في سياق متابعته لأحدث الإصدارات الروائية العربية، واستشرافها للثورات العربية، يتناول الناقد المصري الرواية الليبية الجديدة التي نشرتها (الكلمة) قبل شهرين، ويكشف فيها عن قدرتها على استشراف الثورة من ناحية، والانفتاح على الواقع العربي الأوسع من ناحية أخرى، في عمل يتواصل فيه الجدل بين الخيال والواقع.

في زمن الكبت والإظلام .. تتشكل «وزارة الأحلام»

شوقي عبدالحميد يحيى

قد يتجمع الخطب في مكان ما، غير أن عودا من الثقاب هو الذي يشعله. وقد تتراكم الأحداث والمآسي والمظالم، غير أن حادثة هي التي تشعل ثورة الغضب. فثورات الغضب العربي لم تندلع من حادثة فردية، وإنما من تباعد وتوالي الانتهاكات الإنسانية التي ظلت تتراكم عبر سنوات طوال، غير أن حادثة أو واقعة ما، هي التي كانت بمثابة عود الثقاب الذي أشعل النيران.

ففي تونس التي شهدت أول انطلاقة للثورات العربية، كان إنتحار الشاب "بو عزيزي" بإشعال النيران في نفسه يأسا واحتجاجا علي معاملات الشرطة، كان هو عود الثقاب. وكانت الهبة الثانية لموجات التحرر العربي في مصر عندما أرادت الدولة بأعلي سلطاتها تستعد للاحتفال بعيد الشرطة التي عذبت وقتلت الشاب خالد سعيد علي مرأي ومسمع من في شوارع الإسكندرية. وفي ليبيا رغم أن الحادثة وقعت في 29/6/1996 ، إلا أن السلطات القمعية الليبيبة استطاعت التكتم عليها حتي بدأت رائحتها تتصاعد في العام 2009 . حيث في التاريخ المذكور (29/6/1996) أجهزت قوات الأمن الليبية علي نحو 1200 معتقل [معظمهم من سجناء الرأي في «سجن أبو سليم» الواقع في ضواحي العاصمة طرابلس، وأطلقت النار على السجناء بدعوى تمردهم داخل السجن الذي يعد الأكثر تحصينا وحراسة في ليبيا ثم قامت تلك القوات بدفن الجثث في باحة السجن وفي مقابر جماعية متفرقة في ضواحي طرابلس]. وينتمي أغلب السجناء القتلى إلى جماعات إسلامية متعددة المشارب والاتجاهات، ورغم أن غالبيتهم ليبيون، فإن من بينهم فلسطينيين وعربا آخرين. و طالب أهالي الضحايا ومنظمات حقوق الإنسان طيلة سنوات بالكشف عن مصير السجناء، إلا أن نظام معمر القذافي بقي يتكتم على الجريمة وينكر حدوثها ويمنع أي حديث عنها، حتى العام 2009م عندما بدأ بإبلاغ أهالي القتلى نبأ وفاة أبنائهم.

وخلال عامي 2009 و2010م صعّد أهالي الضحايا والمفقودين من تحركاتهم ووقفاتهم الاحتجاجية للمطالبة بمعرفة مصير جميع المعتقلين، والكشف عن أسباب الوفاة عبر تشريح الجثث، وفتح تحقيق يحدد المسؤوليات. وعلي الرغم من أنه في العامين 2009 ، 2010  لم تكن الثورة الليبية قد اندلعت بعد وهي الفترة التي كتب فيها الكاتب الليبي محمد الأصفر روايته (وزارة الأحلام)(1)، إلا أن حدسه الإبداعي تنبأ أن تكون هذه الواقعة هي المحرك أو عود الثقاب المشعل للثورة الليبية التي اندلعت منتصف فبراير 2011 ، وجعلها بؤرة الحدث الرئيس في الرواية التي أقامت الثورة الليبية في الخيال قبل أن تقوم علي أرض الواقع، لتنضاف إلي عديد الروايات التي استشعرت الثورة قبل قيامها مثل "أجنحة الفراشة" لمحمد سلماوي، و"أسد قصر النيل" لزين عبد الهادي في مصر.

