يسجل الناقد الفلسطيني المرموق في هذه المقالة مسيرة القصة الفلسطينية القصيرة طوال قرن من الزمان، منذ بداياتها الأولى عند خليل بيدس وصولا إلى أحدث تجلياتها المعاصرة في رصدها لواقع ما بعد أوسلو. مهتما بتسجيل المسار الفني مع تبدلات الرؤى والعوالم القصصية عند منعطفات التحول في التاريخ الفلسطيني.

المشهد القصصي في فلسطين

فخري صالح

نشأت القصة القصيرة في فلسطين على حواف الترجمة، فقد كتب خليل بيدس عددا كبيرا من القصص في مجلته )النفائس العصرية(، التي أصدرها في بدايات القرن العشرين (1908- 1914، 1919- 1923)، ثم أعاد جمع هذه القصص في كتابه "مسارح الأذهان" (القاهرة، 1924). وقد اختلف الباحثون حول كون القصص التي نشرها خليل بيدس من تأليفه أو من ترجمته، إذ أن رائد القصة الفلسطينية أخذ على عاتقه أن يترجم في "النفائس العصرية" عن الأدب الروسي وغيره من الآداب العالمية روايات وقصصا ومسرحيات. ويشير د. ناصر الدين الأسد أن قصص بيدس "تتضمن أسماء يونانية للمواضع والأشخاص وأساطير فرعونية وأساطير عن بوذا وتعاليمه، وحكايات عن حوادث الثورة الفرنسية"، ما يؤكد شبهة الترجمة أو على الأقل نوعا من إعادة كتابة قصص وحكايات أجنبية.

لكن أهمية بيدس تتمثل في فتحه الباب واسعا على الأنواع السردية في الآداب العالمية، ومنها القصة القصيرة، من خلال الترجمة والتعريب والاقتباس وإعادة الكتابة. ولعل من بين الأسماء الأساسية التي وضعت اللبنات الأولى للقصة في فلسطين محمود سيف الدين الإيراني الذي نشر مجموعته القصصية الأولى "أول الشوط" (مطبعة الفجر بيافا، 1937) التي تنحو نحوا واقعيا في الكتابة القصصية وتسعى إلى تصوير الحالات الإنسانية تصويرا رومانسيا رغم إعلانها عن الانتماء إلى المدرسة الواقعية الإشتراكية والتأثر بالأدب الرومانسي، وهو الأمر الذي يصل بين خليل بيدس صاحب النفائس العصرية، الذي ركز على ترجمة الأدب الروسي، ومحمود سيف الدين الإيراني الذي أرسى بحق نوع القصة القصيرة في فلسطين قبل النكبة.

ورغم أن عددا قليلا من كتاب القصة الفلسطينيين الذين برزوا بعد النكبة قد أصدر مجموعة قصصية ونشرها في مطابع فلسطين قبل عام 1948 إلا أن النوع القصصي شهد ازدهارا واضحا بين الكتاب الفلسطينيين بعد ضياع فلسطين، وتشتت كتابها بين البلدان العربية. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى نبيل خوري ومحمد أديب العامري ويوسف جاد الحق ونجاتي صدقي وثريا ملحس. لكن أبرز الأسماء التي أصدرت مجموعات قصصية، تدور في معظمها حول نكبة الفلسطينيين عام 1948 وتشردهم وضياع وطنهم والتباس هويتهم، تتمثل في جبرا إبراهيم جبرا وسميرة عزام. ويمكن أن نعثر في المجموعة القصصية الوحيدة التي كتبها جبرا إبراهيم جبرا "عرق وقصص أخرى" (1956) على معالجة رومانسية لحكايات من زمان ما قبل النكبة، أو ما بعدها. وهو الأمر نفسه الذي يسم قصص سميرة عزام، الكاتبة الفلسطينية البارزة التي صرفت عمرها في كتابة القصة القصيرة ساعية إلى التعبير عن لحظة بعينها أو حكاية بسيطة أو نسيج صغير محدود من حياة شخصياتها. 

