يقدم الناقد المغربي هنا قراءته المتأنية لكتاب الناقد السعودي، وقضية إعادة انتاج الأنساق الثقافية العربية المترسخة في العقل والوجدان منذ العصر الجاهلي، ودورها في الحيلولة دون إحداث القطيعة الثقافية الضرورية للانطلاق نحو حداثة حقيقية، ونهضة قادرة على الإبداع والحوار بين عقل نقدي حر وأنساق تستحق النقد والتغيير.

استراتيجية إعادة إنتاج الأنساق الثقافية العربية

قراءة في كتاب «النقد الثقافي- قراءة في الأنساق الثقافية العربية»(1)

محمد الدوهو

                              إلى الشاعر والناقد عبد الحق ميفراني اعترافا

 

 «كلما نزلت نحو الجذور شعرت بأنني أعلو» بورخيص

 «هناك، إذن، أشياء كثيرة لم تتغير في الثقافة العربية منذ "الجاهلية "إلى اليوم تشكل في مجموعها ثوابت هذه الثقافة وتؤسس بالتالي بنية العقل العربي» محمد عابد الجابري –"نقد العقل العربي1-"تكوين العقل العربي"، مركز وحدة الدراسات العربية-2009-ص39.

 

1- تقديم عام:
منذ ما يزيد عن قرن ونصف القرن والمثقف العربي مهووس بسؤال الاستمرارية والتجاوز. صاغ مثقف "النهضة العربية" السؤال التالي لماذا تقدم غيرنا-أوروبا- وتخلفنا نحن؟ وبطبيعة الحال اختلفت الأجوبة عن السؤال باختلاف المنطلق النظري والمرجعية السياسية والتاريخية عند كل من الشيخ السلفي والليبيرالي والاشتراكي(2). حصلت الدول العربية على استقلالاتها الوطنية ووجد العرب أنفسهم وأمام التبلور السياسي للدولة التسلطية(3)، أمام استمرار نفس السؤال، تخلف المجتمعات العربية اقتصاديا وثقافيا وتاريخيا عن صيرورة التاريخ الكوني، وجاءت هزيمة حزيران 1967 وما تلاها من أحداث تاريخية جسام لتؤكد ومن جديد فشل نموذجنا الحضاري والذي، كما يقول علي حرب «فقد فاعليته ومصداقيته، أي قدرته على الخلق والإنتاج بدليل أننا لم نقدم بعد إلى العالم في هذا العصر، ما نفرض به أنفسنا أكان ذلك فكرة أم صيغة، أم سلطة أم مادة»(4).

هذا كلام تاريخي له ما يبرره من حيث حضور العرب في تاريخ الإنسانية الكوني. قد ينتفض المثقف السلفي المعتدل والمتطرف بالقول ولكن الحضارة الحديثة استفادت من الحضارة الإسلامية، وهي حلقة حضارية مهمة في صيرورة تبنين الحضارة الحديثة، أي نعم هذا كلام لا يختلف إثنان فيه، لكننا نحن العرب كلما تأملنا حاضرنا إلا ووجدنا أننا مازلنا متخلفين عن ركب الحضارة الإنسانية الحديثة من حيث، وهذا هو الأهم تنمية الإنسان –الفرد والسمو به إلى مرتبة المقولة التاريخية والسياسية والديمقراطية والمدنية، ثم وهذا هو غياب ديمقراطية حقيقية مبنية على سلطة شرعية بدل سلطة الاستبداد الشرقي التي وكما كشفت انتفاضات الربيع العربي عن تغلغل الاستبداد السياسي في المجتمعات العربية وبدأ ضرورة الحفر في بنياته العميقة وتفكيكها بغية التمهيد لتفجيرها من الداخل.

إن المعضلة الأساسية في المجتمعات العربية هي سلطة الاستبداد والطغيان والتي وعلى الرغم من المحسنات السياسية التي أدخلها الاستعمار على الدولة العربية، ظل سلطة الاستبداد تنتج وتعيد إنتاج نفسها عبر أنساق ثقافية وسياسية وانتربولوجية تتحكم في حياة العربي. يلتفت المثقف العربي، سواء كان ليبراليا أو سلفيا أو اشتراكيا أو تكنقراطيا وطنيا ومثقف ما بعدحداثي كمحمد أركون وعلي حرب يمنة ويسرة فيجد أن العرب ما زالوا متخلفين عن ركب الحضارة ولم يحققوا "شيئا ما"(5). ثم يطرح على نفسه السؤال الموروث لماذا نخلف دائما الموعد مع التاريخ؟(6) والواقع أن المثقف العربي وتحديدا مع نهاية ثمانينيات القرن العشرون اكتشف «أن القضايا التي طرحها رواد "النهضة" العربية في القرن التاسع عشر هي نفسها التي يستعيدها الفكر العربي المعاصر، ولكن لا ليعيد طرحها جديدا على ضوء ما مر من تجارب وتطورات، وبعقل جديد تماما، بل يعود فيجترها اجترارا»(7).

