يرسم الروائي الأمريكي الشهير في قصته الطويلة أو روايته القصيرة أجواء الجنوب الأمريكي عائداً إلى فترة الصراع بين الرجل الأبيض القادم والسكان الأصليين – الهنود – مسلطا الضوء على طبيعة ذاك الصراع والكيفية التي سيطر فيها البيض على الأرض والثروات من خلال حكاية ممتعة وتفاصيل يتميز بها الكاتب.

يا للعجب (رواية قصيرة)

وليم فولكنر

ترجمة: هاني حجاج

 

عند باب غرفة الملابس، وقف الرئيس مرتدياً بزٌته كاملة ما عدا الحذاء. جامداً مسمرا في مكانه. كانت الساعة السابعة صباحاً. الثلج يتساقط خارج النوافذ، وقف يتأمله نحو ساعة من وراء الزجاج. وها هو يقف بجوربيه خلف الباب المؤدي إلى البهو، محنياً قامته المديدة كأنما يركز سمعه عند نقطة معينة، وقد ارتسم على محيٌاه قلق بالغ، هو القلق ذاته الذي لم يفارقه منذ نحو ثلاثة أسابيع. كانت تتدلى من يده مرآه يد فاخرة، فرنسية الطراز، يجدر بنا أن نراها على نضد الزينة الخاص بامرأة لا في أي مكان آخر، لا سيما أنه ما من امرأة يمكن أن تستعملها قي تلك الساعة المبكرة من أيام فبراير.

أخيراً، أمسك مقبض الباب، وفتحه بمقدار بوصات قليلة محاذراً ألا ينم عنه أي صرير، ثم دس رأسه من الشق ورأى العظمة ملقاة على بساط البهو السميك. كانت عظمة مطبوخة، ضلعاً علقت به كتل صغيرة من اللحم عليها، وإن على نحو خفيف، آثار أسنان بشرية في قضمات متداخلة اتخذت أشكالا هلالية. من فرجة الباب نفسها تناهت إلى مسامعه الأصوات أيضاً. ظل حريصاً على ألا يصدر أي صوت وهو يخرج المرآة قليلاً من الباب المشقوق. لبرهة لمح وجهه في المرآة فتأمله بنوع من عدم التصديق البارد – إنه وجه مقاتل جسور، ذلك القائد الحصيف الذي لا يعرف الزلل في توقع أفعال البشر والسيطرة عليها، والذي يجد نفسه الآن غارقاً في عجز طفل حائر. أمال المرآة قليلاً حتى يتمكن من رؤية الرواق منعكساً فيها. عندئذ رأى رجلين يقتعدان البساط مثلما يتواجه شخصان على ضفتي نهر. لم يكن يعرف هذين الوجهين، وإن عرف الوجه، إذ أن صورته لم تفارقه نهاراً، ولا فارقت أحلامه ليلاً منذ ثلاثة أسابيع. إنه ذلك الوجه المربع القاتم المفلطح بعض الشيء، الوجه المنغولي، المتجهم، الغامض، السري الذي لا يكشف شيئاً عن نوايا صاحبه. ولطالما رأي هذا الوجه حتى تخلى عن محاولة عد المرات أو تقدير العدد؛ حتى في هذه الأثناء وهو يرى الرجلين يجلسان القرفصاء في المرآة، ويسمع صوتيهما المكتومين، فقد أحس، ربما في برزخ ما بين النعاس والتعب، أنه ينظر إلى وجه واحد فقط .

وفي ما عدا التفصيل الثانوي المتعلق بعدم ارتدائهما صديرياً وياقة، كان كل منهما يعتمر قبعة من الفراء ويلبس معطفاً جديداً من الصوف، لقد كانا متأنقين بالكامل حتى الخاصرة، وإن كان الوقت ما يزال مبكراً بعض الشيء حتى يحل ضحى النهار. لكن من الخاصرة ولأسفل، كانت ثيابها تنتهك كل حس بالذوق والأناقة. فنظرة واحدة إليهما تجعل المرء يظنهما خارجين للتو من إنجلترا على عهد بيكويك، دعك من أن سرواليهما التحتيين الضيقين وفاتحي اللون لا ينتهيان بأحذية فيكتورية طويلة، ولا بأي أحذية على الإطلاق، بل بأقدام قاتمة حافية. ورأى على الأرض، بجانب كل واحد منهما، صرٌة من القماش الغامق لفت بعناية، وزوجين جديدين من الأحذية، وضع كل زوج منهما مقابل الثاني كأنما ينتعلهما جنديان من الأشباح. 

فجأة، ومن غطاء سلة مصنوعة من لحاء البلوط الأبيض، وموضوعة بجانب أحد الرجلين، برز رأس ديك مصارعة يشبه الأفعوان، لمعت في المرآة الباهتة عينه الصفراء المدورة الهائجة. ومن هناك جاء الصوتان، جذلين محتشمين، هامسين:

    " لم يفدك كثيراً وجود الديك معك هنا ".

    " هذا صحيح. لكن من يعرف؟ بالتأكيد ما كان في وسعي تركه في المنزل مع أولئك الهنود الأوغاد الكسالى. تعرف جيداً أنني كنت سأجده، حين أرجع، منتوف الريش بالكامل. لكن من المزعج أن أضطر لحمل هذا القفص ليل نهار".

    " لو أردت رأيي فإنني أجد هذه المسألة في غاية الإزعاج".

    " عدّاك العيب. أن نقبع هنا خارج هذا الباب طوال الليل بلا سلاح ولا أي شيء. افترض أن أشراراً أو سواهم حاولوا اقتحام الغرفة في أثناء الليل، فلا أعرف عندئذ ماذا سنفعل. أعرف أنني لست راغباً في دخول الغرفة ".

    " ومن يقبل شيئا كهذا؟ إنها مسألة كرامة ".

    " كرامة من؟ كرامتك؟ كرامتي؟ كرامة فرانك ويديل؟ ".

    " كرامة الرجل الأبيض. أنت لا تفهم البيض. إنهم كالأطفال، عليك التعامل معهم بحرص لأنك لا تعرف البتة ما ستكون خطوتهم التالية. وإذا كانت الأعراف تنص علي أن يقبع الضيوف هنا خارج باب هذا الرجل طوال الليل في البرد، فعلينا فعل ذلك فحسب. إلى ذلك، ألا تفضل المكوث هنا على أن تكون مع البقية هناك في الثلج في واحدة من تلك الخيمات الملعونة؟ ".

    " معك حق. يا له من طقس. يا لها من بلاد. لا أقبل بها ولو وهبوها لي مجانا! ".