أصدرت سميرة عزام خمس مجموعات قصصية: "أشياء صغيرة" (1954)، "الظل الكبير" (1956)، "قصص أخرى" (1960)، "الساعة والإنسان" (1963)، "العيد من النافذة الغربية" (1971). وفي هذه المجموعات الخمس التي كتبتها سميرة عزام قص أقرب إلى لغة الواقع. تزاوج فيه بين التعبير عن حياة الفقراء من جهة والآثار العميقة للنكبة الفلسطينية على أبنائها بعد تشردهم في جهات الأرض الأربع. لكن تمتع سميرة عزام بالقدرة على التقاط التفاصيل الصغيرة، والالتفات إلى الشخصيات المنسية في الحياة اليومية، والرغبة في التعبير عن المقموعين والمظلومين، تجعل قصصها أقرب إلى تيار الكتابة القصصية الواقعية، الجانحة إلى اللغة الرومانسية. إن قصص سميرة عزام هي بمثابة منمنمات للتعبير عن شؤون الحياة الصغيرة؛ كما أن أبطالها هم في معظمهم من النساء والفتيات الصغيرات والباعة والموظفين الصغار والمعدمين والمهمشين. ويندر أن يكون من بين هؤلاء غني أو مسؤول كبير تسلط عليه عدستها القصصية الفاحصة، لأن غاية سميرة عزام تتمثل في إماطة اللثام عن الظلم والجور وافتقاد العدالة في هذا العالم. لربما يكون هذا هو السبب الكامن وراء قلة عدد القصص التي تحكي عن فلسطينيين في مجموعاتها الخمس المنشورة جميعها بعد النكبة، فسميرة عزام ترى الظلم الذي تعرض له الفلسطينيون جزءا لا يتجزأ من الظلم الكبير الشامل الذي يتعرض له البشر جميعا. لكن القصص التي كتبتها عزام عن الهجرة الفلسطينية، مثل "زغاريد" و"عام آخر" (مجموعة "الظل الكبير") التي تحكي عن تمزق العائلات الفلسطينية إلى شطر داخل الوطن وشطر خارجه، و"في الطريق إلى برك سليمان" و"خبر الفداء" (مجموعة "وقصص أخرى") التي تحكي عن المقاومة اليائسة للمقاتلين الفلسطينين بعد السقوط واضطرار العائلات للرحيل عن الوطن، إضافة إلى قصص أخرى، عبدت الطريق لكتابة قصصية فلسطينية ناضجة مختلفة.

في قصص غسان كنفاني تحول جذري في الكتابة القصصية الفلسطينية، ووصول بها إلى مستوى لم يتحقق في كتابات القاصين الفلسطينيين قبله. ورغم عمره القصير (36 عاما)، بسبب تفجير الإسرائيليين سيارته في بيروت عام 1972، أصدر غسان كنفاني أربع مجموعات قصصية: "موت سرير رقم 12" (1961)، "أرض البرتقال الحزين" (1963)، "عالم ليس لنا" (1965)، "عن الرجال والبنادق" (1968)، إضافة إلى عدد من القصص تم ضمها إلى مجلد أعماله القصصية الكاملة الذي نشرته لجنة تخليده عام 1973. في كتابة غسان كنفاني يسفر الفلسطيني عن وجهه الإنساني ويعيد طرح الأسئلة الوجودية الأساسية على نفسه: أسئلة الولادة والموت، والرحلة، والمصير المعلق على جسر الأبد. وإذا كانت روايات غسان قد اهتمت بتقديم إجابة سردية على الخروج الفلسطيني ومواجهة تهديد الموت، فإن قصصه تقرأ تراجيديا العيش الفلسطيني في حياة شخصيات مغفلة الهوية تعيش ضمن الحدود الدنيا لشروط الوجود. إنها تعيش على حواف التاريخ وفي قلب المغامرة الوجودية المعقدة، وتمثل في الوقت نفسه كينونة رمزية، مثقلة بالمعنى، لانسحاق الإنسان بشرط التاريخ.

