تهدي الكلمة لقرائها ديوانا شعريا من المغرب، لشاعر أعاد للقصيدة المغربية الحديثة لغتها التي تتلمس تفاصيل الكينونة في تجليها الصوفي. شاعر يأتي من التجربة الشعرية الجديدة في المغرب محملا بحمولاتها الجمالية، بكل أفقها الذي فتحته على مجاهل المعنى واللامعنى .. تتلمس بعمقها الإنساني مشارف التيه القصية للكينونة.

حزن يليق بالغريبْ (ديوان العدد)

حزن يليق بالغريبْ (ديوان العدد)

جمال الموساوي

(قصائد كتبت في أزمنة متشظية)

 

حزن يليق بصمت الغريب

مَنَازِل أخرَى

أكونُ لها أُلْفةً وتكونُ غيابي.

أشَبِّهها بالصباحِ وأُصْبِح مِن ليْلِها غيمة في نشيدٍ بعيدْ. منازِلُ من ورقٍ أوْ سفرٍ في المتاهاتِ، حيثُ جداولُ تنْسى الطريقَ إلى أوَّل النبْعِ:

ثَمَّ يقْطُرُ الحرفُ من مُطْلَقٍ. من

تماهٍ مع الحزن. من تلاشي المؤقت من كل شيءٍ،

وثَمَّ أكونْ.

منازِلُ أخرى

مناراتُ ليلٍ وحزن يليق بصمت الغريبْ:

أكون جناحا، فأنسى النزولَ. أكون خيالا، فأفتح عاصمة للنعيم.

 

 

شبح

لا أراك. طريق تقود إلى عتمة. لا أراك.

على القلب تلك الغشاوة. قد أتساءل عما

يحيط المكان الذي أتحسَّس. هذا مكان

يجر عماي إلى أثر لا يطاق. أنا لا أراك

وأنت تمد يديك. يداي منارات ليل

تحثُّ منازل غير بعيد عن المرتقى. وأنا

لا أراك كما عهدتك الحواس، بلا أفق،

والمكان يضيق. الزمان يحاصر كل الصور.

لا أراك

سوى شبح غير مكتَرَثٍ لِتَجَلِّيه.

 

عندما يتدلى الصباح إلى فجره لا أراك،

غيابك منعطف باهت لحياة مركَّبة

ومدارج من عدم، وأنا لا أراك

كما أشتهي، وتراني أنت بلا أي معنى

أقود ظلالا إلى هوة ومصائر مفجعة

لا أراك،

وأرخي العنان لناي البصيرة

أحزن حين أراك جديراً بما لا

يعدُّ من الكلمات، جديراً

بشمسٍ

تلوّح

بالعمر

أو ما تَبَقّى،

 

جديراً بأن تسحب الكون نحوك دون ضجيج

ودون غموض مريبِ.

لا أراك. طريق يعود إلى عتمة،

 بينما أستعيد عمايْ.

 

 

وجوه لم تكتمل

ملامح متعَبة

وكلام يليق بشمس الصباح

سعدتُ

بهذا الخروج المباغت عن نسق راسخ وابتعدتُ، أنا دائما في الجهات النقيض أروج لاسمي وأدعو الفراشات نحو ورود بلا أرج... أو رحيق.

لماذا يهبُّ النهار عنيفا؟

بلا شفتين،

فم واسع في الطريق

 

ووجه خفيٌّ... ملامح

لم تكتملْ

ورجال يمرون غير حريصين،

محترسين من الضوء،

كنت قريبا،

لهذا أرى أنني شبح

وظلال لشيء بعيد

ومنتزه للهواجس. بستان أخيلة لا تلينُ.

لهذا أنا قلق من سماء أراها

على سقف حلْم، أراها

بلا عمدٍ تنجلي عن أغان قديمة وعن عالم كان... ظلي.  أنا قلق من صباحي الجديد ومن حلُم سينام... على ضحكة في غيابي.

 

 

مجرى

دعني

أفتش في الفراغ

أحصن المعنى من النسيان

أنتَ

قصيدة

معْميةٌ

 

أنا

غيمة

حمقاء

في صحراء

أقصى من خطاي.