    " بالطبع لن تقبل. لكن البيض هم هكذا: لا حسبان عندهم للذوق. لذا، ومهما طال مكوثنا هنا، فإننا مضطران إلي التصرف مثلما يعتقد هؤلاء القوم أنه يجدر بالهنود الحمر أن يتصرفوا. لأننا لا نعرف ماذا يمكن أن نقول أو نفعل يثير حفيظتهم. فقد يشعرون بالإهانة أو الخوف. مثل اضطرارنا إلي التكلم بكلام البيض طوال الوقت .... ".

   سحب الرئيس المرآة إلي الداخل وأقفل الباب ببطء شديد. مجدداً وقف ساكناً جامداً في وسط الغرفة، مطرق الرأس، شاردا، حائراً، لكن صلباً متماسكا، فليست هذه هي المرة الأولى التي يواجه فيها الصعوبات؛ أما منشأ حيرته فهو أنه لا يواجه عدواً في ميدان مفتوح، بل يجد نفسه محاصراً في مكتبه رفيع المقام هذا، يحاصره أولئك الذين يعتبرونه، قانونياً على الأقل إن ليس بتفويض إلهي، أباهم.

شعر، في ذلك الصمت الشتوي المطبق، أنه يخترق الجدران، ويتوحد مع المقر الرئاسي الجليل الساهر. غير مرئي، شعر أنه يعيش حالاً من الرعب الذاهل من كل واحدة من مجموعات ضيوفه الجنوبيين – تلك المجموعة الصغيرة القابعة خارج بابه، والأخرى الضخمة في ساحة القصر التي يشبه أفرادها الوجوه المحفورة في حجارة هذا المبنى الدائري الصلب الذي هو التجسيد الحي لكبرياء الأمة الشابة – في قبعاتهم الفرو الجديدة ومعاطفهم الصوف وملابسهم التحتية القطنية، في سراويلهم المطوية بعناية تحت أذرعهم، وأحذيتهم الجديدة محمولة على الأيدي؛ قاتمين، لا زمنيين، محتشمين، وساكنين، تحت الوجوه المذهولة والبزات المليئة بالشارات الذهبية، والسيوف والنجوم، شارات الدبلوماسيين الأوروبيين.

 غمغم الرئيس في سره: " اللعنة. اللعنة. اللعنة ".

مشى في الغرفة وتوقف لكي يحمل زوجي حذائه من مكانهما قرب الكرسي، ودنا من الباب المقابل. توقف ثانية وفتح الباب بخفة وحرص شديدين اعتاد عليهما خلال ثلاثة أسابيع خفية أن يقتحم أحد ضيوفه الباب ويقتله. لم يجد خلف الباب سوى زوجته تنام وادعة في سريرها. اجتاز الغرفة، حاملاً الحذاء، متوقفاً لكي يضع المرآة على نضد الزينة بين أشياء أخرى من المجموعة التي قدمتها الجمهورية الفرنسية الجديدة هدية لرئيس سابق، ثم أنه تابع سيره على أطراف أصابعه، حتى دلف إلى قاعة الانتظار، حيث رفع رجل يلبس عباءة طويلة رأسه نحوه ثم نهض على قدميه، وفي قدميه جوربان أيضاً. تبادلا النظرات برصانة. ثم سأل الرئيس الرجل بصوت خفيض:

    " أكل شيء على ما يرام؟ ".

    " لا بأس، هل..... ".

    أخرج الرجل عباءة أخرى طويلة.

قال الرئيس: " حسن. حسن "

 وطرح العباءة على كتفيه قبل أن يتحرك الآخر لمساعدته.

 " والآن أعطني الــــــــــ.... ".

هذه المرة استبقه الآخر، وناوله القبعة التي اعتمرها الرئيس ثم أخفضها إلى وجهه. غادرا الغرفة على أطراف الأصابع، وفي يد كل منهما حذاؤه.

كان السلم الخلفي بارداً، فتكورت أصابع أرجلهم وهي تطأ درجاته، وارتفع بخار أنفاسهم في دوائر حول رأسيهما. هبطا السلم بتؤدة وقعدا على الدرجة السفلى وانتعلا حذاءيهما.

كان الثلج ما يزال يهطل في الخارج؛ وبدا أن ندف الثلج غير المرئية في السماء البيضاء، وعلى الأرض المفروشة بالثلوج، قد تجسدت بعنف مباغت عند بوابات الإسطبلات المعتمة. بدت كل جنبه في حديقة القصر أشبه ببالون أبيض يهبط بخفة وجمود فوق الأرض البيضاء، وبين هذه الأركان تناثرت بنوع من الترتيب المنتظم نحو اثنتي عشرة كومة أشبه بالخيام، ترتفع منها أعمدة الدخان نحو الثلج الذي لا رياح تعوقه، كأنما الثلج نفسه يشتعل بهدوء. ألقى الرئيس عليها نظرة عجلى غضوب، ثم قال لمرافقه " تقدم " فمشى هذا بخطوات سريعة، مطرق الرأس، مغطياً وجهه بعباءته، ودخل إلى الإسطبل. انتهت الأيام التي كان الرئيس يخاطب الجندي بكلمة " تقدم" هذه، لكن الرئيس كان قريباً منه إلى حد أن أنفاسهم شكلت سحابة معتمة واحدة. وانتهى اليوم الذي كانت تستعمل فيه كلمة " فرار". لكنهما ما كادا يدخلان إلى الإسطبل حتى ظهرا ثانية، وقد امتطى كل منهما جواده، واجتازا المرج، مروراً بالخيام المغطاة بالثلوج، إلى البوابات التي تفضي إلى تلك الجادة التي مازالت في طور الإنشاء، والتي ستحتفل بفخر مستقبلاً بالصفوف المهيبة من شباب الأمة، وسط إعجاب ودهشة العالم القديم وحسده، أما في تلك اللحظة فقد كان يحتل البوابات متنبئون حقيقيين بالمستقبل.

"انتبه"، قال الرجل الآخر، وهو يرتد إلى الخلف. انتحيا جانباً- وغطى الرئيس وجهه بالعباءة، مفسحاً المجال لكي تمر المجموعة: أولئك الرجال غامقو البشرات مربوعو القامات، بقبعاتهم الفرو، ومعاطفهم الرسمية، وأرجلهم الصلبة المغطاة من الفخذ حتى الركبة بجوارب من الصوف. اخترقت ثلاثة جياد الحشد وقد طُرحت على ظهورها ستة غزلان ميتة. أكمل الحشد طريقه دون أن يعيروا الرجلين التفاتة.

    تمتم الرئيس: " اللعنة. اللعنة. اللعنة " ؛ ثم بصوت عال أردف: " لقد كان صيدكم وافراً ".

حانت نظرة خاطفة من أحد أفراد المجموعة نحوه، وقال بصوت جذل وسريع: " وهو كذلك ".

