يغوص القاص العراقي المقيم في أمريكا في هذا النص الممتع في موضوعة العولمة والثقافة الأمريكية وما يدور في العالم من صراع باحثاً بأفكار تتعلق بالأوطان والعولمة وصياغة الإنسان عبر الأعلام والحروب، مبشرا بضياع الإنسان المعاصر وساخرا من خرافة الربيع العربي من خلال سرد ممتع يمزج التصوير الدقيق بالحوار الفكري العميق باللحظات العاطفية لمطلقين هما سائق التاكسي العراقي الأمريكي والزائرة الأوربية القاصدة المطار.

أن تكره الفاصوليا!

جلال نعيم

"تحتاج إجازة كم يوم" قال له الدكتور بنصف إهتمام، وكعادته تلقاها منه بلا قناعة. فمنذ زمن وقناعته تمحورت حول دفع فواتيره التي لم تعد تنتظر حتى آخر الشهر.

قال له الطبيب بأنه يعاني من بشائر الADD فضحك وقد تذكر العجوز في مسلسل Boston Legal وهي تقتل صديقها المتشرد بآنية الزهور ثم تهرع لمحاميها الذي أوضح لها جسامة موقفها في القضية فما كان منها الا أن ترفع له حاجبين حائرين: "يعني ما عندك من هاي الأمراض ذات الحروف الثلاثة لتنقذني بها من حبل المشنقة؟KLM,ADD, UFO,  أو أي شيء؟"

"ربما هو الربيع العربي، دكتور؟"

"عليك أن لا تخلط ما بين السياسة والسايكولوجيا" قال له بحياديّة رجل مخابرات وهو يضيف: "ثم أننا وفي "لوس أنجلس" نحيا في ربيع دائم"

"نعم، ولكننا هناك لم نصل الى مرحلة فصل السلطات يا دكتور، وما زال ما يحدث عندنا في قصور الرئاسة يؤثر، وبفعاليّة عالية ومباشرة بما يحدث على فراش رغباتنا"

ضحك ولم يجب، وإنما استدار ليحسم الجدال قائلا: "تحتاجون لمجتمعات الواحد، اثنين، ثلاثة يا صديقي!".

أخبره محرّك "الفَلَك" "جوجل" بأن من أعراض مرضه ذو الحروف الثلاثة هي: سرعة الملل. عدم الإهتمام بما هو آني والتركيز على ماهو نائي "بحسب ترجمته طبعا" أي باختصار أو باحتضار "كما يلذّ له أن يتملعب" تعني: لا مبالاة داخليّة متوحشة وسريعة الإنفجار.

لذا، وتمرّدا على واقع الإنشقاق الحاصل ما بين ربيعين، راح ينشر خيالاته ويسقطها على الأشياء من حوله، وهكذا أمتدت خطواته لتقتحم "ستاربوكس" وكأنها توشك على الدخول لـ "دار الندوة"، ليفاجأ بوجود كفّار من نوعٍ أجمل وأكثر شقرة ورشاقة مما فبركته عنهم أفلام المواسم الغابرة.

ذلك ما جعل أرواحه تتباعد وتبني كل منها جداراً منفصلا عن الأخرى وتصمم حدودا متغيرة تقلب متعه وإهتماماته الراحلة، حتى فقد شهيته للعيش، وصار يأكل لينام، ويصحو ليشاهد الـHistory Channel والتاريخ فيها، كما هو فيه ومن حوله، يقظ لأربع وعشرين ساعة بث، وأكثر حيويّة من مطار لا يهمد.

ظنّ بأنه يطارد التاريخ ويذهب اليه برجليه، مثل اي "توم" يطارد "جيريه"، حتى عرف "بعد الربيع العربي خاصة" بأنه يتبادل الأدوار مع الحاضر حتى لم يعد أيّ منهما يعرف إن كان هو "توم" أم "جيري".