 نعم هناك اجترار لنفس الأسئلة، وهو اجترار ليس اجترارا ذاتيا يرتبط فقطب بالمثقف، كلا إنه اجترار جمعي بحكم أنها أسئلة وقضايا تؤرق مخيال الفرد المثقف والمجتمع على حد سواء. قضايا كالسلطة والدولة والحرية والاشتراكية والدين وغيرها من القضايا التي تؤثث في العمق مخيال العرب. علام يذل هذا؟ إنه يدل على أن الثقافة العربية محكومة باستمرارية لا تعرف القطيعة، لأن زمنها الثقافي محكوم ببنيات عميقة ظلت تتحكم في الصيرورة التاريخية والثقافية للذات الثقافية العربية. وهي بنيات يتوجب الحفر فيها وتفكيكها لتخليص هذه الذات منها ففي الثقافة العربية «بنيات أزلية يجب الكشف عنها بأي ثمن»(8).

 يرتهن سؤل الاستمرارية والتجاوز عند عبدالله الغدامي بصيرورة الإنتاج وإعادة –إنتاج الأنساق الثقافية، وتحديدا نسق الفحولة وما يدور في فلكه من أنساق ثقافية ظلت تؤثث في العمق الذات الثقافية العربية منذ عهد بنو أمية وبنو العباس وبشكل أدق منذ عصر التدوين. ومن ثم فإن كتاب (النقد الثقافي) يرتبط في تصوره المعرفي والتاريخي بالرؤية النقدية الثقافية التي تمعن في النقد الثقافي للزمن الثقافي العربي بغية المساهمة في الحفر عن الأنساق الثقافية التي تتحكم في انتاجه وإعادة إنتاجه وتفكيكها من الداخل. وبما أن لكل ثقافة زمنها الثقافي الخاص فإن للثقافة العربية زمنها الثقافي الخاص ومن تم فإن لزمن الثقافة العربية «أبطالها التاريخيين ما زالوا يتحركون أمامنا على خشبة مسرحها الخالد، يشدوننا إليهم شدا»(9). وهذا عن دل على شيء فإنما يدل على أن الزمن الثقافي العربي ظلت هناك أنساق ثقافية خفية تنتجه وتعيد إنتاجه. وفي الحفريات التي يرسمها عبدالله الغذامي في بنية الثقافة العربية، نجد أن الخيط الخفي والناظم لحفرياته هو مفهوم إعادة-الانتاج Reproduction، فالثقافة العربية وعلى الرغم من الحداثة التي غزت كل مضامير حياة العرب ظلت حداثة شكلية، تغير الشكل لكن الجوهر ظل هو هو. لماذا؟ الجواب أن الثقافة العربية ظلت تنتج وتعيد إنتاج أنساق ثقافية ظلت تتحكم في صيرورة تفكير ومسلكيات العربي. هناك استراتيجيات ظلت الثقافة العربية تسلكها في انتاج وإعادة- إنتاج هذه الأنساق خاصة نسق الفحولة الذي تحول إلى بنية عميقة تنظم تفكير العربي منذ قرون.

 يرى بيير بورديو أن من أهم الأسئلة التي تطرح في فهمنا للعالم الاجتماعي هي معرفة لماذا وكيف يدوم العالم ويستمر في كينونتنا، تم كيف يدوم النظام الاجتماعي أي مجموع علائق النظام التي تشكله. للإجابة على السؤال لا بد من رفض كل من الرؤية البنيوية القائلة بأن البنيات تحمل بين طياتها مبدأ ديمومتها واستمراريتها الخاصة وأنها تعيد- إتاج نفسها بمساهمة من الأفراد الذين يكونون المجبرين والخاضعين لإكراهاتها. كما الرؤية الفعلية -التشاركية interactionaliste أو الاتنو-منهجية والتي ترى أن العالم الاجتماعي هو نتاج لأفعال بناء ينجزها كل لحظة عوامل في نوع من الإبداع المستمر.(10)

لا يمكن فهم نسق إعادة الإنتاج حسب بيرر بروديو دون فهم استراتيجيات نسق إعادة الإنتاج، فلكي يعيد النسق أوالياته العميقة المبنية على المصالح، لابد من استراتيجيات عبرها ينتج ويعيد- إنتاج نفسه، بطبيعة الحال، ويخضع إنتاج هذه الاستراتيجيات للشروط التاريخية وللسلطة السياسية والثقافية لكل مجتمع وخصوصياته الانتروبولوجية.(11) ترى ماهي هذه الاستراتيجيات التي تتحكم في إنتاج وإعادة إنتاج الأنساق الثقافية العربية؟

