيّا وليس اجتماعيّا. فبمجرّد الإعلان عن هروب الحاكم، انفرج الانقباض الثوريّ وتراخى الثائرون.

أين هم الثّائرون الآن؟ من أين جاءوا؟ وإلى أين ذهبوا؟ لماذا زهدوا في السّلطة إبّان الثورة وكانت في مرماهم؟ هل كانوا سيعتبرون ثائرين، لو فعلوا، أم انقلابيّين؟ هل كانت ستتحالف عليهم الهيئات العربيّة والدوليّة(4) لتطالبهم بالعودة إلى الشرعيّة وبإعادة الرّئيس إلى مكانه؟ ومن هم الثائرون؟ هل يمكن تحديد هويّاتهم أو انتماءاتهم؟ لماذا لم يتولّوا السّلطة؟ هل سيعتبرون ثائرين أم انقلابيّين؟ هل سيكونون شرعيّين؟ من هم اللاعبون الحاسمون في الثواني الأخيرة من الثورة التونسيّة؟ ما هو دور الحرس الرئاسيّ في توجيه مسار الثورة إلى ما آلت إليه؟ ماذا لو لم تتمّ دعوة الوزير الأوّل ثمّ رئيس مجلس النوّاب لتولّي منصب الرئاسة؟ ماذا لو رفضا؟ ماذا لو تولّى عسكريّ من القصر أو من خارجه السّلطة؟ لماذا لم يطمع العسكر في الحكم؟ هل كان يمكن للثورة التونسيّة أن تنحو نحوا آخر؟ أفضل أم أسوأ؟

لقد كان النقابيّون بمنطلقاتهم الإيديولوجيّة المختلفة وقود الثورة ولهبها. فأين هم ممّا يسمّى المسار الثوريّ؟ لماذا هذه الرغبة الجامحة في استفزازهم وإبعادهم عن مسار تحقيق أهداف الثورة من قبل حكومة قايد السبسي الانتقاليّة الماضية وحكومة الترويكا المؤقّتة القائمة؟

لقد كان الثائرون يفتقرون إلى مشروع مجتمعيّ بديل. بل إنّهم لم يفكّروا فيه أصلا، ولم يخطر لهم على بال لغياب الجانب الفكريّ التنظيريّ للثورة بسبب خمول النّخب. وحين توقّف الثائرون في شارع بورقيبة عصر 14 يناير/ جانفي 2011، منشغلين بالأفراح ثمّ متخبّطين في الفراغ، تحرّكت أجهزة أخرى لإيقاف المسار الثوريّ(2). وهو ما أعاد الرّوح في النظام المتهالك المتهاوي من خلال دعوة الرؤوس الثواني في النظام لإدارة شؤون البلاد والتفكير في مستقبلها السياسيّ والاجتماعيّ فيما سمّي "المرحلة الانتقاليّة".

لو أعدنا قراءة أحداث الثورة التونسيّة لقلنا: غضب الشعب من ظلم الحاكم، فتمرّد على النّظام. وخرجت الجموع إلى الشوارع وما عادت. في المقابل، قاوم النظام برأسه وأجهزته. ولكنّ الاحتجاجات لم تتوقّف. وحين اشتعلت في مربّع العاصمة، غلب الجبن الحاكم فغادر مغادرة فارهة وجيوبه ملأى  كزعماء المافيا في السينما الهوليوديّة. إذن، احتجّ النّاس غضبا فهرب الحاكم خوفا بعد أن خذله العسكر وكان قد أمعن في امتهانه.

الرّئيس الذي كان حاكما في تونس وشعبها وأرضها وسمائها وطيرها وشجرها وأنهارها ووديانها لم يكن إبّان الثورة يعير اهتماما للاحتجاجات الشعبيّة التي بدأت تشتعل غرب تونس. لقد كان حينها في رحلة تسوّق سياحيّة عائليّة في دبي من 24 إلى 30 ديسمبر سنة 2010، قبل تخلّيه عن السّلطة وهروبه إلى جدّة بأسبوعين فقط. وما كان عدد المحتجّين يتجاوز 5٪ من نسبة سكّان تونس في أحسن التقديرات. وقد ذهل الثائرون بهروب الحاكم الذي كانوا يرونه مستبدّا بسلطته قويّا بحزبه متجبّرا ببوليسه ومخابراته. وقد فاجأهم ضعفه وجبنه. فأطالوا النظر في ظلالهم غير مصدّقين ما هم عليه من قوّة. فترجّلوا.. وشرعوا في الاحتفال مبكّرا وقلوبهم ترتجف من المجهول.

