تنشر (الكلمة) هنا نص الشهادة التي أدلى بها الكاتب المسرحي المغربي المرموق في سوق عكاظ بالجزيرة العربية، في دورته السادسة في الشهر الماضي، ضمن ندوة تجارب الكتاب، ويكشف فيها عن علاقته مع الكتابة المسرحية باعتبارها تجربة حياة، وتجربة أبداع معا، يتضافر فيها العنصران: الحياة ومفاهيم الكتابة المسرحية.

تجربة حياة وحياة تجربة

عبد الكريم برشيد

أنا الذي رأيت

(هو الذي رأى كل شيء)
هكذا تحدث الراوي عن غلغامش في ملحمته السومرية القديمة.
نعم، هو الذي رأى كل شيء، لأنه بطل ملحمي عاش في الزمن الملحمي، أما أنا، ولأنني من زمن الناس البسطاء وليس من زمن الأبطال ولا من زمن أنصاف الآلهة، فما رأيت ـ في كل مسيرتي العمرية والإبداعية ـ إلا بعض الأشياء القليلة جدا، ولهذا فقد اخترت أن أعطي هذا المداخلة عنوانا فرعيا هو: (أنا الذي رأيت). واعتذر لكم عن استخدام كلمة أنا، لأنني لا أعرف أن أتحدث عن أي أحد كما أتحدث عن نفسي وعن تجربتي، وإنني أعتبر أن ما رأيته من مشاهدات، وأن ما عشته من حالات، كان كافيا من أجل أن أؤسس تجربة وجودية جديدة، وأن أبني منظومة فكرية إضافية، وأن أصنع عالما جديدا من الصور الحية والمتحركة، ومن الشخصيات المتدفقة خيالا واحتفالا، وأن أقول لكل الناس ـ هنا وهناك وفي كل مكان وزمان ـ هذا هو مسرحي، والذي هو شهادة شاهد منكم ـ وعليكم ـ
كل شيء يبدأ إذن من عين استثنائية، عين رأت ما رأت، ومن أذن مرهفة سمعت ما سمعت، ومن قلب كبير وعى ما وعى، ومن يد ساحر كتبت ما كتبت، ومن ذاكرة حية سجلت ما سجلت، وأيضا، من نفس إنسانية رقيقة وشفافة، نفس استغربت أمام كل غريب، واندهشت أمام كل مدهش، ولقد تساءلت أمام كل الناس وأمام كل الأشياء، وكل شيء يبدأ أيضا، من روح تفاعلت مع الأرواح الأخرى، وانفعلت أمام الأيام والليالي التي مضت، ولكن، بعد أن حفرت في النفس مجرى عميقا، وبعد أن أصبحت وشما على جسد الحقيقة والتاريخ.
كل شيء إذن، يبدأ من شهادة شاهد صادق من الناس، شاهد رأى كل شيء ـ تقريبا ـ وأراد أن يقتسم مشاهداته مع كل الناس، لأن ما رآه من صور، ولأن ما شاهده من مشاهد، كان أكبر وأخطر من أن تسعه نفس واحد من الناس.
 أما صديقي جحا فقد قال في ذلك الاحتفال المسرحي الذي يحمل اسم (جحا في الرحى):
«أنا الذي رأيت..
وحدي الذي رأيت..
