تتناول الباحثة المصرية المؤثرات السياسية الفاعلة في مسار الفن منذ عصر النهضة إلى القرن العشرين. وتبين طبيعة الجدل القائم بين الفن والسلطة عبر تلك الرحلة الطويلة، بصورة تقود للقول إن الذائقة في تاريخ الفن عرفت صراعاً حاداً بين ثوابت السلطة المهيمنة، وبين حرية الإبداع ورغبة الفنان في استشراف الأصقاع الجديدة.

مسارات للفن والسلطة

أمل نصر

يقودنا التأمل في علاقة الفن بالسلطة لمسارات عدة، وهي مسارات مختلفة إلا أنها تتقاطع في مناطق إلتقاء لأن الفن كجميع الظواهر الإنسانية لايمكن فهمه منعزلاً. فالسلطة في علاقتها بالفن في هذا التناول ليست دائماً سلطة فوقية بل هي سلطة محيطة ذات إتجاهات عديدة متوالدة ومتفاعلة فيما بينها بشكل دائم ومستمر. من هنا كانت هذه المحاولة للمرور عبر بعض تلك المسارات ورصد علاقة الفن بأنواع عدة من السلطة.

بداية فإن الفن في حد ذاته يشكل جزءاً من منظومة السلطة الرمزية اللامرئية التي تضم إليها الدين والأسطورة واللغة والعلم، حيث تستخدمهم السلطة الرمزية كأدوات للمعرفة لبناء العالم المحيط بوصفها أشكالاً رمزية ومعترفاً بها من قبل الجميع، "وهي سائدة في وعي البشر بشكل لابديل عنه وهي بذلك تمارس دورها في تثبيت الواقع، وعمل ما يشبه الاتفاق الأخلاقي حول الموقف من الواقع مما يحول تلك المنظومة إلى أداة للهيمنة في يد مصالح الطبقة السائدة لكونها دائمة ومكتملة وموضوعية ومتفقاً عليها من الجميع وهي سلطة لامرئية، ولا تمارس إلا بتواطوء أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها بل يمارسونها"(1).

لذلك يشهد لنا تاريخ الإنسانية بحرص قوى السلطة الدينية والسياسية والاجتماعية على ضم الفن كسلطة إليها؛ للإيمان بدوره الفائق في دعمها وتأييدها، إلا إن الفن سلطة مقاوِمة ترضخ أحياناً وتنضوي تحت لواء سلطة أخرى، وترفض أحياناً أكثر وتتمرد خارجة عن كل محاولات الانضواء، وتسعى هذه الدراسة لإختراق تلك المسارات التي كثيراً ما تتداخل في علاقة الفن بالسلطة.

الفن وسلطة العقيدة .. مدخل تاريخي
للفن وسلطة العقيدة تاريخ طويل حيث يدخل معها في علاقة تلازمية بندوليّة الطابع، بداية من سلطة المعتقد السحري وسلطة الكاهن أو العراف في المجتمعات البدائية، التي اكتسبها من امتلاكه لحكمة وتراث ومعارف جماعته وتأثيره فيها من هذا المنطلق، ثم سلطة القوى المجهولة في مرحلة اكتشاف الإنسان للزراعة حين بدأ الشعور بأن هناك قوى أخرى تتحكم في مصيره مرتبطة بفكرة المجهول والغامض والقدرات الخارقة للطبيعة، وأصبح الفنان هنا تحت سلطة الالتزام تجاه مبادئ وعقائد يوجه إليها حاسته الجمالية**، ثم عرف تاريخ الإنسان الطريق لظهور طبقة الكهنة الحقيقية التي زعمت القداسة فيما بعد، كما كان في الحضارات القديمة وعلى رأسها الحضارة المصرية القديمة، وذلك لما كان لديها من قدرات ومعارف غير عادية أتاحها لها وضعها الاجتماعي كصفوة معفاة من أداء جميع الأعمال العادية. ومن وقتها ارتبطت السلطة بالصفوة أو النخبة.

وظهرت في الفن المصري القديم المنافسة ما بين الصناع لتكوين الصفوة المختارة لدي مقار البلاط الملكي. وكان الكهنة والحكام أول من استخدموا الفنانين وذلك لمدة طويلة، وكانت تسمى أماكن العمل بـ"الورش" ، والفنان كان يعمل إما متطوعاً، أو يعمل بتكليف مقابل أجر، أو يكون فناناً من الأسرى، فعرف الفنان منذ ذلك الزمن العمل تحت سلطة الكهنة والبلاط الملكي.

والفن قديماً كان مقتصراً على أداء الأعمال التي يطلبها السادة، وكان الجزء الأكبر من الإنتاج الفني مؤلفاً من هدايا نذرت للآلهة ومتطلبات عبادة الحاكم، وكان الكهنة والأسر المالكة معاً جزءاً من نظام كهنوتي واحد، والمهمة التي كان الفنان مكلف بها هي إنتاج شئ يمجد أرواحهم وتخليد ذكراهم، وقد سمح الكهنة للملوك بأن يكونوا آلهة، ومن جهة أخرى سمح الملوك ببناء المعابد للآلهة والكهنة لكي يزيدوا من شهرتهم الخاصة، فكلا الطرفين كان يود أن يفيد من نفوذ الآخر، وكلاهما كان يريد أن ينتفع من الفنان في الصراع من أجل المحافظة على السلطة الملكية أو الكهنوتية.

وبالانتقال إلى الفكر الإغريقي نجد أن الفلاسفة الإغريق حتى أرسطو، باستثناء السفسطائيين، كانت أفكارهم تتجه إلى الإنسان وكونه عضواً في المجتمع، وأن هذه العضوية تفرض عليه بعض الالتزامات، والقيود التي يمكن أن يقوم عليها المجتمع الصالح، ولا تحفل كثيراً بالفرد إلا على أساس أنه عضو في هذا المجتمع واندرج ذلك بالطبع على الفنان. وحينما ظهر الاسكندر، اتجه لبناء إمبراطوريته وتجميع السلطات في يده، وقد كان هناك تغيراً ملحوظاً في مركز الفنان في عهد الإسكندر الأكبر، حيث ارتبط ارتباطاً مباشراً بالدعاية التي كان يقوم بها لصالح ذلك القائد المنتصر. ذلك لأن عبادة الفرد التي نمت من عبادة البطولة الجديدة هذه كانت لصالح الفنان، إذ جعلته مانحاً للشهرة وأكسبته هو ذاته الشهرة في الوقت نفسه. وقد أدى الطلب على الأعمال الفنية وكذلك الثروات التي تراكمت في يد خلفاء الإسكندر، إلى زيادة هائلة في استهلاك الفن ونمواً في قوة تأثيره.

أما في العصر المسيحي فقد تغيرت وظيفة الفن الاجتماعية، فقد كانت دلالة العمل الفني جماليّة أساساً في العالم القديم، إلا أن تلك الدلالة قد تغيرت في المسيحية تغيراً تاماً ذلك لأن وجود فن لذاته أمراً لا يمكن أن يسمح به الدين، ولقد كان الفن من حيث هو أداة للتعليم الكنسي أعظم قيمة من العلم، وذلك على الأقل في الحالات التي كان الهدف فيها هو انتشار الدعوة على أوسع نطاق ممكن؛ فقد كانت الأعمال الفنية هي إنجيل الفقراء ومن هنا خضع الفن لسلطة الدين، حتى أن الرأي السائد في العصور الوسطى المبكرة هو أن الفن لا يعود ضرورياً لو كان في استطاعة كل شخص أن يقرأ، ويتتبع سلسلة مجردة من الاستدلال. فالفن كان ينظر إليه أصلاً على أنه ترضية للجماهير الجاهلة التي يسهل تأثرها بانطباعات الحس، ولم يكن يسمح له أبداً أن يكون مجرد متعة للعين. فالطابع الإرشادي للفن هو أبرز سمات الفن المسيحي في مقابل الفن عند القدماء(2).

من هنا فإن فن الأيقونة لم يظهر كفن من أجل الفن، ولكن كفن من أجل الكنيسة يتحدد مضمونه وفق احتياجاتها، وتشابك محتوى فن الأيقونة مع تطور تقاليد الكنيسة بشكل كامل؛ إلى حد أن معرفة وتفهم تلك التقاليد سيكونان ناقصين دون معرفة وتفهم الأيقونة، وفي الفن الأرثوذوكسي المسيحي لايقر الجمال إلا من خلال قدرته على خدمة نماذج الإيمان. وطبقاً لذلك يقول القديس جون شريسوستوم رئيس أساقفة القسطنطينية (347-407م):"إن كل حيوان، أو نبات هو جيد ليس بسبب شكله أو لونه، لكن بسبب الخدمة التي يقدمها"(3).

وأصبح للكنيسة السلطة المطلقة، لذا فقد كان الفن البيزنطي هو الفن المسيحي بالمعنى الصحيح، فقد كانت الكنيسة الكاثوليكية في الغرب تريد أن تكتسب من السلطة ما كان بالفعل في يد الإمبراطور في بيزنطة، وكان الهدف الفني في كلا الحالتين واحداً، هو أن يكون الفن تعبيراً عن سلطة مطلقة، وعن عظمة تفوق البشر، وكانت المطالبة بتبجيل الشخصيات واحترامهم، لذا فقد كان هناك مظاهر متعددة في ذلك العصر تؤدي كلها إلى فرض شروط واحدة على الفن، وتعبر عنها قوالب أسلوبية واحدة، هذه المظاهر هي النزعة الشكليّة في طقوس الكنيسة والبلاط، ومحاولة الحكام الزمنيين أو الزعماء الروحيين خلق رموز لسلطتهم عن طريق الفن.

عصر النهضة وانتقال السلطة
أتى عصر النهضة برد فعل معاكس لفكر القرون الوسطى، وكان انعتاق الفرد هي السمة الأساسية الأولى لعصر النهضة. فقد تحرر الفرد من سلطة الانضباط الكاثوليكي الطويل وتطلع إلى التحرر في كل الميادين. ومنذ بداية عصر النهضة بدأ التمرد على تلك السلطة، وقد كان أكثر العناصر جدة في مفهوم الفن في عصر النهضة هو فكرة "العبقرية"، الرأي القائل أن العمل الفني من خلق شخصية لا تخضع إلا لذاتها، أي شخصية خارجة عن حدود أي سلطة.