هذه هي المعادلة مختزلة للتبسيط: احتجاجات شعبيّة في الشوارع هروب الحاكم خوفا = أين الثورة من السّلطة؟ ثمّة فراغ في كرسيّ الحكم بعد أن تركه صاحبه ولم تملأه الثورة. وهذا الفراغ لابدّ من ملئه. ههنا أضاع الشعب التونسيّ فرصة الإبداع الإيديولوجيّ. وترك ثورته هبة لغير الثائرين.

تبعا لما تقدّم، يمكن أن نقول إنّ المسار الذي سارت فيه الثورة التونسيّة وآلت إلى انتخاب المجلس التأسيسيّ وتكليف حكومة ائتلافيّة مؤقّتة وتنصيب رئيس مؤقّت للجمهوريّة ليس أكثر من احتمال من جملة احتمالات أخرى كانت ممكنة وتحتاج إلى قراءات استراتيجيّة.

3. وصف ما يسمّى مسار "الانتقال الديمقراطيّ" ونقده:

لم تكن الثورة تعدّ نفسها للحكم، كما لاحظنا. ولم تكن السّلطة من شعارات الثورة أصلا. وقد أحدث هذا فراغا فادحا في مشروع الثورة وفي خطابها قد لا يمكن سدّه. وقد اعتبرت الثورة نفسها ناجزة بنجاحها في إسقاط النظام. وبقيت السّلطة فارغة مشتهاة من قبل طلاّبها القدامى. وقد أتاحت لهم الثورة اشتهاءها بعد أن أنجز الشعب الغاضب ثورة لم ينهها.

قبل الانتخابات:
10 أشهر مضت على إيقاف الثورة، حتى تمّ إنجاز الانتخابات. ويمكن أن نختزل هذه الفترة بهذا التلخيص التجريديّ: تشكيل محمد الغنّوشي حكومتين مرتعبتين سرعان ما أسقطهما ثائرو القصبة 1 و2 استقالة الغنّوشي ودعوته إلى انتخاب مجلس تأسيسيّ في خطبة الاستقالة التي ألقاها على الصحفيّين تكليف الباجي قايد السّبسي بتشكيل حكومة انتقاليّة في منتصف آذار/ مارس 2011 بعث الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسيّ والانتقال الديمقراطيّ من رحم جبهة 14 جانفي تشكيل الهيئة المستقلّة للانتخابات من رحم الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة تناسل الأحزاب بصورة سورياليّة تأجيل موعد الانتخابات إلى 23 أكتوبر 2011 تولّي النوّاب المنتخبين الالتحاق بالمجلس التأسيسيّ بعد تأخير بما يناهز الشهرين ميلاد خطاب الشرعيّة الانتخابيّة والأغلبيّة وجماعة الصفر فاصل.

بقي لابدّ من طرح السّؤال التالي: أيّ دور لسدنة الإيديولوجيا الدستوريّة في رسم ما يسمّى مسار الانتقال الديمقراطيّ في تونس الثورة اليوم؟ لنتأمّل هذا الكلام: لقد دعا محمد الغنّوشي، وهو الوزير الأوّل في آخر حكومة قبل الثورة وأوّل حكومتين بعدها، إلى تشكيل مجلس تأسيسيّ. ثمّ تولّى الباجي قايد السّبسي، وهو وزير خارق للعادة في العهد البورقيبيّ وأوّل رئيس لمجلس النوّاب في العهد النوفمبريّ، تنفيذ ما دعا إليه محمد الغنّوشي. فهل سقطت فعلا الإيديولوجيا الدستوريّة بوجهيها البورقيبيّ والنوفمبريّ منذ 14 جانفي 2011؟ ألم تتولّ بنفسها رسم المسار الذي تعرفه الثورة التونسيّة اليوم؟ بعبارة أخرى؛ هل هذا المسار ثوريّ أم دستوريّ؟

كما لابدّ من التذكير قبلا بأنّ انتخاب مجلس تأسيسيّ هو مطلب يساريّ اقترحه حمّة الهمّامي وشكري بلعيد وفرضه ثائرو القصبة ودعا إليه محمد الغنّوشي ونفّذه الباجي قايد السبسي وفاز به حزب حركة النهضة بتشريع من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة وإشراف من الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات. وأين هم الثّائرون؟