رأيت الحمق سيد الأخلاق في زمن بلا أخلاق فتحامقت»1
هو الذي قال هذا ولست أنا، وهو الذي تحامق في زمنه الحمق والجنون ولست أنا، ومن حسن حظي، أنني أقرأ السطور وما بينها، وإنني أرى الأشياء وما خلفها، ولذلك فلقد رأيت في الشيء ضده ومضاعفه، ولم أره وحده، وبضدها (تكتمل) صورة كل شيء، لقد رأيت العقل والعقلاء، ورأيت الجنون والمجانين، ورأيت الخير والأخيار، ورأيت الشر والأشرار، ورأيت العلم والعلماء، ورأيت الجهل والجهلاء، ورأيت الإبداع والمبدعين، ورأيت التهريج والمهرجين، ورأيت الحكمة والحكماء، ورأيت الشعوذة والمشعوذين، وبكلمة واحدة مختصرة، فقد رأيت الوجوه وأقنعتها، ورأيت الحالات في سياقاتها، وبحكم هذه الرؤية الشاملة والكلية والمتكاملة، فقد امتنعت عن إصدار الأحكام القطعية والنهائية دائما، وامتنعت عن أن أكون أحادي الرؤية وأحادي الفكر وأحادي الحكم وأحادي التوجه وأحادي الانتماء، وامتنعت من أن أكون ثابتا وجامدا في هذا الواقع المتغير والمتجدد دائما، ورفضت أن أكون صغيرا ومحدودا في هذا الكون الواسع واللامحدود، وأن أكون في هذه الجهة أو في تلك، أو في هذه الخانة أو في غيرها، وكان ضروريا أن أتحدى القوالب الجاهزة، وأن أكون أبعد نظرا من كل الذين يحسبون الحسابات الصغيرة.، وكل هذا، لم يكن بلا ثمن، وقد دفعت ثمن قناعاتي غاليا، وعرفت أنه ليس سهلا أبدا أن تكون مختلفا ومخالفا، وأن ترى ما لا يراه بعض الناس، أو تراه بعض الجهات النافذة في المجتمع
لقد رأيت، واقتنعت أيضا، بأن كل عيوني لا تكفي.. عيوني البرانية والجوانية معا، وعيوني الظاهرة والخفية أيضا.. هي كلها قاصرة عن أن تحيط علما بكل شيء، وأن ترى الصورة وما خلفها، وأن تعرف معنى أي شيء، وأن تدرك سر كل شيء، ولهذا فقد استعنت بعيون الآخرين من شيوخي وأساتذتي، ولقد استعرت منها بعض ما رأت، واقتبست شيئا مما علمت، وقرأت كثيرا مما كتبت ومما أبدعت، ولقد وجدت كل هذا في كتب الكتاب، وفي أشعار الشعراء، وفي أسفار المسافرين، ولهذا أجد نفسي اليوم ملزما بأن أقول الحقيقية البسيطة والعميقة التالية، وهي أن كثيرا مما رأيت، لم يكن ألا استظهارا أو تذكرا لما رآه الذين سبقوني، والذين كانوا أساتذتي في الرؤية والرأي، والذين علموني كيف أكون مسافرا وأسافر، وكيف أكون قارئا وأقرأ، وكيف أكون كاتبا وأكتب، وكيف أكون عرافا وأعرف، وكيف أكون حالما وأحلم، وكيف أكون متنبئا وأتنبأ، واقتنعت، بأن هذا الذي نسميه إبداعا، هو في جزء كبير منه (تمثل، وترجمة وأخذ وعطاء، وقراءة وكتابة، وحفر ونقش، وعيش ومعايشة، ورحيل من غير وصول، ومغايرة ومغامرة لا يرجى من ورائها أي ربح، وهو شك ويقين، وسحر وبيان، وحلم وخيال، وتعييد واحتفال)2
ولقد حاولت دائما، وأنا أنتقل من مدينة إلى أخرى، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، أن أكون أكبر من كل المدن، ولقد وجدت نفسي ـ في حالات كثيرة ـ أقول عني وعن مدني نفس ما قاله امرؤ القيس عن باريس في مسرحية " امرؤ القيس في باريس " لقد قال:
«وأنا الآن في حالة وجد وسكر، أصبح يا باريس أرحب منك وأوسع، إنني أكبر ولا أشيخ، أكبر من داخلي، وعوض أن أسكن باريس، فغدا هي التي ستسكنني.. سأبني لدورك دورا في قلبي، سأكون نارا ملتهبة وأنت بصدري جمرة، غدا سأصبح عالما كاملا، أصير كونا، تدور بداخله شموس جديدة وأقمار زرقاء وخضراء ونجوم مشتعلة.. عجبا. كيف أسع هذه الدنيا ـ وما أرحبها ـ ولا تسعني هذه الدنيا»3
ففي كتاب (غابة الإشارات) والذي هو سيرة كاتب ومسار كتابة، تحدث ذلك الطفل الذي كنته يوما، والذي أصبح اليوم روحا مختبئا في جسد رجل، أما في هذه المداخلة، فإن الذي سوف يتحدث فهو المسرحي الاحتفالي، أي ذلك الصانع والمفكر والأديب والمجرب والمسافر والمخترع والكيميائي والمكتشف والصوفي والمناضل الوجودي والكاتب والساحر والعراف والمتنبئ.
