تكشف هذه القصة الطويلة / الرواية القصيرة بعمق ما يجول في روح الرسام الخالق من عوالم، والكيفية التي يحس بها الطبيعة والكتل واللون والعمق، لتخليق امرأة مطلقة الكمال، في حوار ممتع بين رسام مسن جننه التأمل وفلسفة الخلق الفني، ورسامين يافعين في أجواء باريس النصف الأول من القرن التاسع عشر.

التحفة الخفية

أونوريه دى بلزاك

ترجمة: ماهر البطوطى

 

-1-

جيليت
في صباح يوم بارد من شهر ديسمبر من عام 1612، كان شاب تشى ملابسه بالفقر، يسير جيئة وذهابا أمام بيت فى شارع "جران أوجستان" فى باريس. وبعد أن ذرع ذلك الطريق ردهة من الزمن فى حيرة تشبه حيرة عاشق خجول ذاهب الى لقاء أولى حبيباته، حتى لو كانت تنتظره مستجيبة له، عبر أخيرا عتبة المنزل وسأل إذا كان السيد "فرانسوا بوربيس" متواجدا. وحين تلقى ردا بالإيجاب من امرأة عجوز كانت تكنس مدخل المبنى، قام الشاب بصعود السلم الحلزونى ببطء وهو يقف عند كل درجة كأنه عضو جديد فى بلاط ملكى غير واثق كيف سيلقاه الملك. وفى قمة السلم، وقف برهة أخرى أمام الباب مترددا فى رفع القبضة الحديدية الغريبة التى تزين باب المرسم حيث كان رسام بلاط الملك هنرى الرابع – الذى كانت "مارى دى ميديشس" تفضل " روبنز عليه الآن – لا بد منهمكا فى عمله. كان الشاب يشعر بذلك الانفعال العميق الذى هزّ قلوب الفنانين العظماء حين يقومون – فى زهرة شبابهم وحبهم للفن – بالاقتراب من شخص عبقرى أو الوقوف فى حضرة إحدى التحف الفنية. هناك ازدهار أوّلى فى جميع المشاعر الانسانية نتيجة حماس نبيل يخبو تدريجيا الى أن تصبح البهجة مجرد ذكرى والمجد أكذوبة. ومن بين مثل هذه العواطف الهشة، ليس هناك ما يُقارن بالحب بوصفه العاطفة الشبابية للمعاناة الأولى للفنان، ذلك العذاب اللذيذ الذى سيصبح مصيره ما بين المجد والألم، عاطفة تجيش بالجرأة والخوف، بالآمال الغامضة والإحباطات التى لا مفر منها. إن الشاب، الذى يفتقر الى المال ولكنه يزخر بالموهبة، إذا لم يرتجف حين يلتقى أحد الأساتذة لأول مرة، فهو لا بد يفتقد أحد مقومات الفؤاد على الأقل، بعض الحساسية فى ضربة فرشاته، بلاغةً شعرية معينة. ويمكن أن يكون هناك متشدقون مغرورون يقتنعون قبل الأوان بأن المستقبل لهم، بيد أن من يصدقهم هم البلهاء فحسب. وفى هذا الصدد، بدا أن الغريب الشاب يحوز الجدارة الحقة، لو أن الموهبة تُقاس بذلك الخجل المبدئى وذلك التواضع العصى على التحديد اللذين يرجح أن يفقدهما أى انسان مرشح للمجد حين يمارس فنه، كما تفقد امرأة جميلة حسنها وسط حبائل الدلال والإغراء. فالتعود على الانتصار يقلل الشك، والتواضع قد يكون نوعا من الشك.

لم يكن المريد المسكين، وقد أنهكه الفقر وتعجّب فى هذه اللحظة من جرأته الذاتية، ليدخل ستوديو الرسام الذى ندين له بالبورتريه الرائع للملك هنرى الرابع، لو لم تمنحه المصادفة معروفا غير مسبوق. كان هناك رجل هرِم يصعد السلالم وراءه ؛ ومن غرابة الملابس التى كان يرتديها هذا الشخص، وجمال الدانتلا التى تحيط بعنقه، والثقة التى يخطو بها والتى تبعث على المهابة، افترض الشاب أنه لا بد أن يكون إما صديق للرسام أو أحد زبائنه. وتنحى جانبا عند إحدى بسطات السلّم ودرس الرجل بعناية وهو يعبر أمامه، مؤملا أن يجد فيه طبيعة الفنان الودودة أو نزعـة محبى الفن العطوفة.

ولكنه، بدلا من ذلك، أحس بشئ شيطانى فى الرجل، ذلك الشئ الذى لا يُدرك كنهه والذى يميل اليه الفنانون ميْلا قويا. تخيل جبهة بارزة تنحدر نحو أنف صغيرة مضغوطة تتجه الى أعلى مثل أنف " رابِليه " أو " سقراط "، وشفتين متغضنتين باسمتين، وذقن قصيرة عالية تزينها لحية رمادية مشذبة نوعا ما، وعينين خضراوين خضرة البحار بريقهما منطفئ بفعل السن، ولكنهما - بفعل التضاد بين الحدقتين وبين البياض اللؤلؤى الذى تسبحان وسطه – كانا يطلقان ومضات مفحمة تنم عن معاناة من الغضب والحماس. وبالإضافة الى ذلك، كانت مسحة وجهه الكلية يبدو عليها الرزانة على نحو فريد بفعل أشكال الضعف التى ترافق كبر السن ولكن أكثر من ذلك بفعل الأفكار التى تستهلك الجسد والروح معا. لم يكن متبقيا على جفنيه أية رموش، ومن فوق المحجرين العميقين لم يعد يبين سوى بقية ضئيلة من الحاجبين. ضع رأسا مثل هذه فوق جسد ضعيف نحيل، ولف كل هذا بشريط من الدانتلا الفخمة، وضع سلسلة ذهبية ثقيلة على الصديرى الأسود من تحته، وعندها يكون عندك صورة غير كاملة تماما عن هذه الشخصية التى خلع عليها الضوء المعتم لفسَحة الدرَج صبغة أخرى خرافية كما لو أنه لوحة من لوحات " رمبرانت " تمشى على قدمين، صامتة، دون إطار، وسط الجو الكئيب الذى جعله ذلك الرسام العظيم علامة عليه. وتطلع المخلوق الهرِم الى الشاب نظرة ملؤها الحكمة، ودق على الباب ثلاث مرات، وقال للرجل ذى المظهر العليل الذى يقارب الأربعين الذى فتح الباب: "طاب يومك أيها الأستاذ".

وقام "بوربيس" وهو ينحنى باحترام بإدخال الشاب أيضا وهو يفترض أنه بصحبة الرجل الشيخ، ولم يعره كثير انتباه، فقد بقى الرسام المبتدئ واقعا تحت أثر ذلك السحر الذى لا بد أنه يفتن أى رسام مطبوع لدى رؤيته أول مرسم حقيقى، حيث تتبدى بعض الأعمال المادية لذلك الفن. وكان ثمة نور من السماء يضئ مرسم الأستاذ، ساقطا مباشرة على اللوحة المربوطة بحاملها ولكنها لم تزل بعدُ سوى ثلاثة أو أربعة خطوط من اللون الأبيض، ويفشل ضوء النهار فى اختراق الجوانب المظلمة من هذه الحجرة شاسعة الحجم، ولكن بعض الظلال المنعكسة الشاردة فى الجو الجهم حملت شعاعا فضيا الى مجموعة من الدروع المعلقة على الحائط، وانعكست فجأة على الإفريز لخزانة مهيبة تصطف بها قطع عتيقة من الأوانى الفخارية، أو أطرافا متقاطعة من الضوء تسقط على النسيج الخشن لبعض الأقمشة الموشاة القديمة الملقاة دون عناية. وكانت هناك منحوتات من الجص، وأطراف وأجساد لإلاهات كلاسيكية صقلتها فى ود قبلات القرون الغابرة، تنتثر فى إهمال على الأرفف وطاولات الخزانة، وغطت الجدران من أسفلها الى أعلاها. وثمة صناديق من مساحيق الألوان وأنابيبها، جرّات من الزيت والتربنتينا، وعدد من الكراسى المقلوبة لم تترك إلا ممرا ضيقا تنفذ الى الهالة التى يلقيها نور السماء حول وجه "بوربيس" الشاحب ورأس الزائر الغريب العاجية. وسرعان ما انحصر انتباه الشاب فى صورة أصبحت بالفعل – فى ذلك العصر الذى سادت فيه الفوضى والتقلبات – شهيرة يزورها العديد من أولئك المتعصبين الذين ندين لهم بالحفاظ على النيران المقدسة فى الأوقات التى تطغى فيه الشرور. كانت هذه اللوحة الجميلة تصور ماريا القبطية وهى تخلع ثيابها كيما تدفع أجر مرورها الى القدس. وقد قامت "مارى دى مِديشيس"، التى رُسمت لها اللوحة، ببيع تلك التحفة حين أخنى عليها الدهر.

قال الشيخ لبوربيس: إنى أحب قديستك ومستعد أن أدفع لك عشر قطع ذهبية فوق ما ستدفعه لك الملكة، ولكن حاشا لله أن أكون مزايدا عليها!

- أتعتقد أنها جيدة؟

فزفر الشيخ: "جيدة؟ نعم ولا. إن السيدة مرسومة على وجه حسن، بيد أنها ليست حية. أنتم أيها الناس تظنون أنكم قد قمتم بواجبكم طالما رسمتم جسدا على نحو صحيح ووضعتم كل شئ فى مكانه وفقا لقواعد التشريح! إنكم تملأون حدود لوحتكم بألوان الجسد بعد أن تخلطوها مقدما فى " باليت " الألوان التى فى يدكم، ولأنكم تنظرون من آن لآخر الى أمرأة عارية تقف على طاولة، تظنون أنكم تحاكون الطبيعة – تطلقون على أنفسكم لقب الرسامين وتفترضون أنكم سرقتم أسرار الإله!