لا شك أن غسان كنفاني كان يكتب قصصه، بدءاً من "كعك على الرصيف" وصولا إلى آخر قصة لم يتح له أن يكملها، وفي ذهنه تجربته الفلسطينية المريرة اللاهبة. وهو لذلك لم يكن راغبا في كتابة قصص تغيب عنها فلسطين لتحضر في صورها المطلقة المجردة. كان غسان يكنّي عن فلسطين في قصصه، ويشير إليها مداورة وهو يكتب "عالم ليس لنا" أو "أرض البرتقال الحزين"، واضعا فلسطينه في قلب الممارسة البشرية للعيش، ناظرا إليها في حضورها الأقوى وتمثيلها المعقد للإنسان المعذب المرتحل الباحث عن تحقيق مصيره والذاهب ليجابه حياته أو موته. وقد أدرك كنفاني أن الحكاية الفلسطينية هي من بين الحكايات الكبرى في التاريخ والتراجيديات المعقدة التي تصلح أن نفسر على خلفيتها معنى صراع البشر على الأرض والتاريخ، فكتب هذه الحكاية بصورة تضعها في سدة هذه الحكايات. ويمكن لقارئ هذه القصص أن يستبدل الشخصيات الفلسطينية بشخصيات من جنسيات وأزمنة أخرى ليكتشف أن غسان حوّل فلسطين إلى تعبير رمزي معقد عن تراجيديا العيش الإنساني على الأرض.

هناك بالطبع أسماء أخرى، إضافة إلى سميرة عزام وغسان كنفاني، عملت على تطوير الكتابة القصصية، داخل فلسطين وخارجها، واضعة في الحسبان التعبير عن الواقع المعقد الذي يواجهه الفلسطينيون على أرضهم وفي الشتات. ويمكن أن نمثل على ذلك بـ"سداسية الأيام الستة" (1968) لإميل حبيبي، تلك المجموعة الفريدة من نوعها والتي تترجح بين نوعي القصة والرواية. إن حبيبي يحكي ست حكايات تدور جميعها حول عودة الفلسطيني إلى بعض من أهله من خلال واقعة الهزيمة عام 1967، تلك العودة المعكوسة التي تبدو فيها الهزيمة مفارقة ساخرة وتعليقا مواربا على التراجيكوميديا الفلسطينية. أما توفيق فياض فهو يعمل في مجموعتيه "الشارع الأصفر" (1968) و"البهلول" (1978) على كتابة أسطورة المقاومة الفلسطينية، منذ ثورة 1936 وصولا إلى المقاومة الفلسطينية في ستينات القرن العشرين. تقيم قصص توفيق فياض في الواقع وعلى حوافه كذلك، فهي إذ تأخذ شخصياتها من الحياة اليومية للفلسطينين الباقين في أرضهم بعد النكبة فإنها تلجأ إلى أسطرة هذه الشخصيات، وتبني عالما حلميا يستمد من التصوير الملحمي بعض تقنياته. يستخدم فياض في قصصه العامية الفلسطينية بصورة بارزة، لكنه يمد قصصه بالتقنيات الحديثة للكتابة القصصية: المونولوج الداخلي، وتيار اللاوعي، والاسترجاعات (الفلاشباك) بصورة متواترة ما يضفي على قصصه بعدا حداثيا واضحا.