انطلق الجوادان مجدداً، قال الرجل الآخر " لم أر معهم أي أسلحة "

قال الرئيس بتجهم:" أجل، يجب أن أنظر في هذا الأمر بثياب النوم وبلحية غير حليقة، جلس الوزير إلى مائدة الإفطار محاطاً بأطباق لم يذق منها شيئاً، بدا على محياه الامتعاض وهو يحملق في الصحيفة الموضوعة على الطبق الفارغ أمامه. أمام المدفأة وقف رجلان – أحدهما جندي من سلاح الفرسان لم يذب الثلج بعد عن عباءته، جلس على مقعد خشبي طويل، بينما الآخر، الذي من الواضح أنه مساعد الوزير، ظل واقفاً.

هب الجندي منتصباً حين دخل الرئيس ومرافقه.

 قال له الرئيس: " اجلس، اجلس " واتجه إلى المائدة وهو ينضو عنه العباءة التي أخذها منه المساعد. " قدم لنا بعض الإفطار" ، قال الرئيس " لا نجرؤ على الذهاب إلى البيت " . ثم جلس. قدم لهم الوزير الطعام شخصياً. سأله الرئيس: " ماذا هنالك الآن؟ "

قال الوزير " هل تسأل؟ ". ثم حمل الصحيفة مجدداً وأخذ يحملق بها، " من بنسلفانيا هذه المرة". وهوى بالصحيفة فوق راحة يده، " أولاً ماريلاند، نيويورك، والآن بنسلفانيا؛ من الواضح أن الشيء الوحيد الذي يستطيع إيقافهم هو أن يذوب الصقيع وتجري المياه ثانية في نهر بوتوميك ". صاح بحدة وانفعال، " شكاوى، شكاوى، شكاوى: هذا مزارع قرب جيتسبرج. كان عبده الزنجي في الحظيرة يحلب البقرة على ضوء القنديل بعد هبوط الظلام، حين _ بلا شك ظن الزنجي أنهم مائتان، ما دام المزارع قد قدرهما بعشرة أو أحد عشر _ قفزوا فجأة من العتمة معتمرين القبعات، وشاهرين الخناجر وهم عُراه من الخصر لأسفل. والنتيجة: تدمير الحظيرة وقتل البقرة واحتراق الشعير بنيران القنديل الذي تحطم؛ كما شوهد العبد يفر من المكان صوب الغابات، حيث بالتأكيد قضى خوفاً أو التهمته الحيوانات المفترسة. التعويض المترتب على حكومة الولايات المتحدة الأمريكية: للحظيرة والشعير مائة دولار، للبقرة خمسة عشر دولاراً، للعبد مائتا دولار. ويطلب الرجل أن يُدفع له التعويض بالذهب ".

قال الرئيس وهو يأكل بسرعة: " هكذا إذن؟ أحسب أن الزنجي والبقرة اعتبرهم من الجنود المرتزقة ".

    قال الجندي: " أتساءل ما إذا ظنوا البقرة غزالاً ".

    قال الرئيس: " أجل، هذه مسألة أخرى أود أن ... ".

    قال الوزير: " ومن الذي لا يتوهمهم أي شيء على سطح الأرض أو في جوفها؟ إن ساحل الأطلسي برمته، إلى شمال نهر بوتوميك، يحتشد بكائنات قبعات الفرو والمعاطف والجوارب الصوف، إنهم يخيفون النسوة والأطفال ويشعلون الحظائر ويهرٌبون العبيد ويقتلون الغزلان .... ".

    قال الرئيس: " أجل، أريد أن أقول شيئاً حيال هذا. لقد صادفت زمرة منهم في طريقي إلى هنا. كان معهم ستة غزلان. أظن أنني أصدرت أوامر صارمة بعدم السماح لهم بحمل البنادق ".

    مجدداً تكلم الجندي: " إنهم لا يستعملون البنادق ".

    فقال الرئيس: " ماذا؟ لكنني رأيت نفسي ... ".

    " لا يا سيدي، إنهم يستعملون السكاكين. يقومون بتعقب الغزال ثم ينقضون عليه ويجزٌون رقبته ".

    " ماذا؟ ".

    " لقد رأيت أحد الغزلان التي اصطادوها يا سيدي، ولم يكن مصاباً بأي عيار ناري سوى أن عنقه قد جُز بالسكين بضربة واحدة ".

مجدداً قال الرئيس: " اللعنة! اللعنة! اللعنة! ". ثم صمت. وراح الجندي يسُب. بينما راح الآخرون يصغون بتجهم وقد طأطأوا رؤوسهم، ما عدا الوزير الذي حمل صحيفة أخرى. وقال الرئيس: " لو أنك تقنعهم فحسب بارتداء بناطيلهم، على الأقل في أفنية البيت الأبيض ".

نظر إليه الوزير وشعره منفوش مثل ببغاء: " أنا يا سيدي؟ أنا أقنعهم؟ ".

" لم لا؟ أو ليسوا تابعين لوزارتك؟ أنا لست إلا الرئيس. لقد وصل الأمر إلى درجة أن زوجتي لم تعد تجرؤ على الخروج من غرفة النوم، ناهيك عن استقبال صديقاتها. كيف أشرح الأمر للسفير الفرنسي على سبيل المثال، لماذا لم تعد زوجته تتجرأ أن تزور زوجتي؟ لأن أروقة البيت ومداخله مليئة بهنود التشيكوسو أنصاف العُراة، النائمين على الأرض، أو المنشغلين بقضم نصف ضلع من اللحم؟ حتى أنا مضطر للفرار من مكتبي واستجداء الإفطار، بينما الممثل الرسمي للحكومة ليس لديه ما يفعله سوى ... ".

صاح الوزير بحنق: " ... أن يشرح كل صباح لوزارة الخزانة لماذا يجب أن يحصل مزارع هولندي آخر في بنسلفانيا أو نيويورك علي ثلاثمائة دولار ذهباً تعويضاً عن دمار مزرعته وماشيته، وأن يشرح لوزارة الخارجية أن العاصمة ليست محاصرة من قبل شياطين آتين مباشرة من الجحيم، وأن يشرح لوزير الدفاع لماذا تم تخريب عشر خيم عسكرية جديدة بالسكاكين"

قال الرئيس بصوت معتدل: " لاحظت هذا أيضاً، لقد نسيت ذلك ".

    " ها. لقد لاحظت سعادتك "، قال الوزير بحنق، سعادتك رأيت ذلك ثم نسيته. أنا لم أره ولم يُسمح لي بنسيانه. والآن تتساءل سعادتك لماذا لا أقنعهم بارتداء البناطيل ".