فيما مضى كان ينصبّ إهتمامه عند الحديث مع أيّة إمرأة باللحظة التي يختلس فيها النظر إلى نهديها "أروع تكويرة في الكون" أما ألآن فحتى النهد، أعني الحاضر، فقد فعاليته، حيويّته وفورانه وكأنه تحوّل الى ساحر عجوز إستنفذ كلّ ملاعيبه.

خيبة متأخرة؟ ربما، ولكنها خيبة لا شك بثقلها.

"العالم يركض ليلملم أعضاءه علّه يجسّد كائنا عضويا واحدا ولكن تعرف ما هي المشكلة؟"

"ما هي؟" سأله زبونه.

"المشكلة أنك في الكائن العضوي الواحد ستجد نفسك إما تحيا محميّا في جمجمته أو ان تترسّب بعيداً في مؤخرته"

"وصف مخيف. وأين نحيا نحن الآن؟"

أنزل نافذة السيّارة وتشمّم الهواء:"إسأل أنفك؟ لقد تركنا المؤخرة لهم.. هنااااك" وأشار لبحيرة سوداء في مخيلته.

"وهل الأوضاع سيئة هناك الى هذا الحد؟"

"وأكثر" قال له:"روح وشمّها بنفسك"

قرأ كثيرا عن حروب بلاده. أعني عن حروب راحت بلاده ضحيّتها. حرب أنقذتها ولكنها راحت ضحيتها وكأنها قرية فيتناميّة أخرى جرى تحريرها بإبادتها، كما في القصة الحقيقيّة الشهيرة. معادلة مريبة حقا ولا علاقة لها بأية رياضيات. تُرى كيف يمكن شرحها لأي ضيف كريم قد يحلّ علينا من فضاء آخر وفي أيّة لحظة؟

"أوكي. خذها من النتيجة فقد توضح شيئاً: أنت قلت: راحت. فيها. بلاده؟ صح؟"

"طبعا صح"

"هل راحت فيها برجليها؟"

"أوووه ما هذا التعقيد؟ أين راحت ومتى جاءت! بتّ أكره الأفعال وأوهامها. خاصة تلك التي لا تميّز فاعلها، فاعلوها، من فاعليها. الفاعل، وهم أو اكذوبة. إسطورة. وقواعد اللغة تعجز عن مسايرة الحياة وقواعدها وتركيباتها والا كيف يمكن ان نصف الفاعل بالفاعل وهو مفعول به وفيه ولأجله وبه أو حتى من دونه؟ خاصّة اذا ما كان أدنى بكثير من أن يقوم بدور الفاعل؟"

"أنا رأيي" قال الصوت:"نحوله الى حرف جر ونخلص!"

يرنّ هاتفه، فيضع قهوته على الطاولة ويجيب:

"بارادايز ليموزين؟"

"أبحث عمّن يوصلني لمطار لوس أنجلس الدولي بأسرع وقت ممكن؟"

"طبعاً وأوصلك للجنة إن أحببتِ؟"

"أوه. هذا أنت. آسفة ولكن لم أذكر ان عرفتني بإسمك؟"

"آه. أنا مايك. مايك حسن"

لحظات وتنطلق روحه  بنفس إتجاه حركة السيارة. هذا ما يحبه في عمله في شركة النقل التي إخترعها، بإجازتها وويبسايدها وإعلاناتها وجعلها تبدو كشركة كبيرة بينما قوامها الحقيقي هو، وهو وحده، فهو "المانجر" و"متلقي المكالمات" وهو السائق بالسيارة الوحيدة التي رُسمَ على مؤخرتها جزيرة نائية بثلاثة نخلات يتقوسن كخصر إمرأة وقد إمتلأت بالحوريّات وكتب عليها: ليموزين الجنة Paradise Limo!