وظهرت فكرة وحدانيّة الفنان العبقري وعناده، ومثلت اتجاهاً فكرياً لم يظهر لأول مرة إلا في مجتمع عصر النهضة. وذلك لطبيعته الديناميكية التي أتاحت له أن يقدم للفرد فرصاً أفضل من تلك التي كانت تقدمها الثقافة المبنية على سلطة الكنيسة في العصور الوسطى. وقد ازداد احتياج أصحاب السلطة إلى الدعاية مما أوجد في سوق الفن طلباً يفوق ما كان على العرض أن يلبيه في الماضي، ومع نمو الطبقة الوسطى البورجوازية وما يتصل بها من مجتمعات، بدأت فكرة الفنان المستقل عن السلطة تظهر بشكل أكثر وضوحاً. وعند عباقرة النهضة تأكد استقلال الذات بعيداً عن سلطة الكنيسة(4).

ويروي شربل داغر في إحدى دراساته طرفة عن الفنان الإيطالي دوناتيلو في القرن الخامس عشر عندما رفض نزع قبعته إجلالاً لمطران بادو (اسم منطقة إيطالية) بحجة أنهما متعادلان في الأهمية، أي أن المطران في الكنيسة هو بأهمية الفنان في المجتمع، وحملت تلك الطرفة دلالات عدة وتداولتها جميع الأوساط: الفن يستقل عن الكنيسة، ويقف إزاءها وقفة الند بالند، وتبدلت بالتالي علاقة الفنان بمواقع السلطة. طرفة أخرى يرويها شربل: يبعث الثري فرنسيسكو غونزاكا برسالة إلى ممثله في روما يأمره فيها "بالطلب إلى الفنان ميكل أنجلو مع فائق الاحترام والتقدير التكرم والتفضل والتنازل لتنفيذ وإنتاج لوحة لي تبعاً لذوقه ويضيف لايعنيني كثيراً ما إذا كان العمل الفني لوحة أو منحوتة يعنيني فقط الحصول على عمل فني من وضعه وإذا حدث مصادفة أن سألك عن الموضوع الذي نرغب فيه فقل له إن رغبتنا تقتصر فقط على الحصول على عمل منتج وفق إلهامه الخاص".

إذا تأملنا هذه الرسالة سنجد أن هناك علاقة جديدة غير العلاقة السابقة التي كانت تضع الفنان في خدمة الكنيسة أو صاحب السلطان وكان فيها يرسم تبعاً لتوجيهات أسياده، هذا ما يتضح في صورة جليّة في الرسالة التي تشير إلى تبدل علاقة الفنان بين الفنان وبين أصحاب المال والسلطة ولم يعد في خدمة أحد، وما جرى لمايكل أنجلو جرى للفنان جيوتو أيضاً، حيث كانت تصله دعوات مشابهة من الأسر الثرية في العديد من المدن الإيطالية التي انتشرت فيها السياسة المعروفة بـ"رعاية الفنانين". وتؤكد المصادر التاريخية وجود قوائم بأسماء الفنانين الإيطاليين في ذلك الوقت تسهل للأسر الحاكمة الاتصال بهم في محترفاتهم. وبذلك شهد عصر النهضة تغيراً هاماً في وضعية علاقة السلطة بالفن(5).

وبعد عصر النهضة حاول العديد من الفلاسفة والنقاد والعلماء والأدباء والساسة وكذلك المفكرون القضاء على تبعية الإنسان للمعرفة المكتسبة ولسلطة الكنيسة، لصالح نظرية الوجود التي تقول بمقدرة الإنسان على الحياة مستقلاً عن أية سلطة في هذا الكون العقلاني. وكانت الحركة الرومانسية محاولة رائعة لكشف عالم الذات عن طريق جهود مفردة للنفس وحدها. كانت إظهاراً خاصاً لذلك الإيمان بقيمة الذات الفردية، وبقيمة الفرد، الذي راح الفلاسفة والساسة يبشرون به في العالم حديثاً(6).

انتقال السلطة للسياسة
واجه الفن بعد عصر النهضة سلطة جديدة هي سلطة السياسة، وإذا كان مفهوم السلطة عبر العصور قد حمل بالكثير من الدلالات فقد بقي التصوّر السائد المسيطر هو أن السلطة هي السلطة السياسية، إذ كان غالبًا ما تُعَرَّف السُلطة، بأنَّها سلطة الدّولة، أو السلطة السياسية، وأنَّها عبارة عن مؤسساتٍ وأنظمةٍ وأجهزةٍ، تُخضِع المواطنين أو الرعايا لقوانينها داخل حدود دولة ما. ولذلك فإن مفهوم السلطة السياسية يُشَكِّلُ نظامًا من السيطرة، والهيمنة، التي تمارسه فئة ما على فئة أخرى، مُتَّخِذَةً صُورًا عدّة منها صورة التسلط على الفن واحتواء سلطته لصالحها.

من هنا اقترنت الصورة الأولى للحرية في التاريخ بالمفهوم السياسي حين استشعر الإنسان بأن النظم السياسية تحدّ من أفعاله، وتحقق هذا بوضوح في المطالبة بالتحرر من سلطة الدولة والكنيسة نظراً لامتداد نفوذهما إلى الفن والعلم وكافة مناحي الحياة وبدأت تثار علاقة السلطة بالحرية، فالسلطة تعمل على ثبات النظم بينما حرية الفرد تعمل على تغييرها من هنا حدث التضارب الدائم بينهما. وأتوقف هنا عند عدة محطات في تاريخ علاقة السلطة السياسية بالفن سنناقش أهمها وأكثرها تأثيرا:

تطور علاقة الفن بالسلطة في عهد الثورة الفرنسية
مثلت الثورة الفرنسية نموذجاً للربط الوثيق بين الفن والسلطة السياسية، فبقيام الثورة واستيلائها على السلطة عام 1789 كان سعيها الأول هو تكريس المبادىء الكلاسيكية الجمالية في الفن، وقد ربط أعلام التنوير بين مساهماتهم الجمالية، التي عكست فكرهم التنويري الشمولي وبين النظرية الجماليّة الفلسفية التي قامت في العصر اليوناني القديم، حيث كان الفن وثيق الصلة بالشعب والحياة الاجتماعية والسياسة، وأيضاً استجابة لموجة الولع بالقديم وما تبعها من اهتمام بفنون الحضارات القديمة.

من هنا بدأت الرعاية الرسمية للفن والعمل على ازدهاره، لأن الفن يمثل من جهة الدلالة على العصر والمستوى الذهني والأخلاقي للشعب، ومن جهة أخرى لأثره السياسي والاجتماعي في بناء الدولة، مما يحتم على الدولة رعايته عملاً بمبدأ أن "الغنى الفني يجب أن يصبح زينة ودين الشعوب الحرة ". وبالتالي تمّ الاعتراف بالمذهب الكلاسيكي مذهباً رسمياً لفن الدولة، إلا إن هذا الفن على الرغم من الحيثيات الأولى التي تبنته الثورة من أجلها، أصبح غير مناسب لجمهور الشعب والطبقة البرجوازية والأثرياء الجدد؛ حيث كان يحتاج تذوقه إلى ثقافة لاتينية واسعة في الأساطير والأدب والفلسفة والتاريخ، الأمر الذي تربى عليها سابقاً أبناء الطبقة الأرستقراطية. ونتيجة لذلك ظهر التيار المعادي له والداعي إلى إبداع قوالب فنية جديدة تعكس هموم المرحلة والجمهور الجديد، ورفع شعار أن يصبح الفن فرنسياً وطنياً، وأن يكون مؤرخاً لمجد فرنسا وعزتها، لامؤرخاً لمجد اليونان والرومان. من هنا تراجعت منظومة الصور الفنية الدينية والمثيولوجية لتحل محلها منظومة الصور الفنية المعاصرة الدالة على الواقع السياسي والاجتماعي الجديد، كصور المعارك والانتفاضات والحروب وموت البطل، وظهرت الملامح الأولى للرومانسية في فن التصوير. إلا أن ما تمخضت عنه الثورة من أحداث مثل الصراعات الداخلية بين تيارات قادتها، والحصار الأوروبي وحملات بونابرت على الشرق وأوروبا، ونهوض الطبقة البرجوازية الجديدة التي تتشكل في معظمها من الجنرالات وقادة الجيش والتجار والثرياء الجدد، ليشكل سلطة جديدة فرضت شروطها على الثقافة والفن، فأخضعت الفنان لعملية العرض والطلب بعد أن أصبح حراً من جمهوره القديم الكنيسة والبلاط، وأخضعت الفن لذوق الطبقة الجديدة وتطلعاتها وطموحها ولسياسة جديدة قائمة على توظيف الفن لخدمتها، فتحول معها الفنان إلى عامل مأجور، ونتج عن ذلك حدوث تراجع لفني النحت والعمارة كفنون ضخمة ومكلفة واحتفالية المنحى، وازدهار فن التصوير خاصة اللوحات التاريخية والبورتريه، لقدرتهما كأجناس فنية على تسجيل مآثر "الفردية" و"الجماعية" وحب الظهور والاستعراض والتفخيم. فالذى كان يصنع تاريخ فرنسا في أوائل القرن التاسع عشر هو البرجوازية المتحكمة بزمام السلطة السياسية والاقتصادية وأيضاً الفنية(7).

وعكس صالون باريس بداية من عام 1799 هذا التحول، ففاض باللوحات المكرسة لتمجيد بونابرت وحروبه وعائلته وجنوده وقادة جيوشه ونجوم الطبقة البرجوازية الجديدة، وكان لبونابرت تدخل مباشر بوصفه حاكماً لمصالح الطبقة البرجوازية الحاكمة في تأكيد هذا المسار الفنى، إذ كان يشرف مباشرة ـ في تدخل سلطوي سافرـ على اختيار الموضوعات وتنفيذ الفكرة، واختيار الفنانين، وتوزيع الجوائز، وافتتاح الصالونات. وإذا كان علماء التنوير قد طرحوا ما أسموه بـ"أزمة الروح" التى أرجعوها لسيادة مبدأ الفن للمتعة، والفن كأداة تزيينية، والفن المسلي اللذيذ في عصر الروكوكو متمثلاً بمنظومة الصور الفنية، التي قدمها فن التصوير عن مشاهد الحياة وبيئة النخبة الأرستقراطية القائمة على الحواسيّة والمتعة والترف والاستعرضية والميل للخفة والترف، فإن الفن انتقل بعد الثورة الفرنسية من سلطة الطبقة الأرستقراطية التي تسخره للتعبير عن مظاهر حياتها الزائفة إلى سلطة قادة الثورة لخدمة مفاهيمهم وتكريس دوره لخدمة السياسة، ثم سلطة طبقة البرجوازيين الجدد الذين استخدموه لتسجيل مآثرهم الشخصية، مما أدى للرد الفعل القوي الذي قدمته الرومانسية وناهضت به السلطة والنظام البرجوازي السائد في فرنسا، بسبب رفضها للواقع والتاريخ ومحاولة خلقها لواقع مغاير.