ثمة من بين كتاب القصة الفلسطينية، خصوصا أولئك الذين عاشوا معظم حياتهم في المنفى، من يركز في تجربته القصصية على حياة الفلسطينيين وتجاربهم المرة في المنفى. على رأس هؤلاء يقف الروائيان والقاصان يحيى يخلف ورشاد أبو شاور اللذان يكتبان حكاية الثورة الفلسطينية في الستينات والسبعينات، ومنعرجات تطورها وإشكالاتها، وانتصاراتها وهزائمها، وقصص المنخرطين فيها. هذا ما نقرؤه في قصص يحيى يخلف في مجموعته "نورما ورجل الثلج" (1978) على سبيل المثال، حيث يسلط الكاتب عدسة عمله القصصي على فعل المقاومة على الحدود التي تفصل لبنان عن فلسطين في فترة سبعينات القرن الماضي، مركزا على كون المقاومة الفلسطينية في تلك المرحلة مصهرا للتجارب الثورية العربية ينضوي في إطارها الفلسطيني والأردني واللبناني، وكل من رأى في المقاومة الفلسطينية في ذلك الزمان وطنا معنويا له. الأمر نفسه نعثر عليه في قصص رشاد أبو شاور في مجموعاته: ذكرى الأيام الماضية (1970)، بيت أخضر ذو سقف قرميدي (1974)، الأشجار لا تنمو على الدفاتر (1975)، مهر البراري (1977)، بيتزا من أجل ذكرى مريم (1981)، ومجموعات اخرى تالية؛ فشخصيات رشاد أبو شاور وأحداث قصصه مأخوذة، كما هو حال قصص يحيى يخلف، من تجربة المقاومة الفلسطينية وطلوعها في ستينات القرن الماضي وتحولاتها وتجارب رحيلها في المنافي. ويعود تركيز قصص يخلف وأبو شاور على هذا الحيز الجغرافي الزماني المتحول غير الثابت، وعلى هذه التجربة الإنسانية المتفجرة العاصفة، لكونهما جزءا من تجربة المقاومة الفلسطينية نفسها، فقد تكونا ثقافيا في إطارها، وقاتلا معها، وارتحلا معها إلى كل مكان نفيت أو لوحقت أو ذهبت إليه. وهو ما انعكس على قصصهما التي كتباها ولونها بتوترات العمل المقاوم وآمال رجال المقاومة وإحباطاتهم، انتصاراتهم وهزائمهم.

في مقابل هذه التجارب القصصية التي رصدت بعدستها الدقيقة المقاومة الفلسطينية في المنفى نعثر على تجارب قصصية فلسطينية ترعرعت في أرض فلسطين التي احتلت عام 1948، كمحمد علي طه وحنا إبراهيم ومحمد نفاع وزكي درويش؛ وتجارب طلعت في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد هزيمة 1967، مثل أكرم هنية وزكي العيلة وغريب عسقلاني. ويمكن أن نضم إلى هذه الأسماء تجربة القاص الفلسطيني حسن حميد، الذي يعيش في سوريا، لكن قصصه، وخصوصا في مجموعته "قرنفل أحمر لأجلها" (1990)، تصور واقع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وتركز على حال الفلسطينيين في الوطن المحتل، كما في المنافي. إن هذه التجارب، الطالعة بين احتلالين، تصور حياة الفلسطيني المشدود بين حبلي اليأس والأمل، الهزيمة والمقاومة.

ما يسم عمل محمد علي طه، القاص الفلسطيني من بلدة ميعار وأحد الباقين على أرضهم بعد النكبة، هو ذلك التردد بين اليأس والأمل. في قصصه يعيد طه بناء الحكايات والأساطير والخرافات الشعبية السائرة في بيئته الريفية، مستخدما العامية الفلسطينية، ليصوغ منها قصصا تحكي عن الواقع تحت الاحتلال الصهيوني، مؤشرا على بذور المقاومة والرفض والتمسك بالهوية الفلسطينية. ولعل القصص التي ضمتها مجموعتاه "جسر على النهر الحزين" و"عائد الميعاري يبيع المناقيش في تل الزعتر" (1978) أن تكون من أنضج ما كتبه محمد علي طه للتعبير عن حكاية الفلسطينيين داخل فلسطين وخارجها. إنه يسلط عدسته القصصية على نماذج وشخصيات من قريته ومن اللاجئين الذين اضطرهم احتلال بلادهم إلى اللجوء إلى البلدان العربية المجاورة، وعلى مصائر هذه الشخصيات التي تقيم المأساة في تفاصيل عيشها اليومي.