وقد يسألني سائل منكم ويقول: ـ هذه المداخلة التي أقدمها اليوم، في إطار فعاليات سوق عكاظ، هل هي سيرة ذاتية أم سيرة غيرية؟
ولهذا السائل المفترض، ولكم جميعا أقول ما يلي: لست أدري، فقد يكون سيرة ذاتية، وقد يكون سيرة غيرية، وقد يكون من أتحدث عنه الآن هو أنا، وقد يكون شخصا آخر غيري، ومن قال بأن الحديث عن الذات لا يمكن أن يكون مدخلا للحديث عن كل الآخرين؟
ومن أتحدث عنه لا يهمني، ولا أظنه يمكن أن يهمكم أيضا، لأن الأساس هو أن نتحدث عن الحياة من خلال حياته، وأن نكتب عن الوجود من خلال وجوده، وأن نعرف الفن من خلال فنه، وأن نطل على الفكر المعاصر من خلال أفكاره، وأن نتعرف على الصناعة المسرحية من خلال مصنوعاته الإبداعية، ولولا هذه الصناعة الفكرية والجمالية التي ارتبطت بي، والتي ارتبطت بها، فهل كان من الممكن أن يكون لحياتي أي معنى أو أية قيمة؟
نعم، أنا الذي رأيت، وأنا الذي تأسست لدي رؤية جديدة للعالم، ولم تكن هذه الرؤية مأتمية ولا عبثية، ولا كانت عدمية أو ظلامية، ولكنها كانت رؤية عيدية واحتفالية، وتكون لدي رأي في الحياة والأحياء، وتتابعت الآراء في رؤيتي حتى أصبحت منظومة آراء ومنظومة أفكار، وترجمت هذه الآراء الفكرية إلى مواقف مبدئية ثابتة، وعشتها في الحياة اليومية حالة بعد أخرى، قبل أن أنقلها إلى عالم الكتابة، وأن أحولها إلى دنيا المسرح، وفي هذا المسرح ـ ـ وبه ـ ارتقيت سلم الوجود، وتحررت من جاذبية الواقع، واقتربت من عتبة الحقيقة، واستطعت أن أنفذ إلى روح الناس والأشياء .
في هذا المقام اليوم، لا أنطلق من خواء، ولا أحلق في الفراغ، وما يهمني هو الامتلاء دائما، الامتلاء الروحي والوجداني أساسا، والامتلاء الفكري والجمالي أيضا، والامتلاء المكاني والزماني كذلك، والذي يعبر عنه الاحتفاليون بالهنا والآن، فأنا الواحد المفرد حقا، ولكنني الواحد المفرد المتعدد بالآخرين وفي الآخرين، ولقد رأيت بأننا ـ كلنا ـ «محكومون أن نكون احتفاليين، شئنا أم أبينا، وبأنه في النهاية لابد أن نتمثل احتفالاتنا وأعيادنا، وأن ننقلها إلى المسرح، وأن نتواصل من خلالها مع جماهيرنا، والتي ليست ورقة بيضاء، ولكنها كائنات سرية، لها ذاكرة ووجدان وتاريخ، ولها ذوق ينبغي أن نفهمه، وأن نساهم في بلورته تطويره»4
وفي المسرح المسرحي، وفي المسرح الوجودي أيضا، اخترت أن أكون احتفاليا، ولقد وجدت نفسي أقول:
«ما يدعونا لأن نكون احتفاليين، هو أن الواقع غير احتفالي»5
نعم، ولو كان هذا الواقع احتفاليا حقا، كما نريد ونبغي، لما احتجنا إلى كل هذه المسرحيات الكثيرة، وإلى كل هذه البيانات المتعددة، وإلى كل هذه الرحلات السندبادية في عالم الحقيقة.
وما يدعوني لأن أكتب اليوم، وأن أواصل فعل الكتابة، هو إحساسي بوجود أشياء كثيرة جدا لم تكتب بعد، وتحتاج لأن تكتب.
في هذا المسرح، هناك من اهتم بالفرجة الخام، وقال هذا هو المسرح، وبهذا فقد ظل كثير من الباحثين ومن النقاد في درجة الوهم، وخدعوا أنفسهم وهم لا يشعرون، وفاتهم أن يعرفوا أن المسرح أساسا صناعة من الصناعات الثقيلة، وأن الفرجة فيه، إذا لم تكن دالة ومؤشرة، ولم تكن مدعمة بالفكر والعلم وبالفن، فإنه لا يمكن أن يكون لها أي معنى .
وفي هذه الصناعة المسرحية يحضر النظر العقلي بكل تأكيد، ومعه يحضر التجريب الشعري والعلمي معا، ويحضر السؤال والمسألة، وتحضر الأفكار والفكر، وتحضر النفس والروح والوجدان، وإن كل فرجة لا مضمون لها، وإن كل صورة لا عمق لها، ولا خلفية لها، لا يمكن أن يعول عليها أبدا.