القهر السلطوي السياسي للفن: تجربة الفن الروسي
بحلول ثورة 1917*** شهدت روسيا نظاماً سياسياً جديداً أعطى نموذجاً غير مسبوق في القهر السلطوي السياسي للفن، فالبرجوع إلى أوائل سَنَوات الاتحاد السوفيتي، نجد حضوراً واضحاً لفنون رواد الطليعة، إلا أن البلاشفة قد استطاعوا تغيير القِيَمَ الفنيةَ التي كانت سائدةَ في روسيا. فقد تم رَفضَ الأساليب الحديثة، بسبب كونها حركاتِ وُجدتْ قبل الثورة، ولِذلك ارتبطتْ بالبرجوازية (الطبقة الوسطى). فأصبحت الواقعية الاشتراكية ردّ فعل ضدّ تبني هذه الأساليب الفنية السابقة. وفي منتصف العشرينيات، بدأ التحرّك نحو الواقعيّة بعيداً عن اتجاهات الطليعة الروسية، عندما أصبح واضحاً بأنَّ العُمّالِ والفلاحين وَجدوا مثل هذا الفَنِّ غامضِاً، وغير مفهوم. ولم تستطع الطبقة الجديدة التي استلمت السلطة السوفيتية والمكونة من العمال والفلاحين أن تستوعب وتتقبل الفن التجريدي القائم على مبدأ الذهنية والتحليلية والذي تتطلب ثقافة الصورة المجردة، ومثلت تيارات الحداثة قوالب جمالية غير مفهومة بالنسبة لها، خاصة وإن فناني الطليعة قد عاشوا في ظل ثقافة الغرب وما أنتجه من تيارات الحداثة.

وقد قوّضَت الثورة المِلكية الخاصّة بما في ذلك المعارضِ التجاريةِ التي كانت مخرجاً لمبيعاتِ الفنانين والمزايدات عليها، وبالتبعية أصبح جامع اللوحات الغني غير قادر على العمل كراع ٍ للفنون. كما أمّمَت الدولة المقتنيات الفنية الخاصة بالطبقة الأرستوقراطية. واختفت التركيبة القديمة للرعاه الأرستوقراطيين والتجـارِ الأغنياء؛ التي طالما وفرت الرعاية للفنانين، وكان لها أثر كبير على تطور الفـن الروسي. كما تغيرت أيضاً بالكامل كل أيدلوجية الفن وعقيدته. وأصبح الفَنِّ تحت الحكم الاشتراكي عمومي الإنتاج، جمهورياً في التعبيرِ وفي المحتوى السياسي. وساهم العديد ِمنْ الفنانين المستقبليين والتعكيبيين بالإضافة إلى الفنانين التقليديين في هذا الفَنّ السياسي. كما بدأت مدارس الفنـــــون برامـــــج مجّــانيةِ الفنــون. وفرض لينين برنـامج فنى يسمى الدعاية التذكاريِة لإحياء أبطالِ الثورة . ومن المؤكد أن السبب وراء دخول الفن في القضايا الأيديولوجية والسياسية كان هو إيمان الساسة بمدى تاثيره وسرعة وصوله إلى الشعب، وكذلك سرعة رد الفعل تجاهه. أصبح الفَنّ اقرب أن يكون انعكاساً للعالمِ الجديد. وقوى بناؤه ضمن المنظومةِ الاجتمــاعية. وتبعاً لذلك كثيراً ما هوجمَ المفهوم الجمالي للفَنِّ. كما اتهم الفنان بانغماسه في متعته الشخصية وأن دوره غير ضـروري ضمن وجهة النظر المادية العمالية. وعندما ظهرت محاولاتِ غير الثوريين والمتدخلين الأجانب لإعادة الحكم القيصري لروسيا، كان لابد للثورة من البَدْء في توحيد المثقّفين حول فكر وعمل مواليين للحزب والدولة. فاغُلِقتْ كُلّ منظمات الفَنِّ المستقلةِ ليبدأ التَرويج إلى طريقةِ فنيةِ سوفيتية رسميةِ. وبالفعل انتهى التنوع في الفن عام 1932، عندما تولى ستالين الحكم. ودعم قوّته بشعار "كلّ شخص يشارك في بناء الاشتراكية في بلاد موحدة"، فذوّب كلّ التجمّعات الفنية، وفرض اتحادات موحدة في عموم البلاد لها الولاية على كل من الكتّــاب والفنانين. وألغيتْ كُلّ المجموعات الفنية بمرسومِ حكومي. وسيطرت الدولة بشكل كامل على الفن والفنانين. من خلال تأســــــيس "اتحاد الفنانين" لفرض رقابة أيديولوجيَة على الشكلِ والطريقةِ والمحتوى. هذا الاتحاد كان يمنح ويمنع المهام للفنانين، والمكانة، والإجازة للاعمال الفنية. كـــما نظّم كامل الحياةِ الفنيةِ في الاتحاد السوفيتى. ونتيجة ذلك سادَ الفَنَّ الأكاديمي المُسَيَّسَ المعروف بـ"الواقعيةِ الاشتراكية" من الثلاثينيات إلى الخمسينيات.

وفي عــام 1934، أعلنت الواقعية الاشتراكية أسلوباً رسمياً. حيث إنتهى الاجتماع الأول للكُتّابِ السوفيتِ إلى تأسيس مذهبِ الواقعيةِ الاشتــــــــــــراكية (وكان قابل للتطبيق في كُلّ الفنون). وأصبح تقدّيم صورَة للولايةِ السوفيتية الجديدةِ شيئاً مُقَدَّساً في المذهب الرسمى للواقعية الاشتراكية الذي أخضعَ الفن لطلباتِ الحزب والحتمية الاقتصادية للخططِ الخماسية. وأزيلت فنون الطليعة الروسية، والفنون الغربية من محتويات المتاحف للمساعدة على فرض عزلة ثقافية وفق التسييس الضيّق للفنّ. وبحلول عام 1937 اختفتْ عملياً أعمال الطليعةِ عنْ البصرِ، ومِنْ كامل التواريخِ السوفيتية لتلك الفترة. فــ"الواقعيةِ الاشتراكية" فَنَّ مشروط بالسياسةِ، والذوقِ العام الشائع المحافظ، وما يَتذُوقُه القادة والحكام، والمكتب السياسي. وبالرغم من أنها حركة مثالية في أفكــارها، إلا أنها عارضتْ كُلّ المثاليات الأخرى، وأرادَت تجميد النبوئيِة المستقبلية في الفن مع تقديم عالمَ مثالي خيالي كحقيقة ثابتة للحاضر(8).

النازية: سلطة موازية
على صعيد موازٍ حدث هذا تماماً في ألمانيا تحت لواء النازية في نفس العام عام 1937 حيث ذكر هتلر: "إن التكعيبىة والتعبيرية والتأثيرية كل هذه الفنون ليست لها علاقة ما بشعبنا الألمانى (...) إن كل هذه التخيلات ليست قديمة ولا حديثة ولكنها ببساطة اللجلجة المفتعلة لإناس أنكر عليهم الرب بشاشة العبقرية الموهوبة فعوضها لهم بهدية من الانحراف والخداع". ثم أطلق هتلر على هذا الفن اسم "الفن المنحط" بعد أن أحرق في فيينا صور كوكوشكا وجورج جروز ومؤلفات فرويد(9)****.

وعمد النازيون، وكانوا من ألد أعداء التيار الحديث في الفن، إلى تشويه دعوته بإجراء المقارنات الضافية بين الوجوه والأجساد في لوحات المعاصرين، وعلى الأخص في لوحات التعبيريين الذين لقوا من النازية صنوف العذاب والتحقير، وبين الصور المستخرجة من سجلات المرضى والمصحات المختلفة. وبذلك قدم النازيون بدورهم صورة من أشد صور ممارسة السلطة القسرية ضد الفن التي تكشف في نفس الوقت عن مدى خشية السياسة من سلطة الفن في حالة عدم انضواء تلك السلطة تحت لواء إملاءات القوى السياسية.

وما يثير الحيرة ويؤكد أن القضية ليست في الاتجاه الفني ولكن في مدى استجابته للانضواء تحت سلطة السياسة أنه "عندما احتل النازيون النرويج حاول رجال هتلر دعوة إدوارد مونش للتكريم وعرضوا عليه أن يصبح واجهة ثقافية لبلاده تحت علم النازي، وعندما لم يتجاوب معهم صادروا بعدها بثلاث سنوات في ألمانيا 82 عملاً من أعماله الفنية بالمتاحف، والمجموعات القوميّة باعتبارها فناً منحطاً يروج للفساد"(10).

وعلى صعيد آخر مواز زمنياً تواجدت السيريالية التي كانت من أشد الاتجاهات الفنية ازعاجاً للسلطة السياسية، حيث كانت تتحد مع كل مبدأ ثوري، فقد أصدر السيرياليون الفرنسيون بياناً مشتركاً مع جماعة كلارتي الشيوعية ضد الاستعمار الفرنسي للمغرب، وأقاموا عام 1931 معرضاً لشعوب المستعمرات الفرنسية بعنوان "الحقيقة حول المستعمرات"، رداً على معرض سابق أقيم في نفس العام عرض المواد المنهوبة من الشعوب المستعمرة، بغرض تمجيد سلطة الإستعمار. وتحالف أندريه بريتون منظر السيريالية مع ليون تروتسكي أحد زعماء الثورة الشيوعية في روسيا وألتقيا فكرياً في مبدأ الحفاظ على حرية الإبداع، بعيداً عن سلطة الدعاية السياسية، وجمعا أفكارهما المشتركة في بيان "نحو فن ثورى"، ويقول أحد مقاطعه التى صاغها تروتسكي "إن الفاشية الهتلرية، بعد أن صفت في ألمانيا كل الفنانين الذين عبروا عن حب الحرية، ألزمت أولئك الذين كانوا بوسعهم أن يوافقوا على الإمساك بقلم أو ريشة بأن يجعلوا أنفسهم خدم النظام ويحتفلوا به حسب الأوامر. يهم على وجه الخصوص فيما يتعلق بالإبداع الفنى، أن يتحرر الخيال من كل إكراه، ألا يخضع مطلقاً وبأى ذريعة من الذرائع لقيد يكبل به (...) إذا كان على الثورة أن ترسي، من أجل تنمية قوى الإنتاج المادية، نظاماً اشتراكياً قائماً على التخطيط المركزى فإن عليها فيما يتعلق بالخلق الفني أن ترسي منذ البدء وتضمن نظاماً فوضوياً من الحرية الفردية.لا أدنى إكراه. لاأدنى أثر للقيادة"(11). وبالطبع فقد تم نفي تروتسكي وأفكاره المثالية فيما يتعلق بالحرية الفنية أجهضت ولم تدخل حيز التنفيذ في بلاده نظراً لما آلت إليه أحوال النظام الروسي.