ولا ننسى أنّ مبدأ التناصف بين الرّجال والنّساء في القوائم الانتخابيّة، أيضا، مطلب يساريّ علمانيّ فرضته الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة التي تشكّلت إبّان إسقاط حكومة الغنّوشي الثانية وتشكّل حكومة قايد السّبسي وفازت به حركة النهضة الإسلاميّة، أيضا. وقد دفعت نحوه الكتل اليساريّة والحداثيّة في الهيئة العليا. ويبدو أنّه كان موجّها لإحراج النهضة على افتراض أنّ قواعدها تفتقر إلى النّساء. وكانت حساباتهم كالعادة خاطئة. فقد نجحت حركة النّهضة بعد أن تحوّلت إلى حزب في اجتياز هذه العقبة بسهولة كبيرة. ولكم أن تلقوا نظرة على كتلة حزب حركة النهضة في المجلس التأسيسيّ الآن لتلاحظوهنّ جالسات صامتات هادئات وديعات مطمئنّات مطيعات مسالمات، في حدود المطلوب منهنّ بالضبط، في كثرة غالبة على رجال الكتلة لاسيما بعد أن دعي أغلبهم إلى مهامّ حكوميّة في صلب الدّولة.

هكذا صار المسرح السياسيّ التونسيّ بعد الثورة؛ الجميع يفكّرون ويخطّطون، النهضة تربح أخيرا. فلقد فكّروا لها وساعدوها في الوصول إلى السّلطة المشتهاة من حيث كانوا يريدون إسقاطها وإفشالها. هذا لا يعني أنّ حركة النّهضة كانت موعودة بالانتصار ربّانيّا. لا، كانت النّهضة تمارس التّكتيك السياسيّ. فكانت استراتيجيّتها تقوم على سحب البسط جميعها من تحت أقدام خصومها. فالحركة لم تقدّم أيّ مبادرة ولا أيّ مشروع مجتمعيّ في المشهد الإعلاميّ الرسميّ على الأقلّ. لم تهاجم أيّ تيّار. ولم تظهر عداءها للعلمانيّة ولا للحداثة. وإنّما كانت استراتيجيّتها ذات اتّجاهين:

الأوّل اجتماعيّ شعبيّ تعبويّ: استمالة النّاس بخطاب المخلّص المنتصر أخيرا الصّابر على الأذى والظلم، وها هو يُكرّم اليوم. وهو خطاب من كان دائما مؤمنا بأنّه على حقّ وجاء يوم تحقّق صدق إيمانه.

والثاني سياسيّ: ترصّد أخطاء الخصوم لتهويلها واستفظاعها وتخويف النّاس منها والظهور بمظهر المدافع عن الشعب الكريم وعن معتقداته.

بعد الانتخابات:

التلفيق الإيديولوجيّ هو ما تقترحه الإيديولوجيا الدينيّة الفائزة في الانتخابات التأسيسيّة في تونس أسوة بنظيرتها الخليجيّة. فهي تتبنّى الإيديولوجيا الليبراليّة في المستوى الاقتصاديّ، يعني اقتصاد السّوق والاستثمار الأجنبيّ وخوصصة القطاع العام وحريّة الملكيّة وتوسيع هوّة التفاوت الطبقيّ. غير أنّ هذا التلفيق لا يعني تحالفا بين حزب النهضة الإسلاميّ وبين حزب ليبراليّ آخر. فحليفاه ليسا من الليبراليّين؛ حزب المؤتمر حزب عروبيّ هوويّ وحزب التكتّل يسار وسط. وإنّما التلفيق يعني أنّ حزب النهضة اختار الإيديولوجيا الليبراليّة فرعا على مرجعه الدينيّ الأصليّ. وإذا كانت التسمية مفيدة، يمكن أن نسمّيه حزبا إسلاميّا ليبراليّا.

وطبعا، لهذا الخيار أسسه. وله تبعاته السياسيّة أيضا. فمن أسسه بناء حدّ أدنى من التواصل مع الأنظمة الليبراليّة الكبرى في العالم. وهو ما فعلته حركة النهضة التي ما انفكّت ترسل فيالق من كوادرها إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة بدءا بأمينها العام ورئيس الحكومة الآن. كما اختارت الحركة حلفاء الولايات المتّحدة لتراهن عليهم ماليّا نعني الأنظمة العربيّة الخليجيّة. وقد أرادت الحركة أن تبحث عن الضمان السياسيّ من خلال علاقتها بأمريكا والضمان الماليّ من خلال علاقتها بالدول النفطيّة.