 

دعني

أسارِرُ غربةً في الروح

أبحث عن مدار مشرق.

هذا الظلام

متاهتي

وأنا قلقْ

أنت المجرةُ،

شمسُ أخيلة بعيدةْ،

غيمة أخرى،

سماء تنحني:

 

الصمت صمت المنتهى

والصوت مرآة لناي،

صورة ليدٍ تهشّ على النهاية:

أيها المجرى دعِ النسيان

ينحتُ مبتغاه

ودعِ رمادي يمَّحي في سرّهِ.

 

 

عزلة الأنساب

يدكَ الأليفة أيها الشفق البعيدُ

يدي

يدك التي تصحو على أشواقها لغة

وأشجار

وآلام

وبوح غمامة لم تكتملْ

 

يدك الوحيدة في المكان

لها ألفتها الفريدة في بهاء الأغنيات

لها مناماتٌ

لها ما لا يتاح من الغياب، ومن مسافاتٍ

على طرق تليق بعزلة المعنى.

 

يدك التي تنساق في صخب وراء

مدارك المعنى، بلا جدوى، يدي

فاسمحْ،

إذن، لي أن أرتب عزلة الأنساب

أن أحتدَّ في شوقي إلى ما لا أرى من

رغبتي.

فالآن

تعصف الأشياء راعشة

ويهدأ في بهاء الروح سيل الأسئلةْ

 

وأنا على حلم يقينٌ عابرٌ

من فجوة في الظلِّ

صوب مدارج الصحو المقيم:

 ليكن لصمتي شكله

ليكن كعادته مديحا للوضاءة

تحتمي بجدارة اللغة الأنيقة،

 أيها الأفق البعيد.

 

 

ذلك الطفل

أفتح النافذةْ

لك أيتها السنوات

وميض رؤاي مسالك ضائعةٌ

ومدارج كبرى

 

هنا

كانت الروح،

فوق مرايا

تتوج طفلا بورد الخطايا

وتمضي على قلق في نداء الضرورة

كانت هنا

كل أحلامهِ

تفتح النافذةْ

لنشيد من الشوق

أو لكلام يتاح

كأي غريب على طرق مظلمةْ

أين يكمنُ؟

أين ينامُ؟

وأين يفرخ كل خيالاته المبهمةْ؟

قال لي

(كيف للشكل أن يهَبَ الريح

معنى هنا؟

وأنا لم أدعْه يفتُّ أصابع كفي

ليعبرني؟... وأنا، كلما سعدتْ سنة بانهياري

أفقتُ من الغيم ثانيةً).

 

ثَمَّ أغنيةٌ،

(للضرورة أحكامها دائما)

هكذا يتبدد وجه اللغةْ

هكذا أمنح الروح سطوتها

 

ثَمَّ أمنيةٌ:

أن أعيد البداية فوق مرايا البعيد لعلّي أرى مطر الشوق،

أيتها السنوات،

يمدُّ حدائق أخرى

مدارجَ مشرعةً

لهبوب الحياة التي لم تصلْ

في بريد الغياب.

 

 

شمس الأصابع

بلا سبب أو يكاد

بدأت أفتش عن أمم لم تر الحزن

عن أحرف تتجاوز كل احتمال يراود

أخيلتي، فوجدتُ يدي،

عبثا، تنتهي في الفراغ.

هناك وراء دخان الإشارة

لم أستطع كشف ستر المدى

لم أر الضوء مندفعا باتجاهي

فمِلتُ

إليك، سلاما، وسرتُ أماما

بلا حيرة أيها القلق العذبُ

 

قلتُ

أراك على هيأة بحر من الليل

ترفع للموت أغنية من رماد

أراك على شبهٍ بالحياة وأحسب أنك

ظلٌّ لوجهي،

سأنحاز في ثقة بحدوسي إليك

سماؤك سقف لبوحي. وحلمي امتداد

لهذا الصعود إلى شرفة الروح:

أي سؤال يمرُّ إلى ساحل الكلمات؟

 

بلا سبب مقنع سأفجر نبضي قريبا

على حافة الوهم

حيث مروج تتوج هامتها باخضرار طويل

وحيث الكثير من الضوء

يصعد من رغبتي في الذهابْ.