هزيمة السلطة السياسية لفن الطليعة
بالعودة مرة أخرى لتجربة الفن الروسي نجد أنه نتيجة لهذا الاندفاع نحو الواقعيةِ والرغبة في التوصل إلى هدّفَ محدد للفَنّ، بَدأَ فَنُّ الطليعةِ بالاختفاء. كما تَركَ فنانوا الطليعةَ فن التصوير بشكل تدريجي، لشَعورهم أنه أصبح أكثر عمومية. مثال على هذا: ماليفتش، النصيرَ البارزَ للفَنِّ التجريدى في وقت الثورةِ، وبعد أعمال التفوقية (السوبارماتيزم) و(المربع الأسود، أبيض على الأبيض) (شكل4) بعشَر سنوات، عادَ إلى أسلوب أكثر واقعية ويتسق مع مبادىء الثورة.

(شكل4)

وكَتبَ في عام 1932: "ثورة العمال في المقدمة.. المهمّة الرئيسة للمصور السوفيتى سَتَكُونُ خَلْق لوحات فنية عظيمة"، وقال أيضاً: "في العشرينيات، بدأ العديد مِنْ فنانى الطليعة الروس الانتقال التدريجي إلى التصويرِ التصوري عنْ الناسِ قبل كل شيئ، اُشتَياَقاً إلى الرجالِ الجدّدِ.وهذا تَضمّنَ الانتقال مِنْ تجريدِ الطليعةِ إلى التشخيص والشخصية الفوتوغرافية، والواقعية الاشتراكية". وبناء على ذلك، توجّه العديد من الفنانين إلى مجالات أخرى مثل: التصميمات، والفنون التطبيقية، والملصقات السياسية، والهندسة المعمارية. لكن الفنانين الذين لَمْ يُستَوعبوا هذا التغير استبعدوا، أَو هاجرَوا مِنْ الاتحاد السوفيتي، مثل كاندنسكي، الذى شَعرَ بأنّ إبداعه لَن يَنَمُو في السياقِ الاجتماعي والسياسيِ الجديد، لذا غادرَ إلى برلين. وحَدثَ مصـــير مماثل لشاجال، وجابو، وبيفسنير ... إلخ.

وتبعاً َللمذهبُ الاشتراكي عادت كُلّ السلع المادية ووسائل الإنتاج إلى ملكية المجتمع، متضمنة الأعمـال الفنـيّة، ووسائلِ إنتاجها. وأصبح الفَنِّ أولاً وقبل كل شيئ أداة دعائيّة، وتم عرضِ معظم الناتجِ في البنايات العامّة. وكان يتم تقُديّر مكانة الفنانين طبقاً لأهمية الموقع الذى تعُرض فيه أعمالهم. وهكذا، أصبح "أفضل" الفنانين هو الذى أختيرت لوحاته للعرض في الوزارات الحكومية الهامة أَو المعارض الكبرى.

وبعد وفاة ستالين في عام 1953 بفترة قصيرة، أصبح واضحاً للجميع أن الواقعية الاشتراكية فَقدتْ حيويتَها. وفي اجتماع الحزب عام 1952، علق سوسلوف قائلاً "بأنّ الفَنِّ السوفيتي أصبح حلوى فارغة...، والفنانين، اتبعوا النظرية الرسمية بشكل مرتعد وهذا أدّى إلى الركود". وفي السياق التاريخي، كان اتجاه الفنّ السوفيتي بشكل عام يظهر كالبديل المحتمل الوحيد، نظراً لأن البلاد كانت في حالة حرب سياسياً، مع العالم بأكمله. وأصبح أى شكل للتجريب مرفوض. والتعددية في تفسيرِ الفَنِّ مرفوضة. الواضح والمفهوم كانت البدائل المقبولة الوحيدة. فاللوحات التذكارية، صنعت طبقاً لكلّ القواعد المطلوبة. واسم اللوحات كان لابد أن يشرحها ويتممها. مثل هذه اللوحات أُنتجتْ وأُعيد إنتاجها بكميات جماعية. وكان الهدف من نشرها على مدى واسع وواضح، وليكون أسهل على الناس تصديقها.

بذلك يكون الفن الروسي قد قدم لنا حالة تاريخية خاصة من سطو السلطة السياسية على الفن، ولكن علينا أن نتابع التأمل فالحتمية التاريخية تقودنا سريعاً إلى شاطىء أخر مواجه ومناقض تماماً في فكره لكنه متفق مع التجربة الروسية في إيمانه بسلطة الفن والسعي لامتلاكه كأداة للهيمنة السياسية:

سلطة الفن في عصر العولمة
بدأت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي سنة 1947 حيث أخذ كل من المعسكرين يطارد الآخر في العالم الثالث حيث الإنقلابات والحروب الإقليمية، وفي أروقة الأمم المتحدة حيث يعمل كل منهما على تعطيل مشروعات الآخر بإستخدام حق الفيتو.

على أن الحكومة الأمريكية وجدت أن هذا لا يكفي لإزالة الشيوعية من طريق الرأسمالية، ومن هنا إتجهت السياسة الأمريكية إلى تصويب ضرباتها على جبهة الثقافة العريضة بما تشمله من أفكار وفنون وآداب وعلوم وكل ما يتعلق بالكلمة المقروئة والمسموعة و المرئية لإيمانها بلاشك بقدرة السلطة الثقافية على تغيير وعى الشعوب .

فأخذت الحكومة الأمريكية تعمل بذكاء على تغيير تحتى لمعالم السلطة الرمزية اللامرئية واستغلال دوره هذه السلطة في تثبيت الواقع وقبوله كشكل سائد لابديل له في وعى البشر، مما يسمح لها باستخدامها كأداة لإدارة مصالحها وتأكيد سيادتها. وبالطبع ساعدها تفوقها التكنولوجية وإمتلاكها لوسائل الإتصال الحديثة فيما بعد في تحقيق هذا الدورـ في محاولة متواصلة لتغيير أذهان الشعوب وتشجيعها على كراهية النموذج الشيوعى بتقديم النموذج الرأسمالى الأمريكى ثقافياً، والعمل على إستزراعه في مختلف البيئات وذلك عن طريق جهاز المخابرات المعروف إصطلاحاً بالـ C.I.A ليتولى الجانب الثقافي في الحرب الباردة وكانت من أهم أعمال هذا الجهاز تكوين واجهة ثقافية تمهد الطريق أمام المصالح الأمريكية في الخارج. وذلك من خلال برنامج سرى مع الحرص الشديد على أن يبدو وكأن لا وجود له.

وبدأ الأمريكيون في إفتتاح المراكز الثقافية في مختلف بلاد العالم لتقديم الثقافة الأمريكية، ومن خلال ذلك إستطاعت أمريكا أن تعيد بناء البنية الثقافية في العالم بما يؤدي إلى كراهية الشيوعية والسعي وراء النموذج الأمريكي. وهذا يؤكد أهمية الثقافة في التأثير على الوعي حيث يتم من خلالها تدريجياً التخلي عن نمط قديم وإكتساب نمط آخر. لذلك عندما سقط حكم الشيوعية في الإتحاد السوفيتي لم يجد هذا السقوط مقاومة من الجماهير التي كانت تتشرب على مدى أكثر من أربعين عاماً وبالتدريج الثقافة الأمريكية(12).

وبالتالي إستطاعت أمريكا من خلال تغييرها معالم السلطة الرمزية ـ التي يشكل الفن أحد أركانها الهامة ـ أن تهيىء الجميع لقيادتها للعالم، وأن تكرس الفن كسلطة رمزية لتقديم أيديولوجية مضادة للشيوعية : أيديولوجيه الحرية الأمريكية، فكيف يمكن أن تكون قوة عظمى دون فن ملائم، من هنا تبنت صفوة أمريكا الثقافية (التعبيرية التجريدية) حيث مثلت في رأيهم تعبير عن هذه الأيديولوجية ولأنها لم تكن تصور أشخاصاً أو أشكالاً، ولأنها كانت صامتة سياسياً، فإن التعبيرية التجريدية كانت المعادل التشكيلي الأنسب لهذه المرحلة، فقد كان ينظر للحداثة الأوروبية وللفن الحديث على أنه كله شيوعي، وعلى ذلك فسرت السلطة الأمريكية جميع المدارس من التكعيبية حتى السيريالية بأنها تسعى إلى التخريب، ونظرت للحداثة الأوروبية على أنها جزء من مؤامرة عالمية لإضعاف قوة أمريكا.

من هنا تحملت التعبيرية التجريدية الدور السياسي لها وإقتحمت بها أمريكا المشهد الفني الحداثي 1946 نتيجة ترُويجَ الفَنِّ التجريدي أثناء الحرب الباردةِ في الخمسينيات، باعتباره ممثلَ الثقافاتِ "الحرة" للديمقراطياتِ الغربيةِ في مقابل ديكتاتورية الواقعيةِ الاشتراكية. حيث ربطوا بينها وبين الحرية التي يدعيها النظام الأمريكي اعتبرت الحرية شرطاً للإبداع وربطت هذه الحرية بالمفهوم السياسي للديمقراطية.

ففي عام 1939 بمناسبة افتتاح المبني الجديد لمتحف الفن الحديث قال الرئيس الأمريكي الراحل " روزفلت" : "لايمكن للفن أن ينمو إلا متى كان الناس أحرار كي يعبروا عن ذواتهم، وأن يتولوا بأنفسهم تنظيم طاقاتهم وإطلاق العنان لصلاحيتهم.إن شرط وجود الديمقراطية هو ذاته شرط وجود الفن.وما نسميه حرية سياسية يفضي إلى الحرية في الفن.فإن استحال المجتمع إلى نمط لاحيدة فيه، وإلى كتيبة تنصاع لأوامر صارمة ـ إشارة نقدية وتلميحية واضحة للنظام الشيوعي ـ أي إلى حياة يستبد بها الروتين أضحى من المتعذر على الفن والفنانين البقاء.إسحق الشخصية المتفردة في المجتمع تسحق الفن بدوره.شجع أوضاع الحياة الحرة، تشجع الفن بدوره "(13).