"إن الرجل لا يكون شاعرا عظيما لمجرد معرفته القليل من قواعد النحو وعدم مخالفته تلك القواعد! انظر الى قديستك يا بوربيس! للوهلة الأولى، تبدو مثيرة للإعجاب، ولكن – عند النظر اليها ثانية بوسعك أن ترى أنها ملصوقة على قماش اللوحة ؛ لا يمكنك أبدا أن تلف حولها: إنها ظل مسطح، قطعة لا تستطيع مطلقا أن تستدير جانبا أو تغيّر من وضعها. ليس هناك من توافق بين تلك الذراع وبين خلفية اللوحة ؛ ما من فضاء، ما من عمق. ومع ذلك فالشئ يحتفظ بمنظور كامل، ويراعى الظلال مراعاة صحيحة. ومع كل جهودك فى مديح اللوحة، لا يمكننى أبدا أن أصدق أن هذا الجسد الرائع ينفث بنسمة الحياة. لو أننى وضعت يدى على هذا الصدر، وطيدا مستديرا، سأجد له مع ذلك ملمسا باردا كالمرمر. كلا يا صديقى، إن الدماء لا تسرى أبدا تحت الجلد العاجى، والعروق لا تنسج شبكتها من الثدى الوردى تحت تلكما الفودان الشفافان وذلك الصدر الفاغم: وهنا تماما ثمة شئ يماثل النبض، ولكنه فى اللوحة لا حراك فيه، فالحياة فى قبضة الموت فى كل المسام. هنا هى امرأة، وهناك هى تمثال، وفى كل مكان آخر هى جثمان. إن خلّقِك غير كامل. لقد نجحتَ فى وضع جزء فحسب من روحك فى عملك الثمين. لقد انطفأ مشعل "بروميثيوس" أكثر من مرة فى يديك، وهناك مواضع كثيرة فى لوحتك لم تمسها النيران المقدسة.

فسأل بوربيس الشيخ باحترام بينما كبت الشاب بصعوبة رغبة عارمة فى أن يضربه: ولكن لماذا حدث هذا أيها الأستاذ؟

فصاح الرجل الهرِم متعجبا: أوه، هذه هى القضية! إنك قد تراوحتَ بين منهجين – بين الرسم واللون، بين عدم المبالاة الدقيقة والمنهج الصارم للأساتذة الألمان القدامى وبين الحماس المبهر والوفرة البهيجة للإيطاليين. لقد حاولتَ تقليد "هولبين" و "تيسيان"، أو "دورير" و "فيرونيز" فى الوقت نفسه وكان بالقطع طُموحا رائعا، ولكن... ماذا حدث؟ إنك لم تنجح فى بلوغ لا سحر الألمان القاسى للخطوط الجامدة، ولا الإيهامات الخادعة للأبيض والأسود لدى الجنوبيين: فهنا مثله مثل البرونز المصهور الذى يصدغ القالب، عملتْ الألوان الثرية الصارخة على طريقة تيسيان على تفجير الخطوط الخارجية الصارمة على نهج دورير التى صببتَ فيها تلك الألوان. بينما هنا، قاومتَ ملامح الوجه وكتمتَ التجاوزات الفخيمة للألوان الإيطالية. إن الشخصية فى لوحتك ليست مرسومة رسما كاملا ولا هى مصورة تصويرا كاملا، وهى تشى فى كل ناحية منها بآثار ذلك التردد المؤسف. لو أنك شعرتَ أن إلهاماتك ليست قوية بما يكفى كى تصهر تلك الأساليب التى تنافس بعضها بعضا، لكان ينبغى لك أن تحصر نفسك فى أسلوب واحد فحسب كيما تحقق تلك الوحدة التى تماثل ظروف الحياة الواقعية. إن الواقع عندك يكمن كله فى الأجزاء الداخلية – فحدودك الخارجية كلها زائفة، فهى تفشل فى الإحاطة بالأطراف أو الإيحاء بأن هناك شيئا ما وراءها...". ثم قال الرجل الهرِم وهو يشير الى حلْق القديسة "... هنا بعض الواقعية... وهنا أيضا..." وواصل كلامه وهو يشير الى الموضع فى اللوحة حيث ينتهى الكتف. ثم عاد الى منتصف الصدر قائلا: " ولكن هنا، كل شئ خطأ. دعنا لا نحلل ذلك الأمر، فسوف يدفعك ذلك الى اليأس ليس إلا ". وجلس الشيخ على كرسى بلا مساند، وأراح ذقنه على يديه، ولزم الصمت.

وأخبره فوربيس: "أيها الأستاذ، لقد درستُ هذا الصدر من الموديل، ولكن، وياللأسف، هناك بعض المؤثرات المعينة تصدُق فى الواقع، ولكنها لا تصبح مماثلة للواقع على اللوحة."

فصاح الشيخ مقاطعا بوربيس بإشارة متسلطة: " إن غاية الفن ليست استنساخ الواقع، بل التعبير عنه! تذكّر أن أن الفنانين ليسوا مجرد مقلدين، إنهم شعراء. وبدون ذلك، يكون النحّات قد أنهى جميع الصعوبات التى تواجهه بأن يعمل قالبا لموديله! حسنا، حاول فحسب أن تصنع قالبا ليد حبيبتك وتضعها أمامك: لن ترى سوى جثة مريعة لا تشبه الأصل على الإطلاق، وعندها سوف تضطر الى الاعتماد على أزميل رجل لا يستنسخها طبق الأصل تماما، بل يصور حركتها وحياتها. إن مهمتنا هى الإمساك بملامح قسمات الوجه، بروح الموديل ونفسها، سواء كان الموديل شيئا أو مخلوقا حيا. الأثر! الأثر! ما الأثر إلا أحداث الحياة، وليس الحياة نفسها ؛ فاليد – كيما أُكْمِل المثال الذى ضربته – ليست مجرد يد متصلة بذراع، وذلك الذراع متصل بجسد: كلا، إنها تعبَر وتطيل فكرة لا بد من الإمساك بها والتعبير عنها. لا الرسام ولا الشاعر ولا النحّات يمكنهم الفصل بين الأثر والسبب، فهما متحدان اتحادا لا انفصام له! إن ذلك هو نضالك الحقيقى! كثير من الرسامين ينجحون بالفطرة، دون أن يعرفوا أبدا موضوع الفن ذاك. إنك ترسم امرأة، ولكنك لا تراها! ليست هذه هى الطريقة التى تخترق بها أسرار الطبيعة. فبدون أى فكرة من جانبك، تقوم يدك باستنساخ الذى كنت تحاكيه فى دروس الرسم. إنك لا تتغلغل بما يكفى من العمق فى ملامح الشكل المألوفة. إنك لا تسعى الى متابعتها بما يكفى من الحب والمثابرة فى كل أشكالها المتخفية والمواربة. الجمال شئ صعب وصارم بحيث لا يمكنك الإمساك به بهذه الطريقة: يجب عليك أن تتحين الفرصة المناسبة، انتظر كامنا، اقتنصها، واحتضنها بكل قوتك كيما تجعلها تستسلم لك. الشكل هو شخصية " بروتيوس " *، ولكنه أكثر مراوغة وأوسع حيلة مما كانت عليه تلك الشخصية فى الأسطورة – فإنه لا يمكنك بعد نضال طويل أن ترغمه على الكشف عن مظهره الحقيقى. إن الفنانين مثلك يرضون بأول مظهر يتبدى لكم فيه، أو ثانى أو ثالث مظهر على الأكثر ؛ ولكن ليس هذا هو الأسلوب الذى يتم به إحراز ذلك الانتصار! إن الرسام المنتصر لا تخدعه مطلقا كل تلك الحيل، فهو يثابر الى أن يحمل الطبيعة على إظهار نفسها عارية تماما فى روحها الحقة ". وأضاف الشيخ وهو يخلع عباءته من القطيفة السوداء تغبيرا عن احترامه لملك فن الرسم: " كان ذلك أسلوب رافاييل . إن تفوقه راجع الى ذلك الإحساس الحميم الذى يسعى الى تحطيم الشكل. ففى شخصيات رافاييل، يكون الشكل هو الشئ الكائن فى كلٍ منّا: وسيطٌ لتوصيل الأفكار والمشاعر، شِعرٌ رحيب! كل شخصية عالما بذاته، صورة يظهر نموذجها فى رؤية علوية، يلونها الضوء، يجذبها صوت داخلى، تفحصها يد سماوية كشفتْ عن مصدر التعبير فى وجودٍ كامل. أنتم أيها الناس تصنعون ملابس جميلة من اللحم لنسائكم، أقمشة أنيقة من الشَعر – ولكن، أين الدماء التى تخلق السكون، أو العاطفة التى تسبب مشاعر خاصة؟ إن قديستك امرأة سمراء، ولكن هذه – أى بوربيس المسكين – شقراء! إن أشخاصك إذن هم مجرد أطياف شاحبة ملونة تستعرضهم أمام أعيننا، ثم تسمى ذلك رسما وتسمى ذلك فنا! لأنك عملتَ شيئا يشبه امرأة أكثر مما يشبه منزلا تظن انك أحرزتَ هدفك، ولأنك لم تعد تحتاج بعدُ أن تنقش تحت شخوصك تلك الكلمات اللاتينية التى تقوم مقام التوقيع مثلما كان يفعل الرسامون الأوائل، فانك الآن أنك رسام رائع! ها، ها! ليس بهذه السرعة يا صديقى الرائع: يجب عليك استهلاك غابات من الأقلام وفدادين من الكانفاس قبل أن تصل الى هناك. بالطبع، بالطبع! امرأة تميل برأسها على هذا النحو، وتمسك بردائها بهذه الطريقة، وعيناها تسيل بنظرة من العذوبة المستسلمة، وظِل جفنيها يرتجفان على هذا النحو فوق خديها! هذا هو الأمر. ما الذى ينقص؟ شئ تافه لا قيمة له على الإطلاق، ولكنه شئ يمثل كل شئ. إنكم تقدمون مظهر الحياة، بيد أنكم لا تعبّرون عن وفرتها التى تفيض على الجانبين، وهو حتى ما يمكن أن يكون الروح إذ تهوّم كالسحابة فوق طوق الجسد. ذلك الازدهار للحياة الذى اقتنصه تيسيان ورافائيل. لو بدأتَ من حيث انتهيت، يمكنك القيام ببعض اللوحات الممتازة، ولكنك تستنفد نفسك على نحو سريع. إن الجمهور يبدى اعجابه، ولكن الذواقة الحقيقى يبتسم ". وأضاف ذلك الشيخ الفريد: " آه يا مابيز، آه يا أستاذى! يالك من لص، تأخذ الحياة معك حين تتركنا! " ؛ ثم يقاطع نفسه قائلا: ورغم ذلك، فإن قيمة لوحاتك هى أكثر من لطخات ذلك المدّعى " روبنز " بأكوامه من اللحم الفلمنكى المبرقش باللون القرمزى، وموجاته من الشَعر الكستنائى، وألوانه التى تتعارك مع بعضها البعض. على الأقل أنت هنا لديك اللون، والشعور، والخطوط، وهى الأسس الثلاثة للفن! ".