وهكذا تدخله رنّة تلفون واحدة في عالم آخر، يصبح له هدف يسعى لتحقيقه، وجهة يذهب إليها، وشخصا يلتقيه وقد يقلب روتين أيامه بمعلومة او لمحة أو حتى فكرة أو شيئا عابراً. حتى تجمّع لديه خزيناً من الآراء والوجوه والسلوكيات مما قد يصلح أرشفتها في مجلّدات ولربما فعل ذلك لولا أنخفاض نسبة شغفه المتأخرة بالناس والأشياء رغم عدم تخلّيه عن المثل الذي إبتكره وراح يردده بإفلاطونيّة ساخرة:

"أن تكره الفاصوليا يعني أن تخسرها لأن الفاصوليا لا تخسر أحداً!"

إنضمّت سيارته للقطيع المزدحم على طريق المرور السريع، وهي تقف ثم تتقدم قليلا، لتقف، متجهة لـ"وادي سان فرناندو" وهي تتلاصق وتفترق كقطار بلاستيكي في يد طفل: "نحاكي الطبيعة في كل شيء، نقلّدها" قال وكأنه يعلن إكتشافا:"نصنع السيارة على هيئة نمر او جاغوار، سلحفاة أو أرنب، ثم نطلق عليها ألقاباً أكثر سكسيّة كما يحدث في بلادنا: ليلى علوي، إلهام شاهين وأخريات. نصمّم طائراتنا وكأنها طيور حديدية، صقوراً كانت أم حمائم، وحتى موسيقانا نأتي بها من إيقاع حركة الفرس، الجمل، تغريد العصافير. وحده الريّاء إختراعنا الإنساني الخالص، نلبسه في بذلات فاخرة، ونشده على أعناقنا بربطات عنق حدّ الإختناق بالمجاملات والثرثرات، وتكمن فيه أقصى طاقات إبداعنا!"

أدار سيارته ليوقفها خلف المبنى حيث أوصلها قبل يومين. لمحها تنتظر فإستيقظت فيه بكاملها وكأنها ولدت توّا.

"هاي مايك" بادرته.

"هاي. أنا آسف لأني لم أجد الوقت الكافي لارتداء يونيفورم العمل"

"لا بأس" قالت وهي تلتقط أول أنفاسها:

 "بس خلّصني من هذا الجو الخانق"

وضع حقيبتها في الصندوق وفتح لها الباب متلصّصا على قناة إنفتحت بين نهديها فجأة.

"شكرا لإنقاذي" قالت:

"وخذ راحتك على الطريق فأمامي ساعات طويلة قبل أن تقلع طائرتي"

"عظيم" قال:

 "ستكونين زبونتي الوحيدة لهذا اليوم، ولعلّك لا تعرفين بأن رسالتي في الكون هي إنقاذ، الجميلات مثلك، من أقفاص المكاتب المغلقة".

انطبعت في مرآته حيرة إبتسامتها. تسرّع كثيرا. هذا ما شعر به قبل أن يلاحظ بأنه يصبح أكثر جرأة وأحيانا صلافة مع زبائن "التوصيلة" الواحدة والذين لا يمكن ان يلتقي بهم الا بمصادفة كونيّة كهذه.

فتش بعدة لمسات على "آي فونه" عن أغنية تناسب زبونته حتى جرّب حظه بالضغط على "هوتيل كاليفورنيا":

"واحدة من أغنياتي المفضلة" هتفت من مقعدها الخلفي.

"أسميها داحضة الكتب السماويّة"

"لماذا؟"

"هنالك من يروّج بأن الشيطان هو واضع كلماتها" قال. فأجابته ساخرة:

"come on الشيطان أكثر إنشغالا من أن يؤلف أغاني!"

ضحك:"ربما لأن أغلب أعضاء الفريق الذي غناها وألّف كلماتها كانوا من عبدة الشيطان؟"

The Eagles?

"من المخجل ان يلصق أحداً هذه التهمة بالشيطان لأنها تثبت بأنه غلب الرب حتى بالكتابة!"

لم تضحك ولكن بان شبح ابتسامتها على شاشة مرآته.

"مهما يكن" قالت:

"فان لكلماتها وموسيقاها سحرا خاصّا"

"تدرين بأن (كاليفورنيا هوتيل) كان مصحّة عقلية ونفسية لا تبعد كثيرا عن هنا؟"

"ظننته فندقا في صحراء المكسيك؟"

"آآ هاااا" ضحك:

 " أساطير أميركيّة!"