ومن أمريكا إنطلقت معظم الإتجاهات الفنية المؤثرة في الفن المعاصر واتخذت الفنون أحد وسائل تدعيم سلطتها الثقافية على العالم، وأصبح هناك انصياعاً عالمياً لسلطة الصورة التي يبثها (الإنترنت) طوال الوقت والتي مارست حضورها الفعال وأصبحت من مصادر التجربة الإبداعية للفنان في إتجاهه الفني وصوره وأشكاله وقضاياه وموضوعاته. وشهدت الستينات تحولاً مركزياً في العواصم الثقافية فلم تعد باريس واجهة العالم بل نيويورك وواشنطن من أهم المراكز الثقافية والتجارية للفن، وبإنتهاء الحرب الباردة لصالح أمريكا أصبح الفن متأثراً بالهيمنة المبنية على نزعة أيديولوجية تأصيلية للثقافة الأمريكية

سلطة الفن في المجتمع المعاصر... مقاربة جديدة
بناء على ماسبق طرحه وصل الأمر لأن يرى البعض أن دور الفن في الحياة المعاصرة أصبح مهمشاً وأختصر دور هذا الجمالي في أغلب الحالات إلى مجرد أداة في حروب الثقافات والإيديولوجيات والهويات. الذي يحدد هذا المعنى من لا قوة وثانوية الفن المعاصر هو تلك الفكرة المضمرة في تركيبة المجتمع الحديث والتي تقول أن الواقع في مكان والفن في مكان آخر وأن مراكز قوة هذا الواقع إنما هي التكنولوجيا الرقمية، العولمة الإقتصادية والتسلع المتزايد ومع التطورات المتسارعة في تقنيات المعلومات والإنترنت، يبدو أن حتى التغيرات والإبداعات الثقافية والجمالية تقع في فضاء المعلوماتي والافتراضي أكثر مما تقع في فضاء الجمالي.

لذلك لا يبدو مفاجئاً أن علم الجمال مع بداية الألفية الثالثة تطغى عليه رؤى النهايات والتلاشي والنزوع إلى إعلان “نهاية الفن” مدللة على حقيقة غياب القوة النقدية في الفن المعاصر. وتقدم نظريات هيدجر وأدورنو فيما يتعلق بوضعية الفن في سياق سيطرة التكنولوجيا وأشكال السلطة والقوة الحديثة الناتجة عنها إمكانية مقاربة جمالية جديدة، مما يمكن من فهم جديد ومختلف للدور الاجتماعي والثقافي للفن.‏ والعنصر الأهم في هذه النظريات يتعلق بعلاقة الفن بمفهوم القوة والسلطة.و يرتكز على كيفية قراءة حالة "لا قوة" و"لا سلطوية" الفن في المجتمع المعاصر.

ويطرح د. محمد على سليمان سؤالاً هاماً في هذا السياق:هل الفن في ثقافة العولمة في القرن الحادي والعشرين مجرد عن القوة والتأثير؟ أم أن هناك حقيقة جديدة يمكن لنا أن نكتشفها في فكرة "لا قوة" الفن، أي الفن المتحرر من أشكال وأوهام القوة والسلطة؟ تبدو صفة "اللاقوة" الملحقة بالفن هنا بشكل بديهي كدلالة على غياب فاعلية التأثير، ويعبر هذا عن الذهنية التي تقارن قوة الأعمال الفنية بالقوى الإجتماعية والسياسية للبرهنة على أن الفن لا يملك أي فعالية أو تأثير في تغيير الواقع مقارنة بتلك القوى. وبكلام آخر، يبدو الفن في عالم يتحدد من خلال التقنيات الحديثة للسيطرة والتحكم مجرداً من إمكانية التأثير والدلالة. غير أننا إذا تفحصنا علاقة الفن المعاصر بأشكال القوة والسيطرة في المجتمع التكنوقراطي المعاصر،‏ فسنكتشف إمكانية حقيقية لفهم جديد للفن ودوره. وفق هذا الفهم الجديد، لا تعني صفة "اللاقوة" الملحقة بالفن بالضرورة الإفتقاد إلى القوة والتأثير، بل إنها تؤشر إلى تحرر وانعتاق من آليات القوة وتقنيات السيطرة. وهكذا تغدو "لاقوة" الفن وانعتاقه صفة إيجابية ومؤشر على مغايرة الفن لتكنولوجيا إنتاج القوة وآليات التحكم في فضاء الوجود الحداثي.‏ وبما أن اشكال القوة المعاصرة هي في طبيعتها تكنو-معلوماتية، فإن قوة الفن وفعاليته في عالمنا المعاصر تكمن في قدرته على كشف وتعرية الطبيعة التكنولوجية لأشكال القوة والسلطة الحديثة وفي قدرته أيضاً على طرح الأسئلة حول القدرة المتزايدة لتلك الأشكال على الانتشار والسيطرة على مرتكزات الوجود الإنساني الحديث‏(14).

سلطة السياق
يقودنا مسار السلطة والفن هنا لنطاق أكثر اتساعاً: هل بالفعل إبداعات الفنان محاصرة بزمنها كما قال أندريه مالرو في مقاله " سيكولوجية الخلق: الذي نشره عام 1942 وهل هذا دليل على أن الفنان إنما يخضع لسلطة بعض القيم الأصولية في زمانه، وأن هناك سلطة أكثر إتساعاً وتأثيراً على الفن هي سلطة السياق سنحتاج هنا لنتوقف قليلاً عند مفهوم فكرة السياق. كانت فكرة السياق من أقوى أفكار القرن التاسع عشر تأصلاً وأكثرها تأثيراً في جميع المجالات والمقصود بها هو أن الشيء لايمكن أن يفهم منعزلاً، وإنما يفهم فقط بدراسة أسبابه ونتائجه وعلاقاته المتبادلة. وتطرقت الفكرة لتلمس نطاق الفنون من خلال مجال النقد فقد كان مفكري القرن التاسع عشر يريدون أن يجعلوا النقد " علمياً " وذلك لإعجابهم بدقة العلوم ويقينها، ومن جهه أخرى فقد راعتهم ذاتية الأحكام النقدية والخلافات التي لاتنتهي بين النقاد من هنا ظهر ما سمي بالنقد السياقي. كما انتقلت الفكرة أيضاً لتؤثر بوضوح في مجال تاريخ الفن.

فقد طٌرحت فكرة السياق وسلطته لتأخذ حيزاً بارزاً في كتابات أحد أشهر مؤرخي الفن: فولفلين Woelfflin (1831-1908)، الذي كان أستاذاً لتاريخ الفن في جامعتي ميونخ وزيورخ على التعاقب) من أنصار رأي معين والذي عبر عنه في عبارته الشهيرة "تاريخ الفن بلا أسماء"، إذ ينسب كل تحول في النظم والأساليب إلى "روح العصر"، حيث لن يستطيع أي فنان تجاهل أوضاع العصر وحدوده. فهي تتحكم في رؤيته الفنية، وتحدد له مفردات لغته الفنية. فهو يستطيع إثراء الأشكال الفنية، ولكنه لا يستطيع أن يتجاهل المشكلات التي تطرحها. ويرى فولفلين أن وسائل الرؤى الفنية وأساليب التمثيل الفني لها تاريخ خاص يتجاوز الأذواق القومية والفردية. ومن الخطأ الاعتقاد بأن الاتجاهات والغايات الذاتية دائمة التغير، وأن لكل فنان ذخيرة من الوسائل والأساليب التي يستعين بها وفقاً لمشيئته. فكل فنان يتزود من بداية طريقه برؤية فنية تفرض عليه وبأسلوب يتحكم في طريقة تعبيره الفني بحيث يرى الأشياء من خلال صيغ وأشكال لا فضل له في ابتكارها، بل ويرغم على الرسم بإتباع خطوط محددة، وعلى اختيار الألوان والمتوافقات اللونية تبعاً لضرورات العصر.

وبعبارة أخرى أقر فولفلن فكرة سلطة السياق وأنكر دور الإرادة والاختيار في التعبير والإبداع، أو حتى في اختيار الفنان مضمونه الفني. وهكذا تكون هناك قوانين منظمة للفن، في جميع خطواته، بغض النظر عن المؤثرات الخارجية كأحداث المجتمع،والبيئة، والتكوين النفسي للفنان. ويذكر فولفلين أن الاطراد بين الفنون التشكيلية في أي عصر نابع من ضرورة داخلية كامنة في روح العصر، أي لا يمكن التغلب أو التمرد عليها. ومن حسن الحظ أن روح العصر لا تثبت على حال، فهي تتغير وتتبدل وفقاً لقوانينها الطبيعية، بغير تدخل من البيئة أو الفنان على السواء. ووفقاً لمفهوم السياق من المتعذر أن نضع عملين فنيين من عصرين مختلفين في كفتي الميزان الواحد وإنما يقاس كل منهما في سياق الإطار المرجعي الخاص به، وهذا ما أسماه توماس كون بـ"تعذر السياق".

وبالطبع اُنتقد مذهب فولفلين وما فيه من تعنت صارم، وقد اضطر إلى تصحيحه، في بعض المواضع فقط، فاعترف بدور الفنان وإيجابيته، ولكنه لم يتراجع عن فكرته الأساسية عن سلطة الضرورات الموضوعية الكامنة في كل عصر، التي تتحكم في العمل الفني، ويضطر الفنان إلى إتباعها، لأنه لا يتمتع بحرية تزيد عن حرية الاختيار بين ممكنات في نطاق ما تفرضه عليه روح العصر. والفنان حر في اختيار ما يصادفه من تقنية وقوالب وأساليب وموضوعات، وإذا توهم أن هذه المقومات من صنعه كان مخطئاً تماماً مثلما يخضع الصانع للحرفية المهنية وأدواتها ويضطر إلى استعمالها إلى أن تبطل ويبتكر العصر (لا الأفراد) أدوات جديدة تحل محلها.

وتوصل فولفلين إلى نتيجة وهي الفصل بين عالم الفن والحياة المحيطة به، وكأن التفاعل بينه وبين السياق الاجتماعي وهم، وبذلك يكون الفنانون من أهل الأبراج العاجية ولا يلزم أن يتلقوا أو يتعلموا ليعرفوا خصائص أسلوب عصرهم، لأنه سيتكشف من خلال أعمالهم حتى إذا لم يعوا ذلك.وهكذا فسر فولفلين قضايا عويصة في تاريخ الفن التشكيلي، مثل اتجاه الأخوين فان أيك في هولندة في القرن الخامس عشر إلى الطبيعية الحديثة كأمر محتوم وليس اختياراً فردياً، كذلك إتباع ليوناردو دافنشي للكلاسيكية، ورفض كارافاجيو للمانرزم.