 

هناك

شتاء لسنبلتي

وخريف لآخر حرف

ودمع لعين ستعبر شوقي لليل مقيمْ

 

بلا سبب، أجد الوهم

رائحة للرحيل الطويل

ومعنى لرؤيا تراود أنثى النشيد

وتفسح مجداً لشمس الأصابعْ

فلا شكَّ

ثمة في الشهقات الكثيرة تيهٌ

وفي الخطوات الأليفة للروح صحوٌ

ولا شكَّ أيضا

سيسرح في المنتهى نورس

وينام؟

 

 

توابيت

حيث تبدأ أسئلةٌ أنتهي. لا أساير أجنحةً لا

تُرى

أبداً. لست أملك أجوبة لسعال الحياة، ولا

لضبابٍ يغطي حدود النهاية.

 

تلك التي تقتفي أثرا

فاقعا لخطاهمْ:

أتوْا من هبَّةِ نبض غريبٍ وفضّوا مدائن

من فرح كان يمشي، ومن وبرٍ،

فمضوا بتوابيت فيها أناشيد عنترةٍ

 

(لم نجدْها على ظهر قلبِ أحدْ)
"حملوا ما لنا من حياة هنا".
الهواءَ الذي تتنفس هذي الحواسُّ المعطلة النائمةْ.
الترابََ. تواريخَ أمكنةٍ. أفُقاً
من بهاء قديمٍ. صباحا بأحذيةٍ من حنينٍ
ورؤْيا.
مضتْ سفنٌ من سماء المناقبِ حيثُ الإشارة دائمةٌ:
 يكونُ الكلامُ رؤى القلبِ،
أو لا يكون.ُ

 

في الضياع المباشر يختلس الشعراء

رؤى بينَهُمْ. يسرقون من الشمس أحزانها

في المساءِ،

وينسحبون إلى فجوات الحياةِ:

هنا

يرصدون مجاهيلَ. أسئلةً لا تُعَدّ.ُ


حيث تبدأ أسئلة. ينتهي شاعرٌ.

كلما زوََّجَ الأفْقَ بالحلم،ِ

حثُّوا خطاهم إلى روحهِ.

في مرايا الخراب أَرَوْهُ الذي

لا يريدُ. وساوسَ مسرفةً في الغموض.

وأشرعةً في


بياض العمى.

ومواعيدَ... من قلقٍ واضحٍ.

يتساءلُ عن خيمة في السريرةِ، عن شكله

المستفزِّ.

فلا ُ يَجدُ الآنَ شيئاً، ويمضي

إلى الخيبة المقبلة.

 

 

المسرة
المسرة

فيءُ الهجير

وأغنيةُ للمغني القديمِ

تكون بلا معنى

إذا أقبَلتْ في سياق

يليق بأكثر من مزبلةْ.

الحروب على الباب

قد تكسر النافذةْ

الحروب طرود مفخخة

واغتيال للون الحياة،

قراراتُ حمقى ينامون مثل الذئابِ:

يقاظى

نيامْ.

 

 

ما زلت أواصل موتي
في الخرافة متسع

ليد تتهيأ للرفض.

 

جسمي صحارى
وأجنحتي ملتقى شجرات
وأودية عابرةْ

الطيور، هنا، تنزوي
في حفاوة شكل يليق
بقبر الضرورة:
ما زلت خِلاًّ لمجد يفرّ

إلى الغيم،

مازلتُ طفلا يوزع سحنته
للحكايات.

 

 مازالت الدرجات التي

لم أطأها تواصل قتلي.

 

إذن سترثن مُحَيّايَ أيتها الضحكات الكثيفة:
خلف المتاهة تعرج روحي
إلى مرتقاها
وتسرف في الزَّهو
مشرقة

في سديم الغرابة.