"ماذا تعني؟"

"أميركا أرض ما زالت عطشى للأساطير. خاصّة بعد أن دفنوا أغلب الهنود مع أساطيرهم!"

"على العكس" قالت:

"أميركا أكبر مفرخة لصناعة الأساطير، هوليوود مثلا: إسطورة خلفت وتخلّف يوميا آلاف الأساطير!"

"صح" قال وهزّ رأسه موافقاً:

"ولكن اساطيرها مصنوعة، وفي أحيان كثيرة مصطنعة، لذلك عليهم أن لا يكفوا عن إنتاج الآلاف منها في كل عام!"

"كلامك صحيح تماما" قال لها وهو يحني رأسه:

 "لقد سرقني التاريخ، بس تدرين ليس هناك إمبراطوريّة وجدت الا وقد أخترعت أو طوّرت ونشرت أساطيرها الخاصّة؟ أما أساطير أميركا، من سوبرمانها الى سبايدرمانها، فهي الأكثر سطحيّة رغم إنها الأوسع تأثيرا"

"إمبراطورية عجيبة أميركتكم هذه!"

"يا الهي!" أو: Oh my God!(بالأصل):

"إذا كان هذا رأي مواطنة أوروبية عن أميركا فكيف سيكون تصور من هو أكثر نأيا عنها؟"

"هذه زيارتي الأولى، وللأسف لم أشاهد غير غرف فنادقها ومكاتبها المغلقة!"

"أنا صارلي عشر سنوات هنا" قال لها:

 "وحتى الآن لا أميّز مداخلها عن مخارجها!"

"هذا ما اكتشفته في فرنسا أيضا، يبدو ان المدن المعاصرة تشبه جبل الجليد في تشبيه همنغواي، والذي لا نرى منه أكثر من ربعه!"

"إسمعي!" طلب منها وهو يرفع صوت الأغنية:"هذه واحدة من لعناتي"

قالت الأغنية:

 You can check out

In anytime,

But, you’ll never leave!

"يمكن ان تحزم أغراضك

متى ما أردت

ولكنك لن تغادرها

أبدا"

"أترين ورطتي؟" قال، بينما سمع رنين ضحكتها ولمح شيئا من إئتلاقة عينيها البريطانيتين:

"شوقتني للتعرف عليها!" قالت.

"رغم غلائها وزحامها وهزاتها وحرائقها الإ ان لا أحد يجرؤ على مغادرتها بلا عودة"

"لستَ وحدك، كما انها ليست الوحيدة. أنا أمي أيطالية وأبي بريطاني وصارلي خمسة عشر عاما وأنا أحلم بمغادرة باريس!"

"غربة، ثم ألفة، ثم عشق متواصل" قال ذلك وهو يتطلع لشوارع "مارينا دل ري" التي اعتاد بحرها ومحالها ومذاق وجوه أناسها.

"مرّات أعتقد" قالت:

"بأنه الخوف من استعادة لحظة الصفر. أعني صفر المعرفة"

ضحك متذكرا:

"أذكر في أول عام لي هنا، كانت الباصات الدّ أعدائي، فقط لأني لا أعرف الى أين تذهب ومن أين تجيء!"

 ثم واصل:

"بعدها عرفت بأن عدم معرفة الأشياء هو أبو الغربات!"

عندما غادر بلاده مكرها، بعد خراب النفوس الذي لحق بخراب الحكومات، قال في نفسه: "أحمل جذوري وأعيد إنباتها في أرض أخرى" حتى تبيّن بأن مفهومه ما زال فلّاحيا عن الكون، وأن نظرية الأرض والجذور ما عادت تنفع في عالم تحوّلت فيه حتى الزراعة الى نوع أو جزء من الصناعة! وانفرشت الأرض بالإسفلت والكونكريت والمرمر وتحولت سطوحها الى موزائيك مثل رقعة الشطرنج وصار هو فيها، الى جنب المليارات من أمثاله، معتمدا بالتصاقه على قوانين جاذبيّة العيش، والعيش وحده: أي العمل وما تبقى هو محض وهم وافد من عالم آخر، عالم أكثر نباتيّة، تشيع فيه مفاهيم غريبة كالجذور والأغصان والبذور!