وهناك اليوم من يدعو لمثل هذه الفرجة البدائية والوحشية، والتي قد يكون لها علاقة بالفلكلور، ولكن ليس بالمسرح العالم، وأرى أن مثل هذه الدعوة لا يمكن أن تكون بريئة أبدا، خصوصا وأنها كانت دائما جزء من عقلية استعمارية وفاشية، وأنها كنت جزء من الأنتربولوجيا الكلونيالية (البائدة) وأنها كانت جزء من نظرة غير إنسانية وغير مدنية وغير متسامحة، نظرة فيها شيء غير قليل من الاستعلاء ومن تحقير الشعوب الأخرى والثقافات الأخرى.
إن المسرح الحقيقي، هو أساسا صناعة مركبة وثقيلة جدا، وهو مؤسسة تعليمية وتربوية وتثقيفية وتنويرية وتثويرية وتجديدية وتعييدية واحتفالية بالضرورة، هكذا أفهم المسرح، ومن أراد أن يفرج الشمال (المتقدم) على أعطاب الجنوب (المتخلف) فإن ذلك التفرج الفطري لا يمكن أن يكون مسرحا، لأن المسرح فن جميل ونبيل، وأنه رؤية مركبة لهذا العالم المركب، وأنه فن وعلم وفكر في جوهره قبل كل شيء.
ــ الاحتفال حياة وحرية
الحياة ضرورات واختيارات، فماذا اخترت أنت؟
هذا هو السؤال الضمني الذي تواجهنا به الأيام والليالي كل ساعة وحين، وهي بهذا تشعرنا بأن فعل الاختيار ليس اختياريا، ولكنه إجباري، ولقد وجدنا من يقدم لهذا السؤال ـ التحدي الإجابة التالية:
(اخترت الحياة يا ولدي.. فالحياة أحسن الاختيارات والموت أسوأ الضرورات)
هكذا تحدثت شخصية مسرحية في تلك المقامات البهلوانية التي تحمل توقيعي، وتحمل شيئا مني ومن طقسي ومناخي، وتقاسمني نفس أحلامي وأوهامي في عالم الناس والحجارة.
الاحتفال حياة وحيوية، هكذا عرفته وعشته، وهكذا عرفته دائما في كل كتاباتي النظرية والنقدية، أما شرطه الأساس، فإنه لا يمكن أن يكون إلا الحرية، فبهذه الحرية الخلاقة يكون، وبدونها لا يمكن أن يكون أبدا، ومنذ الكتابات الاحتفالية الأولى، تم التأكيد في الأدبيات الاحتفالية على هذا المعنى، والذي هو أن (الاحتفال هو التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر) وبحثا عن هذه الحرية المتكاملة، في بعدها الذاتي وفي مستواها الموضوعي، فقد قال ذلك الاحتفالي كلمته التالية (إنني أريد أن أكون مواطنا حرا، وذلك في وطن حر، وفي زمن يكون زمنا للحرية والانطلاق وللإبداع والخلق والاحتفال والتلاقي وللشعر والفكر والعلم والحكمة، وأن أجد نفسي مكرما مع المكرمين، وألا أجد نفسي مضطرا لأن أكون ضيفا على مائدة اللئام)
وأعرف أن الحرية بغير كرامة لا تكفي
وأومن بأن الحرية بدون مسئولية فوضى غير منظمة
وأرى أن الحرية بدون اختيارات عاقلة لا معنى لها
وأعتقد أن الحرية، بغير رشد نفسي وذهني ووجداني وروحي، ما هي إلا انتحار غير معلن.