وهو يرى أن كلمة "أسلوب" توحي بالتفاعل بين إرادة الفنان ومواهبه، وبين الغايات التي يمليها العصر، ولا مجال لحرية الفنان الكاملة في إبداع عمله، بغير خضوع لروح العصر ومستلزماته، والفنان يواجه معايير محددة للذوق والأساليب والموضوعات وأشكال تنظم له مادته الفنية.كما قال هيجل أن تاريخ الفن عبارة عن تعاقب أساليب وأساليب مضادة. هذه كانت آراء فولفلين، ربما صحت نظريته في حالة أصحاب الأسلوب الواحد، ولكن من الصعب انطباقها على العصر الحديث والتقلبات الأسلوبية (عند بيكاسو مثلاً)، لقد اهتم بالتعميم والجوانب المشتركة ونسي الفروق الدقيقة الهامة، التي تفرق بين من ينتمون إلى العصر الواحد. فالأعمال الفنية تبدو في نظر المتذوق المتحرر من أي نظريات فلسفية أو تاريخية، منفردة تماماً، وليست أحداثاً في تيار الإبداع الفني(15).

وبالطبع كان هناك تيار مواجه يعارض إلى حد التطرف فكرة سلطة السياق مثل الفيلسوف الإيطالي كروتشه (1886-1952)، إذ يرى أن كل عمل فني هو تعبير حدسي فريد. وبذلك لا يوجد تاريخ فن، ولكن يوجد تاريخ أعمال فنية وفنانون أفراد يبدعون، على اعتبار أن العوامل الخارجية لاتقيم أعمالاً فنية ولا يمكن تصنيف الفنون في نظام معرفي. ويقف وراء وجهة النظر هذه افتراض بأن الفنانين - وبالتأكيد كل الأشخاص خلال التاريخ، كائنات حية منعزلة ومنفصلة تماماً عن الظروف المكانية والزمانية. وهنا طمح النقد الفني لأن يزيل المعوقات التي تمنع هذا التحديد، أوتقييم العمل كونه فناً أو لا فن. لقد رفض كروتشة المواد والتقنية، والمعنى، والسيرة والتاريخ الاجتماعي والثقافي، وتاريخ الأفكار، لأنه يعتبرها أموراً خارجية وغير ذات صلة بالاعتبارات الفنية(16). إن كل عمل فني، وفقاً لوجهة النظر هذه، هو شيء منفرد يُدرك في فراغ إبداعي، يستبعد المكان والزمان كمسببات للحقيقة، حيث يفترض عدم وجود المجتمع. ومحصلة هذه الفردية المفرطة هي فوضى تاريخية، وهي وضع يتسم بعدم التواصل مع أو فهم منتجات التـاريخ الإنساني.

إلا أن هناك بعض الباحثين الآخرين قد توصلوا إلى رأي أكثر اعتدالاً من الرأيين السابقين، الذي يؤكد أن الرؤية التي يحققها الفنان الناضج قد تصدر عن حدسه الفردي، إلا أن هذا الحدس الفردي قد تمت تنميته حتما بواسطة مجتمعه. ويستطيع الفنان الاعتماد مبدئيا على حدسه، وذلك بأن يستخدم تفسيراته الخاصة بالحضارة ونظرته إليها مجرد نقطة بدء لطرق العالم غير المحدد، أو قد يستطيع أن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإطار الذي أقامته حضارته وأن يستخدم حدسه في تقديم هذا الإطار في صورة كاملة مصقولة، وأن يزيد من الانتباه إليه، وأن يحيط به إحاطة أكثر فهماً(17)

العولمة وتقويض سلطة السياق

رسخت العولمة لفكرة التجوال واللامكانية، أي التخلي عن الجذور ونزع السياق والتاريخ الأصلي للعمل الفني، وتجاهلت فكرة أن العمل الفني يحتفظ بهالته وسحره في الموقع الجغرافي والتاريخي الذي يتواجد فيه، وهو في إطاره البيئي والمكاني الخاص، يرتبط بعالم كامل من المدلولات الثقافية، وبشبكة من المعطيات الحضارية التي لاتنتقل بإنتقال الأثر، ولاترحل معه من مكان إلى أخر. ولربما يتفق أحياناً أنه لايصبح قابلاً للفهم ولايروق للإحساس الجمالي في بلد أخر إعتماداً على أن هناك فوارق بين الثقافات وبالتالي فوارق بين الإحتياجات الجمالية لكل منها. إلا أن العولمة جاءت فأطاحت بكل تلك المفاهيم وأقرت مبدأ خلخلة السياقات (نزع السياق والتاريخ الأصلي للعمل الفني).

لقد أصبح الفنانون يظهرون بشكل واحد حتى أن معارض الفن المعاصر في جميع أنحاء العالم تظهر جميعاً متشابهة والواقع أنه يندر إدراك الفن المعاصر عند تقديمه من خلال العروض الدولية في سياقاته الأصلية، بل يجب أن يستقرأ المُشاهد المجال والخلفيات الفكرية للفنان العارض، وهذا ما يبرر في الوقت الحاضر عدم كفاية تأمل العمل الفني فقط، حيث يحتاج المرء إلى مزيد من المعلومات والمناقشات، أو أن يستهدف الفنان العارض تقديم فن لايرتبط بمكان وسياق محدد، أي يستهدف تقديم فن عالمي متماشياً مع مفهوم العولمة.

ويحاول الفنان إعادة التوازن لفقدان المكان الخاص والسياق التاريخي والإجتماعي للفن من خلال إستراتيجيات مختلفة. أحدها هو تأمين الفن والإعلان عنه من خلال نظريات حيث أن "وطن" الفن الحالي لم يعد مكاناً معيناً، بل نظرية ما. وهذا هو المبرر الثاني لعدم قدرتنا على فهم الفن المعاصر بدون معارف ومعلومات معينة، ولكن هناك إستراتيجة أخرى عن إمكانية التأثير المباشر للفن، وهي تهدف إلى جعل مكان وسياق الفن موضوعاً للفن وتصويره. ويعني ذلك أن الفن يحاول الإمساك بالمكان المفقود للعمل الفني (أو إيجاد مكان بديل له) وجلبه للمشاهد(18). والسبب في هذا الإلتباس هو أن الفن فقد سياقه ولم تعد له جذور واضحة ومحددة في أرض واحدة. من هنا نجد أن العولمة قد قوضت فكرة السياق ووقفت بالفن عند حدود جديدة بلا جغرافيا أو تاريخ.

النقد .. سلطة الفن على ذاته
النقد هو الطرف الأخر في العملية الإبداعية والمفترض أنه يدعم سلطة الفن بأن يقدم له ويطرح اتجاهاته ونظرياته من خلال المناهج المختلفة، إلا أن الاقتراب من تاريخ الفن يكشف لنا حقيقة هامة وهي أن النقد أيضاً يخضع لسلطة المعيار الفني للعصر ويعمل كثيراً لصالحها ويتنازل عن دوره في الكشف عن السمات الجديدة والتعريف بها ودفعها للخروج لتشكل مساراً إبداعياً جديداً، ونستطيع أن نقول أن الفن قد مارس تسلطه على ذاته عندما وصل في مرحلة ما لأن يقدم مجموعة استقرت من المعايير الملزمة لمن يبدعون حيث يتحول إلى سلطة على كل جديد يأتي به مستقبل الفن وهوبذلك يعوق بنفسه مسار إبداعه ويمنع تلقف ما هو جديد وقد قدم لنا تاريخ الفن نماذج عدة، كان النقد فيها هو أداة تلك السلطة وقلمها.

بداية ً النقد حسبما اتفق معظم مؤرخو الفن الاجتماعيين لا يمكنه تَمَثُل البراءة لأن ممارسوه يحتلون مواقع مؤسسية تتسم بأصول وسياقات اجتماعية خاصة ومن ثم تمتثل بتوجهات وأيديولوجيات خاصة، معتمدة في مرجعيتها على خطاب فرضي ولكنه في حالة من التشكل المستمر مما يتنافي مع براءة الرؤيا التي يقدمون أنفسهم بها. ويكشف التحليل الاجتماعي المعاصر عن تعدد معايير التقييم داخل المجتمع الواحد في فترة تاريخية ما. فالأحكام الجمالية المقبولة هي بالتحديد أحكام جماعات من الناس تشغل موضعاً استيراتيجياً مثل الأكاديميون، المفكرون، النقاد، وما إلى ذلك وتمارس تلك الجماعات سلطتها على الفن من خلال هذا الموقع(19).

وقد كانت سلطة النقد تملي على العمل الفني في البداية من خلال المناهج النقدية المحددة، على سبيل المثال عرف النقد الفني في القرن السابع عشر النقد المعاييري (القياسي) وهو النقد الذي يحدد معيار يعرف به قيمة العمل ويقيسها بناء عليه، وعلى ذلك فكل عمل فني لابد أن تتوافر فيه صفات شكلية وتعبيرية معينة، وأن يكون مرتبطاً بالتراث الإجتماعي، وأن يسهل تذوقه على كل أفراد المجتمع. ويعد النقد الكلاسيكي الجديد neoclassical في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر،مثلاً جيداً لذلك النوع من النقد،حيث كان يُتخذ من العصر اليوناني الروماني القديم "نموذجاً" لكل فن، وقد وضع قادة هذه الحركة، ولاسيما بوالو Boileau (1636-1711) قواعد مفصلة لتقدير الفن، وكان يُعتقد أن هذه القواعد تصدق على نحو شامل. ومن هذه القواعد التي تطبق على فن التصوير مثل: نبل الموضوع، انتفاء الجانب العاطفي، مثالية الهدف، الإلتزام بقواعد علم المنظور الهندسي، الإلتزام بالتظليل من خلال مصدر ضوئي بزاوية45(20)، وكان على جميع الفنانين الذين يريدون أن يحظوا بالتقدير أن يلتزموا بهذه المعايير.

ثم أصبح كل ناقد يمارس سلطته الخاصة من خلال معياره الذاتي الداخلي، فالممارسة النقدية مهما كانت درجة التجريد التي قد تتعامل بها مع العمل الفني تحتوي في طياتها على نسبة حتمية من التطبيق إذ أن الناقد حتى ولو لم يكن في كتابته النقدية أو النظرية أي إشارة مباشرة لعمل فني بعينه، أو لمجموعة ما من الأعمال لا يستطيع أن ينفصل انفصلاً تاماً عن تراث قراءاته الخاصة، بل وربما يمكن القول أيضاً بأنه قد لا يملك إلا أن ينطلق من هذا التراث الذي يشكل "تصوره الأصل"عن الفن، أو مرجعيته الخاصة التي تمكنه من تكوين رؤيته النقدية أو النظرية. فالنقد هو في أحد أبعاده على الأقل نقد تطبيقي، إن لم يحتوي على إشارات مباشرة لأعمال فنية معينة، فهو يحتوي بالضرورة على إشارات ضمنية لكيان ما من الأعمال تشكل خلفية الناقد التي أصبحت جزءاً من وعيه الجمالي، والمنبع الذي يستمد منه معايير أحكامه ويقيس عليه مشروعية رؤاه. ويمكننا أن نقول أن لكل ناقد مفاهيم محددة مسبقاً عن كل قيمة من قيم العمل الفني وتتراوح هذه المفاهيم عمقاً واتساعاً من ناقد لأخر كذلك فإن الناقد يستعير منذ البداية، مصدراً أو مضماراً تعريفياً للفن ينتمي في أصوله إلى فكر جمالي فلسفي معين.