أما نحن فلم نعد أكثر من كائنات إنتقاليّة عبرت الى ضفّة أخرى، هي ضفّة اللا مكان.

أضاع بوصلة الحوار وصار كمن يحدث نفسه متناسيا إنصاتها الساهم له وكأنهما في عالمين لا يوحدهما غير نوع غريب من الهذيان التلقائي والسريع، حتى قال وقد أخطأ بالإشارة لها:

"لسنا عابرين قدر ما نحيا لحظات مكثفة نجد أنفسنا بعدها في مقهى او "مولل" أو فراش دافئ"

لاذت بصمت فريسة شمّت رائحة صيّاد، فشعر بنغزة مفاجئة قبل أن يواصل محاولاً التغطية على مطبّاته:

"هي العولمة وقد صهرت البلدان وحوّلتها الى ماركت كبير وألصقتنا به بعد أن حولتنا الى زبون يلهث على بضاعة رخيصة من دون ان يعي بأن الجميع بات يعامله وكأنه Just like a shitty customers!"

بدا غاضبا من دون وازع شخصي فهدّأ أعماقه خاصّة عندما تناهى الى سمعه تردّدات ضحكتها. التفت اليها. حاولت أن تسكت كركراتها. أن تقول شيئاً. فشلت ثانية، عندها لم يجد بدّا من مشاركتها.

"خذيها مني"

قال غير مداريا ضحكته:

"بشهادة مواطن نصف أميركي على الأقل!"

"اي" قالت:

"بس فاجأتني حماستك"

"تعرفين الوصف الإيطالي، يعني من طرف أهل أمك، للسياسيين؟"

"لا" قالت بإشارة من رأسها.

"يقولون بأن السياسي المعاصر له رأس بوش الإبن، أخلاق برلسكوني، وقلب بوتين الحديدي"

"وإبتسامة ساركوزي الصفراء؟"

"طبعا. ومؤخرة ميركل!"

بالغت بالضحك للترفيه عن نفسها حتى إستنفدت طاقتها قبل أن تسأله:

"والذين عندكم؟"

"أكثر حشريّة مما تتخيلين! خاصّة في العراق"

"آها. أنت من هناك إذن؟"

"نعم ولا. فقد بت أشعر بأني من كل مكان"

"وكيف ذلك؟" سألت.

"يبدو ان هنالك شيئا ما إنقرض وصار مثل أكلة صارت تعجز عن طبخها حتى الأمهات"

"لا تضحكني أكثر رجاء. وما هي هذه الأكلة؟"

"أكلة كانت تطبخ ضمن حدود مرسومة وعلى نار هادئة إسمها الوطن"

"ذكّرتني: ما حكاية الإرهاب الأسلامي؟" سألته متشكّكة فضحك:

"مَن يدري؟ هو مثل مركبة صنعتها القوى العظمى، او القوّة الوحيدة العظمى المتبقيّة، زرعتها أولا في أفغانستان حتى إنتشرت مثل وباء بدعم من برباغاندا عالمية، وبإسناد الحلفاء المتشدّدين، أو من يتظاهرون بذلك، ثم سقيت بدم الفقراء الذين صُوّرَ لهم بأن غاية حياتهم البائسة تُكمن في موتهم أو عبره. فهكذا كان!"