ثم إن هذه الحرية، إذا لم تساهم في تجميل الجميل وفي تجديد الجديد وفي إحقاق الحق وفي تعديل كفة العدالة، فإنها لن تكون إلا كلمة خادعة ومخادعة ومزيفة ومضللة، وهكذا هي اليوم في العالم الغربي والشرقي معا، أي مجرد كلمة للاستهلاك السياسي والإعلامي، وهي توظف توظيفا سيئا وميكيافيليا، وتوضع في غير موضعها، وفي غير مكانها وفي غير سياقها الحقيقي، وتصادفنا اليوم ـ تماما كما صادفتنا بالأمس ـ الأسئلة الجوهرية والحيوية التالية:
ــ ما معنى هذه الحرية إذن، إذا كانت مدخلا لتدمير الذات؟ ذات الفرد وذات الجماعة معا؟
ــ وأية قيمة يمكن أن تكون لها إذا كانت مرادفة لبيع الجسد الآدمي في سوق النخاسة الجديد؟ ــ وأي معنى يمكن أن يكون لها، إذا كانت حرية لمصادرة العقل، ولاعتقاله بعقال المخدرات، وكانت حرية سلبية لممارسة الهروب والغياب؟
ــ وهل يمكن لهذه الحرية ـ في معناها الحقيقي ـ أن تكون حرية حيوانية ووحشية، وأن تكون فعلا متوحشا في الغاب، وليس فعلا مدنيا وحضاريا مسئولا في المدينة الإنسانية؟
شيء مؤكد أن كل شذوذ يمكن أن يخرج عن ثوابت المؤسسات المدنية والحضارية لا يمكن أن يكون إلا فعلا وحشيا، وعليه، فقد كان المعنى الحقيقي للحرية يكمن فيما يلي:
أن تكون إنسانية أو لا تكون، أما حرية الحيوانات والوحوش فلا كلام عنها، وليس هذا السياق الجمالي والفكري والأخلاقي سياقها..
وعندما يضيق بنا هذا العالم المادي، يصبح من حقنا أن نهاجر إلى العوالم الافتراضية الأخرى، وأن نبحث مثل عبد السميع عن عالم أوسع وأرحب وأصدق وأجمل وأكمل، عالم
(لا يدركه الليل) والإنسان فيه خارج كل الضرورات والجبريات والجاذبيات المختلفة، وعليه فإنه «لا تلحق به الشيخوخة والمرض والموت»6
عالم «لا فقر فيه ولا جوع ولا عذاب ولا ألم ولا اختناق ولا أعلى ولا أسفل»7
ومثل هذا العالم لا يمكن أن يصل إليه إلا من كان مثل عبد السميع «له عيون طفل وأحلام طفل وقلب طفل»8
إن الأصل في الاحتفال أنه جزاء، وذلك لأن من حق الأحياء ومن حق المجتهدين ومن حق الناجحين ومن حق العاملين أن يحتفلوا، أما الأموات، فلا تجوز إلا الرحمة على أرواحهم، وأما الغائبون والنائمون والهاربون والمختبئون، فبأي شيء يحتفلون؟ ولماذا يحتفلون أصلا؟ ولعل هذا هو ما يبرر أن دعاة الكسل العقلي هم أول من حارب التنظير الاحتفالي، ولقد كانوا أول من خاصم هذه الاحتفالية المؤسسة والمجددة والمجتهدة، وكانوا أول من خاصم فيها صدقها ومصداقيتها، وحارب فيها جهادها واجتهادها، ومن الطبيعي أن يخاصم العدميون الوجود الموجود، وأن يحارب الظلاميون النار والنور، وأن يتضايق الكسالى من الاجتهاد ومن المجتهدين ومن الفعل والفاعلين.
إن الاحتفال لحظة استثنائية في فضاء الزمن الاستثنائي، لحظة مشرقة تعنى الرضا عن الذات أولا، وتعني المصالحة مع الآخر ثانيا، وتعني التوافق مع المحيط الاجتماعي ثالثا، وتعني التكيف مع المناخ الطبيعي رابعا، وتعني الإحساس بجماليات الوجود والموجودات خامسا.
ومثل هذا الرضا، في معناه الحقيقي، لا يمكن أن يكون إلا درجة من درجات العيش والحياة، درجة عليا في سلم الوجود بكل تأكيد، ويرى الاحتفاليون أنه لا يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة إلا السائرون على الجمر، ولا يمكن أن يبلغها إلا المسافرون والراحلون والمهاجرون والمؤمنون الصادقون والمشاءون في دروب الحق والحرية، والسائرون في شعاب الجمال والكمال والحكمة والفضيلة، أما القاعدون ـ أو المقعدون ـ والقانعون بأحلام اليقظة، فإنهم لا يمكن أن يحققوا أي فتح، وعليه، فإنه ليس من حقهم أن يحتفلوا، أو أن يعيدوا..