 

 

حارس الخيمة
أحرس الخيمة من ذئب الفلاةْ
نسوة يحصدنَ نجْماتِ
ويصحبن إلى الليل رؤىً واضحةً.

الصمت لحن مستفزّ دائما
والندى رائحةٌ مسرفة في الزَّهو
والروح أغاني.

جنَّة تنتظر المارّين من جسر المسرَّات

ونار تقتفي همس المرايا.

 

من هنا
بالذات
ينساق إلى المعنى نشيد مشرق،

أسئلة شتّى وأسرارٌ

نهارٌ مقبل في جبّة من رماد:
أنا
لي أجنحة.
يتراءى البحر منفىً
واسعاً...مدّاً بلا جزْرٍ
فكيف النورس المشتاق يرعى
حلُما لا حدَّ لهْ

ويمنّي نفسه بالأرض حيث الأرض
بحرٌ لا يُحدُّ؟

 

 

الأرجوحة
هاهي احتفلت بالفصولْ
هاهي الشمس، سيدة الوقت، تتّئد الآن
في ظله المنكشفْ. وتقول لهُ
السحب الآفلات:
«إلى قلقٍ آخرٍ»
وتودع وجها قريبا يمدّ خرافتهُ
لسماء تنامْ:
هو يوشك
أن يهَبَ الحقلَ أنهارهُ
أن يَسُفَّ المساء المخادع - هذا-

وأن تستحثّه، نحو القيامة
أصداؤهُ.


هي تملك
وقع الهواء على سحنة ترتجفْ.
هي، تلك السماء القريبةُ
من جرحه،
تستعيد تقاسيمه المشرعةْ.


هي
أرجوحةٌ.

هو يخطو إلى ظلها.

 

 

أفق رماد
أُمُمُ الحروف.
نهاية الحلاج في غيمات
غربته؛ فطوبى لي
أقوده في الغياب
إليّ،
أنا المعلق،
أنت من يمضي متاحا للعبور،
العابر المنسيّ أنت على
حدودٍ كالإضاءة،
ما الذي لم أكتشفه
بعدُ
كي أنسلَّ في جسد
مضيء في منازل أُلْفَتِه؟

 

أنت المعلق

في إشارات الضرورةِ،
صحوةُ الأشياء
تنفتح السماوات -التي أفْقي-
لها:
دعني أفسر غيمتي للشوق
ذاتي عنفوان آخرٌ
ومسالك مستاءةٌ
من خطوتي،
أفقي رماد
لم تزل جذواته
تتلو الذي لم ينكشفْ:


قفْ
ها هنا،
رمم مواجعك الكثيرة
وارتجل للموت لحنا أخضراً؛
نحن المعلقُ
في الإشارة
نسرج النسيان

في فلك غريبْ.

 

 

سعادة
لم أجدكِ
هناك. وجدتُ الحقيقة عاريةً
ووجدتُ مساء وحيدا يوزّع
بين الرياح يديه.
وجدتُ ظلالا
بلا أثرٍ.

لم أجدكِ هناك:
شجرات تودّع خيبتها
في الغروبِ
وفي
رجفة الرغبتينِ


حزمتُ متاعي
وأقنعةً
تركتْها فصول الغيابِ.
حزمتُ الذي لي من الوجدِ
فاخترقتني المسافات
سارت ورائي،
أمامي
نذرتُ لها سفرا، وتركتُ
يدي لمشيئتها. تركتْني لمعنايَ.
لم أتبيَّنْهُ. كان منافيَ عائدةً
ورؤىً لا تُحَدُّ. وكنتُ بلا أثرٍ.

لم أجدْ ليَ معنىً فسرتُ إلى غيمتي.
لم أجدها. طريقي هواجسُ عاتيةٌ،
مرتقى خطايَ بلا ملمحٍ واضحٍ…
لم أجد في النهاية منعطفا
كالذي في الخرافة.
لم أجدِ الكنز في أسفل المقبرة.

 

شاعر من المغرب

 

كتبت هذه النصوص بين 2002 و 2007 باستثناء نص "الأرجوحة" الذي يعود إلى أواسط التسعينيات