"تعرف" سألته من دون علامة إستفهام:

" بحكم تجربتي كخبيرة إقتصاديّة تجلس دائما مثل سكرتيرة خلف الرؤؤس الكبيرة بالاجتماعات، عرفت بأن أميركا تصدّر أزماتها الى الخارج دائما: انظر لأزمة 2007-2008 الإقتصادية الاميركيّة، ها هي تسقط على رأس أوروبا التي تقاوم منذ عامين"

"إكتشاف جميل" قال لها:

"ويبدو أن أزماتها السياسيّة هي ما يجري تصديره لنا منذ عقود وعقود؟"

"لذا كلما شاهدت أو سمعت شيئا عن الربيع العربي.. أضحك متشكّكة"

"أظن بأنه عاصفة خريف غربي، هبّت هناك وهزّت بعض الأشجار المتيبسة الكبيرة بعد أن فقدت جدواها. المشكلة إننا نتمسك بأية بادرة أمل ثم نحنّطها وننتظر مترقبين ما سيحدث بعدها"

"أظن بأن الغرب يبحث عن بدائل للصين: أيدي عاملة رخيصة وشعوب مطيعة تقنع بما يلقى اليها. هكذا كانت التجربة الصينية منذ أن فتحها نيكسون وكيسنجر أوائل سبعينيات القرن الماضي. جرى تأهيل البرازيل لممارسة هذا الدور. ولا أستبعد ان تكون بلدانا مثل مصر على الطريق لذلك؟"

"فعلا. ولا يختلف النظام الشيوعي الأصولي الصيني كثيرا عن الحركات الإسلامية التي إرتقت برأس الثوار المساكين لتصل الى رأس السلطة وفروعها. وبعد قليل سيصبح شعارها: كلوا وأسكتوا"

"السوق العالمية بحاجة الى بضاعة أرخص من صانعيها. ورأس المال الغربي موجود ويمتص ثروات الكون في كل لحظة. فلا بأس من إيجاد سوق عمل تنتج بضائع أرخص من صانعيها. هذا ما أعرفه"

 فرشت كفيها وكأن ذلك كل ما تملكه. أدار الفكرة برأسه وكأنه يحاول إعادة تدويرها. صفن قليلا ثم أعلن:

"مهما يكن، فهذا السيناريو أرحم من السيناريو السابق الدامي"

"أتمنى ذلك" ردّت بتفاؤل متشكّك. ثم إستطردت:

"عمري ما صدقت بأن هنالك من يفجر نفسه من أجل 72 عذراء في رحم الغيب!"

"لستُ متدينا" قال لها:

"ولكني لم أسمع بذلك من مسلم من قبل. هي بروباغاندا نحن أول من صدقها لأننا لا ننظر حولنا بقدر ما ننظر لشاشات التلفزيون"

"أرى فيها إساءة فهم لنفسيّة الرجل ككل"

ضحك:

"فكرة مُتبّلة بفرويدويّة عالية النبرة. إسطورة أخرى، أو مجرّد كذبة كبيرة يسهل تصديقها بالتكرار بفضل لا معقوليتها"

أدهشته قدرتها على توضيح شكوكها بهذه الدقة، وبشفافية أنثى حقيقيّة لا تلصق كل ما يعلق في رأس الرجل ولا ترجعه لما يلتصق ما بين فخذيه.

لفّهما صمت قطعته وهي تبوح بسرّ بدا وكأنها إكتنزته طويلا:

"آخر صديق لي كان جزائريّا مسلما، لم ألتقي بحياتي من هو أكثر حنّية عليّ وعلى بناتي منه"

صمت بقلق وهو ينقّل نظراته بينها وبين الشارع. ثم رفرفت أجنحة حمامات بيضاء في قلبه وهو يستمع اليها:

"أعني، قبل أن يذهب في حال سبيله!"

"متى تقلع طائرتك؟" سألها برفق.

"في التاسعة والنصف"

"لدينا ثلاث ساعات إذن؟"

لاحظت حشره لنفسه:

"أفضل الذهاب مبكرا. يقولون أن الوصول الى المطار أخطر من الوصول بالطائرة"

"طبعا" قال:

"خاصّة مع سائق مثلي"

أجابته بصوت مشحون بتجارب سابقة:

"صدقني أخشى مَن أعرفهم حق المعرفة أكثر ممن التقيهم مصادفة"

لم يجب فخيّم صمت مرتبك للحظات أخرى أشغل نفسه فيها بتقليب "آي فونه" بحثاً عن لا شيء ثم قال بنبرة حميمة:

"Come on هو يوم إجازتي فلنأخذ طلّة على سواحل الباسيفيك (المحيط الهادي)؟"

"رأيته عندما حطّت بي الطائرة. هو بعيد من هنا؟"

"طبعاً لا"

قال بفرح وهو يدير دفّة سيارته لتدخل فرعاً ضيّقا أطلّ "الباسيفيك" عند نهايته وقد تمدّد كفراش من زرقة لا نهاية لها.