وبحكم أن درجة هذا الاحتفال الصادق، لا يمكن أن تكون إلا درجة عالية وسامية، وبحكم أنها بعيدة وصعبة، وأنها شاقة ومكلفة، فقد كان الوصول إليها يحتاج ـ وبالضرورة ـ إلى جرعة مهمة من المخاطر، وفي هذا نتفق في ذلك الشيخ الحكيم الذي قال (في المخاطرة شيء من النجاة) وبقدر زيادة جرعة هذه المخاطرة، فإن فرص النجاة تكون أكبر أيضا، ويصبح من حق الناجين ـ وحدهم ـ أن يحتفلوا.. يحتفلوا بالحياة التي أخرجوها من دائرة الموت، ويحتفلوا بالعدل الذي حرروه من براثن الظلم والظالمين، ويحتفلوا بالنور الذي أخرجوه من جوف الظلمة والعتمة، ويحتفلوا بالغنى النفسي والذهني والروحي الذي حرروه من غول الفقر والبؤس.
إن الاحتفال وجود بين حدين متقابلين ومتكاملين دائما، أي بين حد الميلاد وحد الموت، فمن هذا الاحتفال الوجودي نبدأ إذن، وإليه ننتهي نهاية مؤقتة، وما هذه الحياة إلا سلسلة متماسكة ومترابطة من الاحتفالات الوجودية والاجتماعية والدينية والوطنية والكونية، احتفالات يتبع بعضها البعض، وهي تسير في خط دائري، تماما كما تدور الأيام والليالي، وكما تدور الكواكب السيارة في مداراتها، ففي ساعة المولد نحتفل بالحياة التي نستقبلها، وفي الموت نحتفل بالحياة التي نودعها، وفي إقامة الذكرى نحتفل بالحياة التي عشناها، وباللحظة التي نستعيدها وجدانيا.
إن من طبيعة الاحتفالي أن يكون مشاء، وأن يكون مسافرا دائما، وأن يعيش متنقلا بين الأمكنة والأزمنة، وبين الحالات والمقامات، وبين الأفكار والتصورات، وأن يكون هذا المشي ـ السفر هروبا من شيء، أو بحثا عن شيء، ويبقى صديقنا (السندباد) برحلاته البحرية السبع، رمزا للبطل الاحتفالي الباحث دوما عن معنى ما لوجوده ولحياته، وإلى جانبه نجد شخصية الحلاج الصوفي، والذي هو بطل احتفالي بامتياز، وهما معا، السندباد والحلاج، لهما وجود في الكتابات الإبداعية الاحتفالية (سالف لونجة مثلا) ويتردد اسمهما كثيرا في الدراسات وفي الأبحاث وفي الحوارات الاحتفالية، وإذا كان السندباد يرحل خارج جسده، وكان يسافر في فضاء الزمان والمكان المحدد والمحدود جغرافيا، فإن الحلاج لا يرحل إلا داخل جسده المادي، وداخل نفسه وروحه، وفي هذا الداخل الروحي مسافات وأبعاد ومواقع كثيرة غير محدودة و لا محددة، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي (إن الموجود لا يهمني، وهو لا يرتقي إلى مستوى طموحي وتطلعي، وهو ـ بالضرورة ـ (ضعيف في همتي كشعرة في مفرقي) كما قال عمنا المتنبي).
وفي سفره يختار هذا الاحتفالي الطريق الصعب والشاق دائما، وهو بهذا يؤمن بالمثل الصيني (أقصر الطرق أطولها) ولذلك فقد اختار أطول الطرق وأصعبها وأكثرها غموضا وخطرا).

 

الهوامش:
1 ــ ع. برشيد (جحا في الرحى) احتفال مسرحي ـ مخطوط
2 ــ ع. برشيد ـ المؤذنون في مالطة ـ منشورات الزمن ـ الرباط ـ 1999ـ ص 99
3 ــ ع. برشيد ـ امرؤ القيس في باريس ـ احتفال مسرحي ـ مطبعة فضالة ـ المحمدية ـ 1997 ـ ص 36
4 ــ المسرح العربي يتحرك في دارة مغلقة ـ حوار مع د. عبد الكريم برشيد أجراه عصام أبو القاسم ـ مجلة (المسرح) الشارقة ـ الإمارات ـ مارس 2011 ـ ص 123
5 ــ المسرح العربي يتحرك في دارة مغلقة ـ حوار مع د. عبد الكريم برشيد أجراه عصام أبو القاسم ـ مجلة (المسرح) الشارقة ـ الإمارات ـ مارس 2011 ـ ص 123
6 ـ ع. برشيد (اسمع ي عبد السميع) احتفال مسرحي ـ دار الثقافة ـ الدار البيضاء ـ 1985
7 ـ نفس المرجع السابق
8 ـ نفس المرجع