    قال الرئيس مرتابا: " يبدو أنهم قد يرضون بذلك، يبدو أن الملابس التي قدمناها لهم نالت رضاهم. لكن لا حسبان للذوق ".

استأنف الأكل. ثم نظر إليه الوزير، وهمٌ بالكلام، لكنه اكتفى بالصمت، ناظراً إلى الرئيس المُنشغل بالأكل وقد ارتسم على وجهه ملمح غريب، واسترخى وجهه الحانق كما لو أنه فرٌغ نفسه من الهواء. ثم تكلم بنبرة فاترة ورائقة، وشخص الآخرون بفضول نحو الرئيس.

قال الوزير: " أجل، لا اعتبار للذوق. فالمعلوم أنه حين تقدم لشخص ما زياً ما من باب التقدير والشرف، دعك عن مسألة الذوق ومن قبل زعيم قبيلة معروفة، فمن واجبه أن .... ".

قال الرئيس ببراءة " هذا ما فكرت به؟ "، ثم توقف عن مضغ الطعام وقال بحدة " ماذا؟ "، رافعاً رأسه. أشاح الثلاثة الأقل رتبة نظرهم سريعاً، أما الوزير فاستمر بالنظر إلى الرئيس من دون أن يفارق وجهه ذلك الفتور السري " ماذا تقصد بحق الجحيم؟ ". كان يدرك مقصد الوزير مثلما أدركه الثلاثة الآخرون. بعد يوم أو يومين من وصول ضيفه المباغت، وبعد أن زالت إلى حد ما الصدمة الأولى، أصدر الرئيس مرسوماً بتخصيص الملابس الجديدة لهم. أصدر أمراً لصناع الملابس والقبعات مثلما يأمر صناع الأسلحة والرصاص في الطوارئ الحربية، وتكفل بدفع التكاليف من جيبه الخاص. وقد تمكن من تقدير عددهم، الرجال على الأقل، وبغضون ثمانٍ وأربعين ساعة، حول مظهر ضيوفه الجدي الهجين إلى مظهر لائق على الأقل. بعد يومين، قام الضيف _ وهو نصف تشيكوسو ونصف فرنسي، رجل مربوع سمين له ملامح رجل عصابات جاسكوني وسلوك غلام مدلل، يضع سواراً قذراً حول معصمه وآخر حول رقبته، يطارده منذ ثلاثة أسابيع في صحوه ونومه، ولا يستطيع فكاكا منه _ بزيارة رسمية له، وهو ما يزال مع زوجته في الفراش عند الخامسة فجراً، وكان اثنان من خدمه يحملان صرة، يتبعهما ما بدا للرئيس علي الأقل مائة شخص من رجال وأطفال ونساء، احتشدوا بصمت في غرفة النوم،

بهدف واضح وهو أن يشاهدوه وهو يرتدي الزي، ذلك أنه كان زياً _ حتى في خضم إحساسه بالرعب الناشئ عن الصدمة، وجد الرئيس نفسه يتساءل بشدة في أي مكان من العاصمة عثر فيدال أو ويديل على هذا الزي الذي ليس سوى كتلة، شبكة، من الشرائط الذهبية _ ضفادع، شرائط زينة، وشاح، وسيف _ علقت بشكل مهلهل على قطعة قماش خضراء فاتحة، هي بمثابة رد الجميل على هديته السابقة. هذا ما عناه الوزير، الذي راح الرئيس يحملق فيه، بينما أشاح الرجال الثلاثة بأنظارهم نحو المدفأة. " فلتقل دعاباتك " ، قال الرئيس، " قلها سريعاً. هل انتهيت من الضحك الآن؟ ".

    قال الوزير: " أنا أضحك؟ علام؟ ".

    " جيد "، قال الرئيس. وأبعد الأطباق عنه، " إذن يمكننا التكلم في المسائل المهمة؟ هل لديك الوثائق التي قد تحتاج إلى الرجوع إليها؟ ".

    اقترب سكرتير الوزير: " هل أُحضر الأوراق الأخرى يا سيدي؟ ".

    " الأوراق؟ "، قال الوزير؛ مرة أخرى بدأ ينفش شعره، " بحق الجحيم، ما حاجتي إلى الورق؟ وهل كان لي من شغل سواها منذ ثلاثة أسابيع؟ ".

قال الرئيس: " جيٌد جيٌد، أفترض أنك راجعت المسألة بإيجاز في حال كنت نسيت شيئاً آخر"

قال الوزير: " سعادتك محظوظ بحق، إذا تمكنت من النسيان ".

وأخرج من جيب منامته نظارة معدنية. لكنه بالكاد استعملها لينظر ثانية إلى الرئيس بحنق " هذا الرجل، ويديل، أو فيدال أو أيٌا يكن اسمه _ هو وعائلته أو عشيرته أو أيٌا تكن _ يدُعي امتلاك كل ذلك الجانب من المسيسبي الذي يقع إلى الطرف الغربي من النهر موضوع المشكلة. أوه، وهو يملك صك الملكية: فقد حرص والده ذلك من نيو أولينز على ذلك _ حسناً، حدث أنه في مقابل منزله أو مزرعته، يقع  المعبر النهري الوحيد على امتداد نحو ثلاثمائة ميل ".

    قال الرئيس بنفاد صبر: " أعرف هذا كله، بطبيعة الحال يؤسفني الآن أنه ما من وسيلة لعبور النهر أساساً. لكن عدا ذلك لا أرى أيٌ .... ".

    قال الوزير: " ولا هم كانت لديهم مشكلة، حتى جاء الرجل الأبيض ".

    قال الرئيس: " آه، الرجل الذي كان ... ".

    رفع الوزير يده. " اسمع. لقد بقي نحو شهر معهم، متظاهراً بالصيد، متغيباً عن الأنظار طوال اليوم، لكن من الواضح أن ما كان يفعله هو التأكد من أنه ليس من معبر نهري آخر قريب. لم يكن يجلب أي صيد معه؛ وأتخيل أنهم ضحكوا عليه كثيراً على طريقتهم الخاصة ".

    قال الرئيس: " أجل، لا بد من أن ويديل وجد هذا مسلياً جداً ".

    " ... أو فيدال _ أيٌا كان اسمه "، قال الوزير بتوتر " لا يبدو أنه يعرف أو يهتم شخصياً باسمه ".

    قال الرئيس: " أكمل، كنت تتكلم عن المعبر النهري ".

    " أجل. ثم ذات يوم، بعد شهر من مجيئه، عرض الرجل الأبيض شراء بعض أرض ويديل، فيدال، ويديل، اللعنة ...".

    " سمٌه ويديل "، قال الرئيس.