أدهشته رغبته بنيل إعجابها لا أكثر. خاصّة عندما شعر بها تخطو الى جانبه وهما يتصفحان الوجوه والأجساد وهي تبتهج بتكامل المعجزات، من حولهما، حيث البحر والشمس والرمل والسماء والمحال التجاريّة والكلاب والبايسكلات والشمسيّات ومكبرات العيش والإسترخاء في طلاقة الهواء والناس:

"تعرف؟" قالت وهي تتأبط ذراعه لأول مرة:

"سكنت قرب البحر لعامين، في الأشهر الأولى كنت سعيدة به جدا، ثم فجأة إختفى، تبخّر، وما أعد أراه أو أشمه، صار مجرّد مرايا زرقاء وفارغة. والآن فقط أشعر بأن له معنى آخر، مختلف"

"انها حفرة الإعتياد يا صديقتي"

 قال ثم إستدرك وهو يلتفت اليها:

"ولكنك إنسانة عذبة حقاً"

"شكرا لك"

قالت:

"العذوبة أحلى، ربما لأن الجمال مجرّد متعة لآخر! خاصّة بعد أن صارت له أثمان محدّدة حتى ولو لم تكن مدوّنة، مثبّته او مكتوبة، والكل يبحث له عن عرض أفضل Better offer، خاصّة عند النساء وهنّ يستعرضنه أمام غابة من الرجال!"

"الجمال صار صناعة هو الآخر" قال:" ولكن خبريني أتستعملون هذا التعبير أيضا: غابة من الرجال؟"

"طبعاً"

"هو شائع عندنا أيضا رغم ابتعادنا عن الغابات وأفلام طرزان وشيتا"

ضحكت فانطرح رأسها الى الوراء قليلا:

"كنت، كأغلب الفتيات، أتمنى لو ينتشلني طرزان ما وكأني شيتته!"

"تحبين الطرزانيين إذن؟"

سأل وهو ينفخ عضلاته ويبرزها، الا انها لم تضحك وأجابت بصرامة من يذكّر نفسه بخطيئة لا ينوي تكرارها:

"تزوجت واحدا منهم وانتهيت منه بعد أن نبتت لي إبنتان"

"هااااا؟ عثر على شيتا أخرى؟"

"طبعا"

قالت بسخرية مرّة:

"شيتا أخرى وغابة أخرى أكثر رخاء"

 قالت ذلك ثم وكأنها تذكرت شيئا، ضربته على إنتفاخات زنده ممازحة:

"أقول لك طررررزان"

ابتاع لهما عصيرا مثلجا (سموذي) قبل ان يجلسا على رمل الشاطئ غير بعيد عن شمس راحت تتلوّن ببرتقاليّة غروبها:

"قلتَ لي بأنك مطلّق منذ عامين؟"

ردّ وهو يحلّق في عينيها البريطانيتين:

"نعم. ومعي إبني الذي أتهجى معه رموز هذا العالم الغريب"

"وهي؟"

"كان رهانها أن تحبني وتكره العالم، فانتهت بأن عجزت عن حبّ الجميع حتى ابنها"

"معادلة غريبة"

 قالت وهي تشدّ على كفه قبل أن تحتضنه من رأسه بقوّة حتى تراكم حجم البوح الصامت بينهما بلا كلمات.