للحفر عن هذه الأنساق ومحاولة تفكيكها من الداخل يشكل النقد الثقافي نهجا ابستمولوجيا –معرفيا- لتفكيك إوالياتها العميقة وذلك باعتبار «أن النص حادثة ثقافية وليس مجتلى أدبيا فحسب»(ص67). للقبض على النسق الثقافي يتعين التفكير من داخل نصوص الثقافة التي ينكتب داخلها، وهذا يعني أن سؤال الثقافة والنص والمجتمع يعتبر سؤالا إشكاليا وجوهريا في النقد الثقافي(ص25). إن قراءتنا للنصوص تخضع لمعايير السلطة الثقافية المهيمنة بحكم «أن البشر يتعرضون لعملية إخضاع تصوغ طرائق صناعتهم للأحداث، وأهم من ذلك أنها تضعهم في شبكة اجتماعية وفي منظومة علاماتية تفوق قدرتهم على إدراك فعلها بم وتتعالى على سيطرتهم و لذا لايكون التاريخ مجرد حقائق وأحداث بمقدار ما هو منظومة علاماتية ألسنية».(ص47) من هنا تأتي أهمية النقد الثقافي من حيث وظيفته النقدية المزدوجة إذ انه يجعلنا نفكر من داخل النسق الثقافي لتفكيكه من الداخل، بدل الارتكان إلى "العمي الثقافي" الذي ميز الحداثة العربية، والتي على الرغم من أهميتها التاريخية، ظلت تجتر في أحكامها الثقافية نفس الرؤية التي كرستها المؤسسة النقدية العربية الكلاسيكية في التنظير لنسق الفحولة مما جعلها لاتبصر العيوب النسقية للخطاب(ص179). من ثم تأتي وظيفة النقد الثقافي في كونه نقدا مزدوجا للمتلقي والمستهلك معا؛ للوقوف على هذا التواطؤ الخفي بين المرسل والمرسل إليه في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة والقديمة على حد سواء.

هو خلل ثقافي موروث كرس الجمالي المجازي في قراءة الشعر العربي ومن ثم «فإن الخلل الثقافي في النقد الأدبي وفي الاستقبال الأدبي الخالص هو عدم تمييزه بين الجمالي المجازي من جهة، وبين العلامات الثقافية النسقية من جهة ثانية، وتكتفي الممارسة الأدبية بالتذوق الجمالي متعامية عن عيوب الخطاب ومشاكله النسقية. وهذا ما يوجب قيام نقد ثقافي يعني بغيوب الخطاب وما يختبئ وراء الجمالي. وليس الجمالي إلا غطاء تتقنع به الأنساق لتمرر هيمنتها على الذائقة العامة مترسلة بحراسها الفحول»(ص274-275). ليس أدونيس ونزار قباني وغيرهما من المثقفين العرب سوى حراس لقيم نسق الفحولة طوال أربعة عشر قرنا. وبدء من بنو أمية إلى يومنا هذا ظل سادة من الأشباح الثقافية يحتلون الفضاء الخيالي والمجازي للأمة ويصنعون نماذجنا العليا، دون أن ندرك زيفها واهتراءها، وهذه هي عملية اختراع الفحل. (ص117) وليس المتنبي وأبو تمام سوى المثال الصارخ لهؤلاء الحراس. لتفكيك أرضية الفحولة واستراتيجية إعادة -إنتاجها باعتبارها لا شعورا ثقافيا ينظم وجدان الذات الثقافية العربية لا بد من العودة إلى الأصل ذلك الأصل التي تشكل العودة غليه عودة رجعية (ص187).

2- النسق الثقافي ومسألة الأصل:
 كما هو معروف كانت العرب لا تتفاءل إلا بفرس تولد أو شاعر يظهر. هذا الأخير يشكل الناطق باسم القبيلة والمدافع عن شرفها وكرامتها. كان الشاعر هو القبيلة والقبيلة هي الأنا الشاعر لكن، وكما يقول عبدالله الغدامي في مقطع طويل نسبيا، «حدث تحول مبكر وجذري في الثقافة العربية/ الجاهلية تغير فيه الموقف العام من الشاعر. فالشاعر كان صوت القبيلة، ولكنه تخلى عن دوره ليهتم بمصلحته الخاصة أكثر، وارتبط هذا بظهور فن المديح المتكسب به، ولقد ظهر هذا التكسب نتيجة لقيام بعض الدويلات على أطراف الجزيرة العربية، وعلى رأسها حاكم عربي يحب الشعر، ويحب صفات السؤدد، كما هي محددة في الثقافة العربية، وأهم هذه الصفات الشجاعة والكرم، ولن يكون أجمل ولا أحلى من أن يرى الحاكم نفسه متربعا على كرسي الشرف مثلما هو متربع على كرسي الحكم .هنا جاء الشعر ليحقق هذه الرغبة الملحة وجاء فن المديح ليشكل خلطة ثقافية من البلاغة والكذب (الجميل) وبينهما مادح وممدوح، وكيس من الذهب، هذا شجاع كريم يعطي وهذا شاعر بليغ يثني».(ص100).