وهتف الشاب بصوت عالٍ خارجا من خواطره العميقة: " إن تلكما الشخصيتين، مارى ورجل القارب، فيهما رقة فى الغرض لا يصل اليها أبدا الرسامون الإيطاليون – لا يخطر على بالى أىٌ منهم قادر على أن يخترع التردد الذى يرين على رجل القارب ".

فسأل بوربيس الرجل الهرِم: هل هذا الشاب الأحمق يتبعك؟

فرد الشاب وقد احمرت وجنتاه: تأسفاتى أيها الأستاذ. إنى لا أحد ؛ ما أنا إلا لطخة وصل لتوه الى هذه المدينة، التى أعرف أنها نبع المعرفة.

فقال بوربيس بلهجة آمرة وهو يناوله قلما أحمر وورق:

- هيا الى العمل إذن! ".

وقام الشاب المجهول بنسخ صورة مارى المصرية. وتعجب الرجل الهرِم قائلا: أها! ما اسمك؟ فكتب الشاب تحت رسمه " نيكولاس بوسّان".

وقال المخلوق الوحيد الذى كان يلقى محاضرته بذلك النحو الجامح ملاحظا: " لا بأس بها بالنسبة لمبتدئ، لا بأس على الإطلاق. أرى أنه بإمكاننا أن نتناقش فى الرسم فى حضورك. إنى لا ألومك على إعجابك بالقديسة التى رسمها بوربيس، فالعالم يعدّها من الروائع، ولا يستطيع كشف مساوئها إلا المتمرسون فى خفايا الفن. ولكن، بما انك تستحق الدرس وباستطاعتك أن تفهمه، فسوف أريك كيف أنه بقليل من الجهد يمكن تحويل هذه الى... عمل منى! افتح عينيك، واعرنى انتباهك: فمثل هذه الفرصة للتعلم هى شئ قد لا يتكرر مرة أخرى أبدا. اعطنى " الباليت " يا بوربيس!.

وذهب بوربيس لإحضار الباليت والفرشاة، وشمّر العجوز عن ساعديه بحركة عصبية مفاجئة ودفع بإبهامه فى الباليت الملطخة المحملة بالألوان التى قدمها له بوربيس، ثم قام بنتزاع حفنة من الفُرشات من كل الأحجام، بينما لحيته المدببة ترتعش نتيجة الجهود المنذرة التى تتوافق مع حكّةِ الخيال المتوهج. وغمغم من بين أسنانه وهو يحمّل فرشاته: " ألوان كهذه يجب إلقاؤها من النافذة، مع الأحمق الذى مزج بينها – إن الأمر يثير الغثيان ؛ يا لها من ألوان فجة زائفة! من ذا الذى يستطيع أن يرسم بها؟ ". وبعد ذلك، وبهمة محمومة، غمس طرف فرشاته فى كل لون، مغطيا الألوان جميعها بسرعة تفق سرعة عازف الأرغن بالكنيسة فى تغطيته لأصابع المفاتيح لعزف لحن " أى أبنائى " فى عيد الفصح.

ووقف بوربيس وبيسّان دونما حراك على جانبىْ اللوحة وقد غرقا فى أعنف نوبة من نوبات التأمل.

قال الكائن الهرِم دون أن يلتفت: انظر أيها الفتى، أترى كيف يمكنك بضربات ثلاث أو أربع وقليل من طبقة زرقاء أن تجعل الهواء يطوف حول رأس هذه القديسة البائسة التى لا بد كانت تختنق وسط هذا الجو الكثيف! انظر كيف تهفهف هذه الثياب. بوسعك الآن أن ترى النسمة تحركها. قبل ذلك، كانت تبدو كأنها قماش منشىً ثلبت فى مكانه. لاحظ كيف أن التركيز اللامع الذى وضعته الآن على نهديها يظهر ليونة جلد الفتاة الصغيرة، وكيف أن مزيج الأسمر والأحمر القانيين يضفى دفئا على الرمادى البارد لذلك الظل الكبير حيث تجمدت الدماء بدلا من أن تتدفق. أيها الشاب، أيها الشاب! إن ما أريك هنا لا يمكن لأستاذ أن يعلّمك إياه. مابيز وحده هو من يملك سر إضفاء الحياة على الشخوص، ومابيز ليس لديه إلا تلميذ واحد، هو أنا ذاته. لم يكن لى أى تلميذ، وإنما أنا شيخ هرِم. وإن لك من الذكاء ما يمكنك من تخمين الباقى، مما سمحت لك برؤيته ".

وحين كان الرجل الهرِم يتكلم، لمس كل جزء من اللوحة بطرف فرشاته ؛ لمستان هنا، لمسة واحدة هناك، على نحو جعلها تبدو لوحة جديدة، ولكن لوحة يعمُرها النور. كان يعمل فى فورة لا تُظهر أى دفق حتى أن حبات العرق غمرت جبهته البارزة ؛ كانت حركاته البسيطة جد سريعة ونافدة الصبر ومفاجئة، لدرجة أن الشاب بوسّان بدا له أن ثمة شيطان يعمل فى جسد هذا المخلوق الغريب، شيطان يعمل من خلال يديه، يحركهما على نحو غريب ضد إرادة الرجل الهرِم. وقد عمل الشعاع غير الطبيعى الصادر عن عينيه، والتقلصات التى بدت أنها من أثر بعض المقاومة، على جعل تلك الفكرة مقنعة الى الحد الذى خضع معه خيال الشاب خضوعا تاما لما يقوله الرجل الهرِم. وواصل الأخير عمله وهو يقول: انظر هنا! إنك تبسط الزبد بهذه الطريقة أيها الشاب! هيا، بعض اللمسات الصغيرة بالفرشاة تخلع الدفء على هذه الألوان الثلجية. هكذا، هنا، هكذا! ". وتمتم بهذه الكلمات إذ هو يخلق وهجا حسيّا فى ذات الأماكن التى كان قد أشار سابقا الى خلوها من الحياة، نازعا تناقض المشاعر فيها بقليل من ترميمات الألوان، مستعيدا وحدة النغمة المطلوبة لشخص امرأة مصرية تلتهب حماسا.

-                     أترى أيها الفتى، إن اللمسة الأخيرة للفرشاة هى وحدها التى يُحسب لها حساب. لقد وضع بوربيس مئة لمسة، وأنا وضعتُ لمسة واحدة. لن يشكرنا أحد لما هو موجود تحت اللوحة، تذكّر ذلك.

وأخيرا، توقف هذا الشيطان، وتحول نحو بوربيس وبوسّان الواقفيْن دون كلمة، يغمرهما الإعجاب، وقال لهما: " ولكن هذا لا يُقارن بحالٍ بما فعلته فى لوحتى " كاثرين ليسكو ". ولكن يمكن للمرء أن يضع اسمه على هذا الشئ ". وأضاف: " أجل، بوسعى توقيعها ". ووقف يبحث عن مرآة، درس فيها اللوحة هنيهة ثم قال: " والآن، هيا نأكل شيئا. ستصحبانى الى منزلى لأكل بعض شرائح اللحم المقدد وشرب النبيذ الجيد. حسنا، حسنا! بالرغم من الأزمنة السيئة التى نعيشها، بوسعنا الحديث عن الرسم! إننا متساوقون تماما هنا " ؛ وأضاف وهو يربت على كتف نيكولاس بوسّان " وها هنا شاب صغير ينبئ بكل شوارده عن امتلاكه بعض الموهبة ".

وحينئذ لاحظ الشيخ المعطف النورماندى الرث الذى يرتديه الشاب، فأخرج كيسا جلديا من حزامه، وفتش داخله، وأخرج قطعتين ذهبيتين ناولهما لبوسّان قائلا: " سوف أشترى لوحتك ".

وتمتم بوربيس لبوسّان وقد رآه يجفل ويعتريه الخجل، ذلك أن الشاب الموهوب له كرامة الرجل الفقير: " خذهما. هيا، خذهما. إن فى خزائنه من المال ما يستطيع به افتداء اثنين من الملوك! ".

وهبط ثلاثتهم الدرج من المرسم، يتناقشون فى الفنون الى أن وصلوا بالقرب من جسر سان ميشيل الى منزلٍ خشبى جميل، اندهش بوسّان الشاب من ديكوراته ومقبض بابه وأفاريز نوافذه المفتوحة. ودون أن يشعر، وجد الشاب نفسه فى حجرة منخفضة السقف أمام مدفئة تتوهج بالنيران، ثم جالسا الى مائدة عليها أصناف لذيذة من الطعام، وبضربة حظ غير مسبوقة، فى حضرة اثنين من عظماء الفن يميلان الى صداقته.