وارتكزت الرواية علي واقعة خيالية تخيلية مفادها أن خبرا تسرب إلي الجهات الأمنية بأن أحد المواطنين جاءه في الحلم من يطلب منه القيام بعمل ما يشبه الثورة علي النظام القائم في البلاد، فتم القبض عليه، وأودع السجن بضع سنين، ثم طلب منه الإدلاء بأوصاف من أوعزوا إليه بذلك – في الحلم- غير أنه رفض أن يدلي بأية أوصاف. طلب منه بأوصاف أي اثنين، يكون بينه وبينهما عداوة أو أي خلاف، فيرفض أن يزج بأبرياء إلي السجن ظلما. وبعد أن يخرج من السجن، يظل سنينا لا يتحدث عما لاقاه داخل السجن من صنوف التعذيب، فيكون هذا أحد مسوغات التعيين له كأول وزير للأحلام عندما تقرر السلطات إنشاء وزارة للأحلام، يستطيعون من خلالها الوقوف علي ما تهجس به أفئدة العباد، ليكشف الكاتب بذلك عن الأسلوب العربي في اختيار المسؤولين، فالصمت والولاء، هو الشرط الأساسي في الاختيار. وتؤكد الرواية في عديد المواضع أن الثورة، والتغيير، ما هو إلا حلم. وإذا ما اتحدت وتوحدت أحلام الناس، فإنها الثورة لا مفر. إلي أن تشن الأحلام نفسها هبات متتالية في السماء الليبية، باتحاد بين أحلام الليبيين الأحياء وأحلام الموتى، المتمثلة في أحلام أولائك الذين تم الإجهاز عليهم في مجزرة سجن بو سليم، وليذكرنا بالجنود الخمسة الذين قتلوا في الحرب، ورفضوا الدفن في "ثورة الموتي" لـ أروين شو (عام 1935) . وتتعدد الهجمات علي فترات متباعدة في ذكاء من الكاتب للتأكيد والإيحاء بأن الثورة قادمة. ولو أنه جعل إحدي هذه الهجمات تنجح (كما فعل محمد سلماوي في أجنحة الفراشة) لخرج بها عن الصورة التي توحي بقدوم الثورة، ولسقطت في الشكل التقليدي للرواية، وهو ما حرص محمد الأصفر علي أن يخرج منه، بادعائه إنشاء نوع أدبي جديد –وهو ما سنعود إليه لاحقا- فضلا عن أن الثورة لم تكن قامت علي أرض الواقع، حتي يمكن أن تدخل في نطاق التسجيل الذي اعتمد عليه الكاتب في تقنية الرواية.

ولكي تخرج الرواية أيضا عن الحدود الضيقة لليبيا، وحرص الكاتب علي انفتاحها علي الإنسانية، لم يقتصر علي ذكر المجزرة –مجزرة بوسليم- واكتفي، وإنما حرص علي تحديد هوية من أجهزت عليهم السلطات فيها، فكان من بينهم من ليسوا بليبيين، بل إن الليبيين فيهم لم يكونوا ممن يتشيع لهم الكاتب، بل ممن يري في وصولهم للحكم خطرا أكثر فداحة علي ليبيا، وهم أصحاب الإسلام السياسي – وهو ما تأكد في البلدان العربية التي خطت خطوات فيما بعد ثورتها، مثل تونس ومصر، حيث تسيد الإسلام السياسي المشهد، وعلي الرغم من أن ليبيا كانت الأقل في مثل هذه السيطرة – في رؤية استباقية لما أصبح واقع حقيقي، نراه يتحدث عنهم. «الناس التي قتلت في سجن أبي سليم عددها رهيب، أكثر من 1200 إنسان، لكن دعونا نطرح سؤالا: هل كل أولئك الناس أبرياء وسجنوا ظلما؟
أليس من بينهم مجرمين أباحوا دماء الناس ونفذوا الاغتيالات ومارسوا النهب والحرابة وقطع الطريق؟
أليس بينهم أناس قتلت أناسا آخرين بسبب قناعات دينية خاصة بهم وحدهم
.
ولنطرح سؤالا آخر
:
منذ متى الدين الإسلامي يبيح قتل المسلم لأخيه المسلم؟
بل منذ متى الدين الإسلامي يبيح قتل الإنسان لأخيه الإنسان؟
ومن الذي يمتلك الحق في اعتبار أن هذا الشخص مسلم والآخر كافر أو مرتد؟
أي شيخ هذا. ومن خوله بتمييز الناس بين كافر ومسلم؟ ماذا لو انتصر التيار الديني؟ كيف سيكون الوضع؟ هل سيحل السلام؟ هل لن تتحول ليبيا إلى كتلة من الرماد؟ سيتم هدر وحرق البترول. سيتم تجفيف الماء. سيتم ضياع كل شيء. سيموت بدلا من 1200 وقليل مليون أو مليونان من الشعب. تأملوا العراق .. تأملوا أفغانستان .. تأملوا الصومال .. تأملوا الجزائر التي لو لم يتم تدارك الأمور فيها سريعا لضاعت وتفتت. ولتم سرقة دماء أكثر من مليون شهيد بصورة وقحة.أو لنقل بأن هذا ماسيدافع به القاتل عن نفسه سيقول بأننى كنت أحمى الجماهير من احتراقها بالإسلاميين
.»
[ولنكن بعد التوقيع وانتهاء المشاكل شعبا واحدا قويا متماسكا يقف بقوة في وجه المؤامرات الإمبريالية وفي وجه الفاشيين والدكتاتوريين ودعاة الإصلاح المزيفين وراكبي موجة الدين من إخوان مسلمين وجماعات أخرى متطرفة أو متقية بالاعتدال والذين يحاولون جاهدين سرقة أحلامنا وأمانينا في وضح النهار
.]
ورغم هذا الخلاف الحاد في الرؤية بين الكاتب وبين الضحايا، فإن هذا لم يمنع أن يدافع عنهم، من منطلق الإنسانية، ومن منطلق الحرية المنشودة، ومن منطلق الديمقراطية المبتغاه
.