كانت القيم الشعرية التي يتغنى بها الشاعر في الجاهلية تمثل "المخيال العام للقبيلة"(ص102). قيم ّفي البغي والاستكبار والفخر بالأصل القبلي وهذا يتربط بالغزو والشعر خلد هذه المعاني (وهذه هي الحال منذ عمرو بن كلثوم المتباهي بالظلم والتسلط إلى زهير بن بي سلمى الحكيم الذي يقول إن من لا يظلم الناس يظلم"(ص102). بعد أن أصبح الشعر مرتبطا بالمدح والهجاء، حلت الخطابة مكانه وأصبحت تؤدي الدور نفسه، وهذا يعني أن الشعر هو المسؤول عن صناعة الخطاب وعن تشكيله على نسق خاص ومحدد(ص102). يبدو الشاعر وكأنه طرد القبيلة من مكانها ليحتل مكانها عبر الالتفات إلى ذاتيته ومصلحته ونسيان الآخر-القبيلة. استحوذ على المعجم الجمعي ليصبح معجمه الخاص ما دام انه هو الذي أبدعه .. وفي حفرياته الثقافية عن جدل الاتصال والانفصال الذي أدى بالشاعر إلى الانفصال عن القبيلة-الجماعة يستحوذ على قيمها، يكتب عبدالله الغدامي قائلا: «انتقلت الرسالة الثقافية من فحولة القبيلة إلى فحولة الفرد، وهذه الأخيرة توظيف انتهازي حول قيم القبيلة التي في أصلها تنبع من ضرورة وجودية، فيها دفاع عن النوع من أجل البقاء والسلامة، وكان الشعر والخطابة من وسائل هذا الدفاع. وكان مجيء الإسلام حلا للإشكال المعاشي والقيمي، لكن النسق الثقافي –القبلي لم يكن إلا خطابا آخر ورث قيم القبيلة وحولها إلى قيم فردية أولا ثم تحولت عبر انغراسها في النسيج اللغوي إلى قيم نمطية للشخصية الثقافية للإنسان العربي. وبما أن النسق هو نسق التأثير لا نسق الإقناع فإن النفس –العربية قد جرى تدجينها لتكون نفسا انفعالية تستجيب لدواعي الوجدان أكثر من استجابتها لدواعي التفكير. وصارت الذات العربية كائنا شعريا تسكن للشعر ولا تتحرك إلا حسب المعنى الشعري الذي تطرب له غير عابئة بالحقيقة، وما كانت الحقيقة قط قيمة شعرية. وبالتالي فإنها لن تكون قيمة ثقافية طالما أن شعرية الخطاب هي اللب اللغوي الشعري والفني لثقافتنا»(ص104).

أصبح الشاعر وبفعل المدح والهجاء يمتلك سلطة ثقافية مبنية على الترغيب والترهيب، كيف لا وأبو الطيب المتنبي احد حراس نسق الفحولة هو القائل «وعداوة الشعراء بئس المقتنى» (ص168). أصبح الشاعر هو هذه الأنا-الفحل-الطاغية التي تلغي الآخر متحولة بذلك إلى «نسق مضمر ينطو عليه الخطاب الشعري والضمير الثقافي في سطوة الانا وفي موقفها للآخر ولقد صار هذا علامة ثقافية لازمة»(ص165). إن عملية إنتاج وإعادة –إنتاج نسق الفحولة -الانا- الطاغية ترسخت في الخطاب الشعري ومنه تسربت إلى الخطاب الأدبي ومن تم صارت نموذجا سلوكيا ثقافيا يعاد إنتاجه بما أنه نسق منغرس في الوجدان الثقافي يمارس صورة الطاغية الواحد (فحل الفحول). مادام انه، لا يسعى سوى إلى «تصوير الباطل في صورة الحق، وهذا هو الدال النسقي الذي ستتم به برمجة الذات الثقافية العربية.»(ص112)

 عندما يقول المتنبي في الأبيات التي يستشهد بها عبدالله الغدامي:

 – أنا الذي نظر الأعمى إلى أدب  //   وأسمعت كلماتي من به صمم.

   فالخيل والليل والبيداء تعرفني     //   والسيف والرمح والقرطاس والقلم

بل إن المتنبي وفي إطار ترسيخ وتكريس مركزية الانا-الطاغية يسمو بذاته إلى الكمال:

 وإذا أتتك مذمتي من ناقص    //     فهي الشهادة لي بأني كامل

هذه كما يقول الغدامي جمل نسقية تكشف عما يسميه المثقف النسقي، الذي يفكر من "داخل النسق" بمباركة من المؤسسة النقدية العربية القديمة والحديثة على حد سواء منذ أن تحولت النحن القبلية إلى النحن النسقية، ثم إلى الأنا الفحولية، ظلت هذه الأنا تنتج وتعيد إنتاج نفسها، تمر دون نقد أو مساءلة منذ عمرو بن كلتوم ثم على جرير والمتنبي وحتى زمننا هذا لدى نزار قباني وأدونيس. على الرغم من إبداع الجميع وجماليتهم وحداثية بعضهم، غير أن النسق أقوى وارسخ ولذا ظل يتجلى في نسخ متعددة ويؤسس لنشوء الطاغية، ويزرع الأرضية الملائمة لهذا النشوء"(ص175).

حدثت بعض المحاولات للقطع مع نسق الفحولة الذي يمجد المدح والهجاء خاصة مع عمر بن عبد العزيز، لما بويع رفض أن يمدحه الشعراء. ورد جريرا خائبا، لكن محاولته تلك انتهت بموته والسبب يعود إلى «أن هناك علاقة عضوية بين السلطة وثقافة النخب تتضافر لخدمة بعضها بعضا، وعمر بن عبدالعزيز كان نشازا في لعبة السلطة والحكم ولغة الحاكم الفحل كصورة للشاعر الفحل، ولذا فإن نموذجه السياسي والأخلاقي والثقافي مات مع موته. لأن النسق أقوى وأمضى».(ص119)  يتحول نسق الفحولة في حفريات عبدالله الغدامي إلى ابستيمي Epistémé أي بنية ثقافية لاشعورية(12) ينظم حركية تفكير العربي منذ قرون خلت، إنه المحرك الخفي الذي يؤثر في الأفراد ولا يؤثرون فيه، باستثناء محاولة عمر عبدالعزيز كما سلف الذكر. وقد تكرست مكونات هذا الابستيمي مع شاعر عربي كبير كأبي الطيب المتنبي، الذي كرس نمذجة نسقية لقيم الفحولة والتي أهم مميزاتها:
1- التعريض المتضمن للاستهزاء
2- اعتداد الذات بذاتها.
3- اعتماد أسلوب التخويف والارهاب البلاغي.
4- تحقير الآخر واعتباره دائما بمثابة خصم لا بد من سحقه.(ص159).