في هذا السياق يعمل أكرم هنية على نقل الكتابة القصصية في الأرض المحتلة من المباشرة والتعبير الصارخ عن الإحتلال والمقاومة إلى شكل آخر من السرد يستظل بالشعر أو الحكاية الشعبية أو المادة الأسطورية التي تلتحم بالمعيش والراهن لتحكي عن الألم والعذاب والصمود في زمان الاحتلال. وقد لفتت كتابة هنية الأنظار إليه، منذ أصدر مجموعته الأولى "السفينة الأخيرة.. الميناء الأخير" (1979)، بسبب اقتراب لغته القصصية من الشعر وتطعيمه هذه اللغة بمادة الحياة اليومية التي يقوم الكاتب بتصعيدها إلى صيغة من صيغ التعبير الشعري. وقد انتقل هنية في مجموعتيه التاليتين، "هزيمة الشاطر حسن" (1980) و"التغريبة الثانية للهلالي" (1981)، إلى استخدام الحكايات والأمثولات الشعبية مطورا تجربته القصصية بالاقتراب من مفهوم للكتابة يتخلص شيئا فشيئا من الشحنة الشعرية الفائضة في عمله القصصي. وإذا انتقلنا إلى المجموعة القصصية الرابعة "عندما أضيء ليل القدس" (1986) فسنجد أن قصصها جميعها مسكونة بزمن الاحتلال الإسرائيلي والنضال ضده. ثمة تنويع على حكايات الاحتلال وزمانه الحزين، وانشغال بالتعرف على آليات المقاومة من خلال الأخبار والوقائع والحكايات الصغيرة وأشكال العيش اليومي. ويستخدم هنية أسلوبا سرديا تقريريا للتعبير عن الواقع اليومي الخشن تحت الاحتلال. هناك القليل جدا من الشاعرية، وإن لم تخل بعض القصص من الأبعاد الرمزية الغائرة.