    " ... عرض الرجل الأبيض شراء قطعة أرض من ويديل. لم تكن بالكبيرة، بالكاد توازي حجم غرفة، قبض منه فيدال أو ويديل عشرة أضعاف سعرها. ليس رغبة في الكسب كما تعرف، فكان يمكن أن يعطي الرجل الأرض كهدية أو يخسرها معه في مباراة ما، إذ لم يخطر لأي منهما أن الأرض الصغيرة التي أرادها الرجل احتوت على المعبر الوحيد المتوافر للدخول إلى النهر أو الخروج منه. لا ريب في أن المساومة على السعر امتدت أياماً أو ربما أسابيع، كنوع من اللعبة لتمضية العصريات والأمسيات، بينما الجميع يضحكون ملء قلوبهم في المشهد البهيج، لا بد أنهم ضحكوا كثيراً، لا سيما حين دفع الرجل السعر لويديل، لا بد أنهم ضحكوا كثيراً في ما بعد حين رأوا الرجل الأبيض يبني تحت الشمس سياجاً حول أرضه، وبالتأكيد لم يخطر لهم البتة أن ما فعله الرجل الأبيض هو أنه وضع سياجاً حول المعبر الوحيد إلى النهر ".

    قال الرئيس مجدداً بنفاد صبر: " أجل، لكنني لم أفهم بعد ....".

    مجدداً رفع الوزير يده، على نحو تفخيمي " ولا هم فهموا؛ ليس قبل مجيء المسافر الأول وعبوره النهر. كان الرجل الأبيض قد أنشأ هناك بوابة ".

    قال الرئيس: " أوه ".

    " أجل. والآن لابد من أنهم تسلوا بمشاهدة الرجل الأبيض جالساً الآن تحت السقيفة، كان قد رفع جيباً من جلد الغزال على سارية لكي يلقي العابرون فيها أموالهم، والبوابة نفسها صُنعت بشكل يتيح له فتحها وإقفالها مستعيناً بالحبل وهو جالس على شرفة بيته المكون من حجرة واحدة من دون أن يضطر حتى إلى القيام عن مقعده والبدء بتوسيع أملاكه، بما في ذلك شراء حصان".

قال الرئيس: " آه، الآن بدأت الصورة تتضح ".

" أجل. تسارعت الأحداث بعدئذٍ؛ حصل سباق بين جواد الرجل الأبيض وجواد ابن أخي الزعيم: البوابة مقابل ألف فدان من الأرض. وقد خسر جواد ابن الأخت. وتلك الليلة ... ".

    قاطعه الرئيس: " آه، فهمت، تلك الليلة الرجل الأبيض قُتــــــــــــــــــــ..... ".

    " فلنقل إنه مات، هذا جاء الوصف في تقرير مفوض الحكومة. رغم أنه أضاف مفسراً أنه يبدو أن موت الرجل الأبيض نجم عن فلق في الجمجمة، لكن هذا الأمر ليس موضوعنا ".

    قال الرئيس: " لا، موضوعنا هو احتشادهم هناك في البيت منذ ثلاثة أسابيع ". رجال ونساء وأطفال ومعهم عبيد من الزنوج، توافدوا على العربات منذ ذلك اليوم في نهاية الخريف، منذ اليوم الذي ظهر فيه مفوض الحكومة في منطقة قبيلة التشيكوسو لكي يستعلم عن موت الرجل الأبيض. قطعوا ألفاً وخمسمائة ميل، عبر مستنقعات الشتاء والأنهر، عبر التضاريس الشرقية للقارة، يقودهم طاغية بطريرك سمين ومتبلد في عربة، نائماً، وابن أخته بجانبه، وهو يضع يده السمينة التي تعج بالخواتم على ركبة ابن الأخت لإبقائه ممسكاً بالزمام. سأله الرئيس:

" لماذا لم يوقفه المفوض؟ ".

    صاح الوزير: " يوقفه؟ أخيراً ساومهم المفوض إلى حد أن يسمح بمحاكمة ابن الأخت فوراً، من قبل الهنود أنفسهم، ناوياً أن يدمر البوابة، ما دام أحد لم يكن يعرف الرجل الأبيض على أي حال. لكن لا. يتوجب إحضار ابن الأخت لكي يمثل أمامك، لكي تتم تبرئته أو إدانته وسجنه ".

    " لكن لمٌ لم يمنع العميل بقيتهم من المجيء؟ لمٌ لم يبق البقية ..... ".

    صاح الوزير مجدداً: " يمنعهم؟ اسمع. لقد انتقل إلى هناك وعاش بين ظهرانيهم، لكن ويديل أو فيدال، اللعنة! أين كنت... أجل، طلب إليه ويديل أن يعتبر البيت بيته؛ وسرعان ما صار كذلك. إذ أنٌى له أن يعرف أن أعداد الناس في المزرعة تقل صبيحة كل يوم؟ هل كنت لتعرف؟ هل كنت لتعرف الآن؟ ".

    قال الرئيس: " ما كنت لأحاول، كنت أعلنت فحسب يوم عيد شكر وطني. فإذن تسللوا ليلاً".

    " أجل. ويديل والعربة وبضع عربات علف مضت أولاً؛ كان قد مضي على رحيلهم شهر قبل أن يدرك العميل أنه صبيحة كل يوم يقل العدد الباقي بطريقة ما. كانوا ينسلون ليلاً على العربات، عائلات بأكملها، أجداد وآباء وأطفال وعبيد وكلاب وأغراض، وكل شيء. ولم لا؟ لمٌ يحرمون أنفسهم من هذه العطلة على حساب الحكومة؟ لم يفوتون على أنفسهم، بمجرد كلفة بسيطة هي قطع 1500 ميل عبر بلاد مجهولة في عز الشتاء، امتياز ومتعة تمضية بضعة أسابيع أو ربما شهر بقبعات فرو جديدة ومعاطف وثياب تحتية، في بيت الأب الأبيض العطوف؟ ".

    قال الرئيس: " أجل، وهل قلت له أننا لم نوجه أي تُهمة ضد ابن أخته؟ ".

    " أجل. وكذلك إذا عادوا إلى ديارهم، فالمفوض نفسه سيعلن براءة ابن الأخت على الملأ، ضمن أي طقس يعتبرونه مناسباً. وأجابه ويديل قائلاً... كيف صاغ كلماته؟ ". راح الوزير يتكلم بنبرة مرحة، في محاكاة شبه حرفية للرجل الذي يكرر كلامه: " كل ما نريده هو العدالة. إذا كان الفتى المغفل قد قتل رجلاً فأظن أن علينا معرفة ذلك ".

    قال الرئيس: " اللّعنة. اللّعنة. اللّعنة، حسناً سنوقف التحقيق. أحضرهم إلى هنا ولننه الأمر معهم ".

    أجاب الوزير: " إلى هنا؟ إلى المنزل؟ ".