هذه مكونات ثقافية تشكلت مع الخطاب المدائحي، كما يرى الغدامي، منذ حل كنموذج إبداعي سيطر على المخيال الثقافي وتغلغل عبر المجاز ليحتل ذاكرة اللغة ويهيمن على الذهنية الذوقية والعقلية لنا. وليس المتنبي، يضيف عبدالله الغدامي، إلا أحد ورثة هذا النسق، ولكنه وارث مخلص إذ قدم النسق بكل ما أوتي من بيان وبلاغة، وتولى ترسيخه فينا متوسلا سلطان المعجزة الإبداعية لأبي الطيب وبمهارته الطاغية في تمجيد القول بغض النظر عن نسقيته وهو ما أصابنا بالعمى الثقافي وشغلنا جمال التعبير عن عيوب النسق».(ص172) وبدل أن يؤثر المثقف النسقي في هذا الابستيمي لم يعمل سوى التأثر به، وإعادة إنتاجه عبر استراتيجية البيان والبلاغة.

هل قطعت الحداثة العربية مع هذا الابستيمي الذي تكرس منذ عصر التدوين؟ الجواب هو النفي بالتأكيد. ذلك انه وفي إطار صراع الحداثة والتقليد بدل أن تقطع الحداثة مع ابستيمي الفحولة عملت وعبر فعل اللغة على إعادة إنتاجه بدل ان تفجر نسق الفحولة من الداخل أصيبت الحداثة العربية بالعمى الثقافي وعملت على تكريس المكرس الموروث. يقول عبدالله الغدامي: «ومثلما كان أبو تمام حداثيا وتجديديا في ظاهره، ورجعيا في حقيقته، فإننا سنرى أن أدونيس أيضا رجعي الحقيقة، وإن بدا حداثيا وثوريا. وسنرى أنه ظل يمثل النسق الفحولي ويعيد إنتاجه في شعره ومقولاته. بدءا من الانا الفحولية، وما تتضمنه من تعالي الذات ومطلقيتها، إلى إلغاء الآخر والمختلف، وتأكيد الرسمي الحداثي، كبديل للرسمي وإحلال الأب الحداثي محل الأب التقليدي، وكأنما الحداثة غطاء لنوع من الانقلاب السلطوي لهدف إحلال طاغية محل طاغية ... ما نجده لدى أدونيس من تأسيس لنوع من الخطاب اللاعقلاني، وهو الخطاب السحراني، وبالتالي تأسيس حداثة شكلانية تمس اللفظ والغطاء بينما يظل الجوهر التفحيلي هو المتحكم بمنظومتها النسقية ومصطلحها الدلالي المضمر.»(ص271).

بل إن أدونيس بدل أن يدشن ثورة مضادة عبر كتابة نص-مضاد ضد نسق الفحولة الموروث «فعل الضد لما يمكن أن يكون ثورة حداثية تغييرية، وراح بضاغط نسقي واضح يعيد صياغة المعنى النسقي العميق للثقافة العربية ذات الجذر الشعري والمتشعرن في نظام القيم ونظام السلوك الفردي. وانطلق من البعد ذاته ليمسخ المشروع الحداثي ويحوله إلى مسخ نسقي يرسخ الفردية والطبقية والمطلقية والتعالي ونفي الآخر وتسخير المجاز لخدمة هذه التصورات" (ص281) والنتيجة أدونيس بمعية نزار قباني حفيد الفحولة ومن تم ينتهي عبدالله الغدامي إلى نوع من النقد الممزوج بالقسوة الثقافية، عندما يقول: والواقع أننا هنا ننسب لأدونيس دورا مماثلا للدور الذي لعبته الحقبة الأموية في إعادة الحياة للنموذج، وأدونيس يعيد الفعلة نفسها حيث يستلهم النموذج الجاهلي الذي يسميه بالنموذج الأصل، ويركز على أصوليته. ومن تم فهو يتمثل قيم هذا النموذج الأصل في سماته النسقية الفحولية.(ص288).

 هذا رأي له ما يبرره من وجهة نظر النقد الثقافي لكن ألا يمكن النظر من الزاوية السياسية والتاريخية إلى هذه الأنا في شعر أدونيس ونزار وغيرهما من الشعراء والروائيين العرب على أنها تعبير عبر المتخيل عن بحث الكاتب العربي عن دور الانا –الفرد وتحديدا دور للمثقف في دولة عربية لا تحترم الفرد وتسمو به إلى مستوى المقولة الديمقراطية والسياسية والقانونية والمدنية؟ أو ليست هيمنة هذه الانا تعبير عن طموح تاريخي ذاتي وجمعي لتخضع لتحولات سياسية وتاريخية وفلسفية تجعلها تنتقل من حالة العامل الجامد إلى حالة العامل الفاعل؟ على العموم هذا سؤال يغيب في حفريات عبدالله الغدامي. لكن ما يهم في حفرياته هو هذه العلاقة الجدلية بين النسق وإسقاطاته.