التقنية الروائية:
اعتمدت الرواية العربية عامة والمصرية خاصة في فترة ستينيات القرن الماضي علي استخدام الرمز، أو التاريخ، للهروب من قبضة الرقيب الأمني الذي يحاصر ويتابع الإبداع الرافض للنظم في تلك الفترة. غير أن الرواية الآن وقد غاصت في تفاصيل الواقع، ولم يعد القارئ اليوم هو المسترخي والمستنيم المستسلم لخيالات المبدع يحلق به في آفاق وتهاويم الخيال، فقد آثر محمد الأصفر ألا يحرم القارئ من متعة الخيال، وفي ذات الوقت يواكب شكل الرواية الحديثة، فنجد فيها الخيال المتمثل في إنشاء وزارة للأحلام، وثورة الأحلام ذاتها، فضلا عن تصور الرجوع بالعمر، لنفسه ولزوجته الملهمة إلي سن الطفولة التي يرتع فيها الحلم، ويكون له دور فعال في حياة الطفولة البريئة المتجردة عن تفاصيل الواقع ومراراته، فتظل الزوجة في صورتها الطفلية في الخلفية دائما، كمحرك وملهم للإبداع وللثورة. وفي ذات الوقت يسعي لعملية التسجيل الواقعي للعديد من المواقف والمشاهد. فنراه وصاحبة الصورة – زوجته – الحقيقية – آمال الكاتبة والشاعرة والتشكيلية، مستخدما تواريح وأماكن حقيقية، وجهات نشر مثل (أخبار الأدب) و(موقع القصة العربية) وغيرها من الجهات التي تعاملت معها - وكأنه يساعد القارئ علي فهم كتابته هو، حيث يتحدث عن إبداعها: «في قصصها لا يمكنك أن تقبض على الحكاية .. فالحكاية متوزعة هنا وهناك .. وعليك أن تلتقط هذه الشتائت وتجمعها في فسيفساء ملائمة تمنحك بعض المتعة والمعنى والاقتناع.»

فما قدمناه حول مسيرة الأحلام التخيلية بذره الكاتب عبر الصفحات التي حاول من خلالها تكثيف الإحساس بالدولة البوليسية القمعية «كل المشاكل التي تعانيها الدولة الآن وستستمر معاناتها ربما إلى قرون قادمة تسبب فيها رجال البوليس والمخابرات» الأمر الذي زاد الإحساس بالقهر والكبت الذي حول الأنسان الليبي (والعربي عامة) إلي الدابة المشدودة بالشكيمة، حتي تحول الكاتب نفسه في مرحلة من العمل – كليبي- إلي حصان أو حمار منقاد بشكيمة «تقول لي الطفلة أشطب المقطع السابق وتجذب الشكيمة بعنف كي امتثل، أحتمل ألم الجذبة الفجائية ولا امتثل، أحاول أن أزيل الشكيمة من فمي .. لكن ما إن أمسها حتى أشعر بصعق الكهرباء.» وكلما زاد الضغط، وصل شد الشكيمة حد الإيلام، أصبح الحلم الذي لا تستطيع السلطات – في الواقع – أن تقبض عليه، وعندما تتوحد الأحلام ، ويصبح الحلم جماعيا، كلما كان ذلك إيذانا بانفجار الثورة  «إن حلمت الناس حلما واحدا، فمعنى ذلك ثورة وشيكة ناجحة ستنفجر». وهكذا استطاع محمد الأصفر أن يجعل من القصة الخيالية عن الحلم، إنذارا وحدسا استباقيا للثورة الليبية، مازجا بين الحلم الذي أراد أن يهرب به من جبروت وسطوة الواقع، مضافا إلي نماذج الهروب الأخري والمتمثلة في:

1. النفي المؤكد للإيجاب: «لا تفهموا من ذلك أني أعني النظام الجماهيري الليبي العالمي والمؤتمرات الشعبية، ولجان الصياغة التي تصيغ قرارات الجماهير لتلخصها وتحولها إلى توصيات تشتمل كل الآراء، ولا تفهموا أن حكاية الحزب الواحد هي حزب شمولي، وطني، شيوعي، قومي، ديني، الخ، كل الحكاية وكل الأمر لا علاقة له بالسياسة، كله متعلق بموضوع الأحلام، كله متعلق بالميتافيزيقا».

2. توسيع دائرة الحديث: وكأنه يتحدث عن قضايا إنسانية عامة، لا قضايا محلية ليبية: «الشكيمة - عليها اللعنة - محروسة بشكاكيم أخرى.. كل كائن في خطمه شكيمة يتحكم فيها آخر.. قطار متصل من الشكاكيم.. اختلطت الشكاكيم في بعضها البعض.. لم نعد نعرف من هو المسيطر على أم الشكاكيم أو أصلها.. من هو الممسك بالشكيمة النواة.. وحتى إن عرفناه كيف سنعرف أنه هو ذاته ليس في فم إرادته شكيمة».

3. إدخال التجارب الشخصية في متن الرواية: وكأنها سيرة ذاتية. كالحديث عن الزوجة الحقيقية وتجربتها الإبداعية، وتجاربه مع النقاد وما يقولونه عنه، ورحلاته في العديد من البلاد رغم رؤيته لها: «بجولتي في المسجد الأموي وذكري لرأس يحي والحسين ومسجد أبي الدرداء والحديقة النباتية البيئية بدمشق، حديقة الحياة والطراوة والعطر، لم أشعر أني خرجت عن مونولوج الرواية العام وموضوعها مازلت في موضوع المذابح والحياة والموت وزرع أزهار العدالة في رؤوس الطغاة على الرغم من ضعف خصوبتها». وإذا كان القارئ المتفحص قد يستطيع بذلك خلق مقابلة بين الدول والأماكن لزيادة الإحساس بالمرارة والمعاناة التي يعانيها ويعانيها الشعب في بلدته ليبيا، إلا أنني – كقارئ – لم أستطع أن أجد مبررا لما ساقه في نهاية العمل من قصائد لشعراء فعليين – لا متخيلين – (الشاعر الليبي عبدالسلام العجيلي) ومقاله النقدي عن {كتاب شعر استعرته من مكتبة الكاتب الليبي أحمد الفيتوري، مؤلفه الشاعر خالد مطاوع}. إلا أنه رغم هذه التهويمات والخدع لم يتورع عن الوصول إلي ما يقرب من المباشرة في الإعلان عن نيته الحقيقية في الكتابة عن هموم وطنه في مثل «سأقول للنقاد، أتقبل النقد بصدر رحب، وذات مرّة سوف أكتب للنقد جيدا، خاصة إن امتزج النقد بهموم الناس، لكن الآن خليها تنمرشكم، لن أفعلها، لن أكتب جيدا، أنا أبكي الآن، بلادي الآن ليست جيدة، ليست جيدة بالمرّة، إذن أنا لن أكتب جيدا، علي الطلاق بالثلاثة لن أكتب جيدا الآن، فالكاتب بلاد .. بلااااااااااددددد، ب لــــ ااااااا ددددددد».
وكذلك حين ينهي الرواية بهذه الكلمات: «سألتني طفلتي العميقة على حائط صفحتي في الفيس بوك  هل أعجبك الوضع الراهن لليبيا أم لا؟
بسرعة ضغطت بسبابتي وكأنني أبصم على زر أعجبني.» حيث السؤال هنا، سؤال استنكاري، وكأنها تعرب عن عدم رضاها بالوضع الراهن في ليبيا. وباقتناع تام وتصديق علي عدم الرضي بالوضع الراهن في ليبيا.ولتنسحب الخاتمة علي كل ما سبقها طوال صفحات الرواية، وكأنها ما كان يسمي في القصة القصيرة ب(لحظة التنوير).