    " لم لا؟ لقد استضفتهم لثلاثة أسابيع؛ تستطيع على الأقل استضافتهم ساعة "، التفت نحو مرافقه، " أسرع. أخبرهم أننا ننتظرهم هنا حتى نحاكم ابن الأخت ".

جلس الرئيس والوزير وراء الطاولة التي رُفع عنها الطعام، ونظرا إلى الرجل الذي يقف قبالتهما مؤطراً بالباب المفتوح الذي دخل منه، ممسكاً بيد ابن أخته مثل شخص يدخل للمرة الأولى أحد أقربائه إلى متحف متروبوليتان للشموع. راحا يتأملان الرجل الناعم السمين الواقف أمامها بوجهه الناعم الرقيق الجامد، وأنفه الطويل الشبيه بأنف راهب، وأطرافه الضخمة، بلون الشوكولا بالحليب، فوق وشاح متسخ بطل طرازه منذ خمسين عاماً؛ وكان فمه سميناً صغيراً، وشديد الحُمرة. بيد أنه في مكان ما وراء تعبيرات وجهه التي تنم عن يقينية ما، كما وراء صوته الفاتر ومظهره شبه الأنثوي، كان يكمن شيء آخر: شيء ينم عن العزم والحدة والمباغتة والطغيان. وقفت وراءه مجموعة الخدم الصامتين الرصينين، قاتمي البشرات بقبعات فرو وعباءات وجوارب صوف، وكل واحد منهم يحمل سرواله مطوياً تحت إبطه.

ظل صامتاً لبرهة، ينقل بصره بين الوجوه حتى رأى الرئيس. وقال بصوت ناعم: " هذا ليس بيتك؟ ".

    أجابه الرئيس: " لا، إنه منزل هذا الزعيم الذي عينته بنفسي وزيراً للعدل لكي يحكم بيني وبين شعبي الهندي. وسوف يحقق العدل لكم ".

انحنى الرجل قليلاً: " هذا كل ما نرجوه ".

" حسن "، قال الرئيس. كانت على الطاولة أمامه محبرة وريشة كتابة ومرملة، والكثير من الأوراق مع أشرطة وأختام ذهبية، وإن لم يكن باستطاعة أحد أن يقول ما إذ كانت نظراته الطويلة الحادة قد لاحظت وجودها أم لا. نظر الرئيس إلى ابن الأخت. شاب، نحيل، وقف ممسكاً بيده اليمنى يد خاله السمينة المليئة بالقماش وراح ينظر بصمت إلى الرئيس، بهدوء عميق ومتنبه.

غمس الرئيس الريشة في الحبر. " هل هذا هو الرجل الذي ... ".

    قاطعه الرجل بحماسة: " الذي ارتكب هذه الجريمة؟ هذا ما قمنا بهذه الرحلة الشتوية الطويلة من أجل اكتشافه. إذا كان قد ارتكبها، إذا لم يكن الرجل الأبيض قد سقط فعلاً عن صهوة حصانه وارتطم رأسه بحجر، فعندئذ ابن أختي هذا يجب أن ينال جزاءه. لا نظن أنه من الصائب قتل رجل أبيض كأنه من الشيروكي أو الكريك ". أخذ يحملق بالشخصين المهمين اللذين راحا يزعمان الكتابة على الأوراق الخرقاء أمامهما؛ لبرهة التفت عينا الرئيس بعينيه الناعستين فأشاح عنه. لكن الوزير رفع حاجبيه عالياً وراح يحملق في الخال.

    " كان يجدر بك أن تجري سباق الخيول هذا في معبر النهر نفسه. فالمياه ما كانت لتخلف مثل ذاك الجرح الغائر في جمجمة الرجل الأبيض ".

    رفع الرئيس رأسه بسرعة ناظراً إلى الوجه الثقيل، السري، متفرساً في الوزير بترقب قاتم. لكن مباشرة تقريباً تكلم الخال. " كان يمكن هذا. لكن ذلك الرجل الأبيض كان بكل تأكيد سيطلب مالاً من ابن أختي لكي يسمح له بعبور بوابته ". ثم ضحك ضحكة سارة، ومحتشمة، " ربما كان من الأفضل لهذا الرجل الأبيض لو سمح لابن أختي بالعبور مجاناً. لكن هذا لم يعد موضوعنا الآن ".

    " لا "، قال الرئيس، بنبرة تكاد تتسم بالحدة، فنظروا إليه ثانية. حمل الريشة فوق الورقة. " ما الاسم الصحيح؟ ويديل أم فيدال؟ ".

   مجدداً جاء الصوت المرح، ذي النبرة الثابتة، " ويديل أو فيدال. ما يهم بأي اسم ينادينا الزعيم الأبيض؟ لسنا إلا هنوداً، نذكر بالأمس وننسى غداً ".

كتب الرئيس على الورقة فأصدرت الريشة صريراً ترافق مع صوت آخر: صوت خافت، ثابت، مكتوم، بدا يصدر من المجموعة الصامتة القاتمة وراء الخال وابن الأخت. طوى الرئيس الورقة ونهض، لبرهة راحوا ينظرون إلى الجندي الذي يقود الرجال في مناسبات أهم من هذه. " ابن أختك ليس مذنباً بهذه الجريمة. إن الزعيم الذي عينته لكي يقيم العدل بيننا يطلب منه العودة إلى دياره وألا يفعل هذا ثانية البتة، لأنه في المرة القادمة لن يكون مسروراً ".

تبدد صوته في صمت مفاجئ؛ حتى خلال تلك اللحظة تحركت الجفون بتثاقل نعسان، بينما من الكتلة القاتمة خلفه صدر ذلك الصوت الخافت، الدائم، صوت الاحتكاك الصامت للصوف، مثل موج يتحرك ببطء، ثم توقفت هذه الحركة لوهلة. تكلم الخال بنبرة تنم عن الصدمة وعدم التصديق: " ابن أختي حر؟ ".

" إنه حر؟ "، أجاب الرئيس. جالت نظرات الخال المشدوهة في أرجاء الغرفة.

" بهذه السرعة؟ وهنا؟ في هذا البيت؟ حسبت أنه ... لكن غير مهم ". راحوا ينظرون إليه مجدداً وجهه ناعم ملغز، " لسنا إلا هنوداً بالتأكيد هؤلاء البيض المشغولون ليس لديهم إلا القليل من الوقت للمسائل الصغيرة. ربما قد سببنا لهم ما يكفي من الإزعاج ".

    سارع الرئيس إلى القول: " لا،لا، بالنسبة إلي لا فرق بين شعبي الهندي وشعبي الأبيض ". لكن من جديد طافت نظرات الخال بصمت في أرجاء الغرفة؛ داهم الرئيس والوزير الشعور بالخطر نفسه. قال الرئيس: " أين كنت تتوقع عقد هذه الجلسة؟ ".