ومن تبعات هذه السياسة الليبراليّة توتير العلاقة مع فرنسا الحليف الاقتصاديّ الأوّل لتونس. ولابدّ من الإشارة إلى أنّ مجرّد الاقتراب من أمريكا يستفزّ فرنسا بسبب التضارب في المصالح. ومن تبعاته، أيضا، مشاكسة روسيا والصين للأسباب الإيديولوجيّة التي نحن بصددها(5). وقد لاحظنا هذا الانفعال السياسيّ في الموقف من المسألة السوريّة.

على كلّ حال، لا يبدو أنّ حركة النهضة قد جنت جنيا وفيرا من خياراتها الليبراليّة ومن مراهناتها على الدّعم الأمريكيّ ورأس المال الخليجيّ. وهو ما كشفه رئيس الحكومة خلال تقديم الميزانيّة التكميليّة في المجلس التأسيسيّ. فقد بنت الحكومة المؤقّتة هذه الميزانيّة أغلبها على أموال المصادرة والمصالحة. واعترفت الحكومة بعسر تنقّل رأس المال إلى تونس. وهو ما يعني صراحة فشل الخيارات الليبراليّة للحكومة، وهي خيارات سطّرتها حركة النهضة باعتبارها الحزب الحاكم.

ولا نستطيع، في هذا السّياق، أن نمنع رغبتنا في محاولة تفكيك علاقة حزب النهضة الحاكم بتيّار العريضة الشعبيّة للحريّة والعدالة والتنمية لاسيما بعد مشاهد الخصام الاستعراضيّة في رحاب المجلس التأسيسيّ التي شاهدها النّاس مباشرة على شاشة التلفزيون التونسيّ. والمشاهد، وهو يشاهد حدّة انفعال نوّاب العريضة وصراخهم العالي وتمسّكهم بالحقوق والحريّات وإحراج الوزراء والمسؤولين وإغضاب رئيس المجلس يكاد، لاسيما إذا لم يكن سياسيّا أو قريبا من السياسة أو كان أجنبيّا، يجزم بأنّ أهل هذا التيّار ينتمون إلى اليسار الرّاديكالي لولا حرصهم على افتتاح تدخّلاتهم بالبسملة والحوقلة والأدعية.

كما لابدّ من الإشارة إلى أنّ تيّار العريضة هو من نسل الإيديولوجيا الدينيّة الإسلاميّة. وهو ابن ربيب لحركة النّهضة. فزعيمه الهاشمي الحامدي من أبناء الحركة وكوادرها الأوائل قبل أن ينشقّ عنها ويعلن موالاته للرئيس المخلوع ونظامه وتوبته عن تاريخه النهضويّ. والمتابع لتدخّلات نوّاب العريضة في المجلس التأسيسيّ يلاحظ حرصهم على إظهار انتمائهم الدينيّ باعتباره جامعهم الأوّل والرئيسيّ في التيّار وفي المجلس التأسيسيّ.

هذا يعني أنّ الخلاف بين حركة النهضة وبين تيّار العريضة ليس خلافا إيديولوجيّا. وإنّما هو خلاف سياسيّ بين أمّ منفعلة مستاءة من ذهاب تربيتها سدى وبين ابن عاقّ مازال يرفض العودة إلى بيت الطّاعة مجّانا. ويبدو أنّ شخصيّة رئيس التيّار المتّسمة بالشعور بالعلوّ والخيلاء لا تلين بيسر. كما يبدو أنّها شخصيّة حذرة كثيرة الظنّ بغيرها. وهو ما جعلها غير مطمئنّة لوعود الأمّ بالغفران. وقد تأكّدت ظنونه بعد التحالف الذي عقدته النّهضة مع حزبين بعيدين إيديولوجيّا عنها، واتّخذتهما رفيقين دونه لاسيما أنّه كان يعدّ نفسه لمنصب الرّئاسة بصلاحيّات ملك. ولم يكن مبديا أيّ نوع من التنازل ولا من التواضع.

ولذلك يدفع الحامدي نوّابه إلى تصعيد العلاقة مع النهضة الأمّ باستمرار لتعكير هنائها بكراسي السّلطة عليها وعلى من اتّخذتهما حليفين دون ابنها الرّبيب العاقّ. ويبدو أنّ النّهضة أقرّت بأنّ إزعاج الابن الرّبيب قدر لا مهرب منه. ولذلك اختارت أن تقلّص مداه بأن يكون ملعبه قبّة المجلس للإشهاد عليه وعلى عقوقه على أن يكون مكاتب الحكومة. ولذلك لم تُدعَ العريضة للمشاركة في الحكومة. ولم تستشر في تشكيلها. بل لا يتمّ الاستئناس بها في شيء رغم ثقل مكانتها من حيث نسبة التمثيل في المجلس. وهو ما أصابها بهيجان وغضب لم ينطفئا.

