يرى الكاتب أن القوى التقدمية لم تكن في مستوى الانتفاضات الشعبية العربية. الأمر الذي يتطلب منها مراجعة نقدية تجديدية. ويرى أن "الغرب" بات مقتنعاً أن التيار العلماني ببلادنا لم يستطع استقطاب الجماهير، لذلك اقتنع بضرورة فتح حوار تحكمه المصالح، مع الإسلام السياسي.

بداية المثقف الإسلامي ونهاية المثقف التحديثي الديمقراطي

انغير بوبكر

الثقافة ملاذ يحتمي به الإنسان من عفونة الواقع وتردي مستوى الحياة. والثقافة ضرورية لسبر أغوار المجهول الإنساني والطبيعي والرقي بالإنسان في سلم الحياة الإنسانية، والابتعاد عن الأهواء والنزوات والنزوعات الذاتيّة الضيقة. وبما أن للمثقف، وفق هذه المقاربات التعريفية للثقافة، دور حاسم في تطوير المجتمعات التي يعيشها ويأمل بل ويعمل على تغييرها، نتسائل: هل استطاع مثقفونا أن يفرضوا لهم رأياً أو أن يحجزوا مكاناً لائقاً في خضم التحولات الكبرى التي تجتازها شعوبنا في شمال افريقيا والشرق الأوسط؟ أم أن المثقف استكان في دائرته المغلقة، وانغمس في التفكير النظري الصرف الذي يخاف أن يخرج منه بعدما انفصل عن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي لشعوبنا مرة باسم الثقافوية، وفي أحيان أخر انخراطاً مع الحاكم ضد المحكومين ففقدت الثقافة والمثقفين مكانهم في بريق الثورات الشعبية الجديدة وأعلن من جديد أن المثقف في بلداننا في حالة شرود؟!!

في تونس انتفض الشعب التونسي مطالباً بالتغيير والكرامة بدون تأطير سياسي وحزبي مباشر وصمد التونسيون أمام القمع والتضليل، وساهم بعض المثقفين إلى جانب النظام في ترديد شعارات تونس الخضراء، تونس العلمانية، تونس الحداثة، فيما كان للشعب رأي آخر، حيث حسم أموره بعفوية كبيرة واستماتة أسطورية أذهلت الغرب بنفسه، وتجلى من جديد للغرب والشرق معاً قوة الاحتقان الاجتماعي المدفون في أوساط المجتمع التونسي وتبين للجميع أن التيار الإسلامي هو المسيطر الفعلي على ضمائر الناس وأهوائهم، وذلك ليس بالغريب مادام العلماني والليبيرالي قد انساق وراء الديكتاتورية والاستبداد.

في الحالة المصرية يمكن أن نقول بأن المثقف المصري بكل أطيافه وتنويعاته الايديولوجية والسياسية كان فعالاً منذ الثورة وقبلها، حيث نشطت نقابة الصحفيين والمحاميين والمهندسين منذ عهد نظام مبارك وكان هناك حراك حقيقي تزعمته حركات جماهيرية مستقلة عن الانساق الايديولوجية الضيقة مثل حركة كفاية التي كان لها الفضل في إطلاق الشرارة الاولى للحركة السياسية الجديدة بمصر، فتفاعل الشعب المصري وقواه الجديدة مع هذه الحركات النضالية الجديدة، وساهم التدبير الخلاق للاختلافات السياسية بين القوى التغييرية في مصر في انجاح الخطوات النضالية الكبرى ومنها الصمود الاسطوري للشعب المصري في ساحة التحرير وغيرها من الامكنة التي احتضنت المدّ الثوري، انصافاً يمكن القول بأن المثقف المصري عموماً كان في قلب التحولات السياسية والمجتمعية التي عرفها المجتمع المصري، لكن ذلك لا يعني بالمطلق بأن الجميع كان مع الثورة أو التحق اليها منذ البداية، إذ هناك البعض من المستفيدين من الفترة السابقة أكثر معاداة للثورة ومن المطالبين بقطف رؤوسها في البداية، قبل أن تدفعهم بداهتهم الانتهازية للركون والالتحاق المحتشم بالثورة وبالتغيير، لكن المثقف العلماني والليبرالي لم يكن في مستوى استمالة أصوات الناخبين والجماهير فاستطاع الإسلام السياسي مرة أخرى أن يجني ما لم يحصده وحده أي أنه استفاد من تاريخه وقوة تنظيمه وتضحياته فيما بقي العلمانيون والليبراليون من جديد متفرجين على التاريخ المصري، وهو يصنع على هامشهم. وتلك دروس تتكرر ولكن لا أعلم إن كانوا سيستفيدون منها.