    نظر إليه الخال، " سيضحكك ذلك. في جهلي اعتقدت أن مسألتنا الصغيرة هذه ستنتهي في ... لكن لا يهم ".

    قال الرئيس: " أين؟ ".

    نظر الوجه الثقيل الساكن مجدداً إلى الرئيس، " سوف يضحكك الأمر، رغم ذلك سأجيبك. في المنزل الأبيض الكبير تحت النسر الذهبي ".

    صاح الوزير: " ماذا؟ في الــــــــــ.... ".

    أشاح الخال نظره " قلت إن هذا سيضحكك. لكن لا يهم. سيكون علينا الانتظار على أي حال ".

    قال الرئيس: " الانتظار؟ انتظار ماذا؟ ".

" هذا مضحك حقاً "، قال الخال. وضحك مجدداً، بصوته الساكن البارد، " المزيد من قومي على وشك القدوم. يمكننا انتظارهم، أنهم يرغبون أيضاً سماع رؤية هذا". لم تنم عن أحد تنهيدة تعجب، ولا حتى الوزير. فقط حدقوا به بينما قال بصوته الساكن: " يبدوا أن بعضهم أخطأ في المنطقة. لقد سمعوا اسم عاصمة الزعيم الأبيض، لكن قد تكون هناك بلدة أخرى في بلادنا تحمل الاسم عينه، وحين استعلموا عن الطريق، تم توجيههم من قبل الجنود الجهلة المساكين فذهبوا إلى مكان آخر. ضحك بتسامح مرح وراء وجهه الناعس الملغز. " لكن جاء رسول وأبلغنا أنهم سيصلون في غضون هذا الأسبوع. ثم سنرى بشأن معاقبة هذا الفتى العنيد". وهز ذراع الفتى هزة خفيفة. ولولا هذه الحركة ما كان الفتى ليتحرك، وهو يحملق في الرئيس بعينيه الحادتين اللتين لا ترمشان ".

للحظة طويلة ساد صمت لا يقطعه سوى صوت الاحتكاك الخافت الثابت الصادر عن مجموعة الهنود. ثم شرع الوزير بالكلام، بأناة، كأنه يخاطب طفلاً " اسمع، إن ابن أختك حر طليق. هذه الورقة تفيد بأنه لم يقتل ذلك الرجل الأبيض، وأن أحداً لا يحق له باتهامه ثانية، وإلا فسنغضب أنا والزعيم الأكبر هنا. يمكنه العودة إلى الديار الآن على الفور. فلتعودوا جميعاً إلى الديار فوراً. ألا يقال إن قبور أسلاف رجل ما لا تهدأ إطلاقاً في غيابه؟ ".

مجدداً ساد الصمت. ثم قال الرئيس: " إلى ذلك فإن البيت الأبيض تحت النسر الذهبي مشغول حالياً بمجلس من الزعماء ممن هم أقوى مني ".

ارتفعت يد الخال الغارقة في القماش المتسخ، وراحت سبابته تهتز باعتراض لائم " لا تتوقع حتى من هندي جاهل أن يصدق هذا "، ثم أضاف من دون أي تغيير في نبرة صوته، ولم يعرف الوزير إلا لاحقاً حين أخبره الرئيس أن الخال لم يكن كلامه إليه، " وأولئك الزعماء سيحتلون بلا شك ذلك البيت الأبيض لمدة على ما أفترض ".

    قال الوزير: " أجل، حتى تذوب آخر ثلوج الشتاء بين الأزهار والعشب الأخضر ".

    قال الخال: " حسناً، سننتظر إذن. وعندها يكون هناك متسع من الوقت لكي يصل بقية القوم".

وهكذا حدث، على تلك الجادة التي ستكون عظيمة الشأن مستقبلاً سار موكب العربات تحت الثلج الهاطل ببطء، تتقدمه العربة التي تضم الرئيس والخال وابن الأخت، ويد الخال المليئة بالخواتم على ركبة ابن الأخت، تتبعها عربة أخرى تضم الوزير ومساعده، ويتبع هذه العربة صفان من الجنود، يسيرون بين الكتلة الرصينة القاتمة من الرجال والنساء والأطفال المحمولين على الأيدي أو الماشين على أقدامهم. وهذا ما حدث وراء مكتب المجلس التشريعي في تلك الحجرة التي احتضنت حلم المصير العظيم الذي يعلو على ظلم الأحداث وحماقات البشر، وقف الرئيس والوزير محاطين بالمتلاعبين الأحياء بالقدر، الذين انتشرت بينهم الأشباح المهيبة للذين حلموا بهذا القدر، وقف الخال وابن الأخت، وخلفهم الكتلة القاتمة من الأقرباء والأصدقاء والمعارف الذين من بينهم نشأ ذلك الخفيف الخافت الناشئ عن احتكاك الصوف بالجلد. مال الرئيس على الوزير. وهمس في أذنه: " هل المدفع جاهز؟ هل أنت واثق من أنهم يستطيعون رؤية ذراعي من الباب؟ وافترض أن تلك الأسلحة اللعينة انفجرت، فهي لم تُستعمل منذ استعملها واشنطن ضد كورنواليس: هل سيعزلونني؟ ".

    قال الوزير: " أجل ".

    قال الرئيس: " فليكن الله في عوننا إذن. أعطني الكتاب ". ناوله الوزير الكتاب: " سونيتات بترارك "، الذي اختطفه الوزير عن طاولته أثناء مروره. " فلنأمل أن أتذكر ما يكفي من اللاتينية بحيث لا يبدو إنكليزياً ولا تشيكوسو "، قال الرئيس. فتح الكتاب، ثم مجدداً انتصب الرئيس، غازي البشر، المنتصر في المعارك الدبلوماسية والقانونية والعسكرية، وتفرس في الوجوه القاتمة الثابتة المصممة المنتظرة؛ حين تكلم كان صوته هو صوت الرجل الذي جعل الرجال قبل ذلك يصمتون ويطيعون: " فرانسيس ويديل، زعيم شعب التشيكوسو، وأنت، يا ابن أخت فرانسيس ويديل والذي سيصبح ذات يوم زعيماً، اسمعا كلماتي ". ثم بدأ يقرأ. جاء صوته عالياً، قوياً، فوق الوجوه القاتمة، يتردد صداه في مقاطع صوتية عميقة وجادة. قرأ عشر سونيتات. ثم أنهى كلامه رافعاً يده، وتبدد صوته ثم أنزل ذراعه. بعد برهة، من خارج المبنى، جاء صوت المدفعيات. وللمرة الأولى تركت الكتلة البشرية، مدمدمة بنوع من الذهول الراضي. تكلم الرئيس ثانية: " يا ابن أخت فرانسيس ويديل، أنت حر، عد إلى ديارك ".