3- النسق الثقافي وإسقاطاته:
ما يثير الاهتمام في هذا العرض التفصيلي للحفريات التي رسمها عبدالله الغدامي في نسق الفحولة، أنها حفريات تحركها خلفية سياسية وتاريخية عميقة تنبني على ثنائية سلطة النسق وتجلياته في الصيرورة التاريخية للذات الثقافية العربية. الأطروحة المركزية التي تؤثث في العمق حفريات الغدامي هي أن انبهار العربي بما هو جمالي جعل نسق الفحولة بما هو تجسيد للأنا الطاغية يتسلل دون حسيب أو رقيب إلى البنية السيكولوجية والسياسية والأخلاقية والانتربولوجية العربية. بحيث يتم، لا شعوريا واللاشعور لا تاريخ له كما يقول فرويد، إسقاط قيم الفحولة على الواقع وينتج الحاكم العربي على المستوى السياسي سيرة الشاعر الأنا-الفحل الطاغية. أي أننا أمام عملية صوغ-خطاب لنسق الفحولة، تمر عبر ما يمكن تسميته بالفصل السياسي والانثروبلجي لنسق الفحول. وإذا كانت عملية الفصل هي الإجراءات التي يسقط عبرها وبواسطتها محفل التلفظ-المرسل أثناء إنتاج الخطاب وصوغه-المكونات الأساسية للملفوظ-الخطاب الذي يبثه إلى المرسل إليه. وهذه المكونات هي التزمين والتفضية وصوغ بنية الممثلين(13)؛ وبعبارة أوضح فكل من ينتج خطابا، وكيفما كانت طبيعة هذا الخطاب مرئيا أو مكتوبا أو رسما، فإنه يعمل إلى إنتاج خطاب يحدث فيه شيئا ما في الزمان والمكان بحكم انه في بنيات عاملية تتواصل وتتصارع في الزمان والمكان من اجل الاتصال والانفصال بموضوع قيمة ما، ويخضع صوغ الخطاب لاستراتيجية من يصوغه لأنه يستثمره بإشكاليته الذاتية الخاصة، إذا كان الأمر من يكون هذا المرسل المتعالي الذي صاغ، وما يزال يصوغ خطابيا، نسق الفحولة في صيرورة الزمن الثقافي العربي؟

إنه النسق الثقافي-نسق-الفحولة- الذي يحتفي بالوظيفة الجمالية للغة وعبر هذه الوظيفة خلق دلالة نسقية-هي دلالة-الأنا-الفحل. وهذه الدلالة النسقية «ترتبط في علاقات متشابكة مع الزمن لتكون عنصرا فاعلا، لكنه وبسبب نشوئه التدريجي تمكن من التغلغل غير الملحوظ وظل كامنا هناك في أعماق الخطابات وظل ينتقل ما بين اللغة والذهن البشري فاعلا أفعاله من دون رقيب نقدي لانشغال النقد بالجمالي أولا ثم لقدرة العناصر النسقية على الكمون والاختفاء، وهو ما يمكنها من الفعل والتأثير غير المرصود وبالتالي تظل باقية ومتحكمة فينا وفي طرائق تفكيرنا، ومهما جرى لنا من تغيرات ثقافية أو حضارية تظل هذه التغيرات تغيرات شكلية لا تمس سوى الجوانب الخارجية بسبب تحكم النسق فينا.»(ص72).

 كيف تمت، ومازالت تتم، عملية الفصل السياسي والانتروبولوجي لنسق الفحولة؟ يجيبنا عبدالله الغدامي قائلا: «ولئن كنا قد عرضنا كيف تحولت الانا الاندماجية البدوية من حالة الاندماج التام (في) القبيلة، ونشأت النحن القبلية من تلك الذوات المندمجة، إلا أن الشاعر المداح حينما ظهر كشخصية مستقلة وانعزل عن الهم القبلي المشترك أخذ صفات النحن القبلية وتمثلها في ذاته كفحل مفرد وكذات تمتلك سحر اللغة وقوة الترغيب والتهديد مع التربص بالآخر بوصفه خصما لا بد من تصفيته. وهذا هو مردود ثقافة المدح والهجاء، حدث هذا كما ذكرنا من قبل كتطور في حركة النسق الشعري، ونحن هنا نشير إلى تطور مماثل تمام التماثل مع هذا الحدث النسقي، مما يكشف عن دور النسق في توجيه حركة التغيير والتحول».(ص192) ويتجلى هذا التطور المماثل في سير الطغاة العرب وليست سيرة صدام حسين سوى نمذجة سياسية لهذا التماثل Identification بين سيرة الحاكم العربي وسيرة الشاعر –الفحل، والقراءة التماثلية التي يرسمها عبدالله الغدامي لهذه السيرة تكشف كيف تغلغل نسق الفحولة في النسق السياسي العربي المعاصر. وما ينطبق على صدام حسين، ينطبق جملة وتفصيلا على غيره من الحكام العرب وحسني مبارك وحافظ الأسد ومعمر القدافي وغيرهم من الحكام العرب-الفحول.