قال بوربيس إذ رأى بوسّان يحملق فاغر الفم الى إحدى الصور: " أيها الشاب ؛ لا تنظر الى اللوحة طويلا، فهى سوف تدعك الى اليأس ".

كانت لوحة آدم، التى رسمها " مابيز " كيما يخرج من السجن الذى بقى فيه طويلا بسبب دائنيه. وبالفعل، كان رسم الشخصية يخلق تصورا واقعيا، لدرجة أن نيكولاس بوسّان بدأ يتفهم المعنى الحقيقى للمزاعم الطموحة التى طرحها الرجل الهرِم، الذى كان ينظر الآن الى اللوحة بمظهر الإعجاب بالذات وإنما دون حماس، كأنه يقول: لقد أنجزتُ ما هو أفضل من هذا.

قال: " إنها مليئة بالحياة. إن أستاذى المسكين قد تفوق على نفسه هنا، بيد أن الخلفية ما تزال تفتقد درجة ما من الحقيقة. إن الرجل حى أى نعم، إنه يقف ويهم بالسير نحونا ؛ ولكن السماء، الرياح، الهواء الذى نراه ونشعر به ونستنشقه، غير موجودة. وفى الواقع، إن الرجل هو الشئ الوحيد فى الصورة، وكل ما فيه انه رجل. والآن، فالرجل الواحد الذى خرج مباشرة من يدى الله، لا بد أن يكون له شئ من القداسة، وهذا هو ما لا يوجد فى اللوحة. كان مابيز يقسو على نفسه فى هذا الأمر، حين لا يكون ثملا ".

وتطلّع بوسّان بنظرهِ جيئة وذهابا من الرجل الهرِم الى بوربيس، يغشاه فضول قلِق. وتحرك مقتربا من بوربيس كأنما هو يسأل عن اسم الرجل الهرِم، ولكن الرسام وضع اصبعا فوق فمه فى تعبير غامض، فأمسك الشاب لسانه برغم افتتانه،، بأمل أن تسكح ظلمة عابرة إن عاجلا أو آجلا من أن يحدس اسم مضيفهما، الذى بدا ثراؤه ومواهبه من الاحترام الذى أولاه له بوربيس ومن الروائع التى تكدست بها الغرفة.

وصاح بوسّان متعجبا بعد أن لفتت نظره لوحة فخيمة لامرأة أبرز الإطار الدكن المصنوع من خشب البلوط محاسنها: يا لها من تحفة خرجت من يد " جيورجيونى! ".

فأجاب الرجل الهرِم: كلا. إن ما تراه هناك هو من أوائل خربشاتى فى الرسم!

فصاح بوسّان فى براءة: فليحفظنا الله! لا بد اننى فى منزل إله الرسم!

فابتسم الهرِم ابتسامة من تعوّد طويلا على هذا الثناء.

قال بوربيس: يا أستاذ " فرنهوفر "، ألا يمكنك أن تأمر لى بقليل من نبيذ الراين الجيد؟

فرد الرجل الهرِم: قنينتان. واحدة مقابل مسرة صباح اليوم برؤية خاطئتك الجميلة، والثانية هدية الصداقة.

وتابع بوربيس قائلا: آه لو لم أكن أعانى من المرض، وتسمح لى بنظرة على محظيتك، فإنى أعتقد أن بإمكانى إنجاز صورة شخوصها فى أحجامهم الحقيقية – صورة طويلة عريضة وذات عمق حقيقى أيضا.

فهتف الرجل الهرِم وقد بدا عليه الاضطراب فجأة: " أرك عملى! لا، لا. إن اللوحة مازالت بعدُ فى حاجة الى الوصول بها الى درجة الكمال. لقد ظننتُ بالأمس قرب المساء أننى قد انتهيت منها. بدت لى عيناها رطيبتين، وكان جسدها مفعما بالحياة، وضفائر شعرها تتحرك... كانت تتنفس! وبرغم أننى ظننت أنى قد تعلمت أن أصور عمق الطبيعة وصلابتها على لوحة مسطحة من القماش، فأنا فى هذا الصباح، مع ضوء النهار، اكتشفت خطئى. أوه... كيما أنجز هذه النتيجة المجيدة، قمت بدراسة أعمال كل الرسامين العظماء. وقمت بتحليل وتشريح – طبقة.. طبقة – لوحات تيسيان؛ ومثل أستاذ الضوء ذاك، وضعتُ فى شخصيتى ألوانا ممتازة بواسطة فرشاة لينة محملة تحميلا ثقيلا، ذلك أن الظل ليس أكثر من حادثة – تذكّر ذلك يا ولدى. ثم عدتُ الى عملى، وعن طريق استخدام التدرج والطبقات على السطح، وهى التى جعلتها أقل فأقل شفافية، فعملتُ بذلك على خلْق أقوى ظلال بل وحتى أعمق ألوان السواد - ذلك أن معظم الظلال التى يخلقها الرسامون هى ذات طبيعة مختلفة عن درجاتهم الأخف لونا ؛ إنها أخشاب أو برونز، أيهما تختار، أى شئ سوى الجسد يغمره الظل. إنك تشعر أنه لو قام الشخص بتغيير وضعه فإن الأجزاء التى فى الظلال لن يغمرها الضوء أبدا، لن تكون مشرقة أبدا... لقد تجنبت أنا هذا العيب الذى سقط فيه كثير من الفنانين العظام. ففى صورى يبقى الأبيض أبيض فى صميم عتمة أشد الظلال عمقا! وبعكس مجموعة الهواة أولئك الذين يعتقدون أنهم يرسمون على النحو الصحيح لأن عملهم محدد بقدر ما يذلوا فيه من جهد، فأنا لا أحيط شخوصى أبدا بذلك النوع من الخطوط الجافة التى تؤكد على كل تفصيل من التفاصيل التشريحية الصغيرة – فالجسد الانسانى لا تحده خطوط! وفى هذا الصدد، يقترب النحاتون من الواقع أكثر منّا معشر الرسامين مهما حاولنا. فالطبيعة تتكون من سلسلة من الأشكال التى تنصهر أحدها فى الآخر. وإذا تحدثنا على نحو محدد، فليس هناك شئ اسمه الرسم! لا تضحك أيها الشاب! فرغم غرابة هذا القول، سوف تفهم حقيقته يوما ما. فالخط هو الوسيلة التى يستخدمها الانسان لتصوير أثر الضوء على الأشياء والشخوص؛ بيد أنه لا وجود للخطوط فى الطبيعة – فكل شئ فى الطبيعة مستمر وكلّي. إننا نرسم من نماذج، وأعنى بذلك أننا حين نفصل الأشياء عن المحيط الذى وُجدَتْ فيه، فإن توزيع الضوء وحده هو الذى يعطى الجسد مظهره! ومن هنا فأنا لا أحدد خطا مطلقا، بل أنشر سحابة من التدرجات الفاتحة الحميمة فوق الحدود الخارجية للرسم – فلا يمكنك أبدا أن تضع اصبعك فى المكان المحدد الذى تمتزج فيه الحدود الخارجية مع الخلفية. وحين ننظر الى اللوحة عن قرب، تظهر هذه المحاولات مشوشة وتبدو مفتقرة الى التحديد ؛ ولكن - على مبعدة خطوتين – ينعقد كل شئ ويتجسد ويبدو ظاهرا، فالجسد يستدير، والأشكال تبرز، ونشعر بالهواء يدور من حولها. ومع ذلك فإنى لمّا أزل غير راض – تغمرنى الشكوك. ربما من الخطأ رسم خط واحد: ألا يكون من الأفضل تناول شخصية ما من المنتصف، والتركيز أولا على الأجزاء المستعرِضة التى تتقبل الضوء بسهولة ثم الانتقال الى الأجزاء الأكثر عتامة؟ أليس هذا هو الأسلوب الذى تتبعه الشمس، الرسام الإلهى للكون؟ آه أيتها الطبيعة، أيتها الطبيعة! من هو ذلك الذي سبر غور أسرارك؟ لا مفر ؛ إن القدْر الزائد من المعرفة، مثل القدر الزائد من الجهل، يؤدى الى العدم. إن عملى هو... شكوكى! ".

وتوقف الرجل الهرِم، ثم تابع قوله: " لقد مرت عشر سنوات الآن أيها الشاب وأنا أصارع هذه المشكلة. ولكن، ما قيمة سنوات عشر حين نكون فى نضال مع الطبيعة؟ كم من الوقت قضى اللورد بيجماليون فى خلق التمثال الوحيد الذى دبتْ فيه الحياة على الإطلاق! ".

وغمرت الرجل الهرِم موجة عميقة من التفكير، وعيناه ثابتتان وأصابعه تلعب آليا بسكينه.

وهمس بوربيس: إنه الآن يتحدث مع عبقريته.