لكن هنية، وبعد انقطاع عن الكتابة القصصية، أصدر مجموعة قصصية في عنوان "أسرار الدوري" (2001) معيدا ذلك الوهج إلى تجربته التي عرفناها في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات. إنه يحشد في عدد من القصص، التي كتب معظمها خلال عام 2001، كل طاقته السردية وإمكاناته التخييلية ويحول ذلك كله إلى مرآة للتعبير عن قدر الفلسطيني المعذب على أرضه. وتقوم قصص هذه المجموعة، عدا قصة "أربع شرفات وأحلام زائدة"، على حكاية الفلسطيني وقدره اليومي ونفيه الأبدي حتى في نطاق أرضه. وينسج هنية مادة قصصه من لحم الحكايات الواقعية ودلالاتها الرمزية، أو أنه يحيل المادة اليومية في سرده إلى سياقات رمزية وتعبير نموذجي عن الحالة الفلسطينية في كل زمان ومكان. ومن بين قصص المجموعة التي تبرز الشوط الكبير الذي قطعته تجربة أكرم هنية قصة "أربع شرفات وأحلام زائدة"، التي لا تستوحي الشرط الوجودي الفلسطيني ولا تحكي حكاياته ولا تعيد رسم مساراته، بل تحكي عن الشرط الإنساني المطلق معقد للكائن البشري. إنها تنويع على ثيمة الانتظار الطويل غير المجدي، على حكاية بنيلوب في وجه من وجوهها، وعلى انتظار ما يأتي ولا يأتي في مسرحية صمويل بيكيت "في انتظار غودو". لكن هذا التنويع سيتحول في نهاية القصة إلى شكل من أشكال العزلة الأبدية والانقطاع عن العالم. ستقفل البيوت الأربعة شرفاتها المفتوحة على الانتظار، وتقفل محطة القطار الواقعة بالقرب من تلك البيوت، وتفوح من البيوت رائحة الصمت وتشقق الجدران والموت. فهل يمكن رد هذه الحكاية الألليجورية على الشرط الفلسطيني؟ وهل يجوز لنا حصر إبداع الكاتب في خانة شرطه التاريخي الوجودي؟ يمكن لنا أن نقرأ القصة السابقة في سياق الشرط الإنساني حيث تدور حكاية سكان العمارة، ذات الشرفات المفتوحة على الانتظار، في إطار أدب العبث بأمثلته التي تستلهم مسرحيات صمويل بيكيت ويوجين يونسكو، بسبب القرابة الأسلوبية وتماثل حكايات الشخصيات وثيمة الانتظار ومفردات المكان الذي يتمثل في محطة قطار وبناية ينتظر فيها المنتظرون. لكن حكاية الانتظار تتقاطع في مستوى من مستوياتها مع الوضع الفلسطيني وتراجيديا الانتظار الفلسطيني الطويل على بوابة الأمل. وإذا كانت قصة "أربع شرفات وأحلام زائدة" تبني مادتها من شرط وجودي يقيم في حياة البشر الذين يختم الموت والانهيار مسيرتهم على الأرض، فإن عنوان القصة الذي يقرن الشرفات الأربع المنتظرة بـ"الأحلام الزائدة" يعيد القصة، من وجهة نظري، إلى محورها الفلسطيني، إلى يأس الكاتب من إمكانية الوصول إلى حل لهذا الاشتباك المصيري بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لقد طال الانتظار حتى داهم الانهيار والموت والتفسخ ورائحة التحلل العضوي الانتظار والمنتظرين. 

في سياق آخر يبدو لافتا في الكتابة القصصية الفلسطينية، بدءا من ستينات القرن الماضي، كثرة استخدام اللهجة الفلسطينية المحلية، والاهتمام بتصوير الحياة الشعبية، وطغيان الشخصيات الفقيرة والآتية من القاع على المشهد القصصي. في مجموعته "مقهى الباشورة" (1975) يكتب خليل السواحري عن البيئة المقدسية الشعبية. الشيء نفسه نعثر عليه في قصص محمود شقير الأولى، ففي "خبز الآخرين" (1975) يلتقط القاص شخصيات شعبية من الواقع اليومي للحياة الفلسطينية في الضفة الغربية قبل هزيمة 1967 وبعد الاحتلال، منطقا هذه الشخصيات برؤيته للصراع الطبقي والتناقضات الاجتماعية والسياسية التي تدفعها إلى حافة العيش اليومي. لكن اللافت في تجربة محمود شقير، الذي عاد إلى فلسطين بعد اتفاقيات أوسلو عام 1994، هو أن عالمه القصصي قد شهد تحولا جذريا خلال السنوات الأخيرة، فكتب عددا كبيرا من المجموعات التي ضمت "قصصا قصيرة جدا"، تتكون من صفحة واحدة أو فقرة واحدة أو حتى جملة؛ كما أن تحولا في أسلوب الكتابة القصصية ضرب عمله بعصا سحرية، فلجأ إلى العجائبية والغرابة والفانتازيا، محولا عددا من الشخصيات الواقعية، مثل وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس والمغنية شاكيرا ولاعب كرة القدم البرازيلي رونالدو، إلى شخوص قصصية ذات علاقة بالواقع الفلسطيني من خلال تحوير في الأسماء والصفات ليضفي قدرا من التراجيكوميديا على الواقع الفلسطيني شديد التعقيد تحت الاحتلال.