ثم تكلم الخال، هازاٌ سبابته خارج القماش المخرم الذي يحيط بيده. " أيها الفتى العنيد، فكر في المتاعب التي تسبب بها لهؤلاء الرجال المشغولين ". واستدار نحو الوزير في اللحظة نفسها تقريباُ " والآن بخصوص مسألة المعبر النهري الملعون ".

سقطت شمس الخريف دافئة علي كتفيه، وقال الرئيس بهدوء، " هذا كل شيء" واستدار إلى مكتبه بينما غادر الوزير. رفع الرسالة وفتحها فسقطت الشمس علي يديه وعلي الصفحة، مؤشرة إلى النهاية الرائعة للشتاء، ولاقتراب موسم الحصاد وارتفاع أعمدة الدخان فوق المداخن المسالمة.

    فجأة أجفل الرئيس. فتح الرسالة بين يديه، محملقاً بها، مصدوماً ومركزاً انتباهه بينما الكلمات تتدافع أمام ناظريه وعقله كالرصاص.

    سيدي وصديقي العزيز:

      هذا مضحك حقاً. لقد تسبب مجدداً ابن أختي العنيد هذا الذي ورث شخصيته من قوم أبيه، ما دامت لا تشبهني بشيء- بالمتاعب لي ولك. إنه ذلك المعبر اللعين مجدداً. لقد جاء إلي منطقتنا رجل أبيض آخر لكي يصطاد بسلام كما ظننا، وبما أن غابة الرب والغزلان التي يضعها فيها هي ملك للجميع. لكنه هو أيضاً بات مهووساً بفكرة امتلاك المعبر بعد أن سمع بابن جنسه الذي، على غرار التقليد الفضولي والمستمر للبيض، وجد جانباً واحداً من النهر متفوقاً كفاية علي الجوانب الأخرى بحيث يقوم الناس بدفع المال له لكي يمروا. فتمت المسألة مثلما يشتهي هذا الرجل الأبيض. ربما كنت مخطئاً، ستقول. لكن هل أحتاج إلى أن أقول لك؟ أنا رجل بسيط، وقريباً سأصبح عجوزاً بكل تأكيد، والتدخل المستمر لأولئك الرجال البيض الذين يرغبون في العبور وجمع النقود والاهتمام بها هو مجرد إزعاج. إذ ما الذي يمكن أن يمثله المال لي، وأنا قدري أن أنفق سنواتي الآفلة تحت الأشجار القديمة التي قام صديقي وزعيمي الأبيض العظيم بإزالة وجه كل عدو من أفيائها، خلا وجه الموت؟ هذه كانت فكرتي، لكن حين تقرأ أكثر ستري ماذا حدث.

مرة أخرى الفتي المتهور العنيد تحدى الرجل الأبيض الجديد هذا (أو الرجل الأبيض تحداه؛ سأترك الحقيقة لحكمتك النافذة لكي تحلها) لمباراة سباحة النهر، والرهان هو المعبر الملعون إياه مقابل بضعة أميال من الأرض التي (هذا سيميتك من الضحك) لا يملكها ابن أختي المتحمس هذا. تم السباق، لكن لسوء الحظ فشل رجلنا الأبيض في الخروج من النهر إلا ميتاً.

والآن وصل مفوضك، ويبدو ،أنه يشعر بأن هذا السباق لم تكن إليه حاجة ربما، وما كان يجب أن يجري من الأساس. والآن ليس أمامي ما أفعله سوي أن أحرك عظامي القديمة وأحضر هذا الفتي المتهور إليك لكي تقوم بتأديبه. سوف نصل في غضون...

    مد الرئيس ذراعه إلي الجرس وسحبه بعنف. حين وصل مساعده أمسكه من كتفيه وقاده إلي الباب ثانية. " أحضر لي وزير الدفاع، وخرائط كل المناطق من هنا حتى نيو أورلينز"، صرخ كالمجنون، "بسرعة".

    وهكذا رأيناه ثانية؛ اختفي الرئيس وحل محله القائد العسكري الذي وقف بجانب وزير الحرب خلف طاولة الخرائط، مقابلهم وقف قائد سلاح الفرسان. على الطاولة انهمك الوزير في الكتابة بينما الرئيس ينظر إلى الخلف. " اكتب بخط كبير " قال، " بحيث يكون الكلام واضحاً حتى للهنود. فليكن معلوماً للجميع، أن فرانسيس ويديل وورثته، والمنحدرين منه من الآن فصاعدا وإلى الأبد...لا يحق لهم...هل كتبت لا يحق لهم؟ حسناً، لا يحق لهم عبور الجانب الشرقي من النهر المشار إليه أعلاه... والآن اكتب لمفوض الحكومة اللعين"، قال، " ينبغي أن تكون الإشارة مضاعفة، علي جانبي المعبر: الولايات المتحدة الأمريكية لا تتحمل مسؤولية أي رجل أو امرأة أو طفل،  أسود كان أم أبيض أم اصفر أم أحمر، يعبر هذا المعبر، ولا يحق لأي رجل أبيض شراء أو استئجار أو قبول هدية تحت طائلة العقوبة القصوى. هل يمكنني فعل ذلك؟ "

 قال الوزير: " أخشي أن لا، يا صاحب الفخامة ".

قال الرئيس بسرعة " اللعنة.. احذف هذا الجزء الأخير إذن ". ففعل الوزير. طوى الرئيس الورقتين وسلمهما إلى قائد سلاح الفرسان وقال له: " اذهب، أوامرك هي أن توقفهم "

 قال الكولونيل: "افترض أنهم امتنعوا عن التوقف، هل أطلق الرصاص عليهم؟ ".

 قال الرئيس: " أجل أطلق الرصاص علي كل حصان ، وبغل وثور. أعرف أنهم لن يأتوا سيراً علي الأقدام فلننطلق الآن "

خرج الكولونيل. استدار الرئيس نحو الخرائط وهو ما يزال متخذاً وضعية الجندي: متحمس،سعيد، كـأنما يقود الفرقة بنفسه، أو كأنه قام روحياً بنشر الجنود بمكر ودراية عميقة في المكان الذي لا يكون في صالح العدو أبدا، ووصل قبله، " سيكون هناك " قال، ووضع إصبعه علي الخريطة، " حضر الحصان أيها الجنرال، حيث أستطيع أن أواجهه عند النقطة وأرده على أعقابه خاسئا".

    أجاب الوزير: " أمرك أيها الجنرال ".

 

hany_haggag@hotmail.com