وعند هذه الكلمة، استحوذ على نيكولاس بوسّان فضول لا تفسير له – فضول الفنان -. هذا الرجل الهرِم، بنظرته الشاخصة، لا حركة فيه وفى حالة غيبوبة، قد أصبح أكثر من بشر فى عينىْ الشاب ؛ نوع من الجنّي الخرافي يقطن فراغا مجهولا، مثيرا آلاف الأفكار الغامضة فى روحه. إن الظاهرة المعنوية لمثل هذا الانبهار لا يمكن تحديدها مثلما لا يمكننا أن نترجم فى كلمات الانفعال الذى تثيره أغنية فى نفس الشخص المنفي تعيد بلاده الى ذاكرته. كان الازدراء الذى افتعله الرجل الهرِم لجهود الفن النبيلة، وثروته، وطرقه الغريبة، وتوقير بوربيس له، ولوحته الفنية العظيمة التى ظلت سرا لهذا الوقت الطويل – عملٌ نتيجة صبر عميق، ونتيجة عبقرية لا شك فيها، إذا حكمنا برأس العذراء التى أُعجب بها بوسّان إعجابا حقيقيا، والتى ما تزال جميلة حتى الى جانب لوحة " مابيز " عن آدم، كل هذا أظهر الأستاذية السامية لواحد من أمراء الفن: كان كل شئ عن هذا الرجل الهرِم يعلو فوق حدود الطبيعة الانسانية. إن ما بوسع خيال نيكولاس بوسّان المحموم أن يدركه، ما أصبح الآن واضحا تماما له من تعامله مع هذا الكائن الخرافى، هو صورة نهائية لطبيعة الفنان، تلك الطبيعة الوحشية التى تدخل فيها قوىً كثيرة جدا، والتى كثيرا ما تسوء استخدامها، مما يقود العقل البارد والجمهور البرجوازى، بل وبعض العارفين، الى آلاف الطرق العقيمة، حيث يقوم هذا الجنِي متقلب الأهواء ذو الأجنحة البيضاء باكتشاف القلاع والملاحم والأعمال الفنية! هى طبيعة تسخر أحيانا، وتشفق أحيانا أخرى، وهى خصبة ومتوحدة فى الوقت نفسه! ولذلك فبالنسبة لبوسّان المتحمس، أصبح هذا الرجل الهرِم – فى تحوّل مفاجئ – الفن ذاته. الفن بكل أسراره وانفعالاته وأحلامه.

وواصل " فرنهوفر " حديثه: " أجل يا عزيزى بوربيس، إن ما فشلتُ في العثور عليه حتى الآن هو امرأة لا شبيه لها، جسدٌ تكون أبعاده جميلة على نحو الكمال، وتكون بشرتها..." ؛ وقاطع نفسه قائلا: "... ولكن أين هى فى الواقع؟ فينوس تلك عند الأقدمين، يبحثون كثيرا عنها ولم يجدوها أبدا إلا فى عناصر متناثرة، بعض أوجه الجمال المتشظى هنا، وبعضه هناك! أوه، إنى لأهب كل ما أملك لو أمكننى مرة وحيدة فحسب – للحظة واحدة – أن أرى تلك الطبيعة الكاملة، تلك الطبيعة المقدسة ؛ لو أننى أستطيع أن أقابل ذلك الجمال السماوى المثالى، لبحثت عنه فى أغوار عالم الليمبو * ذاته! ومثل أورفيوس أهبط الى عالم هاديس ** الفنى كيما أعيدها الى الحياة! ".

وتمتم بوربيس لبوسّان: " علينا أن نرحل الآن، فهو لم يعد يسمعنا ولا حتى يرانا! ". ولكن الشاب المبهور اقترح قائلا: " فلنصعد الى مرسمه ".

أوه. إن الرجل الهرِم قد عمد الى الاحتفاظ بلوحته آمنةً بالقفل والمفتاح بعيدا عن أمثالك وأمثالى. إن كنوزه فى الحفظ والصون على نحو لا نستطيع الوصول اليها. إنى لم أكن لأنتظر سماع اقتراحك وخيالك كى أسبر غور ذلك اللغز... ".

إذن فهناك لغز؟

فأجاب بوربيس: نعم. إن فرنهوفر الهرِم هو التلميذ الوحيد الذى اتخذه مابيز. وحين أصبح صديقه وحاميه ووالجه، قام فرنهوفر بالتضحية بالقسم الأكبر من كنوزه كى يرضى ما يحبه مابيز ؛ ومقابل ذلك، ورّثه مابيز سر التجسيد فى الرسم، قوة خلع حياةً غير عادية على شخوصه، ذلك الازدهار الطبيعى الذى يمثل لنا الوصول اليه عقبة أبدية، ولكنه التقنية التى امتلكها على نحو مكين لدرجة أنه فى أحد الأيام، وقد أنفق على الخمر النقود التى كان يجب عليه أن يبتاع بها الديباج الدمشقى المطرز لحضور حفل مراسم استقبال الإمبراطور شارل الخامس، اصطحب راعيه مرتديا ملابس من الورق رسم عليها ما جعلها تبدو كالديباج الدمشقى. وقد أثار اللمعان الخاص للمادة التى استخدمها مابيز فى الديباج عجب الإمبراطور الذى حاول الثنــاء على رفيــــق الثمل الهرِم فاكتشف الخدعة. إن فرنهوفر رجل واقعٌ فى حب فننا، رجل يرى أعلى وأبعد مما يرى الرسامون الآخرون. لقد فكّر كثيرا فى طبيعة اللون، وفى الحقيقة المطلة للخطوط، ولكن... من جراء ذلك الجهد الجهيد فى البحث – وصل الى حد الشك فى موضوع أبحاثه ذاتها. وحين تنتابه لحظات اليأس، يزعم أن الرسم لا وجود له، وأن الخطوط لا نفع فيها إلا لخلْق شخوص هندسية، وهو ما يبعد كثيرا عن الحقيقة، لأنه عن طريق الخطوط والأسود – وهو ليس بلون – يمكننا خلق شخصية بشرية. لديك هنا البرهان على أن فننا يشبه الطبيعة نفسها، يتكون من عناصر لا حصر لها: الرسم يحدد الهيكل، واللون يعطى الحياة، ولكن الحياة بدون هيكل لهِى حتى أكثر نقصا من هيكل بدون حياة. وأخيرا، هناك شئ أكثر صدقا من كل هذا، وهو أن التدريب والملاحظة هما كل شئ بالنسبة للرسام ؛ لدرجة أنه إذا تحاور العقل والشعر مع فرشاتنا، انتهى بنا الأمر الى الشك، مثل صاحبنا الهرِم هنا، الذى هو مجنون بقدر ما هو رسام – رسام عالى القدر ولكن شاء سوء حظه أن يولد فى أسرة ثرية، مما سمح له بأن يهوّم هنا وهناك. لا تفعل ذلك بنفسك! اعمل ما دمتَ قادرا على ذلك! للرسام أن يتفلسف فحسب وفرشاته فى يده ".

وصاح بوسّان إذ لم يعد يستمع لما يقوله بوربيس وقد نسى كل العقبات: " لسوف نذهب الى المرسم بأى طريقة ". وابتسم بوربيس لحماس الشاب المجهول واستأذن للقيام، عارضا عليه دعوة لأن يذهب لزيارته.

وشق نيكولاس طريقه ببطء نحو شارع " دى لاهِرب "، مشغولا عما حوله الى حد أن تعدى موقع نُزُله المتواضع. وعاد أدراجه، وصعد السلالم القذرة بسرعة قلِقة، ووصل الى حجرة نوم تقع تحت جمالون خشبى لا يكاد يحميه السقف الواهى المعهود فى المنازل العتيقة فى باريس. وبالقرب من النافذة الوحيدة الكائنة فى غرفته، رأى فتاة وقد قفزت فجأة عند سماعها صوت الباب فى ردة فعل ودودة – فقد تعرفتْ على الرسام من طريقة معالجته للمزلاج.

سألت: ما الأمر؟

فقال وهو يلهث من الانفعال: الأمر! للمرة الأولى فى حياتى تحققتُ أنه بإمكانى أن أكون رساما! لقد تشككتُ فى نفسى حتى الآن، ولكنى هذا الصباح آمنتُ أن بوسعى أن أكون رجلا عظيما! سوف ترين يا جيليت، سنكون أغنياء، سنكون سعداء! هناك ذهبٌ فى هذه الفرشاة! ".

ولكنه صمت فجأة. وانداحت نظرة الفرح من سحنته النشيطة الجادة إذ قارن بين فخامة آماله وشح موارده. كانت الجدران تغطيها أفرخ ورق تبرقشها رسومات بالقلم. كانت لديه ربما أربع لوحات خالية. وكانت الألوان غالية فى تلك الأزمان، بينما الباليت الخاصة بهذ الشاب المسكين المحترم تكاد تكون خالية من الألوان. ولكن، فى أعماق فقر مثل هذا، كان لديه ثراء روحى لا يُصدّق ينعم فيه وعبقرية دفاقة تستغرقه استغراقا. وقد أغراه أحد النبلاء ممن صادقوه – أو بفعل طموحاته هو ذاتها – بالانتقال الى باريس، ونجح فى الحصول على عشيقة، واحدة من تلك النفوس الكريمة النبيلة ممن يتحملن محنتهن الى جوار رجل عظيم، قبلتْ مسغبته وكافحت كيما تفهم نزواته، تملؤها الجسارة فى الحب والفاقة أكثر مما تظهره النسوة الأخريات فى مظاهر الترف والقسوة. وكانت البسمة التى تعلو شفتىْ جيليت توشّى حجرتهما البائسة بالذهب وتنافس نور السماء. وقد لا تشرق الشمس دائما أحيانا، ولكنها كانت دائما هناك، مستدامة العاطفة، تكرس نفسها له فى أوقات آلامه كما فى أوقات أفراحه، تواسى العبقرى الذى يتوهج فى حبهما قبل أن يستولى عليه حين يلتفت الى عمله فى الفن.

اسمعى يا جيليت، عندى ما أقوله لكِ.

وبكل طواعية، قفزت الفتاة السعيدة فى حِجر الرسام. كانت تمثل اللطف ذاته، جميلة كالربيع فى أوانه، تزينها كل مظاهر السحر الأنثوى الذى أضاءته بشعلة روح جميلة.

وصاح الرسام: آه يا إلهى! لن أجرؤ على سؤالك.

فقاطعته قائلة: أهو سر؟ أريد أن أسمعه.

وبقى بوسّان يغلفه الفكر.

- لي هو؟

- جيليت، أي حبيبتي المسكينة!.

- أواه، إنك تريد منى أن أفعل شيئا؟

- أجل.

فواصلت كلامها بشئ من التذمر: لو كنت تريدنى أن أقف موديلا لك مثلما فعلتُ ذلك اليوم، فلن أقوم بذلك مرة أخرى أبدا، ذلك أننى حين أفعل ذلك، لا تعُدْ عيناك تحدثنى. إنك لا تفكر فىّ، حتى عندما تكون ناظرا نحوى تماما.