في مجموعته "ابنة خالتي كوندوليزا" (2004) يصنع محمود شقير من مادة الحياة اليومية للفلسطيني تحت الاحتلال حكايات تقترب من حافة الغرائبي والعجيب، لكنها تبقى في حيز المادة الواقعية التي تثير الابتسام أو الضحك، بسبب ظهور المفارقات الموقفية الناشئة من اقتحام السياسة عالم الحياة اليومية للفلسطيني. ففي قصة "مشية نعومي كامبل" يلعب القاص لعبة تحوير الأسماء، كما يفعل في قصص أخرى في المجموعة، كاشفا عن التناقضات التي تقيم في أساس المجتمع الفلسطيني، فالصبية الجميلة "نهلة" ليست نعومي كامبل، لكنها تمشي مشية تشبه مشية عارضة الأزياء الشهيرة فتخلع قلوب الشباب في الحي، ويتسبب تعليق أحد الشباب، عندما يشبهها بنعومي كامبل، في قيام حرب ضروس في الحي بين عائلة "نهلة" وعائلات أخرى. واللافت في لعبة المفارقات أن لا حرب تحصل في الحقيقة لأن قوة الإحتلال حاضرة لتقمع فعل الإنتصار للشرف ومظاهر الفروسية الزائفة التي يحاول والد "نهلة" التاجر أن يقدم مثالا عليها عندما يعتلي فرسه ويشهر سيفه المعلق على الحائط. لكن ظهور عربة الجنود الإسرائيليين تجبره على إخفاء سيفه والتراجع حتى لا يقبض عليه الجنود متلبسا بحمل السلاح! إن القاص يبني من المفارقات، وعلى رأسها مفارقة الاحتلال نفسه، عالما قصصيا يقوم على المحاكاة الساخرة. لا شيء حقيقي في المشهد كله: لا الشبه بين الصبية الجميلة الأنيقة "نهلة"، ولا الفروسية الزائفة التي يدعيها والدها، ولا العلاقات التقليدية القائمة بين أفراد العائلة الفلسطينية، ما يجعل كل الموزاييك القصصي مثيرا للسخرية والضحك الخافت على واقع شعب يرزح تحت الاحتلال.

الشيء نفسه نعثر عليه في قصة "ابنة خالتي كوندوليزا" حيث تقوم المفارقة على الشبه الذي يقيمه الراوي بين ابنة خالته التي طلقت من زوجها بسبب قوة شخصيتها وصرامتها وتسلطها على زوجها، ووزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس. وعلى أثر محاولات والدة الراوي تزويجه ابنة خالته المطلقة، يقيم الراوي علاقة شبه بين ابنة خالته ووزيرة الخارجية الأمريكية مازجا بين مفارقات الحدث اليومي والسياسة الكونية وتحولاتها على يدي وزيرة خارجية الولايات المتحدة القوية الصارمة. هكذا تنكشف المفارقة الساخرة في القصة وكذلك في المجموعة القصصية التي تحمل اسمها، وكذلك في مجموع القصص التي تجعل من شاكيرا ودونالد رامسفيلد، ورامبو، ورونالدو، وشخصيات شهيرة أخرى، جزءا من الحبكة القصصية تضيء الواقع العجيب للفلسطينيين الذين تعرضت حياتهم بعد الاحتلال وبعد أوسلو لتحولات دراماتيكية وتغيرات قلبت حياتهم رأسا على عقب.