من هنا يمارس الناقد دون أن يدري سلطته العمل الفني وبدلاً من أن يكون العمل الفني خاضعاً لسلطة منهج نقدي واحد ذو معايير محددة مستمدة من روح عصره، أصبح خاضع لسلطات لامتناهية بعدد كل متلقييه: حيث شهدت الدراسات النقدية المعاصرة تحولاً في اتجاه إرساء سلطة القارىء أو المتلقي، بعد تحول أسبق من مرحلة إعطاء الأولوية لسلطة الفنان ثم إلى إزاحة تلك السلطة لتحل محلها سلطة العمل الفني، وأخيراً سلطة المتلقي(21).

ويشهد تاريخ الفن بأن الكثير من الأعمال العظيمة لم تكن تنال ذلك التقدير في العصور التي ابدعت فيها لخروجها عن المعيار الذي اعتمده كل عصر لفنه وشكل سلطة يمارسها نقاده على فنانيه ولنا أن نتأمل النهايات المأسوية للعديد ممن نعتبرهم الأن فنانين عظام على سبيل المثال ترنر وفان جوخ ولوتريك ومودلياني ومونش وغيرهم. ومن المفيد تأمل بعض النصوص التي عبرت عن سلطة المعيار الفني النقدي السائد ضد كل ما جديد ومتجاوز له.

من الأمثلة التي نستطيع أن نوردها في هذا السياق ذلك الهجوم الضاري من جانب الناقد والفنان "بنجامين هيدون" على أسلوب مايكل أنجلو في معالجة الموضوعات القديمة خاصة التي صورها في " الكابيللا سستينا" بالفاتيكان حيث يقول: "كل صورة من صوره تبدو كما لوكانت تلقت إهانة ومستعدة لتوجيه ضربة. وإذا ناموا فإنهم يبدون كما لوكانوا سيرفسون، وإذا تحركوا عندما يكونون مستيقظين فإنهم يبدون كما لو كانت عضلاتهم ستتحطم "(22)(شكل 6).

(شكل 6)

ذلك أن الناقد هنا لم يستطع أن يتفهم أثر تجربة الفنان كنحات على تجربته كمصور، وكان هذا وراء حرصه على إبراز الكتلة بشكل تفصيلي ولا أن يتقبل الجانب الدرامي التعبيري الحاد أحياناً الذي أضفاه ميكل أنجلو على تصاويره، وذلك لإستكانة الناقد لتلك الصورة المثالية الناعمة التي قدمها معاصرو مايكل أنجلو والتي كانت تشكل المعيار السائد وقتها في معالجة تلك الموضوعات.

ولنا أن نتأمل العداوة التي لقيها التيار الحديث في الفن من قبل جمهور النقاد، مثلما نجد ما قوبلت به الانطباعية في بدايتها ـ وهي الحركة التي غيرت مسار الفن الغربي الحديث ووضعته على مشارف جديدة ـ من حركة نقدية عنيفة وعدم تقبل لما قدمته من خروج على المعايير السائدة أو سياق معيار العصر؛ فنجد أحد النقاد يكتب عن ماأطلق عليه سوء خلق مانيه في لوحة ( الغذاء على العشب 1862) (شكل 7) كمثال على الناقد الجاهل بأشكال التصوير الجديد واضعاً حيرته وعدم معرفته بها مكان ما رأى أنه محتوى بذئ(23). حيث قام بتصوير رجلان من الطبقة الأرستقراطية في كامل ملابسهما الرسمية تجاورهما إمرأة عارية والجميع يجلسون على العشب لتناول الغذاء وفي الخلفية إمرأة أخرى تمد يدها لتملىء أنية من مجرى مائي، وربما يرجع الإعتراض ليس فقط للشكل الفني الجديد ولكن أيضاً للملمح النقدي الذي يسخر من تلك الطبقة وينتقد تظاهرها الزائف بالقيم الأخلاقية.

(شكل 7)

ناقد أخر يكتب بأن مانيه في لوحته " أوليمبيا" (شكل 8) قد قدم تحدياً وامتهاناً لذوق الجمهور وحكمه. فعندما عرضها عام 1865 ثار النقاد في وجهه قائلين عن تلك المرأة التي صورها في اللوحة "إنها نوع من أنثى الغوريللا. إنها مسخ دميم من المطاط محاط بالسواد. إنها نموذج التقط من أحط أوساط الصعاليك، ذات بطن صفراء مقززة، ترقد على الفراش عارية، وتتحدى كل قيم الذوق الجميل والأخلاق الفاضلة"، وعلق النقاد أيضاً على هذه اللوحة بأنها شئ مضحك، وقرروا أن الفن الهابط إلى هذا الدرك لايستحق منهم حتى اللوم(24).

حيث تخطى هذا العمل معيار التناول التصويري السابق للجسد الأنثوي الذي قام على فكرة تشيئ الجمال الأنثوي ـ النظر إلى المرأة كمادة أو كشئ وليس كذات ـ في رسم الجسد العاري الذي استقر لفترة طويلة عند كبار الرسامين في عصور سابقة فقد ربط بعض المفكرين بين ظهور الجسد العاري في عصر النهضة وبين ظهور الرأسمالية والنزعة إلى تصوير الممتلكات ـ ومن بينها النساء من خلال الوسيط الفني الجديد وهو التصوير الزيتي، إلى أن تحطم هذا المثال كما تقول الكاتبة فيونا كارسون بفعل واقعية لوحة مانيه " أوليمبيا" التي تصور إمرأة عارية معاصرة تتخذ وضعاً يعكس قوة شخصيتها وتحدق مباشرة في عين الناظر إلى اللوحة، الأمر الذي يجعلها تبدو وكأنها تتحدى وضعها السلبي كموضوع للتحديق فيه. وتطور الأمر إلى أن أصبح مفهوم التحديق Gaze أحد المفاهيم الهامة التي ناقشتها النزعات النسوية الجديدة Feminism (25).

(شكل 8)

وعندما أقام الانطباعيون معرضهم الثاني عام 1876 كتب ناقد الفيجارو يصف هذا الحدث قائلاً: "كتب الشقاء على شارع ليبليتيه. هاهي كارثة جديدة تحل عليه بعد أن شب الحريق في دار الأوبرا. فقد افتتح عند ديران رويل معرض يقال إنه للتصوير. يدخل المار السالم، فترى عيناه المذعورتان عرضاً فظاً خمسة أوستة مخبولين بينهم إمرأة، مجموعة من التعساء أصابتهم لوثة الطموح وحب الظهور فتلاقوا ليعرضوا أعمالهم".

وبعد سنة كتبت صحيفة أخرى عن هؤلاء الفنانين " إنه الجنون بعينه. إنه لإصرار على ما هو بشع وفظيع " وفي عام 1880كتب ناقد آخر يقول: "إننا نميل إلى الاعتقاد أمام لوحات بعض أعضاء هذه الجماعة أنهم مصابون بمرض عضوي في العين. فهذه رؤية فريدة تبعث السرور في أطباء العيون والرعب في رجالات الأسرة المحافظة"(26). ومن السهل أن نتابع مثل هذه الإشارة الهجومية المماثلة في الكتابات النقدية عن التعبيريين والتكعيبيين وعن الوحشيين.حيث وصف الناقد الفني لويس فوكسيل القاعة التي عرض بها أعمال ماتيس وفلامنك وديران في صالون الخريف بباريس أنها قفص للوحوش.

كذلك نستطيع أن نتابع ما كتبه الناقد الساخر بيرتول عن أعمال مونيه ونشره عام 1876 في جريدتي "باريس" و"المساء" حيث أبدى إنزعاجه من أداء مونيه الذي اعتمد على ضربات الفرشاة المتقطعة والمهتزة والألوان غير المجففة ووصفه بأنه أداء يذكره بالصوف الملون، كما وصف مشهد الجليد في لوحة " منظر من أرجنتوي" (شكل 9) قائلاً: "إن مونيه يعرف جيداً ان ضفة النهر في أرجنتوي لم تنسج من الصوف والقطن المكون من خمس ألوان، لكن ذلك لم يوقفه عن تصوير ما يدعى أنه انطباعي بهذا الشكل. وتوالت الانتقادات ليصف الناقد سكوب أعمال هذه الحركة بأنها تشبه رغوة الصابون"(27).

(شكل 9)

ويرجع ذلك النقد لعدم استيعاب الناقد لما أتت به الانطباعية من هدم لمبدأ تمثيل الفراغ في اللوحات. فأصبحت اللوحة الانطباعية لاتملك مركزا بصريا محدداً لبناء البعد وتتصف بالقدرة على الإنتشار في جميع الإتجاهات، وكذلك لأن الانطباعية عملت على امتصاص المكان وتفكيك التركيب الصلب للأجسام. ولم تقتصر على رد الواقع إلى سطح ذي بعدين، بل هي ترده داخل ثنائية الأبعاد هذه إلى نسق من البقع التي لا شكل لها وبذلك تخفف إلى حد بعيد من ذلك التأثير الإيهامي للصورة وتتخلى عن القالب المكاني تدريجيا.

من هنا لم يكن بالأمر المستغرب أن " يرفض المحكمون عام 1863 أكثر من أربع ألاف لوحة استبعد جميعها من الصالون السنوي بباريس لأنها خرقت الأعراف خرقاً صارخاً، إلى أن أصدر الإمبراطور نابليون الثالث أمراً سامياً بتخصيص صالون مستقل تعرض فيه أعمالهم إذا راقت لهم الفكرة على أن يسمى صالون المرفوضين وكان مما عرض فيه لوحة مانيه الغذاء على العشب الذي سبق الإشارة إليها. وفي عام 1874 افتتح باستوديو المصور الفوتوغرافي "نادراً" في باريس معرض ضم لوحات لثلاثين من أصحاب الثورة الفنية الجديدة الطامحين إلى تقديم أنفسهم للجمهور والنقاد كموجة موحدة رائدة لهذه الثورة. وكان المعرض الأول الذي يقام دون تدخل من الدولة ولاهيئة محكمين تفرض معاييرها على المشاركين فيه، وكان هذا الحدث إيذاناً بميلاد فن طليعي وثوري معاً"(28).