نشأ صدام حسين سياسيا ليكون فردا- في- حزب قومي يدعو للوحدة والحرية والاشتراكية، ومطمحه هو أن يكون فردا في هذا الحزب يقول ما يقوله، تماما مثلما كان دريد ابن الصمة يرشد مع غزية ويضل معها إن ظلت. لكن صدام حسين وغيره من الحكام العرب، ما أن ينغرس في الحزب حتى يبدأ يشعر أنه ليس في الحزب، ولكن الحزب هو، تماما كما الحال مع الشاعر العربي والقبيلة، بدأ صدام حسين وعلى غرار الشاعر المداح- يكشف عن أنياب سلطته الطاغية، بدأت الأنا المندمجة تتحول من أنا تدخل في حزب وتندمج فيه، إلى أنا تشعر أنها هي والحزب شيء واحد. تماما كما هي الحال مع الشاعر العربي والقبيلة(ص147)، وحضرت هنا النحن النسقية ولم تعد الأنا والنحن بشيئين منفصلين. ثم تطور الوضع لا لتكون الأنا هي النحن، وإنما لتكون النحن هي الأنا، وبما أن النحن والأنا هنا هما النسقيتان الشعريتان.(ص192) والنتيجة السياسية لإسقاط نسق الفحولة على أرضية الواقع السياسي العربي أنه «لو استدعينا صفات الانا الشعرية لوجدناها هي بالتحديد ما يصف ويحدد صدام حسين وكل الحكام العرب، وهذه الانا المتضخمة الفحولية التي لا تقوم إلا عبر التفرد المطلق بإلغاء الآخر وبتعاليها الكوني، وبكونها هي الأصح والأصدق حكما ورأيا. ويكون الظلم عندها علامة قوة وسؤدد، والكذب عندها مباح، وتشعر بما لا يشعر به غيرها، وترى ما لا يرون، والعالم محتاج إليها أنها هي المنقذ الكوني ولا يستقر وجودها إلا بسحق الخصم، وهي الصوت المفرد الذي لا صوت سواه، وهذه هي الدلالات الشعرية التي نجدها في شعرنا منذ عمرو بن كلثوم إلى المتنبي إلى نزار قباني.(ص193).

4- على سبيل الختم:
واضح أن عبدالله الغدامي مشغول بسؤال نسق الفحولة، وإعادة إنتاجه في تاريخ الثقافة العربية. لا ينتهي كتاب الغذامي باقتراح بديل ثقافي وسياسي بل إن حفرياته جعلت من التفكيك ديدنها الخاص لمساءلة النسق الثقافي-نسق الفحولة- من الداخل وتفكيك إواليته العميقة التي تجعل من الجمالي في تمرير الأنساق المسكوت عنها، بمباركة المؤسسة الثقافية والنقدية العربية. القطيعة ضرورية مع دلالات النسق عبر نقد الحداثة العربية لأنها كرست نسق الفحولة، نسق الأنا-الحاكم -الواحد- المستبد. نقد الحداثة له ما يبرره أيضا تاريخيا وسياسيا خاصة وان هذه الحداثة ونخبها من الطبقة المتوسطة بعد هزيمة 1967 والتي كانت صوتا تاريخيا، ثم بمجرد امتلاكها وتملكها لآليات السلطة والحكم تحولت إلى صوت لا تاريخي أعادت –إنتاج سلطة الواحد، محور نسق الفحولة وبالتالي كرست تلك المقولة التي جعلت هيجل يكتب إن تاريخ الشرق لم يعرف في الشعب الواحد سوى شخص حر واحد، هو الملك الفرد. وهذا، كما يرى الغدامي «مؤشر على المنظومة النسقية التي جعلت الثورة هي الفرد واختصرت التاريخ والمكان في اسم طقوسي، لا يختلف فيه الشاعر، بصفاته النسقية عن الطاغية السياسي والاجتماعي في الفردية المطلقة والقطعية، والاثنان زعيم أوحد، وهذا يستنسخ نموذج ذاك».(ص291) كما أن الحركات الثورية العربية غير ثورية إلا في ظاهر دعواها، وتم تحويل الثورة والحرية الوطنية لتكون في خدمة الزعيم، الأب الذي هو الفحل الاجتماعي المتمثل لنموذج الفحل الشعري في القديم والحديث. وهو النموذج الذي لم تنقده الحداثة ولم تخرج عليه، بل تمثلته ومثلته أشد تمثيل لذا كيف نتوقع حداثة اجتماعية وفكرية إذا ما كان النموذج المحتذى هو نموذجا شعريا فحوليا رجعيا يقوم على إحلال فحل محل فحل.(291)

لم تكن الحداثة العربية سوى حداثة الشكل لم تضرب عميقا في تربة الاستبداد الشرقي وتفجير نسقه السياسي من الداخل. إنها حداثة ساهمت في إعادة-إنتاج نسق الفحولة الذي يضرب بجذوره في تربة الثقافة العربية. لا عجب أن تكون الحداثة العربية على هامش الوجود العربي، أعتقد العرب أن الدولة الوطنية الحديثة ونخبها "الحداثية" ستساهم في بلورة نسق سياسي –سلطوي يحترم الفرد ويسمو به إلى مرتبة المقولة الديمقراطية والقانونية والسياسية والمدنية (من المجتمع المدني) لكنه اكتشف انه أمام أنظمة سياسية كرست عبادة الفرد-الواحد-الديكتاتور وبطانته السياسية، فرد مطلق يًختزل فيه كل شيء(14).