- هل تفضلين لو أننى كنت أرسم امرأة أخرى؟

قالت: ربما، لو أنها تكون قبيحة.

فواصل بوسًان كلامه بلهجة جادة تبدت فى صوته: حسنا إذن، ماذا لو تقومين – من أجل مجدى المقبل، من أجل أن اصبح رساما عظيما – بالوقوف كموديل لشخص آخر؟

قالت: إنك تختبرنى. أنت تعلم تمام العلم أننى لن أقوم بذلك!

فسقط رأس بوسّان على صدره كرجل يستسلم لفرح أو أسف أقوى من أن تتحمله روحه.

قالت جيليت وهى تمسك بردن سترته القصيرة الرثة: اسمع، لقد قلتُ لك يا نِك إن بوسعى أن أهبك حياتى، ولكنى لم أعدك بأنى سوف أهجر حبى.

فصرخ بوسّان: تهجرين؟

- لو أننى كشفتُ عن نفسى على ذلك النحو لشخص آخر، فإنك لن تحبنى بعد ذلك. وأنا نفسى سوف أشعر أننى لست جديرة بك. إننى أفعل أى شئ تطلبه منى، أليس كذلك؟ إن ذلك طبيعى تماما. وأظل سعيدة بذلك على الرغم منى. بل أنا حتى فخورة بأننى أنفذ ما تشاء. ولكن... لشخص آخر – أوه كلا!

فهتف الرسام قائلا وهو يركع أمامها: سامحينى يا جيليت. إننى أفضّل حبكِ على كل شهرة فى العالم – وإنك عندى أكثر من الثروات والإنعامات. اذهبى فالقى بفرشاتى بعيدا، واحرقى هذه الرسومات. لقد كنتُ مخطئا. إن مهنتى هى أن أحبك – أنا لست رساما، إنما أنا محب. فليذهب الفن وأسراره الى الجحيم!

وغمرتها النشوة تجاهه، سعيدة، نشوانة. لقد أصبحتْ متفوقة الآن. وشعرت بالغريزة أنه قد نسى الفن من أجلها، ويضحى به أمام قدميها كحبةٍ من الجوز.

وتفكر بوسّان قائلا: ومع ذلك، فما هو إلا رجل هرِم. إنه لن يتمكن إلا من رؤية المرأة فيكِ. إنك الكمال بعينه!

فصاحت وهى مستعدة للتضحية بهواجسها الرومانسية لمكافأة بوسّان على كل ما يتركه من أجلها: " إن الحب يقهر كل شئ! ولكن هذا سوف يؤدى الى هلاكى. أوه، إنى على استعداد لأن أهلك من أجلك! أنا أعلم أنه شئ جميل، ولكنك سوف تنسانى بعد ذلك. أوه، يالها من فكرة رهيبة تملكتْ عقلك! ".

قال فى شئ من الألم: بالفعل، وأنا أحبك. هل فى هذا ما يجعلنى نذلا؟

فسألت: هل نستشير الأب " أردوان "؟

- كلا، فليبق هذا سرا بيننا.

قالت: حسنا إذن، سوف أذهب، ولكن يجب ألا تكون أنت هناك. فلتبق بالخارج، شاهرا سيفك، فإذا صرختُ ادخل واقتل الرسام!

ولما لم يعد بوسّان يفكر فى أى شئ آخر سوى فنه، قام بإحاطة جيليت بذراعيه.

وجال فى خاطر جيليت حالما أصبحت وحدها: " إنه لم يعد يحبنى "، وشعرتْ بالندم على قرارها. ولكنها سرعان ما وقعتْ فريسة خوف أقسى من ندمها، رغم أنها حاولت أن تُقصى الفكرة الفظيعة التى التفّتْ حول قلبها: ربما أنها هى التى أصبحت تحب بوسّان أقل مما قبل، إذ تشُك أنه أقل استحقاقا لحبها عما قبل.

- 2 –

كاثرين ليسكو
بعد مرور ثلاثة أشهر على لقاء بوسّان وبوربيس، قام الأخير بزيارة الأستاذ فرنهوفر. كان الرجل الهرِم يعانى فى ذلك الوقت من تلك النوبات العميقة والدافقة للإكتئاب الناتج – وفقا لخبراء الطب – من سوء الهضم، والريح، والحرارة، أو من بعض الانتفاخ فى مناطق البطن، أما وفقا لمن يفضلون تفسيرا روحيا لذلك، فهى نتيجة نقص فى طبيعتنا الأخلاقية. كان الرجل المسكين – بكل بساطة – منهكا تماما من الجهد الذى بذله لإتمام لوحته السرية. وبدا متهالكا فوق أريكة ضخمة من خشب البلوط المنحوت ومغطاة بالجلد الأسود، وحدّق دون أن يبدل من وضعه المكتئب فى بوربيس وعليه تعبير رجل لا يمكن إخراجه من ورطته عن طريق النقاش.

وداهنه بوربيس قائلا: حسنا، والآن أيها الأستاذ، أكان سيئا ذلك اللون الأزرق الذى تكبدتَ جهد السفر الى "بريج"* كي تجلبه؟ أو أنه لم يكن بوسعك أن تطحن لونك الأبيض الجديد بما فيه الكفاية؟ هل فسد عندك زيت الرسم؟ هل تصلّبت فُرَشك؟

فصاح الرجل الهرِم: " واحسرتاه! لقد اعتقدتُ فى وقت من الأوقات أن لوحتى قد اكتملتْ، ولكنى الآن على يقين بخطأ عدة تفاصيل فيها، ولن يهدأ لى بال الى أن أبدد شكوكى. لقد اعتزمتُ الرحيل ؛ سأذهب الى اليونان وتركيا، وحتى الى آسيا، بحثا عن موديل. أريد أن أقارن صورتى مع مختلف صور الجمال فى الطبيعة ". واستطرد قائلا وعلى شفتيه ابتسامة رضا: " ربما... ربما كان عندى الطبيعة ذاتها هناك فى مرسمى. أحيانا، أكاد يتملكنى الخوف من أن أتنفس لئلا أوقظ المرأة فتختفى من اللوحة ". ونهض فجأة كأنما سيرحل فى تلك اللحظة.

فأجاب بوربيس: إذن فأنا قد جئتُ فى الوقت المناسب كيما أوفر عليك نفقات الرحلة ومشاقها.

فتساءل فرنهوفر بدهشة: وكيف ذلك؟

_ إن الشاب بوسّان لديه عشيقة ذات جمال لا يوصف – ليس من عيب واحد فيها! ولكنه إذا وافق أن يعيرها إياك، يجب عليك على الأقل أن تمنحنا نظرة على لوحتك تلك!

وبقى الرجل الهرِم واقفا فى المكان حيث نهض على قدميه، فى حالة من الذهول التام.

وصاح أخيرا فى نبرة ألم: ماذا! أعرِضُ ما خلقته، زوجتى؟ أخلع الحجاب الذى أخفيتُ وراءه سعادتى بكل طهر؟ إن ذلك سيكون عهرا خطيرا! لقد عشتُ الآن عشر سنوات مع هذه المرأة ؛ إنها مِلكى، مِلكى وحدى، وهى تحبنى. ألم تبتسم لى مع كل ضربة فرشاة منحتها لها؟ دعنى أقول لك إن لها روحا، روحا وهبتها لها. إنها ستخجل لو وقعتْ عليها أعين أخرى غير عينىّ. أعرضها! أى زوج، أى عاشق لديه من النذالة أن يضع زوجته فى محل عارِ مثل ذلك؟ إنك حين ترسم صورة للبلاط الملكى، لا حجة بك أن تضع فيها روحك، فإن ما تبيعه لأفراد البلاط ما هو إلا موديل من صنع الخيال. إن لوحتى ليست بلوحة، إن الشخصية التى بها هى إحساس، عاطفة مشبوبة! لقد وُلدتْ فى مرسمى – فليس لها أن تغادره إلا بعد أن ترتدى كامل ملابسها. إن القصائد والنساء لا يظهرن عاريات إلا لعشاقهن فحسب! هل نحن نمتلك موديل رافائيل، أو أنجليكا أريوستو، أو بياتريس دانتى؟ كلا، إننا نرى أشكالهن فقط. حسنا! إن العمل الذى أحتفظ به فى مكان مغلق بالقفل والمفتاح فى مرسمى بالدور الأعلى هو شئ استثنائى فى فننا. ليست لوحة، هى امرأة! امرأة أشاركها البكاء والضحك والحديث والتفكير. هل تفترض أن أقوم فجأة بالتخلى عن سعادة عشر سنوات كأنما أنا أخلع معطفى؟ لو فعلتُ ذلك أكون قد توقفتُ بالكامل فى جرة واحدة من أن أكون أبا وعاشقا وإلاها! هذه المرأة ليست مخلوقا، بل هى خلْق. دع الشاب يحضر، فسأعطيه كنوزى، سأعطيه لوحات كوريجيوس وتيسيان وحتى مايكل أنجلو! سوف أمطر آثار قدميه على التراب بالقبلات. ولكن... أجعله غريما لى؟ ياللعار! ها، إنى مازلت عاشقا أكثر منى رساما. أجل، إن لدى من العافية ما يكفى كى أحرمه من " كاثرين " وأنا ألفظ أنفاسى الأخيرة ؛ ولكن أن أرغمها على أن تتحمل نظرات رجل، شاب، رسام! لا، لا! لو لوثها أى شخص بنظرة لقتلته فى اليوم التالى! إنى أقتلك آنذاك وهناك يا صديقى لو أنك لا تحييها راكعا على ركبتيك! وتريد منى أن أُخضِع معبودتى للنظرات الباردة والنقد الأحمق من مجانين؟ أوه، الحب سر: إنه يعيش فحسب فى أعماق قلوبنا، ويضيع كل شئ حين يقول رجل، حتى لصديقه، هذه هى المرأة التى أحبها! ".