لطالما أحسّ بأن العيش في هذا الركن من العالم قد قرّب عنده تلك المسافات الساكنة ما بين الفرح والحزن، السعادة والكآبة، وجعل لهما تقارب الماء في قوارير الأواني المستطرقة: فلا حزن دام ولا فرح خلّاق يدمع القلب، الا ان التفاف ذراعيها حول رأسه بدّد شيئا من تلك القناعة، فقد أحسّ بحاجته لتلك اليد، تلك الشفافيّة وهي تطوق عنقه بشكل لم يسبق له مثيل مما ساهم في تدفق مشاعره بعد طول إنحباسها، حتى حرّر رأسه من قبضة حنّيتها. لثم خدّها وإبتسم وكأنه أعلن بذلك نهاية المشهد.

"للآلهة سماوات عدة. وحدنا نحن، لم نعد نرتجي سماءً نحلّق فيها مثل عصفور يبتعد"

قال وهو يعلّق ذراعه على كتفها بينما واصلت معانقته من خصره وهما يتمشيان على الشاطىء مثل صديقين قديمين.

"الآلهة أكثر طمعا دائماً"

قالت مواصلة فكرته:

"تكوّش على السماوات والأرض، والدنيا والآخرة، بينما لا نطمح لأكثر من لحظة أمان عميقة"

"أووه أنت شاعرة إذن؟"

"لا. أنا روائيّة فاشلة. لا أكثر"

"كل إمرأة حبلى بروايتها. هذا ما يقوله النقاد"

"ليس تماما. فروايتي عن إمرأة تسقط في غرام ثلاثة رجال بأوقات متفرقة من دون أن تعي بأنهم ثلاثة أشكال او صور لرجل واحد!"

"أرجو ان لا يشبهونني في شيء؟"

"لذلك أحذرك. إبق بعيدا"

"كلّنا نحب الأشياء نفسها والأشخاص أنفسهم ولكن بنكهات مختلفة"

"ف ك يوووو.. وكأنك تسرق مني الفكرة!"

نظرت في ساعة تلفونها فبادر يطمئنها:

"لا تقلقي. إننا في طريقنا للسيارة"

"أخشى.."

وضع سبابته على شفتيها ولم يدعها تكمل. سارا بصمت. يُنصت كل منهما لوقع غيابه عن الآخر.

التفت اليها مقترحاً:

"قهوة أخيرة؟"

"نعم"

هتفت كمن فازت بجائزة:

" ولكن شرط أن نأخذها معنا الى السيارة. عليّ أن أكون هناك بأسرع ما يمكن"

نهبت سيارته طريقها الى المطار وقد تمركز في سمائها شعور واحد مفاده بأنهما يواجهان أكثر السلطات بدائية: الوقت! الوعاء الوحيد الذي لم يتغيّر، عبر التاريخ، رغم تغير محتوياته مليارات المرّات.

ردّدت أعماقه بإيقاع متسارع:

"غروب. غربة. غرب. إغتراب"

ثم التفت اليها:

"الغربة الحقيقيّة تولد وأنت تفارق شخصا.."

وتلكأ باحثا عن وصف يليق بها. وصفاً إنتظرته بفارغ الصبر. إلا إنه لم يكمل. وكأن الصفات كلّها عَلَقت في فمه وأخرسته. غاصت في مقعدها. عيناها في النافذة وقلبها يحاول رسم لا مبالاته. وفي لحظة التفتت اليه. خلّصت أصابعه من كوب القهوة وراحت تقبلها بصمت. سحب أصابعه منها وإستبدلها بوجهه. ارتفعت أيراج مطار لوس أنجلس الدولي كصواريخ جاهزة للإطلاق. إتخذ قراراً. أوقف سيارته. ثم حدّق في عينيها الخضراوين:

"أوكي"

 قالت له:

"سأبقى لليلة أخرى هنا إذا لم يكن عندك مانع؟"

ضحك موافقا وكاد أن يقبلها لولا أنها أبعدته برفق أصابعها:

"ولكن بشرط"

قالت فإمتدّ بينهما صمت محرج:

" أن تعرفني على إبنك؟"

 

June/2011/ 27

لوس أنجلس