ثمة تنويع آخر في الكتابة القصصية الفلسطينية ينحو إلى رصد التفاصيل والجرأة في تعرية الواقع اليومي للإنسان العربي عموما، والفلسطيني خصوصا. ويمكن أن نعثر على هذا التنويع في قصص القاصة والروائية الفلسطينية حزامة حبايب، التي عاشت في الكويت وتعيش الآن في دولة الإمارات، والتي تتميز قصصها بالقدرة على التقاط التفاصيل الإنسانية الصغيرة. إن قصص مجموعتها "الرجل الذي يتكرر" (199 تلتفت لتفاصيل في حياة امرأة شابة أو ذكرياتها في الطفولة، إضافة إلى عدد أقل من القصص تروى عن شخصيات ذكورية تعاني من الوحدة أو العجز أو تشابه الأحداث إلى درجة انمحاء الفارق بين الأزمنة و تكرر الأحداث بصورة كابوسية.

قصة "لفافة ورق" على سبيل التمثيل هي قصة معلمة شابة تندمج في العمل الروتيني إلى الحد الذي يجعلها غائبة عن ملاحظة تفاصيل صغيرة هي ما يعطي الحياة معنى ويجعل فعل الوجود مبررا. وعندما تكتشف المعلمة غيابها عن التفاصيل حولها تقرر أن تعيد النظر في أسلوب حياتها، أن تعيش حياتها بشكل آخر يضفي عليها معنى الوجود والاشتباك مع التفاصيل الصغيرة. وفي قصة "الإصبع" نكتشف من خلال ذاكرة الطفولة أن الأسرار الفعلية لا تميط اللثام عن وجهها إلا في اللحظات الاخيرة وأن التقى كما الفسق هي أشياء نسبية. إن المقام الذي يبنيه الناس للولي يتحول إلى مكان لممارسة الحب يوم العيد في ترجيع لسر حياة الولي نفسه. ورغم أن "الرجل الصالح" قد كشف بنفسه عن هذا السر الخفي في حياته إلا أن رغبة الناس في عدم فهم البعد الرمزي لتآكل إصبع الولي تجعلهم غائبين عن المعنى الفعلي لحقيقة السر.

فيما يتعلق بالجانب الأسلوبي فإن قصص حزامة حبايب تعتمد لحظة التنوير الكاشفة أو تكثف المشهد القصصي لبناء بعد رمزي أو إقامة توازيات بين الأحداث للكشف عن حقيقة غائبة في وعي الشخصيات، وهذه تقنيات دارجة في النماذج المتطورة من القصة الواقعية (نعثر عليها في قصص غوغول وتشيخوف ويوسف إدريس وغسان كنفاني وآخرين). ثمة قصة أولى في "الرجل الذي يتكرر" (1992) تعد تتويجا لأسلوب القاصة وطريقتها في توظيف مادتها القصصية حيث تدمج بفعالية بين الملغز في الشخصية والبعد الرمزي واللحظة التنويرية. إن قصة "طافش طفش" تعتمد ذاكرة طفلة تعيد بناء شخصية معقدة لحفار قبور صغير (شخصية منبوذة ومرهوبة ومحبوبة من قبل الأطفال الذين يرون في قسوة قلب هذا الصبي المنبوذ سرا غامضا يرغبون في الكشف عنه). تتتبع الطفلة، التي تروي، مشاهد الدفن بطريقة تبني شخصية حفار القبور بصورة مغايرة لما ستكشف عنه نهاية القصة. وهذه الطريقة في بناء العمل منسجمة تماما مع ميل القاصة إلى إنهاء قصتها بلحظة تنويرية كاشفة تميط اللثام عن حقيقة مغايرة لما بناه القارئ من مجموع المشاهد السابقة عن المشهد النهائي للقصة، وفي طريقة البناء انسجام واضح مع التقليد الواقعي العريق في الكتابة القصصية.

 

مراجع مستخدمة:
1.  د. ناصر الدين الأسد، خليل بيدس رائد القصة العربية الحديثة في فلسطين، معهد الدراسات العربية، القاهرة، 1963.

2.  د. هاشم ياغي، القصة القصيرة في فلسطين والأردن (طبعة ثانية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981.

3.  فخري صالح، القصة الفلسطينية القصيرة في الأراضي المحتلة، دار العودة، بيروت، 1982.