التجربة الليبية متمايزة عن التجربتين السابقتين إذ أن الكلفة الإنسانية كانت باهضة جداً لكنها علمتنا أن العوامل الخارجية لم تعد كما كانت داعمة فقط للتغيير في بلادنا، فالتدخل الاطلسي في ليبيا كان حاسماً لقلب المعركة لصالح الثوار الليبيين، ولعب الغرب دور المجمع الثقافي لكل قوى التغيير والتحول السياسي. ما يهمنا من هذه التجربة علاقتها بالمثقف، ونقول بأن الشعب الليبي استعان بالغرب في تكوين قيادته الثقافية والسياسية بعدما قام النظام الليبي ومعه العديد من المثقفين المستفيدين من الطفرة النفطية ومن أموال البترودولار من تبرير جرائم القذافي والتكفل بشرح ترهاته الفكرية من قبيل الكتاب الاخضر، لذلك لن ينسى التاريخ جرائم مثقفين كانوا يتسترون على جرائم نظام القذافي مقابل المال، وبالتالي كانت التجربة الليبية مثالاً يجب دراسته لمناقشة الاضمحلال الثقافي والفكري والأخلاقي لبعض النخب السياسية العربية التي باعت الحلم الديموقراطي للشعوب ونشرت الخرافة الثورية لمعمر القذافي وبررت حماقته وأكاذيبه على شعبه تماماً كما حدث مع النخبة السياسية العربية المهترئة التي دافعت عن جرائم صدام حسين بدعوى تارة القومية وتارة أخرى باسم الاشتراكية العثية ولكن الحقيقة أن الأمر يتعلق بعمولات مالية وامتيازات تتلقاها بعض أطياف النخبة العربية من أجل الدفاع عن هذا النظام أو ذاك. إن التاريخ يعيد نفسه في التجربة الثورية السورية، فأمام الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها النظام المجرم بدمشق نرى من المثقفين من يدافع عنه، تارة باسم الممانعة والتصدي للصهيونية وتارة أخرى باسم الدفاع عن وحدة الشعب السوري كأن النظام الذي دمر قرى بأكملها من داريا وريف دمشق والحولة وغيرها من المدن المنكوبة التي تعرضت لمجازر متنقلة ويومية، نظام يريد الوحدة والديموقراطية ويقتل الأطفال لأنهم العائق الكبير أمام ذلك المبتغى النبيل، إن نضال الشعب السوري الأبي اليوم يثبت بما لا يدع مجالاً للشك بأن بعض المثقفين باعوا الأوطان واستباحوا الديار بمصالح ذاتية ضيقة، وللأسف الشديد ذلك أعطى انطباعاً للشعوب بأن الثقافة والمثقفين لا دور لهم وبأن كل من يهتم بنشر الوعي الديموقراطي في أوساط الشعوب ما هو إلا مشروع انتهازي سياسياً. أمام هذا التحليل المتشائم، ولكن الحقيقي، نقول أن الإسلام السياسي استطاع أن يغزو عقول وافئدة الشعوب المستضعفة، معطياً إياها الحل السحري للحل الثوري في بلداننا وتراجعت القوى الديموقراطية التقدمية التي ما عليها سوى إعلان إفلاسها السياسي وأن تنغمس في مشاريع نقدية تجديدية تحوي نقداً ذاتياً لتجاربها التاريخية المليئة بالخيانات والتراجعات والمساومات، وبات الغرب نفسه مقتنعاً بأن التيار العلماني الديموقراطي التحديثي ببلادنا قد فقد كل آمال في استقطاب الجماهير لذلك اقتنع الغرب بضرورة فتح حوار سياسي مرغماً مع قوى الإسلام السياسي رغم اختلاف المرجعيات والأهداف ولكن المصالح هي الدائمة وليس هناك بالطبع عداوات دائمة.