نسيج الخيال بخيوط الواقع:

كما سبق أن ذكرنا من أن محمد الأصفر أراد ألا يحرم قارئه متعة التحليق مع الخيال، ولم يشأ في ذات الوقت ألا يكون بعيدا عن الرواية الآن، تناول خيوط الواقع المعاش في ليبيا، ونسج منه رواية نجحت في تحويل الواقع المعاش بمعاناته ومراراته، إلي واقع روائي يحفل بالمتعة والثورة في ذات الآن. فنجد الشخصيات الحقيقية تتحول إلي شخوص روائية وشخوص روائية وقد تحولت إلي شخصيات حقيقية. فالزوجة الحقيقية المبدعة، تحولت في الرواية إلي الضمير المستتر في الخلفية، إلي صورة علي سطح الكومبيوتر تقف له بالمرصاد كلما فتحه، وتخرج من حلتها الصورية إلي ضمير حاضر غائب يحاسبه كلما خرج عن النص، وتساعده في إتمام عملية الإبداع. والنقاد الحقيقيون وما يوجهونه له حول أعماله السابقة، وما يتوقعه منهم حول روايته الجديدة، هم أيضا يتحولون إلي شخوص روائية يتكئ عليها ليحدد اتجاهه في الكتابة المطابق للواقع المعاش علي أرض ليبيا، وهو الرافض له، وكأنه يصنع من أؤلائك النقاد رمز للسطلة المرفوضة، والتي يعلن العصيان عليها ورفضها.

كذلك الشخوص الروائية المتخيلة، تخرج من داخل الصفحات لتحاوره، وتعلن رفضها لتجاهله لها علي مدار بعض الصفحات. حتي نري الرواية ذاتها، تحاور الكاتب لتعلن أيضا ثورتها علي الواقع الحي المتمثل في شخص الكاتب، وفي الرؤية التقليدية للرواي «أنا لست سطورا على ورق، أنا حرية، أنا أكثر من ذلك بكثير، أرى أكثر مما ترى أنت يا مؤلفي أو خالقي، جميل أنك لم تشطب مني شيئا أثناء تخلقي، وحتى وإنْ شطبت شيئا فلا تفرح بالشطب أيها الرائع، فلدي آلية سرية تمكني من إعادته وقت قراءة القارئ لي، لقد حجمتني أيها الوغد، حيث جعلتني مربوعة، دائرة ضيقة مفتاحها لديك».

ويصل الكاتب إلي قمة التزاوج بين الواقع والخيال، عندما يجمع الزوجتين معا، الزوجة الحقيقية والزوجة الخليجية المتخيلة الحامل منه. وكأن هذا الجنين القادم هو ثمرة الحلم، ثمرة الخيال، أو الأمل فيما سيأتي بعد تحول الحلم إلي حقيقة، والخيال إلي واقع، حيث نجد الزوجة الحقيقية تقول لتلك الخيالية «المجنون زوجنا غائب منذ زمن، ربما هو في العاصمة الآن، حيث الجبهة الرئيسية للحرب، هو يقاتل إلى صف جيش الأحلام، يختبئ في مكان ما، وربما يكون خارج البلاد، ويرسل أحلامه تقاتل مع أحلام السماء الباحثة عن قبور الضحايا أو حفرتهم الجماعية» فالزوج  الكاتب يقاتل إلي صف جيش الأحلام، أحلام الشعب، وأحلام الرواية. وهكذا يتقابل الخيال مع الواقع ليقدم عملا روائيا مشحونا بالتأويلات، ومشحونا بالأحلام، ومشحونا بآلام، ليس الشعب الليبي وحده، وإنما آلام الشعوب العربية التي عرفت مؤخرا كيف تثور علي القهر والكبت والظلم، وعلي التحنيط. ولتؤكد مجددا أن العمل الروائي الجيد، يكون به من الشفافية ما يستطيع به أن يستقرا الغد من خلال حياة اليوم.

 

shyehia@yahoo.com

 

هوامش:

1 - محمد الأصفر – وزارة الأحلام – مجلة الكلمة – عدد (63) يوليو 2012 .[1]