فالحكاية كلّها أنّ تيّار العريضة لم يعامل قياسا إلى حجمه. ويبدو أنّه وقع اتّفاق بشأن إقصائه من كلّ أشكال العمل الحكوميّ والسياسيّ خارج قبّة المجلس. أمّا رئيسه وباعثه والعقل المدبّر له فقد سُحب البساط من تحت قدميه من قبل الأمّ المدبّرة رغم الكسب المفاجئ الذي حقّقه في الانتخابات التأسيسيّة. وبقي الحال على ما هو عليه. ولا أحد تزحزح عن موقفه. ولم يبق للعريضة من سلاح سوى الصّراخ النيابيّ تحت قبّة المجلس للفت الانتباه الإعلاميّ والتمهيد للانتخابات القادمة. أمّا الإيديولوجيا فبريئة من هذا الصراع التربويّ بين النهضة الأمّ وربيبها تيّار العريضة الشعبيّة.

ولابدّ من كلمة أخرى في حقّ الحكّام القدامى سليلي ما اصطلحنا عليه بالإيديولوجيا الدستوريّة. إنّنا نراهم يجمعون شتاتهم ويقفزون على التّاريخ قفزة طويلة إلى الوراء سعيا إلى ردم الهوّة النوفمبريّة وتبييض سوادها بنصاعة ما يسمّونه "الفكر البورقيبي". ولا أدري عن أيّ فكر يتحدّثون إلاّ إذا كان مفهوم الفكر عندهم هو ما يخلو من المفكّرين وكان المفكّرون (إن وجدوا) بلا أفكار ولا كتب ولا مؤلّفات. إنّ هذا المشروع تراجيديّ فيه مغالبة خاسرة للزمان. فهو مشروع ولد ميّتا. إنّه بحث عن مكان تحت الشّمس بأدوات قاصرة.

أمّا اليسار فقد هفا إلى السّلطة. وكان قريبا منها كغيره من الأطراف المتنافسة. وقد ساد المشهد بعد سقوط رأس النظام النوفمبريّ، بل ابتلعه. توزّع اليساريّون على الشاشات يتكلّمون ويحلّلون وينظّرون فيما تناسوا القرى والأزقّة والبوادي والحارات وتركوها لخصومهم الصّامتين إعلاميّا. فهزمهم الجميع حتى من باع الأوهام المضحكة. أنا حزين على رفاقي اليساريّين الصّادقين!!

أفضّل استعمال مصطلح الثّائرين على مصطلح الثوّار في مقام الثورة التونسيّة لتمييز من ثار بالسّلاح على من ثار بدونه وهو شأن الثائرين التونسيّين الذي كان سلاحهم الاحتجاج والعصيان وافتكاك الشوارع والإقامة فيها.

قد لا تكون هذه نيّتها وقصدها ولكن هذا وصف ما فعلته.

في الخليج العربيّ، مثلا، بنوع من التلفيق الإيديولوجيّ، وهو خيار حزب حركة النهضة الحاكم في تونس اليوم، وسيأتي الحديث عنه لاحقا.

أقصد جامعة الدول العربيّة والأمم المتّحدة والاتّحاد الإفريقيّ ومنظّمة المؤتمر الإسلاميّ خاصّة وهي الهيئات الأحرص على ما يسمّى الشرعيّة.

هذا إضافة إلى أنّهما نظامان ملحدان!!

 

كاتب من تونس

mustapha.kalii@yahoo.fr

الهوامش

(1)                 أفضّل استعمال مصطلح الثّائرين على مصطلح الثوّار في مقام الثورة التونسيّة لتمييز من ثار بالسّلاح على من ثار بدونه وهو شأن الثائرين التونسيّين الذي كان سلاحهم الاحتجاج والعصيان وافتكاك الشوارع والإقامة فيها.

(2)                 قد لا تكون هذه نيّتها وقصدها ولكن هذا وصف ما فعلته.

(3)                 في الخليج العربيّ، مثلا، بنوع من التلفيق الإيديولوجيّ، وهو خيار حزب حركة النهضة الحاكم في تونس اليوم، وسيأتي الحديث عنه لاحقا.

(4)                 أقصد جامعة الدول العربيّة والأمم المتّحدة والاتّحاد الإفريقيّ ومنظّمة المؤتمر الإسلاميّ خاصّة وهي الهيئات الأحرص على ما يسمّى الشرعيّة.

(5)                 هذا إضافة إلى أنّهما نظامان ملحدان!!