وبدا كأن الرجل الهرِم قد عاد شابا مرة ثانية ؛ فعيناه تتوهجان بالحياة، وخداه الشاحبان يصطبغان فجأة بالحمرة، ويداه ترتعشان. واعترت بوربيس الدهشة من العنف المشبوب الذى صبغ تلك الكلمات، واحتار فى كيفية الرد على عاطفة بدت له جديدة وعميقة. هل كان فرنهوفر فى كامل عقله، أم أنه قد جُن؟ هل لحِقَه ما يصيب الفنان من أوهام، أم نتجت هذه الأفكار من التعصب العصى على الوصف الذى يسببه الاستغراق الطويل فى خلق عمل عظيم؟ وهل يمكن للمرء أن يأمل قط فى الحديث العاقل لمثل من يحمل هذه العاطفة الغريبة؟

وبينما تملكتْ بوربيس هذه الأفكار، سأل الرجل الهرِم: " ولكن، أليس الأمر هو امرأة مقابل أخرى؟ أليس بوسّان يقدّم فتاته أمام عينيك؟ ".

وسخر فرنهوفر: " أى فتاة تلك؟ إنها ستخونه إن عاجلا أو آجلا. أما امرأتى فستبقى مخلصة! ".

واستطرد بوربيس: وهو كذلك. لن نستمر فى الحديث فى هذا الموضوع. ولكن، قبل أن تعثر – حتى فى آسيا – على امرأة فى جمال وكمال المرأة التى كلمتك عنها، قد تموت قبل أن تُنهى لوحتك ".

فقال فرنهوفر: أوه، لقد أنهيتها. أى شخص يراها سيفترض أنه قد رأى امرأة ترقد على غطاء من القطيفة، تحيط بفراشها الستائر، والى جوارها مبخرة ثلاثية يفوح منها البخور. سيحفزك إغراء بأن تمسك بمشبك الحبل الذى يربط الستائر المفتوحة، وستظن أنك قد رأيتَ نهد كاثرين يرتفع ويهبط مع زفراتها. ومع ذلك، يجب أن أتأكد... ".

فقال بوربيس وقد لمس نوعا من التردد فى نظرة فرنهوفر: إذن، إذهب الى آسيا ". ثم خطا بضع خطوات تجاه باب الحجرة.

وفى نفس تلك اللحظة، وصلت جيليت ونيكولاس بوسّان الى بيت فرنهوفر. وحين همّا بالدخول، رفعتْ الفتاة ذراع الرسام من عليها وتراجعت الى الوراء كأنما أحست نذيرا مفاجئا.

وسألت حبيبها فى رنة صوت جوفاء وهى تحدق فى عينيه: ماذا أفعل هنا؟

- جيليت، لقد تركت القرار لكِ، وسوف أطيعكِ مهما تقولين. إنكِ ضميرى ومجدى. فلنعُد الى النُزُل، فقد أكون أكثر سعادة هناك من لو أنكِ... ".

فقالت كأنما تقوم بجهد عنيف: هل أنا سيدة نفسى حين تتحدث معى على هذا النحو؟ أوه، كلا، ما أنا إلا طفلة. فلندخل. لو أن حبنا مات، لو أننى فتحتُ قلبى للندم الأبدى، ألن يكون مجدك هو مكافأتى لإطاعتى رغباتك؟ فلندخل. إن كونى ذكرى أبدية على صفحة ألوانك سيظل نوعا من الحياة".

وحين فتح العاشقان باب المنزل ، كادا يصطدمان ببوربيس الذى كانت عيناه حينذاك مليئتين بالدموع ؛ وغمرته الدهشة من هذا اللقاء المفاجئ مع جيليت، فأخذها من ذراعها وهو يرتعش وقادها الى حضرة الرجل الهرِم. قال: انظر، أليست تستحق كل تحف العالم.

وجفل فرنهوفر. وقفت جيليت أمامه فى وضع فتاة شركسية خائفة إذ يحملها قطّاع طرق الى تاجر العبيد. وكستْ طلعتها حمرة خفيفة، وخفضت عينيها، ويداها على جانبيها، فيما بدا أن قوتها قد تخلت عنها، ودموعها تحتج على هذا العنف الذى هاجم هدوءها. وفى هذه اللحظة، لعن بوسّان نفسه فى يأس لأنه أخرج هذا الكنز الجميل من غرفته العلوية، وعاد من جديد عاشقا أكثر منه فنانا، واضطرمت فى قلبه آلاف الهواجس حين شاهد نظرة الرجل الهرِم وقد عاد لها الشباب وقام – كعادة جميع الرسامين – بتعرية الفتاة بنظراته – محدّسا أشكالها الأكثر سرية. وعادت الى بوسّان عندئذ الغيرة العنيفة للعاشق الحق.

صاح بحدة: جيليت، فلنرحل!

وحين نطق بهذه العبارة فى تلك النبرة، رفعت الحبيبة التى غمرها السرور عينيها الى عاشقها، وارتمت بين ذراعيه.

صاحت: أوه، إنك تحبنى حقا! ". وطفقت تبكى ؛ فبعد أن روضت نفسها على ألا تكشف عن ألمها، لم تعد لديها قدرة على إخفاء سرورها.

وناشد الرسام الهرِم الرسام الشاب قائلا: أوه، اتركها معى، لحظة واحدة فقط، وتستطيع أن تقارنها بلوحتى " كاثرين ". أجل، إنى أوافق.

كان هناك مايزال شئ من الحب فى مناشدة فرنهوفر. بدا كما لو أنه أصبح ضحية نوع من الدلال نحو المرأة التى رسمها ؛ وكيما يُسَرّ مقدما بانتصار بكْريته الاصطناعية على جمال الفتاة الحقيقية.

وهتف بوربيس وهو يربت على كتف بوسّان: لا تدعه يرجع عن وعده. إن ثمار الحب تذبل سريعا، ولكن ثمار الفن خالدة أبد الدهر.

وغمغمت جيليت وهى تنظر بقوة الى بوسّان ثم الى بوربيس: إذن فأنا بالنسبة له لستُ أكثر من امرأة؟ ". ورفعتْ رأسها فى اعتداد ولكن – بعد أن ألقت نظرة على فرنهوفر، رأت عاشقها يدرس مرة أخرى اللوحة التى ظن سابقا أنها من رسم " جيورجيونى؟، فأردفتْ: آه، فلنصعد الى الطابق الأعلى. إنه لم ينظر لى أبدا بمثل هذه الطريقة ".

فقال بوسّان وقد أخرجته كلمات جيليت من تأملاته: أيها الرجل الهرِم، أترى هذا السيف؟ إنى سوف أدفعه الى قلبك عند أول كلمة شكوى تصدر عن هذه الصبية. سوف أشعل النيران فى بيتك، ولن يتمكن أحد من الخروج حيا من هنا. أتفهم ما أقول؟.

بدت الجهامة على بوسّان، وكانت كلماته مخيفة. وقد أدت كلمات الرسام الشاب وخاصة حركاته، الى تعزية جيليت التى كادت تغفر تضحيته بها فى سبيل الرسم وفى سبيل مستقبله المجيد. وبقى بوربيس وبوسّان خارج باب المرسم، يحدّق الواحد منهما فى الآخر فى صمت. وفى البداية، سمح رسام لوحة " مارى المصرية " بالتعبير عن بعض أفكاره:... الآن هى تخلع ملابسها... الآن هو يطلب منها أن تقف حيث يوجد ضوء النهار... الآن هو يقارن بينها وبين لوحته! ". بيد أن بوربيس لزم الصمت حين رأى وجه بوسّان، الذى بدا عليه حزن شديد. ورغم أن الرسامين الهرِمين لم يعودوا يشعرون بمثل هذه الهواجس التافهة فى حُضرة الفن، فقد شعر بوربيس بالإعجاب تجاه هذين الشابين لكونهما على هذه البساطة والجمال. وأبقى بوسّان يده على مقبض سيفه لاصقا أذنه على الباب. وبدا الرجلان إذ هما واقفان هناك فى الظلال، مثل زوج من المتآمرين ينتظران اللحظة المناسبة للهجوم على طاغية.

صاح الرجل الهرِم وصوته يشرق بالبهجة: ادخلا، ادخلا! إن عملى كامل، أستطيع الآن أن أريه لكما بكل فخر. لن ينجح أبدا رسام أو فرشاة رسم، أو لون، أو نسيج لوحة، أو ضوء، أن يخلق ما ينافس لوحتى " كاثرين ليسكو ".

وهرع بوربيس وبوسّان وقد سيطر عليهما فضول شديد الى وسط المرسم الرحيب المغطى بالتراب، حيث كل شئ فيه غير مرتب، فقد رأيا هنا وهناك لوحات وتصميمات على الجدران. ثم وقفا فجأة وقد غلب على كليهما الإعجاب أمام شخصية بالحجم الطبيعى لامرأة نصف عارية. فقال فرنهوفر: " أوه، لا تهتما بتلك اللوحة! إن هى إلا دراسة لوضع من الأوضاع ؛ وهى كصورة لا تساوى شيئا على الإطلاق ". واستطرد وهو يشير الى التشكيلات الأخّاذة المعلقة على الجدران من حولهم: هذه هى أخطائى ".

وعند سماع بوربيس وبوسّان تلك الكلمات، غمرتهما الدهشة لازدراء الرسام الهرِم لهذه الأعمال، وبحثا عن اللوحة التى وعدهما برؤيتها دون أن ينجحا فى العثور عليها.