ويرجع كل هذا إلى أن الانطباعية كانت بمثابة عتق حقيقي للفنان من أية سلطة، فقد اعتاد الفن لعدة قرون خلت الالتزام بمعايير من خارجه، مملاة من سلطة دينية أو سياسية أو راعية للفنون فجاءت الانطباعية لتخرج عن سيطرة الواقع على الفن الغربي بعد ما يزيد عن ستة قرون كان الفن يسعى فيها للتقصي الدقيق والمنظم لكل مظاهر العالم الخارجية. وقدمت رؤية تحول الطبيعة إلى عملية نمو وتحلل؛ فكل ما هو ثابت متماسك يؤول إلى تحولات معبراً عن الشعور بواقع مثير، حيوي، دائم التغير، وهو الشعور الذي بدأ بتغيير الإتجاه القديم في التصوير الآخذ بفكرة "المنظور". وقد نقض الانطباعيون بذلك قواعد التوزيع المتوازن كما أثبتوا أنه لاتوجد رؤية واحدة جاهزة للعالم الخارجي، وأن إستخدام المنظور واللجوء إلى المسالك التي تفرضها التقنية والعلم الحديث لا تشكل جميعها وبالضرورة الإطار النهائي لفن التصوير وبذلك كانت الانطباعية أحد الثورات الكبرى في تاريخ الفن.

وتردد هذا التوجه النقدي أيضاً في استقبال النقاد لتحول كاندينسكي من التشخيص (شكل 10) إلى التجريد والتي بادر بها في مجموعة لوحاته التي أتمها في مدينة مونارو القريبة من ميونخ وأسماها ارتجالات (شكل 11) ووصفها بأنها تبدأ من الطبيعة وتتجه ناحية التجريد، حيث "أغضبت هذه اللوحات النقاد في ميونخ عندما عرضها في جاليري "تان هاوس" واعتبروها تجديفاً في حق الطبيعة لايمكن السكوت عليه بينما كان كاندينسكي يبحث عن نزعة روحانية صامتة في التصوير التجريدي"(29).

(شكل 10)

ومن المؤكد أن أن الفنانين الذين هاجمتهم هذه العبارات لم يقرأونها مثلما نقرأها اليوم. فقد كانت مثل هذه المقالات في أغلب الأحيان أحكاماً بالتحقير والجوع، بل وأحياناً بالنفي والحرمان من كل الحقوق. ويكشف لنا هذا كم تستطيع سلطة النقد غير الواعي أن تمارس دوراً مضللاً بدلاً من أن تقدم بموضوعية للاتجاهات الفنية الجديدة.

(شكل 11)

وأخيراً كانت هذه إطلالة على بعض المسارات لعلاقة الفن بالسلطة كشفت عن تلازم تلك العلاقة ومواجهاتها الدائمة، فتاريخ الفن يشهد بتلك المبادلات الدائمة بين الفن والسلطة، بل أن تاريخ الانسانية كله يوشك أن يكون صراعاً بين السلطة من ناحية، وبين الحرية الإنسانية التي يعتبر الإبداع الفني أهم تجلياتها، من ناحية أخرى وسيستمر هذا الصراع.

 

المراجع والهوامش

(1) رمضان بسطاويس، الإبداع والحرية، كتابات نقدية 119، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2002.

* ألمح لتلك السلطة الرمزية من منظور علم نفس الإبداع الكاتب جيمس James W في دراسة قام بها حول "العلاقة بين الإبداع والمعرفة " قائلاً: "إن قوة العادة وقبضة العرف والتقاليد تهبط بنا إلى واقع ومستوى قليل الشأن، نحن غير واعين بعبوديتنا، وذلك لأن القيود المكبلة لعقولنا غير مرئية. إن كوابح هذه القيود تعمل في مستوى أدنى من مستوى الوعي. وهذه القيود هي المعايير الجمعية المتصلة بالقيمة، والأشكال الرمزية المتعارف عليها للسلوك، ومصفوفات مركبة تتضمنها محاور تحدد قواعد اللعبة، وتجعلنا ننساق إلى موقع الآلية الماهرة"

(روبرت وويسبرج: الإبداع والمعرفة، تحدي النظريات التقليدية، دراسة تضمنها كتاب: المرجع في علم نفس الإبداع، تحرير روبرت ستيرنبرج، ترجمة محمد نجيب الصبوة وآخرون، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومة للترجمة، العدد 997، ص436-437).

**تستثنى العقيدة الإسلامية من محاولة إحتواء سلطة الفن ليكون أداة لها.

(2) أرنولد هاوزر، الفن والمجتمع عبر العصور، الجزء الأول، ترجمة فؤاد زكريا، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1967، ص71.

3- www.rollins.edu.op-cit.

(4) حسن الكحلاني، الفردانية في الفكر الفلسفي المعاصر، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2004، ص36.

(5) شربل داغر، اللوحة العربية بين سياق وأفق، دائرة الثقافة والإعلام، المركز العربي للفنون، الشارقة، 2003، ص137-139.

(6) سير موريس بورا، الخيال الرومانسي، ترجمة إبراهيم الصيرفي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977، ص30.

(7) زينات بيطار، غواية الصورة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1999، ص134-142.

*** ثورة 1917 قامت بعد سقوط القيصر الثاني نيقولا الثاني وتولى الحكومة المؤقتة الحكم، وقد بدأت في سان بيترزبرج وانتشرت بسرعة لبقية البلاد، وبعدها شكل لينين زعيم الحزب البلشفي الاتحاد السوفيتي. تلتقى صورة سلطة الدولة وممارساتها على الفن في ثورة 1789 في فرنسا بوضوح مع ثورة 1917 في روسيا، وتعرض زينات بيطار في دراسة قيمة حول البونابرتية والستالينية في الفن خاصة الجزء الخاص تحت عنوان مقاربة في ميكانيزم الفن والسلطة ص151، ضمن كتابها "غواية الصورة" والذي أشارت في مقطع منها ص157 إلى "أن أدلجة الفن من قبل الطبقة الجديدة قد جعلت الفن خاضعاً كلياً للسلطة التي قادها العسكريون وسيطرت عليها الذهنية العسكرية في العقد الأول من الثورة سواء في فرنسا أو روسيا".

(8) فيروز سمير عبد الباقي، التصوير الروسي المعاصر بين الواقعية واتجاهات ما بعد الحداثة، رسالة دكتوراة غير منشورة، كلية الفنون الجميلة، جامعة حلوان، 2007، ص179.

(9) أجزاء من مقالين للفنان سمير رافع أوردهما سمير غريب كملاحق في كتابه "الهجرة المستحيلة"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999، ص226-232.

***** قبل هتلر أحرق سافونارولا بعض إنتاج بوتيشيللي، وأحرق بعض رجال الدين ومحاكم التفتيش بعض إنتاج الفنانين الإيطاليين الجدد في فجر عصر النهضة، حيث اعتبروا تلك الصور تشع فلسفة مادية أرضية ذات أثر معين على الناس يدفعهم إلى الاهتم ولم يكن رجال الدين يرضون عن هذا التأثير حيث أنه بصورة ما يسلبهم جزءاً من سلطتهم الدينية، التي كانوا يسوسون بها البشر في ذلك العهد. ومن نفس المنطلق مع اختلاف الأفكار حكم فرانكو على بيكاسو بالإعدام لأن فنه كان فناً توجيهياً يخشى بأسه فرانكو، واعتقل عبد الهادي الجزار بسبب رسمه لوحة الكورس الشعبي لما حملته من ملمح انتقادي سياسي أزعج السلطة، وأمثلة أخرى عديدة فاض بها تاريخ الفن.

-أجزاء من مقالين للفنان سمير رافع أوردهما سمير غريب كملاحق في كتابه "الهجرة المستحيلة"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999، ص226-232.

(10) مصطفي الرزاز، التنقيب عن مصادر الإلهام، دراسة منشورة في كتاب النقد والإبداع، "رؤى في التشكيل"، مجموعة دراسات منشورة عن وقائع الندوة الفكرية التشكيلية، الشارقة 19-20 فبراير 2006، ص173.

(11) سمير غريب، راية الخيال، دار الشروق، 1993، ص103.

(12) فرانسيس ستون سوندرز، الحرب الباردة الثقافية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002، ص98.

(13) د. نعيم عطيه، الفن الحديث، محاولة للفهم، سلسلة إقرأ، العدد 473، مارس 1982، ص102-103.

(14) سؤال الحداثة في الألفية الثالثة، الفن بين الجمالي والتكنولوجي، ترجمة د.علي محمد سليمان (باحث وأكاديمي متخصص في علم الجمال الحديث)، نشرت هذه المقالة في مجلة "التاريخ الأدبي الجديد" الأمريكية.‏

(15) أحمد حمدي محمود، ما وراء الفن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993، ص171.

(16) كلينباور، تاريخ الفن الغربي، وجهات نظر حديثة، ترجمة خالد الحمزة، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، العدد322، 2002، ص14-15.

(17) إيردل جنكنز، الفن والحياة، أحمد حمدي محمود، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1963.

(18) شتيفان فايدنر، الفن في عصر العولمة، ترجمة أحمد فاروق، فكر وفن، العدد76، 2002.

(19) جانيت وولف، علم جمالية الفن وعلم اجتماع الفن، ترجمة ماري تريز عبد المسيح / خالد حسن، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، العدد228، 2000، ص13-15.

(20) جيروم ستولنيتز، النقد الفني، دراسة جمالية وفلسفية، ترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص345.

(21) ناقش هذه التحولات الناقد السوري محمد عزام في دراسة له بعنوان "تحولات النقد"، مجلة المعرفة، وزارة الثقافة، سوريا، 2004.

(22) د. السيد القماش، جويا، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة أفاق الفن التشكيلي، 2008 العدد18، ص119.

23- Thomson، Benda: Impressionism، New York، Hudson World of Art، p. 189.

(24) د. نعيم عطية، الفن الحديث، محاولة للفهم، ص10-12.

(25) سارة جامبل، النسوية ومابعد النسوية، ترجمة أحمد الشامي، العدد483، 2002، ص183.

(26) نعيم عطيه، مرجع سابق، ص16.

27-Thomson، Benda: Impressionism، New York، Hudson World of Art، p. 189

(28) د. محمد راضي، ثورات الفن، جريدة الفنون، العدد11، نوفمبر2001، المجلس الوطني للثقافة والفنون والأداب، الكويت، ص10.

(29) د. مصطفي الرزاز، مرجع سابق، ص165.