 

هوامش:
1- عبدالله الغذامي، (النقد الثقافي-قراءة في الأنساق الثقافية العربية) المركز الثقافي العربي،ط3-2005.
2- انظر فصل النسق والمثقف-عبدالله العروي
3- يراجع كتاب الدكتور خلدون حسن النقيب، "الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر-دراسة بنائية مقارنة"، ط 2، 1999، مركز دراسات الوحدة العربية. مرجع مذكور.
4- علي حرب. (أوهام النخبة أو نقد المثقف)، المركز الثقافي العربي،ط3-2005.
5- محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر-دراسة تحليلية نقدية-ص7.المركز الثقافي العربي.1982.ص10-6-نفسه.
6- يكتب الجابري في هذا الصدد قائلا:" قد يقرأ بعضنا هذا "الشيء" في الميدان الاقتصادي (الصناعة، التشغيل) وقد يراه آخرون في الميدان الاجتماعي (التغذية، الصحة والسكنى...) وقد يراه فريق ثالث في الحياة الثقافية (تعميم التعليم، الرفع من مستواه، الإنتاج العلمي) وقد نجده جميعا في "الكساح" الذي أصاب سير أهدافنا القومية (تحقيق الوحدة، أي نوع من الوحدة).. ومن دون شك فإن المتجه إلى هذه الميادين منفردة أو مجتمعة، بأصابع الاتهام، سيجد من شهادات الإثبات ما يفوق حاجته، بل ما سيجعله في غير حاجة إلى مرافعةّ.(-الخطاب العربي المعاصر..ص8).
7- ربما هذا الإحساس هو الذي يراود المثقف العربي فيما يتعلق بالثورات التي تعرفها المجتمعات العربية والتي كشفت إلى أي حد استشرى الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي والأخلاقي وهيمنة حكم الأقلية التي تحكم باسم القبيلة والعشيرة والدين على الأغلبية، كما أماطت هذه الثورات اللثام عن نفاق القوى الاقتصادية الاستعمارية الكبرى في تدعيم ومؤازرة الأنظمة السياسية العربية الكبرى ومع ما تحمله هذه الثورات من دلالة سياسية وتاريخية ووجودية في حياة العربي في علاقته بالسلطة العربية لأنها كنست من أعماق الشعوب العربية التوجس والخوف من الأنظمة العربية الحاكمة و الجهر بالمكبوت السياسي الذي ترجمته عبارة "الشعب يريد إسقاط النظام والفساد"،و الرغم مما تحقق وهو بداية لتاريخ سياسي وعربي جديد بحكم أنه يشكل فاتحة لاندماج العرب في التاريخ الكوني،رغم كل هذا هناك توجس من تدخل القوى الغربية في مسار هذه التوراة وبالتالي الخوف من جديد أن يتم احتواء هذه الثورات و هو توجس عبر عنه الكاتب والروائي الجزائري قائلا:"فيما يتعلق بالثورات العربية لست ضد ما جاءت به الثورات العربية بل اعرف أن هذا جاء استجابة لمعطى تاريخي معين هناك ظلم وتعفن ودكتاتوريات طال بها الزمن حتى سادت مقولة الإنسان العربي يقبل بكل شيء، لقد ورثوا بلدانهم وجعلوا منها "جملكيات" وكأننا في العصر المملوكي لكننا للأسف رومانسيين ونعتقد أن الثورات ستغير كل شيء، وننسى أننا نوجد في مكان تقاطع مصالح القوى الغربية لن تتركنا نجني ثمار الربيع العربي"
 -حوار مع واسيني الأعرج-حاوره محمد أحمد عدة-جريدة-المساء- المغربية-السبت16-17-2012.ص6.
7- ذ-م.ع الجابري، الخطاب العربي المعاصر...، المرجع نفسه،ص9-10.
8-
Abdelwahab Bouhdiba-Culture et société.Public-de l'université de tunis-1978.p206  أورده ذ-م.ع الجابري في، تكوين العقل العربي1،مرجع مذكور،ص53.
9- تكوين العقل العربي، مرجع مذكور،ص39.
10-
Pierre Bourdieu Stratégies de Reproduction et Modes de domination-in ARSS n1994-page3.
11- نفسه.
12- للمزيد من التفاصيل يمكن العودة إلى مقال صوغ-الخطاب
Discursivisation في معجم كريماص وكورتيس-وأيضا مقال الفصل .Débrayage مرجع مذكور.
13- هذه رؤية ميشال فوكو في رائعته "الكلمات والأشياء" بحكم أن الابستيمي يشكل البنية المعرفية اللاشعورية التي توجه وتتحكم في تفكير حقبة تاريخية ما.
14- من يستطيع أن ينكر هذا المعطي التاريخي المعروف والموروث والذي فجرت ثورات الربيع العربي بنيته القمعية.