وأعلن الرجل الهرِم وقد تهوش شعره وتوهج وجهه بحماس غير طبيعى، وعيناه تبرقان وهو يلهث كالعاشق الذى أضناه الحب: حسنا، هاهى. أهّا! لم تكونا تنتظران مثل هذا الكمال، أليس كذلك؟ إنكما في حضرة امرأة، وما زلتما تبحثان عن صورة! إن فوق نسيج هذه اللوحة عمقا هائلا، والهواء فيها حقيقى لدرجة لا يمكنكما معها أن تميزا بينه وبين الهواء الذى يحيط بكما. أين هو الفن. ذهب، اختفى! هنا يوجَد الشكل الحقيقى – الشكل الصميم لفتاة. ألم أمسك باللون وبطاقة الخط الذى يبدو محيطا بجسدها؟ أليس هذا مجرد الظاهرة التى تقدمها الأشياء التى تعيش فى الهواء مثلما يعيش السمك فى الماء، لاحِظا كيف ترتسم المعالم فوق الخلفية! هذا الظهر: ألا يبدو كما لو أنكما تستطيعان تمرير أيديكم عليه؟ لقد تطلب الأمر منى سبع سنوات من الدراسة كيما أحرز مثل هذه التأثيرات وتوافق الأشياء مع ضوء النهار! وذلك الشَعر! أتريان كيف يتوهج النور من خلاله... بل إننى أعتقد أنها تتنفس... أترون هذا النهد. آه! من ذا الذى يحجم عن التعبد فى محرابها على ركبتيه؟ إن الجسد ينبض، إنها على وشك أن تنهض واقفة، انتظرا لحظة... ".

وهمس بوسّان لبوربيس: هل ترى أى شئ؟

- كلا. وأنت.

- لا شيء.

وترك الرسامان الرجل الهرِم فى تجلياته وحاولا أن يريا إذا ما كان الضوء الساقط مباشرة على اللوحة التى يعرضها لهما قد أبطل إظهار مؤثراتها. ثم قاما بالتحديق فى الصورة وهما يتحركان الى اليمين، ثم الى الشمال، وهما مقعيان، ثم وهما واقفان مرة أخرى.

وأكد لهما فرنهوفر وقد أخطأ فهم مغزى حركاتهما المدققة:" أجل، أجل، إنها لوحة. انظرا، هنا النقالة، وهنا الحامل، وهنا ألوانى، وفرشاتى ". وتناول فرشاة قدمها لهما بحركة ساذجة.

وغمغم بوسّان: وقد عاد يتطلع الى اللوحة المزعومة: إن المُخادِع الهرِم يمكر بنا. إن كل ما أراه مجرد ألوان ثُبّت الواحد منها فوق الآخر ثم أحيطت بكتلة من الخطوط الغريبة تشكل جدارا من اللون.

وصمم بوربيس قائلا: لا بد أننا نفتقد شيئا.

واقتربا من اللوحة فأبصرا فى أحد أركانها طرف قدمٍ عارٍية في تلك الفوضى من الألوان والأشكال والظلال الغامضة، نوع من الغمام غير المترابط ؛ بيد أنها كانت قدما جميلة، قدما حية! ووقفا مبهوتيْن من الإعجاب أمام هذه الشظية التى هربت من دمار لا يُعقل يتقدم ببطء. وبدت القدم هناك كجذع تمثال مرمرى لفينوس ينهض من بين أطلال مدينة احترقت وصارت رمادا.

وصاح بوربيس موجها نظر بوسّان لطبقات اللون التى وضعها الرسام الهرِم فوق بعضها البعض معتقدا أنه يضيف الكمال على فنه: هناك امرأة تحت كل هذا!.

واستدار الرسامان من فورهما نحو فرنهوفر، وقد بدآ يتحققان على نحو غامض من حالة التجلى التى أطبقتْ عليه.

قال بوربيس: إنه يعنى ما يقول.

ورد الرجل الهرِم إذ هو يستيقظ من نوبته: أجل يا صديقي، يجب أن يكون لديك إيمان، إيمان بالفن، ويجب أن تعيش وقتا طويلا مع عملك حتى تخلق عملا كهذا. لقد كلفتنى بعض هذه الظلال الكثير من العمل الشاق. انظر هناك – الى ذلك الخد، تحت العينين – ذلك الظل الخفيف الذى ستقسم باستحالة نقله لو رأيته فى الطبيعة. هل تفترض أن أثرا قبل ذلك لم يكلفنى صعوبات لا تُصدّق لإنتاجه؟ وأيضا يا عزيزى بوربيس، اِدرس عملى بدقة، وستفهم شيئا أكثر عما كنت أخبرك به عن الطريقة التى أتعامل بها مع الصياغة ومع الخطوط الخارجية. اِنظر الى الضوء على النهد وسترى كيف أننى – بسلسلة من ضربات الفرشاة والتركيز المطبّق بواسطة الفُرش المتكاملة – نجحتُ فى الإمساك بحقيقة الضوء وفى توليفِه مع اللون الأبيض اللامع بالمواضع الرئيسية البارزة، وكيف أننى – عن طريق جهد مناقض يتمثل فى تمهيد حواف ونسيج اللون نفسه وملاطفة حدود امرأتي وغمس هذه الحدود فى تدرج الألوان – قمتُ بإزالة فكرة الرسم التصميمى ذاتها، والطرق المصطنعة، وخلعتُ على عملى طلعة الطبيعة وصلابتها الفعلية. اِقتربْ من اللوحة، سترى على نحو أفضل كيفية رسمها، فهى تختفى عند النظر اليها من مبعدة. أترى؟ هنا، هنا تماما، أعتقد أنها ممتازة حقا ".

وبطرف فرشاته، أشار للرساميْن على لطخة من اللون الباهر.

وربت بوربيس على كتف الرسام الهرِم، وقال وهو يستدير نحو بوسّان: أتعرف، عندنا هنا رسام عظيم جدا.

ورد بوسّان برزانة: بل شاعر أكثر منه رساما.

واستطرد بوربيس قائلا وهو يلمس اللوحة: هنا، هنا بالضبط ينتهى فننا على هذه الأرض.

قال بوسّان: حيث يختفى فى السماوات.

وصاح بوربيس: يا لها من كمٍ من المباهج تضمها هذه اللوحة الواحدة!

ولم يلتفت الرجل الهرِم، مهموما، لهما ومضى يبتسم لامرأته الخيالية.

وصاح بوسّان: ولكنه إن عاجلا أو آجلا سيلحظ أنه ليس هناك شئ فى اللوحة.

وردد فرنهوفر وهو يراوح النظر بين الرساميْن وبين صورته الخيالية: لا شئ فى لوحتى؟

وزمجر بوربيس قائلا لبوسّان: ماذا فعلت!

وأمسك الرجل الهرِم بذراع الشاب فى عنف وصرخ: " ألا ترى أى شئ. أيها الجِلف! أيها الخائن! أيها الحيوان! لماذا جئتَ هنا على أى حال! أى بوربيس الطيب... " وقطع حديثه موجها كلامه للرسام "... أتسخر منى أنت أيضا؟ إننى صديقك، بوسعك أن تقول لى الحقيقة: هل أفسدتُ لوحتى.

وتردد بوربيس ؛ لم يجرؤ على الحديث. ولكن القلق الذى تبدى فى ملامح الرجل الهرِم كان من القسوة بحيث أنه لم يستطع إلا أن يشير الى اللوحة ويقول متلعثما: اِنظر بنفسك!

وحدّق فرنهوفر فى الصورة لحظة، ثم ترنح كأنما نالته ضربة ما. " لا شئ، لا شئ! بعد العمل فيها عشر سنوات! " وجلس يبكى. " إذن فأنا مأفون، رجل مجنون لا موهبة عندى ولا مقدرة. مجرد رجل غنى لا يفعل شيئا سوى ما يشتريه... لم أخلق شيئا! ". ودرس لوحته من خلال دموعه، ونهض فجأة بمنتهى الفخر وأطلق نظرة غاضبة نحو الرساميْن وهتف قائلا: بحق جسد المسيح ودمه، ما أنتما إلا لصان حقودان تريدان أن تجعلانى أصدّق أننى قد أفسدتها كي تسرقاها منى! ولكنى أستطيع أن أراها. إنى أراها، وهى جميلة بدرجة رائعة!

وفى تلك اللحظة، سمع بوسّان صوت نحيب. كانت جيليت، منسيةً فى ركن من أركان المرسم.

وسأل الرسام الشاب وقد عاد عاشقا مرة أخرى: ما الأمر يا ملاكي؟

صاحت: اقتلنى! سأكون دنيئة لو ظللتُ أحبك – إنك تملأنى بالاحتقار. إنى معجبة بك، بيد أننى أشعر بالهلع منك. إنى أحبك، ولكنى أعتقد أننى أكرهك حقا!

وبينما كان بوسّان يستمع الى جيليت، قام فرنهوفر مرة أخرى بوضع قماشة صوف خضراء فوق كاثرين، بالرصانة المعهودة فى الجواهرجى الذى يحفظ صوانيه القطيفة، وهو يتخيل أنه فى صحبة لصوص ماهرين. وألقى نظرة مليئة بالشك والاحتقار على الرساميْن، وقادهما بلا كلمة واحدة نحو باب مرسمه. وبعدها، فى أسفل السلم، على عتبة داره، قال لهما: " وداعا يا صديقاي الصغيران ".

وقد أدى ذلك الوداع الى تجمد الدماء فى عروق الرساميْن. وفى اليوم التالى، قام بوربيس يغمره القلق بزيارة فرنهوفر مرة أخرى، فأخبروه أنه قد مات خلال الليل بعد أن أحرق لوحاته.

 

 باريس، فبراير 1832

* إله البحار عند هوميروس، اتسم بقدرته على اتخاذ أشكال مختلفة للتخلص من إمساك "مينيلاوس" به.

·                                عالم المنسيين، على حدود الجحيم.

·                                فى الأسطورة اليوناني، تميز أورفيوس بجمال الصوت والغناء، وقد هبط الى عالم الموتى " هاديس " للبحث عن زوجته التى ماتت بلدغة ثعبان فى نفس يوم زواجهما.